الأشدُّ وطأة من الإجراءات القسريَّة الأحاديَّة الجانب وغير الشرعيَّة وغير القانونيَّة على سوريا وشَعبها هو أن تستمعَ إلى المندوبة الدَّائمة للولايات المُتَّحدة في مجلس الأمن تتحدث عن الأوضاع الإنسانيَّة في سوريا وتبعات هذه الأوضاع على الأمن والسِّلم الدوليَّيْنِ، خصوصًا أنَّها تختزل سوريا في المناطق التي يسيطر عليها الإرهابيون المدعومون من الولايات المُتَّحدة.
والسؤال ذاته موصول لثلاثة أعضاء كونجرس يوصفون بأنَّهم «رجال قانون» يتسلَّلون إلى الشمال الغربي من سوريا لمدَّة نصف ساعة وينسحبون خوفًا من استهدافهم لعِلْمِهم عِلْمَ اليقين أنَّ ما يقومون به غير شرعي ومعيب بحقِّهم وخطير؛ كيف يُمكِن لدَولة تقوم تمامًا بعكس ما تدَّعيه أن تظنَّ نَفْسَها قادرة على تقديم نموذج قيادي للعالَم، وأيُّ ديمقراطيَّة هذه؟ وأيُّ حقوق إنسان يتحدثون عنها؟! لقَدْ تسلَّل أعضاء الكونجرس فرينش هيل وبين كلين وسكوت فيتزجيرالد إلى الأراضي السوريَّة، كما يتسلَّل السَّارق والمُهرِّب والإرهابي، عَبْرَ معبر باب السَّلامة الذي يحاولون إبقاءه مفتوحًا لإيصال المساعدات الإنسانيَّة كما يدَّعون، ومن خلال زيارتهم يقرُّون أنَّهم يدعمون الإرهاب الذي يعبث بأمن وسلامة الملايين من المدنيِّين العُزَّل في سوريا.
إنَّ مِثل هذه المفارقات الصَّارخة بَيْنَ الأقوال والأفعال في السِّياسة الأميركيَّة ليس حيال سوريا فحسب، وإنَّما حيال العالَم بِرُمَّته هي التي أشعلت حركات التمرُّد في إفريقيا على الغرب بِرُمَّته وهي التي تُسهم يوميًّا في تحَوُّل مزيدٍ من دوَل العالَم للبحث عن بدائل للنظام الغربي الاستعماري المتوحِّش والذي يعطي نَفْسَه حقَّ العبَث بحياة الشعوب والاستهانة بمقَدَّراتها الفكريَّة والمادِّيَّة ونهب ثرواتها الغنيَّة. وليس من المبالغة القول إنَّ ما نشهده اليوم على السَّاحة الدوَليَّة يُمثِّل يقظة غير مسبوقة لدى معظم شعوب العالَم بحقيقة النُّظم الغربيَّة القمعيَّة وحقيقة كُلِّ ما تدَّعيه من شعارات زائفة وحقيقة الأهداف الأساسيَّة التي تسعى إليها من سلب الثروات وارتهان الإرادات والإبقاء على استعمار خبيث مقنَّع أشدَّ وأدهى من الاستعمار القديم والمباشر.
فبعد الانقلاب في النيجر نُشرت دراسات تتحدث عن أهمِّية برامج التدريب التي قَدَّمتها الولايات المُتَّحدة لعسكريِّين من بُلدان إفريقيَّة وأنَّ هذه البرامج قَدْ ركَّزت أوَّلًا وبشكلٍ أساسي على تبنِّي القِيَم «الليبراليَّة» التي تعني الولاء لقِيَم القمع والنَّهب والعبوديَّة وليس على نشْرِ القِيَم الديمقراطيَّة في تلك البُلدان، وأنَّ هذه البرامج قَدْ أوصلت نخبًا عسكريَّة ليبراليَّة عميلة وفاسدة إلى سدَّة الحُكم في دوَل إفريقيَّة كثيرة، ولذلك فإنَّ هذه الانقلابات التي يشهدها غرب إفريقيا والتي تمتدُّ إلى بُلدان أخرى تطيح بقواعد بَشَريَّة ليبراليَّة قياديَّة عملت الولايات المُتَّحدة على تدريبها وإنضاجها وإيصالها إلى سدَّة الحُكم وتوريطها بالفساد وبالعمالة للمخابرات الأجنبيَّة ما هي إلَّا دليل على وعي الشعوب المتنامي بحقيقة الواقع الذي يعايشونه ودَوْر الغرب في الفقر المُدقع الذي وجدوا أنفُسَهم فيه رغم ثروات بُلدانهم الهائلة.
