سودانايل:
2025-03-17@08:34:07 GMT

هل ابتلاؤنا حرب أم حرابة؟ (2/2)

تاريخ النشر: 4th, September 2023 GMT

نقول بأن ما تحت وطأته منذ أبريل 2013 حرباً فقط لأننا لم نفكر إن كان لها سماً ناظراً لخصائصها لا لقاموس العالم. فلم يحص هذا القاموس النزاعات عددا حتى نكتفي بمصطلحه. ودعوتي في هذا المقال أن البلاء الواقع علينا "حرابة" لا "حربا": عبارة من واقعنا ما من أكتر.
هل حدث أن وقع مثل هذا التجريد لمدينة من قبل لنحسن وصف ما وقع للخرطوم؟
لا يماثل ما نحن فيه من ابتلاء شيء إلا واقعة في زائير (جمهورية الكونغو الديمقراطية حالياً) خلال سبتمبر (أيلول) وأكتوبر (تشرين الأول) عرفت بـ"pillage" ووجدت "التشليع"، وهو تفكيك الشيء إلى وحداته الأولى، في مصطلح السودان تعريباً مفيداً للكلمة، فتمردت فيها وحدات من الجيش الزائيري بالعاصكة كينشاسا لأنها لم تقبض رواتبها لأشهر، وكان غرضهم من هبتهم الحصول عليها ولا يعرف إن زادوا السياسة على ذلك، ثم اجتمع عليهم مدنيون دوافعهم سياسة وهي نزع رئيسهم موبوتو سيسي سيكو عن الحكم، كما انضم إليهم نهابون.


