سودانايل:
2025-04-24@22:02:38 GMT

هل ابتلاؤنا حرب أم حرابة؟ (2/2)

تاريخ النشر: 4th, September 2023 GMT

نقول بأن ما تحت وطأته منذ أبريل 2013 حرباً فقط لأننا لم نفكر إن كان لها سماً ناظراً لخصائصها لا لقاموس العالم. فلم يحص هذا القاموس النزاعات عددا حتى نكتفي بمصطلحه. ودعوتي في هذا المقال أن البلاء الواقع علينا "حرابة" لا "حربا": عبارة من واقعنا ما من أكتر.
هل حدث أن وقع مثل هذا التجريد لمدينة من قبل لنحسن وصف ما وقع للخرطوم؟
لا يماثل ما نحن فيه من ابتلاء شيء إلا واقعة في زائير (جمهورية الكونغو الديمقراطية حالياً) خلال سبتمبر (أيلول) وأكتوبر (تشرين الأول) عرفت بـ"pillage" ووجدت "التشليع"، وهو تفكيك الشيء إلى وحداته الأولى، في مصطلح السودان تعريباً مفيداً للكلمة، فتمردت فيها وحدات من الجيش الزائيري بالعاصكة كينشاسا لأنها لم تقبض رواتبها لأشهر، وكان غرضهم من هبتهم الحصول عليها ولا يعرف إن زادوا السياسة على ذلك، ثم اجتمع عليهم مدنيون دوافعهم سياسة وهي نزع رئيسهم موبوتو سيسي سيكو عن الحكم، كما انضم إليهم نهابون.


تمدد هذا العصيان وذيوله إلى مدن أخرى، فاحتل الجند المطار، ونهبوا مستودعاته وعطلوا برج المراقبة، ونهب وعصب تابعيهم من المدنيين نهباً على نطاق واسع أحدث أضراراً اقتصادية كبرى بالبلاد، إذ داهموا المتاجر ومحطات الغاز والمولات وبيوت المواطنين.
نهبوا المولات من أجهزة تلفزيون وثلاجات وماكينات تصوير، كما خربوا مكاتب الحكومة وبيوت الأجانب وشركاتهم، ونهب الناس من حولهم الأسواق وفككوا منشآت بحالها، فخلعوا منها أحواض المطابخ ومقاعد الحمام وشبكات الحديد التي تحمي نوافذها لبيعها في أسواق انفتحت في معسكرات الجيش، وهدموا قسماً كبيراً من المنطقة الصناعية وسرق الناس ماكينات ورشها.
واستولى العساكر على مئات السيارات من مصنع "جنرال موتورز" وخربوه ليتركوه هيكلاً من حديد، وحتى القوى الموالية لموبوتو استهوتها "نزوة التشليع" فمدت يدها مثل الآخرين متجاهلة قمعهم كما هي مهمتهم.
كان الحصاد فادحاً، حيث صرعت الأحداث 200 مواطناً، وقع النهب على 30 إلى 40 في المئة من الشركات، وتحطم 70 في المئة من المؤسسات، وغادر الأجانب زائير بشكل جماعي بعد نهب بيوتهم من دون مس أرواحهم، وهكذا ترحلت عن البلد نصف الشركات وتركت عمالها عاطلين.
وقال عالم سياسة بلجيكي إن نزوة "التشليع" هي ظن غمار الناس أنهم استطاعوا أخيراً فعل ما كانت صفوتهم تفعله بهم لعقود، وهو سرقة كل شيء، وانتهى التمرد بدعوة موبوتو لفرنسا وبلجيكا الراغبتين بالتدخل عسكرياً لفضه.
هل هذه حرب أم حرابة؟
قال أحدهم إن المثقف في عالمنا الثالث ضيف ثقيل على واقعه، فهو زاهد في معرفته بخصائصه لياذاً بمصطلح غربي مستخلص من واقعة غربية جغرافياً تعممت على العالمين من موقع شوكة، فقولنا إن ما نخوض في السودان حرباً على بينة من مصطلحها العالمي أخفى عنا الطاقة الإجرامية التي من ورائه، وهو إجرام يتفق علماء السياسة أنه سمة السياسة المعاصرة في بلدان العالم الثالث تزايل فيها الفاصل بين الجريمة والسياسة أو كاد، فسقطت السياسة في شكل الدولة في هايتي مثلاً لتستبيحها العصابات، وهو مصير بلاد كثيرة أذنت للميليشيات بأدوار سياسية.
سيأتي يوم تكون هذه الميليشيات هي السياسة كما تطمع "الدعم السريع" ليومها، ويستغرب المرء لتكففنا مصطلحاً لما نحن فيه من ابتلاء، وفي فقهنا الإسلامي غناء، فالطاقة المجرمة في "الدعم السريع" مما اصطلحنا كمسلمين على وصفه بـ"الحرابة"، وهي البروز لأخذ المال أو القتل، على سبيل المجاهرة مكابرة اعتماداً على القوة مع البعد عن الغوث، والمحاربة عند السرخسي، عادة قوم لهم منعة وشوكة يدفعون عن أنفسهم ويقوون على غيرهم بقوتهم، والمجاهرة هي أخذ المال قهراً، أي خطفاً، لا خلسة كالسراق. وانسكب حبر فقهي كثير حول "البعد عن الغوث" ومعناها ألا يكون من مغيث لمن اعتدى عليه المحارب، وجعل هذا الشرط الفقه يقصر وقوع الحرابة في الصحاري لا الأمصار حاضرة السلطان التي يلحق الغوث المستغيث، وصارت "الحرابة" بالنتيجة هي فعل قطاع الطرق حصرياً، ولكن مثل أبي حنيفة قال بوقوع الحرابة في الأرياف والأمصار إذا لم يلحق الغوث في كليهما لأي سبب من الأسباب، بل تجد من قال إن وقوعها في المدن في مثل الخطف والقتل والسرقة والنهب وتحريق المحال والمنازل لجريمة أنكى لاستخفاف المحارب بالتجمعات البشرية فيروع أمنها متجرئ غير مبالٍ بقوة الغوث المنتظر.
لم يكن للخرطوم كما رأينا مغيث حين ظهرت "الدعم السريع" لأخذ المال مكابرة اعتماداً على القوة، فإذا لم تكن هذه "حرابة" فما تكون؟