وفي بحثٍ مشترك لثلاثة من أساتذة العلوم السِّياسيَّة في الولايات المُتَّحدة بعنوان «كسب حرب التأثير ضدَّ الصين» ينكشف للقارئ من حيث يقصد المؤلِّفون أو لا يقصدون جوهر وهدف المساعدات الأميركيَّة في أيِّ مكان وفي أيِّ مجال كان. وهم يقَدِّمون ما يُسمُّونه «مساعدات» للجيوش مباشرة، ومِنْها رواتب نقديَّة وغيرها من أشكال الهيمنة على هذه الجيوش من برامج تدريبيَّة.
يقول الباحثون إنَّ القوَّة العسكريَّة «للعالَم الحُرِّ» كما يُسمُّون أنفُسَهم مهمَّة ولكنَّها ليست كافية في الوقت الذي يستخدم فيه الحزب الشيوعي الصيني الحافز الاقتصادي والنُّخب الفكريَّة لتوسيع نفوذ الصين في العالَم والذي يهدف أن يكُونَ بديلًا للولايات المُتَّحدة كقوَّة عالَميَّة، ودُونَ شكٍّ سيُقوِّض المصالح الاستعماريَّة الأميركيَّة. ولذلك يقول الباحثون الذين يخدمون أنظمتهم الاستعماريَّة إنَّه لا بُدَّ من استراتيجيَّة واضحة وحمْلة نشطة لتشجيع الدوَل في مقاومة التأثير الصيني. فقَدْ بدأت الولايات المُتَّحدة بعد الحرب العالَميَّة الثانية بفكرة «المساعدات»؛ من خطَّة مارشال بألمانيا إلى إغداق المساعدات على اليابان وكوريا لمنع تحَوُّلهما إلى فلك الاتِّحاد السوفييتي. وخلال الحرب الباردة كانت المساعدات الأميركيَّة تُمثِّل جزءًا من استراتيجيَّتها للاحتواء وكان لهذه المساعدات تأثير كبير في تحقيق المصالح الأميركيَّة، ومن ضِمْن هذه الجهود تأسيس (USAID) في عام 1961 ومؤسَّسة دعم الديمقراطيَّة عام 1983.
وتُري الأبحاث أنَّ هذه المساعدات قَدْ ساعدت على تعزيز مصالح الولايات المُتَّحدة في البلدان المتلقية لهذه المساعدات، كما أنَّها خلقت فرصًا وأسواقًا جديدة للأعمال والتجارة الأميركيَّة بحيث إنَّ إحدى عشرة دَولة من أهمِّ الشركاء التجاريِّين للولايات المُتَّحدة كانت دوَلًا تتلقَّى المساعدات الأميركيَّة. وبهذا فإنَّ المساعدات الأميركيَّة تخلق حلفاء وشركاء وعملاء موثوقين للولايات المُتَّحدة ولنظامها الليبرالي. وبَيْنَ عامَيْ 2012 و2022 تمكَّنت ثماني دوَل من عكس مسارها السِّياسي والعودة إلى الفلك الأميركي بسبب الدَّعم الأميركي لها.