تمدد هذا العصيان وذيوله إلى مدن أخرى، فاحتل الجند المطار، ونهبوا مستودعاته وعطلوا برج المراقبة، ونهب وعصب تابعيهم من المدنيين نهباً على نطاق واسع أحدث أضراراً اقتصادية كبرى بالبلاد، إذ داهموا المتاجر ومحطات الغاز والمولات وبيوت المواطنين.
نهبوا المولات من أجهزة تلفزيون وثلاجات وماكينات تصوير، كما خربوا مكاتب الحكومة وبيوت الأجانب وشركاتهم، ونهب الناس من حولهم الأسواق وفككوا منشآت بحالها، فخلعوا منها أحواض المطابخ ومقاعد الحمام وشبكات الحديد التي تحمي نوافذها لبيعها في أسواق انفتحت في معسكرات الجيش، وهدموا قسماً كبيراً من المنطقة الصناعية وسرق الناس ماكينات ورشها.
واستولى العساكر على مئات السيارات من مصنع "جنرال موتورز" وخربوه ليتركوه هيكلاً من حديد، وحتى القوى الموالية لموبوتو استهوتها "نزوة التشليع" فمدت يدها مثل الآخرين متجاهلة قمعهم كما هي مهمتهم.
كان الحصاد فادحاً، حيث صرعت الأحداث 200 مواطناً، وقع النهب على 30 إلى 40 في المئة من الشركات، وتحطم 70 في المئة من المؤسسات، وغادر الأجانب زائير بشكل جماعي بعد نهب بيوتهم من دون مس أرواحهم، وهكذا ترحلت عن البلد نصف الشركات وتركت عمالها عاطلين.
وقال عالم سياسة بلجيكي إن نزوة "التشليع" هي ظن غمار الناس أنهم استطاعوا أخيراً فعل ما كانت صفوتهم تفعله بهم لعقود، وهو سرقة كل شيء، وانتهى التمرد بدعوة موبوتو لفرنسا وبلجيكا الراغبتين بالتدخل عسكرياً لفضه.
هل هذه حرب أم حرابة؟
قال أحدهم إن المثقف في عالمنا الثالث ضيف ثقيل على واقعه، فهو زاهد في معرفته بخصائصه لياذاً بمصطلح غربي مستخلص من واقعة غربية جغرافياً تعممت على العالمين من موقع شوكة، فقولنا إن ما نخوض في السودان حرباً على بينة من مصطلحها العالمي أخفى عنا الطاقة الإجرامية التي من ورائه، وهو إجرام يتفق علماء السياسة أنه سمة السياسة المعاصرة في بلدان العالم الثالث تزايل فيها الفاصل بين الجريمة والسياسة أو كاد، فسقطت السياسة في شكل الدولة في هايتي مثلاً لتستبيحها العصابات، وهو مصير بلاد كثيرة أذنت للميليشيات بأدوار سياسية.
سيأتي يوم تكون هذه الميليشيات هي السياسة كما تطمع "الدعم السريع" ليومها، ويستغرب المرء لتكففنا مصطلحاً لما نحن فيه من ابتلاء، وفي فقهنا الإسلامي غناء، فالطاقة المجرمة في "الدعم السريع" مما اصطلحنا كمسلمين على وصفه بـ"الحرابة"، وهي البروز لأخذ المال أو القتل، على سبيل المجاهرة مكابرة اعتماداً على القوة مع البعد عن الغوث، والمحاربة عند السرخسي، عادة قوم لهم منعة وشوكة يدفعون عن أنفسهم ويقوون على غيرهم بقوتهم، والمجاهرة هي أخذ المال قهراً، أي خطفاً، لا خلسة كالسراق. وانسكب حبر فقهي كثير حول "البعد عن الغوث" ومعناها ألا يكون من مغيث لمن اعتدى عليه المحارب، وجعل هذا الشرط الفقه يقصر وقوع الحرابة في الصحاري لا الأمصار حاضرة السلطان التي يلحق الغوث المستغيث، وصارت "الحرابة" بالنتيجة هي فعل قطاع الطرق حصرياً، ولكن مثل أبي حنيفة قال بوقوع الحرابة في الأرياف والأمصار إذا لم يلحق الغوث في كليهما لأي سبب من الأسباب، بل تجد من قال إن وقوعها في المدن في مثل الخطف والقتل والسرقة والنهب وتحريق المحال والمنازل لجريمة أنكى لاستخفاف المحارب بالتجمعات البشرية فيروع أمنها متجرئ غير مبالٍ بقوة الغوث المنتظر.
لم يكن للخرطوم كما رأينا مغيث حين ظهرت "الدعم السريع" لأخذ المال مكابرة اعتماداً على القوة، فإذا لم تكن هذه "حرابة" فما تكون؟


IbrahimA@missouri.edu  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

من الناس من يحب لك الخير على مزاجه

شهر رمضان دوما يكسر نسق المفكرة السنوية فاستقباله يحظي باهتمام وترتيب مسبق سواء على المستوي المرتبط بتصريف شئون الحياة اليومية أو بالنظام الغذائي حيث تحضير وجبة الإفطار وحشد صفوف الماكولات والمشروبات، أما إجتماعيا فهو ميقات لإجازات البعاد عن الاهل والاحباب وليل للسهر والانس والترفيه، وموسم للمات وبرش للافطارات، ومحفظة انسانية للرحمتات وبراح في زمن الزيارات وتبادلها، يمتد الكرنفال إلي طقوس السحور ونداء المسحراتي والتضامن الاجتماعي في تبادل الاطعمة، وصلاة التراويح وفي اخلاق الشهامة موعد يعلن فيه وقف القتال وكسر الخصام، والاحتفاء بالعيد ولبس الجديد، والمعايدة السعيدة واقامة المناسبات التي تحظي بالحضور والبهجة وتعميد الحياة بالفرح والمرح اللطيف.

الزيارات خلال الشهر تقابل بكرم الإفطار أو إذا كانت عقب ذلك تقدم المشروبات الساخنة والباردة في ترحاب وبشاشة، وفي البال مشروب الحلومر الذي تشير شهادة ميلاده في خانة الاسم الثلاثي : الحلو مر رمضان كريم ، وفي تعريف مكان الميلاد: بلاد السودان.