IbrahimA@missouri.edu  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

في زمن التيه.. الرجولة أن تكون من أنصار الله

 

الرجولة ليست مجرد صفة بيولوجية، ولا تُقاس بالقوة الجسدية أو الانتماء القبلي أو المناطقي، بل هي موقف ووعي وانحياز دائم للحق. ومن تمام الرجولة، أن تكون من أنصار الله، لأنك بذلك تقف في صف المظلوم، وتكون من رجال الرجال في زمن قلّ فيه الرجال، وانحسرت فيه معاني الرجولة، خاصة بعدما انكشفت معالم المعركة بين حقٍ جلي عنوانه القرآن الكريم وآل بيت النبوة، وباطلٍ فاضح عنوانه التحالف بين الصهيونية العالمية وبعض الأنظمة العربية المتصهينة.

وفي اليمن، حين تبحث عن بديل لأنصار الله، فلن تجد إلا خيبات الماضي أو مشاريع الارتهان. فهل يكون البديل هو نظام عفاش؟ ذلك النظام الذي أسّس لحكم الفرد، وروّج للرذيلة والإفساد الأخلاقي، وفتح الباب أمام مشاريع التغريب والانحلال في وسائل الإعلام والمناهج التربوية، وهو الذي مكّن السفارات الأجنبية من التدخل السافر في الشأن اليمني. إن بقايا ذلك النظام لا تزال اليوم تقف في خندق الأعداء، تحت يافطات شتى، في الساحل الغربي وغيره، وجمعت حولها كل دعاة الرذيلة والفساد الأخلاقي، ممن يأنف الحر الشريف أن يسير في ركابهم.

أما إن كان البديل هو حزب “الإصلاح”، ذلك الذي طالما تغنّى بالدين ظاهراً، بينما أفرغ معانيه من الداخل، وخرّج من معاهده نماذج ممسوخة لا تعرف من الرجولة إلا قشورها، فإنك حينها تكون قد تنازلت عن رجولتك مبكرًا. فماذا يمكن أن يُنتظر ممن يرون في المهرج “محمد الربع” – وهو رمز السخرية من القيم والمعارك المصيرية – نموذجاً للرجولة والفكر؟ هذا هو نتاج ثقافة حزبية لم تجعل من فلسطين قضية، ولا من الجهاد شرفاً، بل سخّرت منابرها للطعن في المجاهدين.

وينطبق هذا أيضًا على أولئك الدعاة المدجَّنين بالمال الإماراتي، ممن ارتضوا القعود عن نصرة قضايا الأمة، وتفرغوا لتثبيط الناس عن الجهاد والمقاومة، أمثال بعض من ينتسبون إلى الطرق الصوفية الجديدة التي اتخذت الدين طقوسًا لا تتصل بواقع الأمة. تراهم لا ينطقون بكلمة حق تجاه العدوان على غزة، بينما يسارعون لإدانة أي تحرك مقاوم أو موقف شجاع في اليمن أو فلسطين.

