#لأولي_الألباب د. #هاشم_غرايبه
البصر حاسة هامة أوتيت للكائنات الحية المتحركة، لتريها ما حولها، لكنها لا ترى إلا الصورة المنعكسة على شبكية العين، أي ظواهر الأشياء.
الإنسان فقط ميزه الخالق بالعقل، فيطابق مابين ما يراه وما يختزنه في ذاكرته، ووفقا لذلك يتولى العقل تفسير حقيقة مايراه، وهذا ما يسمى بالبصيرة.
يختلف الناس في مدى قدرات بصيرتهم، بحسب مختزنات ذاكرته المكتسبة التي راكمتها التجارب والتعلم، وبحسب قدراتهم العقلية الموهوبة لهم من ناحية أخرى، لذلك سمى الله ذوي القدرات العليا بأولي الألباب.
وهؤلاء لا يكتفون برؤية ظواهر الأشياء بل يتعمقون في البحث عن كنهها وحقيقتها، الى أن يفهموها.
لو أخذنا مثلا من التاريخ البشري، فقد كان الناس يرون أن الأشياء تسقط دائما الى الأسفل، ويعتبرون ذلك أمرا بديهيا، فلم يبحثوا فيه، الى ان جاء نيوتن وبحث معتمدا على حقيقة أن كل ما يسير على نسق واحد فهو محكوم بقانون، فقام بتجارب وحسابات للنتائج حتى توصل لمعرفة قانون الجاذبية الأرضية.
ولأنه من ذوي البصيرة، فقد كان منطقيا أن لا يتقبل الفكرة التي راجت في عصره والقائلة بعبثية الوجود، ورفض دعوات الملحدين لانكار وجود خالق، فقال: “عظمة الخالق نعرفها من عظمة الخلق”.
هكذا فالبصيرة موهوبة ونتاجها الحكمة، ولذلك قال تعالى: “يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا” [البقرة:259]، وهي من أهم ما يميز الإنسان عن الحيوانات، فلو حدث برق ورعد، ترى الحيوانات جميعا مرتعبة، ولا تبذل أي جهد لفهم ما يحدث، بل تركض بدافع الخوف الغريزي الى ملجأ آمن، لكن الإنسان ومنذ القدم لم يتوقف عن البحث لفهم هذه الظواهر القاهرة له، الى أن أتاحت له الحكمة المعرفة الكفيلة باتقاء خطرها، فلم يعد يهرب خوفا منها، ولا هي أعاقته عن ممارسة نشاطاته.
لكن الأكثر حكمة، بحثوا في امكانية التحكم بتلك القوى القاهرة، وتوصلوا الى أن ذلك غير ممكن، وأوصلتهم حكمتهم الى الاستنتاج بأنها كونها منظمة بصورة دقيقة، كل ظاهرة بذاتها وبعلاقتها مع الظواهر الأخرى، فلا شك أنها ليست عشوائية، بل خاضعة لضابط فائق القدرة كامل الحكمة، وهذا الضابط القدير الحكيم لا يمكن أن يكون كالإنسان الذي اكتشفها، وإلا لكانت متناقضة متضاربة، لكنه يجب أن يكون هو من أوجدها أصلا، وهو واحد أحد وإلا لجاءت كل منها وفق نظام مختلف، ولا يمكن أن يكون له شركاء ومعاونين، وإلا لتباين الخلق، فكان بعضه أكمل من بعض.
نسخلص أن الحكمة الأعلى توصل الى نتيجة واحدة، وهي أن هنالك خالق صمد، ليس له شريك ولا مثيل: “اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ” [الزمر:62].
أما من كان متواضح الحكمة، فسوف تقعده عن التوصل الى هذه النتيجه، والتي هي نهاية العلم، ولذلك فإن أعلى درجات الحكمة ليست نيل جائزة نوبل، بل مخافة الله (التقوى)، والمنتج النهائي للعلم هو التوحيد.
بناء على ما سبق رأينا الناس تباينت ردود أفعالهم تجاه العاصفة القوية التي ضربت البيت الحرام مؤخرا في وقت غير معتاد، وبشدة غير مسبوقة، فقد ذهبت طائفة الى التفسير الذي يقول بها عادة مدعو التقدم العلمي الذي يرفضون إحالة الأحداث الى الخالق، من أنه ناتج عن الظاهرة التي أسموها (النانو)، وبالطبع اكتفى متواضعو الحكمة بذلك التفسير، رغم أنه لا يجيب عن سؤال: إن كانت هذه الظاهرة حدثت في طبقات الجو العليا، فلماذا تأثرت بها بقعة صغيرة مستقرة الأجواء صيفا وشتاء، ولا تحدث فيها هذه الأنواء الجوية، بينما لم تحدث في مناطق مؤهلة أكثر لحدوثها؟.
أولو الألباب لا يكتفون بالتفسيرات الساذجة، لأنهم يعلمون أن كل شيء في الكون جنود لله، وهي مسخرة بأمره لتؤدي مهام محددة لايمكنها أن تحيد عنها، إلا بما شاء وقدّر، وقد أهلك من كذّب رسله من الأولين بتغييرات مؤقتة في مهام بعض جنوده، لكن بعد أن توقفت الرسالات، فقد أوقف سنة الإهلاك الجماعي، لكنه أبقى سنة تذكير الظالمين، فتجد أحداثا جسما ينسبها الملحدون للطبيعة، لكننا نحن المؤمنين نعلم أنها من تدبير خالق الطبيعة والناس، ولحكمة أرادها.