في عام مضي وفي إحدي امسيات رمضان كنت على موعد مع احد الاصدقاء لتصريف أمر من شئون الدنيا، يتطلب بعض الخصوصية وبراح زمن، كنت قد اخترت موعدا عقب ميقات الافطار فحينها تعيرك الروح انتباهها، امعنت في ميقات الزيارة لتكون خلال أحد ايام عطلة نهاية الاسبوع فكان سبتا رمضانيا احتفي به الغمام بنفحة فاكسبه مناخ معتدل، تآمرت فيه على أشعة الشمس المشعة في سابقات الايام. .

كان صديقي ممن يفتحون أبواب المساكن للإفطار، فيجتنع القوم من عابري الطريق، واسياد الضرا الذين ينتظمون بشكل راتب، فللخير إياد بيضاء يحرصون علي ذلك في شغف مواز للصوم، ترجمة لصفة الكرم الملازمة ل" رمضان كريم " ولطفا انسانيا يحفزه الضمير .

وصلت إلي المنزل، كان الصديق في انتظاري ، غادر اغلب زائريه عقب الإفطار، الإ واحدا من الراتبين على الحضور، إلي أن بلغ به الحال القيام بخدمة الضيوف في حفاوة، فالشهر يقرب الوصل بين الناس كرما وتعاضدد، دلفت إلي الصالون، على احدي الطاولات كان ترموسي الشاي والقهوة التي تراصت إلي جانبهما الكبابي " أجمل من صبايا بينات الروابي" كما قال الراحل مجموب شريف، جلست متوهطا على احدي الكراسي الوثيرة، لم يمهلني الضيف فرمضان كريم الا وناولني كوبا من الماء، تجرعتها على مهل، مع تجاذب التحايا والسلام والسؤال عن الحال.

وضعت الكوب فارغا في الطاولة التي كانت على يميني، فنهض الضيف اللطيف، اها كباية شاي، اعتذرت فلست من رواد الشاي في رمضان، بسرعة البرق اضاف خلاص قهوة ثم اردف دي قهوة عجيبة عملتها الحاجة في إشارة إلي والدة صديقي، وانا ابتسم ابتسامة خفيفة شكرته على عدم رغبتي قائلا خليها المره الجاية، باغتني خلاص فنجان واحد، كنت قد شربت ما يكفي لعدل المزاج عقب الإفطار الإ أنه كان قد امسك بالثيرموس فقلت بصوت به بعض الجدية واللطف كتر خيرك المره الجاية، لو شربت فنجانا اخر سيحول بيني والنوم، الإ أنه عاجلني بالقاضية قائلا لا لا مافي مشكلة حتنوم ! ، فغرت فاهي لم أجد ما أقوله، فقد أدركت بأنه عال القدم في الجدال وسيهزمتي، تناولت منه الفنجان وانا اردد مع الرشفة الاولي ومن الناس من يحب لك الخير على مزاجه، رمضان كريم على الجميع .

badawi0050@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • وزير التعليم العالي: السياسة الوطنية للابتكار المستدام خطوة نحو تحويل مصر إلى مجتمع معرفي مبتكر ومستدام
  • التعليم العالي: السياسة الوطنية للابتكار المستدام تتماشي مع رؤية الدولة لدعم ريادة الأعمال
  • من أوكرانيا إلى فلسطين: العدالة الغائبة تحت عباءة السياسة العربية
  • تأمل التاريخ
  • العودة إلى السياسة الواقعية الأمريكية
  • السياسة.. طبخة تحتاج لطباخ ماهر
  • موعد عرض مسلسل سيد الناس الحلقة 15
  • التعليم العالي: إتاحة الموارد اللازمة لتنفيذ السياسة الوطنية للابتكار المستدام
  • من الناس من يحب لك الخير على مزاجه
  • روبيو عن بوتين: السياسة الخارجية تعني العمل مع أشخاص لا تحبهم ..فيديو