لم تختلف طرقُ وأساليب المؤسسة العسكرية السودانية في التعاطي مع أزمات البلاد منذ استقلالها وحتى اللحظة, سواء ذلك من حيث عدم تطوير المقدرات القتالية لدى الجندي ، ترسيخ العقيدة القتالية فيه وتعليمه أن الأولوية في الحرب هي المحافظة على أمن المواطن وحمايته وتجنيبه المخاطر قدر الإمكان، عدم تحديث التكتيك الهجومي وإدارة المعارك خارج الخنادق، أو حتى دراسة الأوضاع ومحاولات لإيجاد حلول ذات خسائر قليلة مقارنةً باستمرارية الحرب…
وبالتالي فإن النتائج عادة ما تأتي مماثلة لسابقاتها في كل مرة, بصورة تدفعنا للتساؤل مراراً, حول جدوى استمرارية هذه الحرب، طالما ان هنالك طرقًا اخرى لتجنبها أو تقصير أمدها.
* خاضت المؤسسة العسكرية في السودان أولى معاركها في ظل الحكومات الوطنية ضد ثورة (أنيانيا 1), التي اندلعت في الثامن عشر من أغسطس 1955_ قبيل الاستقلال_ فكانت غير مستعدة لغير الحسم العسكري الذي استمر لسبع عشرة سنة, قبل ان تشهد نهايتها في السابع والعشرين من مارس 1972 بتوقيع اتفاقية أديس أبابا للسلام.
إلا أن تصريحات للرئيس السوداني الـأسبق المشير جعفر محمد نميري في لحظة حماس متهور، في سبتمبر 1983؛ وضعت حدًا لنهاية هذه الاتفاقية، حينما أعلن عن ما أسماها ب"قوانين الشريعة الإسلامية" بإعياز ووسوسة من شياطين الجبهة الاسلامية التي كانت ضمن مكونات حكومة الإئتلاف، ثم أصبحت فيما بعد بلاء السودان و عقبة تقدمه.
*اشعلت تلك القوانين جذوةَ ثورةٍ أخرى أكثر تنظيماً،وأوضح رؤية وأوجع ضرباً، وأوسع وعياً وانتشاراً وأبلغ تأثيراً في الآفاق الإقليمية والدولية، تحمل نفس الاسم (أنيانيا 2) التي سرعان ما اكتسبت اسم ( الحركة الشعبية لتحرير السودان) بزعامة الراحل د. جون قرنق ديمابيور...
لتعاود المؤسسة العسكرية ذات اللغة التي كانت بمثابة عويش تغذي استمرارية الحرب, إلى أن توصلت إلى حقيقة أن لا جدوى من استمرارية الحرب, لتضع بذلك الحرب أوزارها باتفاقية السلام الشامل في نيفاشا في العام 2005, لتكتسب لقب أطول حرب في تأريخ أفريقيا الحديث… بعد٢١ عام من الحرب، فقدَ خلالها مليون ونصف المليون شخص من أبناء الشعب السوداني أرواحهم.
*لم تستفد مؤسستنا العسكرية من تجربتيها التي كلفتها خوض معارك استمرت في مجملها 38 سنة من الحرب والدمار ضد أبناء الشعب السودني, فوقَعت في ذات الخطأ حين صرح الرئيس السوداني الأسبق والقائد الاعلى للقوات المسلحة المشير عمر البشير بعد فاصل رقص -كارب- اهتزت فيه الاصلاب والذقون في العام 2003 حين اندلعت ثورة مصغرة في دارفور معلنة عن نفسها،تحمل مطالب متواضعة جداً, وبدلاً عن ارسال من يجلس معهم لمعرفة من هم وماذا يريدون, وصفهم البشير ب( تجمع الرعاة وقطاع الطرق) و توعد بحسمهم عسكرياً خلال أسبوع, إلا أن ذلك الاسبوع لم ينتهي حتى لحظة كتابة هذه السطور، رغم ابرام العشرات من اتفاقيات السلام، وأضعاف أضعاف ذلك العدد من صفقات شراء الذمم.
فيما اضطر البشير وحزبه الدموي للاستعانة بعصابات قبلية تجهل تمامًا أبجديات الوطنية والأخلاق والدين والقيم, فصنعت منها مليشيات الجنجويد التي ما انفكت تأتمر بأوامرها في الفتك والعبث بأرواح وأعراض وممتلكات الشعب السوداني في دارفور، دون أي حساب أو حتى جُملة إدانة أو عتاب لما تفعله في دارفور طوال العشرين سنة الماضية!