بالنظر إلى هذه التجربة الناجحة من وجهة النظر الأميركيَّة فإنَّ الباحثين يدعون إلى: «تكثيف المساعدات للدوَل المهمَّة استراتيجيًّا في المنافسة مع الصين وروسيا. أي أنَّ المساعدات يجِبُ أن تضعَ المنافسة مع الصين الهدف الأوَّل بغَضِّ النظر عن مستوى الدخل ومَن هي البُلدان الأكثر حاجة للمساعدة. ومن هذا المنظور يجِبُ الربط بَيْنَ المساعدات وأهداف السِّياسة الخارجيَّة الأميركيَّة ومصالح الولايات المُتَّحدة، وربط هذه المساعدات بالأمن وبرامج الإصلاح كما فعلت الولايات المُتَّحدة في أوروبا الغربيَّة وكولومبيا وكوريا الجنوبيَّة وتشيلي. كما أنَّه على الولايات المُتَّحدة أن تجعلَ من تعزيز «الديمقراطيَّة» هدفًا أساسيًّا لسياساتها التنمويَّة». ويضيف الباحثون أنَّ التنافس على التأثير العالَمي ليس فقط في المحيط الهادئ، وإنَّما في البرلمانات والمجالس المحلِّيَّة والمكاتب التنفيذيَّة والأحزاب والنقابات والجيوش طبعًا.
أوَلَيْس في هذا الإفصاح وفي هذه الدراسة التفصيليَّة آليَّة عمل واضحة لاختراق المُجتمعات ليس من خلال السياسيِّين رفيعي المستوى فقط، وإنَّما من خلال المسؤولين المحلِّيِّين والضبَّاط والبرلمانات والبلديَّات وكُلِّ مَن يُمكِن جذبه إلى الانخراط في العمل من أجْلِ نشْرِ الفكر الليبرالي والقِيَم الغربيَّة وعمليًّا خدمة المشروع الأميركي ومصالحه؟ أوَلَيْس في هذه الدراسة دليل على أنَّ المساعدات الأميركيَّة وفي أيِّ مجال كان ومن أجْلِ أيِّ هدف يدَّعوه هي رأس حربة لبسط النفوذ الأميركي والإرادة الأميركيَّة وتحقيق المصالح الأميركيَّة والعائدات لَهُمْ وشراء الولاء والذِّمم من أجْلِ استمرار هيمنة النفوذ الأميركي ضدَّ إرادة ومصلحة الشعوب التي يدَّعون تقَدْيم العون لها ومساعدتها على التنمية والازدهار؟
ولهذا فإنَّ المساعدات الأميركيَّة اليوم وتقديم المال بشكلٍ سرِّي وغير مشروع هي التي تعمل على تفتيت البُلدان وإيقاف عجلة الإنماء ونهب الثروات. لحُسْن الحظِّ فإنَّ إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينيَّة قَدِ استيقظت في معظمها اليوم، ونأمل أن يكُونَ يومًا قريبًا حين لا تجد المعونات الأميركيَّة مَن يتقبَّلها، ولا تجد المؤسَّسات التي أسبغوا عليها أسماء ديمقراطيَّة مَن يقبل الاستفادة مِنْها؛ لأنَّهم يدركون سلفًا أنَّ هذه الأموال ثمنُها ارتهان الإرادة والتبعيَّة المذِلَّة وتحقيق مصالح الولايات المُتَّحدة وليس مصلحة الطرف الذي يدَّعون مساعدته. إنَّ موعدهم الصبح، أليس الصبح بقريب؟
أ.د. بثينة شعبان
كاتبة سورية
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: الولایات الم ت هذه المساعدات ة الأمیرکی العال م التی ت
إقرأ أيضاً:
ولي العهد السعودي يجري اتصالاً هاتفياً مع الرئيس الأميركي
أجرى صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، اتصالاً هاتفياً بفخامة الرئيس دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة الأميركية.
وهنأ ولي العهد السعودي، الرئيس الأميركي دونالد ترامب بمناسبة أدائه اليمين الدستورية وتوليه الرئاسة، وأبلغه خلال الاتصال الهاتفي، الذي أجراه معه الخميس رغبة المملكة بتوسيع استثماراتها في الولايات المتحدة.
ونقل ولي العهد أيضا خلال مكالمته مع ترامب تهنئة الملك سلمان، وفق بيان للخارجية السعودية، مؤكدا "رغبة المملكة في توسيع استثماراتها وعلاقاتها التجارية مع الولايات المتحدة في الأربع سنوات المقبلة بمبلغ 600 مليار دولار مرشحة للارتفاع".