إنهم اختاروا أن يكونوا شهود زور، يغطّون الجرائم الصهيونية بصمتهم المطبق، ويهاجمون من يرفع سلاحه في وجه المحتل. يكفيك أن تقارن بين بياناتهم الغائبة عن مجازر الاحتلال في رفح وغزة، وبين تصريحاتهم السريعة في مهاجمة المقاومة اليمنية حين تضرب أهدافًا صهيونية.

أما إذا كنت صاحب فطرة سليمة، وقلبٍ حيٍّ لم تُطفئه أضواء الزيف الإعلامي، ولم تُمِتْهُ أبواقُ التطبيع، فإنك ستجد نفسك، دون كثير عناء أو تنظير، تقف إلى جانب أنصار الله، لا لأنهم فوق النقد أو أنهم بلا أخطاء، ولكن لأنهم – في واقع اليوم – يُمثّلون الخندق الأقرب إلى الموقف الحق، حيث المعركة واضحة، والعدو مُسمّى باسمه، لا يُدارى ولا يُجَمَّل.

هم الذين رفعوا شعار العداء للصهاينة في زمن أصبح فيه التطبيع بطولة، واعتراف المحتل واقعًا مفروضًا، والمقاومة تهمة تُلاحق بها الأحرار. هم الذين اختاروا الوقوف في صف القرآن الكريم، حين تفرّق الناس بين ولاء لواشنطن وتبعية لأبو ظبي والرياض، وبين من لا يزال يفتش عن “حل سياسي” في زمن لا يعترف إلا بمنطق السلاح والميدان.

لقد رسم القرآن الكريم معالم العداوة بوضوح، حين قال: ﴿لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا﴾ [المائدة: 82] فلا غرابة أن يكون أنصار الله في مقدمة من يحملون راية هذه العداوة، ويجعلون منها عقيدة وموقفًا، لا مجرد شعار سياسي موسمي.

وحين نقرأ: ﴿وقاتلوا الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين﴾ [البقرة: 190] نفهم أن القتال المشروع هو في وجه المحتل، المغتصب، الذي يقتل الأطفال في غزة، ويهدم البيوت فوق رؤوس ساكنيها في رفح وجنين، لا في وجه المجاهدين الذين يسعون لرد هذا العدوان، مهما كانت ملامحهم أو لهجاتهم.

وفي هذا الزمن الذي تهاوت فيه كثير من الأصوات، وسقطت فيه الأقنعة، ولم نعد نُفرّق في الإعلام الممول بين الضحية والجلاد، تظل الرجولة الحقّة أن تنحاز لخيار الجهاد، لا على أساس حزبي أو مناطقي، بل انطلاقًا من إيمانك العميق بأن الباطل لا يُجابه إلا بالقوة، وأن من يرفع راية الجهاد في زمن الضعف هو أحق الناس بالسمع والطاعة والنصرة.

لقد أصبح الوقوف في صف أنصار الله اليوم، موقفًا يتطلب شجاعة لا تقل عن شجاعة المقاتلين في الجبهات، لأنه تحدٍّ لموجة التضليل العالمية، ورفضٌ للانضمام إلى طوابير المنتفعين بالصمت. نعم، قد تُكلّفك الكلمة موقفًا، ويُكلّفك الموقف ثمنًا، لكن الرجولة الحقة، لا تُقاس بما تكسبه، بل بما تصمد فيه، وما تدفعه في سبيل الله، والحق، والمظلومين في كل مكان.

 

 

 

مقالات مشابهة

  • تحرروا من السياسة
  • جيش الاحتلال يستمر في السياسة الممنهجة لتدمير المستشفيات 
  • الأزمي: بدون العدالة والتنمية، السياسة في المغرب تفقد معناها
  • كاتب هندي: إبادة غزة حولتنا لشهود قسريين على بشاعة السياسة
  • اللقاء المسرحي العربي الخامس بهانوفر.. ماغما تعيد للفن العربي ألقه وتقرب ما عجزت عنه السياسة
  • تغيير الولاة والمسؤولين كثيرا ما حاجه كويسه بل مضرة جدا
  • لا تدع السياسة تُفسد نومك.. استعن بهذه النصائح من خبراء
  • في زمن التيه.. الرجولة أن تكون من أنصار الله
  • رسالة ونداء
  • حكاية أطفال الأنابيب (1)