عندما سئل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في غير مناسبة، عن الحدث التاريخي الذي شهدته بلاده، وكان يود الحيلولة دون وقوعه، كان رده الفوري "انهيار الاتحاد السوفييتي".. عموماً، ما زال الرجل يطوي بين جوارحه، أحانين قوية للحقبة السوفييتية، حتى إن ذكرها لا يأتي على لسانه، إلا مصحوباً بتعبيرات الأسى والحسرة.
سعت موسكو ما أمكنها إلى معالجة نقيصة افتقارها لأطر التحالفات القوية
في الزمن السوفييتي، كان بوتين مجرد ضابط في سلك المخابرات "كي جي بي"، ولو استمر ذلك الزمن، فلربما تقلب صاحبنا بين المناصب، داخل هذا السلك أو خارجه، إلى أن بلغ أجله بهدوء، من دون أن يعرف الكثيرون عنه شيئاً.
فقط بعد اختفاء التجربة السوفييتية، وما تأتى عنه من توابع وتحولات داخلية وخارجية مزلزلة، لمع اسم بوتين، وصعد نجمه في مختلف الآفاق.. هذا يعني أن انحيازه لتلك التجربة، لا يصدر عن أهواء أو عواطف ذاتية بحتة.. بل يمثل ترجمة لرؤية إستراتيجية واسعة المدى لحال دولته ومآلها، مفادها طبقاً لتصريحاته وأقاويله، أن زوال ذلك العهد هو "أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين".. فقد تم تدمير التوازن الدولي، وأعلن الغرب عالماً أحادي القطب، وراح يطور سيناريوهات لتأجيج الصراعات في أكثر من مكان، بما في ذلك الجمهوريات التي خرجت من العباءة السوفييتية، ويسعى لتنفيذ سياسة الإملاءات في جميع المجالات.. وهو يعتقد أن ما يحدث بين روسيا وأوكرانيا، يجسد أحد تجليات هذه السياسة.
أغلب الظن أن استشعار بوتين وفريقه القيادي لهوان موسكو وتراجع مكانتها الدولية، الأمنية العسكرية بخاصة، بعيد العهد السوفييتي، قد زاد أضعافاً بفعل ديمومة حلف "الناتو"، بل وتوسعه وتمدده شرقاً، حتى بات يشكل تهديداً عضوياً على التخوم الروسية.. ذلك مقابل الافتقاد لكتلة مضادة بعد زوال حلف "وارسو"، الذي مارس دوره في معادلة توازن القوى بين المعسكرين الشرقي والغربي، بين عامي 1955 و1991.
ولنا أن نتصور حجم الغضب وأحاسيس الخطر التي كانت، ولعلها ما زالت، تتأجج في موسكو، كلما رأت الكثير من شركائها السابقين في وارسو وبعض الدول المحايدة، وهم يلتحقون تباعاً بالمعسكر المضاد.
تأسيساً على هذا التقدير، والهواجس الموصولة به، سعت موسكو ما أمكنها إلى معالجة نقيصة افتقارها لأطر التحالفات القوية.. أطلت محاولة الاستدراك هذه قبيل زعامة بوتين، ثم تأكدت أكثر بعد صعوده إلى قمة السلطة. وكانت البداية مع تأسيس ما عرف بمعاهدة الأمن الجماعي، التي تم توقيعها في طشقند عام 1992، وضمت بعض الجمهوريات التي انبثقت عن تفكك الاتحاد السوفييتي.
موضوعياً، لا يعد هذا التحالف بالقوة ولا بالصلابة التي عرفت عن حلف "وارسو".. ظهر هذا التفاوت واضحاً لدى اندلاع اشتباكات مسلحة على خلفية خصومات وتباينات عرقية بين القرغيز والأوزبك، وكذا بين الأرمن والكازاخ.. فمع أن هؤلاء جميعاً شركاء في المعاهدة، إلا أن موسكو لم تتمكن من احتواء احتكاكاتهم واصطكاكاتهم البينية الخشنة، بالحسم الذي غلف سلوكها في حقبة وارسو.
من الواضح أيضاً أن بوتين، بمرجعيته الاستخبارية وتصرفاته الواقعية، يدرك تأثير مرور كثير من المياه في نهر العلاقات الدولية بين زمني معاهدتي وارسو وطشقند، وما يعنيه ذلك بالنسبة لمستوى السيطرة الروسية على الحلفاء.. فهو يطمع في تكرار نموذج وارسو في مواجهة "الناتو"، حين كان لموسكو كلمة لا ترد، لكنه يعمل على ذلك بروية وتؤدة لا تزعج الشركاء.. نفهم ذلك من دعوته لهم (موسكو - 16/5/2022) بالتصدي لتوسع "الناتو"، وتثنية حليفه الصدوق الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو على هذه الدعوة بالقول "لا ينبغي أن تواجه روسيا وحدها توسع الناتو، ومن دون حشد سريع لمنظمة الأمن الجماعي في جبهة موحدة، سوف تتضرر كل بلدانها".