نتج عنها مقتل مئات الالاف من المواطنين ولا تزال اعداد الضحايا في تزايد مستمر، على رأس كل دقيقة جريمة ترتكب هناك.
*اليوم وبعد ٥٨ عامًا من تجربة استمرار الحرب، نتابع تصريحات البرهان الحماسية القاطعة باستمرار الحرب حتى النهاية،ضد جنجويده، كحلّ أوحد لا رجوع عنه, في ظل عجز المؤسسة العسكرية عن التقدم أو تغيير أساليب القتال التقليدية التي مكنت مليشيات الدعم السريع من إحكام قبضتها على معظم أجزاء العاصمة الخرطوم وجميع ولايات دارفور – باستثناء حاميات وخنادق الجيش وبعض القرى عديمة التأثير هناك؛ أرى أننا مقبلون على تكرار ذات السيناريوهات السابقة, والتي سيترتب عليها المزيد من معاناة المواطن وتدمير ما تبقى من البنية التحتية التي كشفت هذه الحربُ جليّاً أن كلا الطرفين غير آبهين بهما البتة.
* إن أية دعوة لاستمرار الحرب الحالية بشكلها الحالي في السودان , تعني بالضرورة استمرار الدمار, استمرار انتهاك مزيد من الأعراض، استمرار استيطان منازل المواطنين وتهجيرهم بالملايين الى دول الجوار، بل واستمرار السقوط بالبلاد نحو الهاوية.
أحمد محمود كانم
٤ سبتمبر ٢٠٢٣
amom1834@gmail.com
/////////////////////////
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: المؤسسة العسکریة استمرار الحرب
إقرأ أيضاً:
الثامن من مارس: والجالسات على أرصفة العدالة في السودان
تحُدر الثامن من مارس- يوم المرأة العالمي- في الزمان و لم يفرغ علينا من رضابه..في زمن الحرب في السودان.تحول الناس الى أرقام حسب مرات النزوح و قبلته و حسب موقعهم من مقاييس الجوع التي تحددها المنظات الدولية قبل أن تعلن المجاعة و تناشد الشعوب علها تنقذ البلاد.و العباد..على أن الحرب قد شنت على اجساد النساء منذ اول يوم اندلاعها في العاصمة الخرطوم و على ذلك و ثقت أضابير مجلس الامن الدولي... في الأثناء، ما يزال السياسيون السودانيون يحاولون عقلنة موا قفهم تجاه الحرب بعضهم آثر الرجوع الى المدرسة الدينتولوجيكالية و بعضهم اعتمد على المدرسة التيليولوجيكالية "حتى يظهر كل طرف تفوقه الاخلاقي" كما ذكر د. بكري الجاك في مقاله "المأزق الاخلاقي الماحق في حروب السودان".
هل تمكن العسكريون من إيجاد الصيغة المثلى لتكتيكاتهم في استئصال شأفة الآخر؟ ربما فشلت "الالياذه" و استراتيجيات الحروب البيزنطية في تحقيق النصر الكاسح و استئصال (العدو) ..لكن البطولة و الخلود تاتي عبر السلام و إحياء الانفس و الحفاظ على وحدة البلاد..بيدهم.. لا بيد عمرو لو كانوا يعلمون!
في يوم المرأة العالم تتذكر شعوب الأرض الأعلام من النساء و كفاحهن و لعل من أروع ما خلد من أعمال عن مآسي الحروب وويلاتها ما كتبته نساء من روايات مثل "كوخ العم التوم" لهاريت بتشر ستو كما كتبت بيتى سميث و غيرهن.فابدعن..وفي السودان سيذكر التاريخ أبطالاً لنا..ست النفور و رفيقاتها..و رفاقها " آباؤهم نحن...اخوانهم نحن..اخواتهم نحن.. و نحن امهات الشهداء" ...و تستمر سير الكفاح ف ليس "كل شئ هادئ على الضفة الغربية".
و بعيداً عن المدارس الفلسفية لتبرير الحرب، تحولت النساء الى ارقام و حيوات مختفية قسرياً في احصائيات الحروب في السودان..و هي حروب لم تبدأ في ابريل 2023 م كما نعلم، و لا زالت النساء يعانين جراءها ... داخل البلاد في اماكن النزوح و في مضارب خارج البلاد منذ بداية الالفية..في دارفور وفي المناطق الثلاث ( جبال النوبة و النيل الأزرق و منطقة ابيي) حسب توصيف "اتفاقية نيفاشا" التي ظلت شاهداً على كيف تؤدي اتفاقيات السلام الى وأد السياسة في بلاد السودان.