المصدر: سواليف
إقرأ أيضاً:
القوة الخفية التي هزمت حميدتي ..!
منذ انطلاق الرصاصة الأولى في الخرطوم يوم 15 أبريل 2023، كان واضحاً أن محمد حمدان دقلو (حميدتي) لم يقرأ المشهد العسكري والسياسي جيداً، أو قرأه بعين الوهم لا ببصيرة الواقع وبواطن الحقائق.
راهن الرجل على انقلاب خاطف وسريع يمكنه من وضع السودان في قبضته، لكنه لم يدرك طبيعة القوة الخفية في الدولة السودانية، تلك الدولة التي تبدو في ظاهرها ضعيفة ومفككة وآيلة للزوال، وذات مؤسسات هشة قابلة للانهيار السريع، لكنها أثبتت مراراً أن لديها عناصر قوة خفية لا تظهر إلا في مواجهة التحديات الكبرى.
عناصر القوة الخفية في الدولة السودانية:
• قوة المجتمع في التناصر والتعاضد ومقاومة الظلم والعدوان.
• قوة المؤسسات العسكرية والأمنية في تراكم خبراتها، وعمق تأهيلها المهني ، وروح الثبات والصبر على تحقيق الأهداف، وهي سمات تميز ضباطها وجنودها.
• قوة وجسارة الشباب بمختلف انتماءاتهم السياسية في مواجهة التحديات والمخاطر، سواء في الحروب أو التظاهرات.
• مستوى الوعي السياسي القادر على فضح النوايا الشريرة المغطاة بالشعارات التجميلية.
• العمق التاريخي لنضالات الشعب السوداني، الممتد منذ الممالك المسيحية، مروراً بمملكة الفونج، والثورة المهدية، واللواء الأبيض.
ما فعلته قوات حميدتي أنها استفزت مكامن القوة الخفية في الدولة السودانية، فوجدت نفسها في مواجهة مختلف الطيف القبلي والجهوي والثقافي والسياسي والعسكري. ونتيجة لذلك، تشكّل تيار وطني عريض وغير مسبوق، عابر للانتماءات.
هذا التيار الوطني ضمّ:
• شيوخ ورجال الدين والطرق الصوفية مثل عبد الحي يوسف، شيخ الزين محمد أحمد، شيخ الكباشي، والمكاشفية، والختمية والجماعات السلفية ، وقساوسة كنيسة ماري جرجس وغيرهم.
• الفنانات مثل ندى القلعة، إيمان الشريف، ميادة قمر الدين وغيرهن.
• المفكرين من مختلف التيارات، من الإسلاميين مثل أمين حسن عمر، عبد الوهاب الأفندي، التجاني عبد القادر، وحسن مكي، إلى اليساريين والليبراليين مثل البروفيسور عبد الله علي إبراهيم، د. محمد جلال هاشم، د. عشاري أحمد محمود، د. معتصم الأقرع، د. صلاح بندر، والروائي عبد العزيز بركة ساكن وغيرهم.
• المقاتلين من الحركات المسلحة في دارفور، وقوات “كيكل”، و”برأوون”، و”غاضبون”، و”المستنفرين”، وشباب الأقباط، و”ميارم الفاشر”، و”مرابطات الشمالية ونهر النيل”، والشيخ موسى هلال.
كل هؤلاء وغيرهم تصدوا لحماية الدولة السودانية والدفاع عن وجودها.
حميدتي، الذي كان بالأمس شريكاً في السلطة، متمتعاً بقوتها ونفوذها، ظن أنه قادر على اختطاف الدولة، لكنه نسي أن القوة وحدها لا تكفي، وأن شرعية البندقية لا تدوم طويلاً. فالرهان على الدعم الخارجي، والتحالفات المصلحية، واستراتيجية “الأرض المحروقة”، لن يحقق له أهدافه، بل سيؤدي إلى عزله وإنهاء وجوده في الفضاء العام.
فشل مشروع انقلاب حميدتي على الدولة السودانية لم يكن مفاجئاً، بل كان حتمياً، لأن أي انقلاب يفتقر إلى عمق سياسي، ورؤية استراتيجية، وحاضنة شعبية، لا يعدو كونه مغامرة متهورة باهظة التكلفة.
منذ اللحظة الأولى، كان واضحاً أن حميدتي يخوض معركة بلا غطاء وطني، وبلا ظهير سياسي يمتلك الخبرة والذكاء، وبلا أفق بعيد. اعتمد على القوة اللحظية العارية، لكنه واجه الحقيقة القاسية: القوة الخفية في المجتمع كانت أكبر من قوته العسكرية.
اليوم، وبعد ما يقارب العامين من الحرب، لم يبقَ لحميدتي سوى أطلال مشروع متهالك، وتحالفات تتآكل، وساحة تتسع لنهاية مأساوية.
فالتاريخ لا يرحم من ظنوا أن البنادق تصنع شرعية، ولا يغفر لمن توهموا أن الدعم الخارجي وحده يمكنهم من حكم الأوطان.
ضياء الدين بلال
إنضم لقناة النيلين على واتساب