تقديرنا أن بوتين ومحازبيه في روسيا ومحيطيها الإقليمي والدولي، يعلمون أن أشواقهم وطموحاتهم لإعادة إحياء القطبية الثنائية، أو تدشين التعددية القطبية في السياق العالمي، لن تتحقق باستخدام وسائل وآليات زمن الحرب الباردة الأولى وحدها.
ونحسب أن هذه القناعة هي التي تحفز الرئيس الروسي على بناء أنماط من التحالفات الناعمة شكلاً، لكنها بالغة التأثير موضوعاً، ومنها بلا حصر العلاقات الإستراتيجية المتميزة في كل المجالات، ربما باستثناء الجوانب العسكرية الصارخة، مع القطب الصيني، والحرص على تعزيز صيغة "بريكس"، التي قد تفعل فعلها في إفشال سياسات العزل والمقاطعة الغربية، القائمة أو المحتملة ضد روسيا والصين بالذات، وكسر هيمنة الغرب على الاقتصاد العالمي، وربما هزيمته بالنقاط.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان النيجر مانشستر سيتي الحرب الأوكرانية عام الاستدامة الملف النووي الإيراني
إقرأ أيضاً:
ترامب: سأتحدث مع بوتين وسنُنجز شيئاً مُهماً
قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، اليوم الجمعة، إنه سيتحدث مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال الفترة المُقبلة.
اقرأ أيضاً: صحافة أمريكا تُبرز دور مصر في إنهاء مُعاناة غزة
وقال ترامب في حديثه الذي نقلته شبكة سكاي نيوز إنه سيتحدث مع بويتن، وأعرب عن أمله في القيام بشيءٍ مُهم، على حد قوله.
وشدد ترامب قائلاً :"نجري مُناقشات جادة مع روسيا".
وتحظى عدد من موضوعات السياسة الدولية باهتمام الطرفين، لا سيما ملف الحرب ضد أوكرانيا التي كان لها تداعيات سلبية على الجوانب الاقتصادية والجيوسياسية في العالم أجمع.
كما يهتم الطرفان أيضاً بملفات السلاح النووي ومنع انتشاره في العالم، فضلاً عن العلاقة مع الصين وكوريا الشمالية.
علاقات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب كانت محط اهتمام واسع منذ بداية تولي ترامب رئاسة الولايات المتحدة في 2017. كان هناك نوع من الانسجام بين الزعيمين في البداية، حيث أثار ترامب إعجابه ببوتين وأكد في عدة مناسبات أنه يكن له احترامًا كبيرًا. من جانب بوتين، كانت هناك إشارات إيجابية نحو ترامب، حيث اعتُبر رئيسًا قادرًا على تحسين العلاقات مع روسيا. ومع ذلك، كانت هذه العلاقات مثارًا للجدل في الداخل الأمريكي، حيث اتهمت المعارضة ترامب بوجود علاقات غير مناسبة مع الكرملين، خاصة في إطار التحقيقات بشأن تدخل روسيا في الانتخابات الأمريكية 2016.
على الرغم من التعاون في بعض القضايا مثل مكافحة الإرهاب والتوترات في سوريا، كانت هناك خلافات ملحوظة بين الطرفين. ترامب كان يسعى لتخفيف العقوبات المفروضة على روسيا، بينما فرضت إدارته عقوبات إضافية عليها بسبب قضايا مثل أوكرانيا، التدخل في الانتخابات، ونشاطات روسيا العسكرية في سوريا. ورغم التقارب الشخصي بين بوتين وترامب، إلا أن العلاقات بين البلدين شهدت توترات كبيرة، خصوصًا بعد مغادرة ترامب للبيت الأبيض.
العلاقة بين روسيا والولايات المتحدة تاريخية ومعقدة، حيث تتراوح بين التنافس الشديد والتعاون الانتقائي. منذ الحرب الباردة، كانت العلاقات بين البلدين تتسم بالعداء، مع التنافس على النفوذ السياسي والعسكري في العالم. ومع ذلك، شهدت فترات من التعاون في مجالات مثل الحد من التسلح النووي وحل بعض الأزمات الإقليمية. في العقدين الأخيرين، شهدت العلاقات تقلبات حادة، خاصة بعد ضم روسيا للقرم في 2014، مما أدى إلى فرض عقوبات غربية عليها. بينما كانت هناك محاولات لتحسين العلاقات خلال فترة ترامب، فإن التوترات المتعلقة بالأمن السيبراني، والصراع في أوكرانيا، والسياسات في الشرق الأوسط ظلت تشكل تحديات كبيرة.