من اماكن الايواء و الغابات الى المعسكرات و في المهاجر، تفضح أحوال النساء المفاهيم الكسلى و المعاقة لحماية المدنيين و حقوق الانسان ..و منابر التفاوض تتمطى و تتزمل وتتدثر "و تتوه لمن يجي الميعاد" ... فهي غير قادرة على ضبط البوصلة على الاحداثيات المطلوبة ... و الاتفاقيات بغير ضامن..تبحث عن الفضل بيننا ...فمن دخل دار ابي سفيان فهو أمن... أو كما قال.
حدثوا مارس عنا و الزمانا عندما كانت سماؤنا ذات رجع و ارضنا ذات صدع. ذات أحقاب..و اذا بالنساء بفعل الحروب ... ساجيات... تحت التطهير العرقي و الاسترقاق و الاختطاف اما الاغتصاب فاصبح مسرحاً للإذلال لادمية البشر برافعة القبلية ..كلما ردوا الى الفتنة اركسوا فيها. و تسيًد الجوع و المتربة و ترويع الأطفال و قهر الرجال و اذلالهم و تعذيبهم و التصفية على الهوية ..مما يضاعف من ماساة الحرب ووقعها على المرأة اينما كانت.
..نسيت النساء في دارفور شواء المونساس و مشروب البركيب.. وطفقن يجمعن اوراق الاشجار لاطعام الصغار في مخيم ابو شوك و مخيم زمزم ...منصات الاملاق... حيث يموت الاطفال يومياً من المجاعة ... أفلت الهولاكيون من العقاب.. و ام قرقداً سايح الجمتها الكوارث فتركت الغناء و الشكر" و في الفاشر الكبير طلعوا الصايح...دقوا الجوز عديل اصلو العمر رايح".
يابنية مالكي ...زعلانة مالكي...الدمار... الحصار في كردفان..هربت "الكمبلة" من اقنعة القبيلة و هجر "المردوم" الساحات...و لم تجزعي .."خلوني يا خلايق حبل الصبر ممدود... للخير بجيك سايق"...و غد العدالة لناظره قريب.
يا لاجئة تتوه من مرفأ... لمرفأ..لك العتبى ف "لا أحد يترك و طنه اذا لم يكن قد اصبح فك سمكة قرش. يجب أن تفهم ان لا أحد يضع الاطفال على متن قارب الا أذا كان الماء اكثر أمناً من اليابسة"..(من قصيدة ورسان شاير التي اصبحت رمزاً للاجئين).
و يا سارية الجبال و الغابات...بتطلعي من وديان مع النسمة الصباحية و من صوت طفلة بتحفظ في كتاب الدين... و طفلة ..وسط اللمة منسية في معسكرات.اللاجئين . فاقدة للرعاية الاسرية... و فاقدة الهوية..قطعت الاميال في وهاد السافنا "شكت الالم من لمسات حجولا... ليه ببعادا الأيام عجولة"... و لم تكن الوحوش البشرية بارفق عليها من.الضباع..سنرجع يوماً الى أحيائنا و مدننا ...لكنها مع التايهين تفضل تعد...و تنسى العدد ...و يوم في الشتات بالف سنة مما تعدون.
يا نازحة...و" شوق لي نيلنا ..الاهل و الطيبة و باقي ذكرى حبيبة ..وين غسيل النيل و شر هدوم في رمالو وينو ماضي الحلة و ين و مين الشالو". انها حرب ضد الجميع وضد الذاكرة و التاريخ..و ضد الحياة..مدعاة للحزن و النحيب ".يا سواقي بلدنا..مالو صوتك مالو...وينو فارع مويتك غنى باسم حالو"...لعل السواقي فقدت صوتها بعبرات حرًى .سكبتها على من غابوا...اني خيرتك فاختاري ما بين ان نتاسف على الماضي اللي ما برجع...على الفرقة الزمانا طويل .. و بين أن نقبض على الامل و الذكرى كالقابض على الجمر...تودع لدى الامواج و الشطئان..فهي حاديها و دايماً...دليلا:
يا ترع حلتنا و حفير حلتنا و يا بحر حلتنا ...في رمالك ذكرى لا بتشيلها الموجة و لا بتفارق الفكرة..نلقاها يوم فرح البعيد العاد..و يا وطناً وقت اشتاق له برحل ليه من غير زاد:
غداً نعود...حتماً نعود.
و يا من على موازين العدالة...لا يجرمنكم شنأن قوم على الا تعدلوا..اعدلوا هو اقرب للتقوى.
ايمان بلدو
eiman_hamza@hotmail.com