مصر لن تتعايش مع حرب السودان
تاريخ النشر: 4th, September 2023 GMT
يقارن البعض من المراقبين بين موقف مصر من الاقتتال المتواصل في ليبيا بدرجات متفاوتة منذ أكثر من عشر سنوات، وبين موقفها من الحرب في السودان حاليا.
فقد تعايشت مع ما جرى في الأولى بعد ضبط الكثير من الملفات المتعلقة بأمنها القومي، وطرد الجماعات الإرهابية من منطقة الشرق القريبة من حدودها، وما بقي هو نوع من التفاصيل السياسية والأمنية، حيث تؤيد الوحدة والاستقرار ودمج المؤسسات وتشكيل جيش واحد وإجراء انتخابات، وما إلى ذلك من قضايا مهمة.
اتخذت مصر الكثير من الخطوات التي قللت من التأثيرات السلبية المباشرة لما يجري في ليبيا عليها، بينها ضبط الحدود، ورسم الخط الأحمر الذي لم يتم خرقه منذ أعلنه الرئيس عبدالفتاح السيسي قبل نحو ثلاث سنوات، ولعبت أدوارا مختلفة في عملية التسوية السياسية المتعثرة بفعل تباينات محلية وإقليمية ودولية.
نجاح القاهرة في إقامة توازن كبير في علاقتها مع ليبيا حافظ على مصالحها في ظل غياب التسوية النهائية، الأمر الذي يصعب تكراره مع السودان، لأن الجغرافيا السياسية بين البلدين والمصالح الحيوية في ليبيا مختلفة عنها بالنسبة إلى السودان، ومع أنهما دولتا جوار ولديها حدود مشتركة بين كليهما تتجاوز ألف كيلومتر، غير أن طريقة التعاطي مع ليبيا قد تكون أسهل من السودان.
تعاملت مصر مع الأزمة في ليبيا ولم تكن الحرب في السودان اندلعت، ما منح تحركاتها درجة عالية من المرونة والتركيز في الأولى، حتى تمكنت من توطيد العلاقات مع قيادات في الشرق الليبي أولا، وعندما قررت الانفتاح على نظرائهم في الغرب كانت تركيا قد فرضت معادلتها، لكن القاهرة لا تزال محافظة على توازنات تساعدها على حماية أمنها القومي، وما بقي لا يخرج عن نطاق الأهمية التي تتفاوت فيها النتائج السلبية والإيجابية من دون مساس بعصب مصالحها.
يصعب على القاهرة أن تكرر الموقف ذاته مع السودان، لأن الأزمة أشد تعقيدا ومصالحها لا تتمركز بشكل أساسي على مسألة أمن الحدود أو منطقة محددة أكثر من غيرها، فإلى جانب الحدود هناك نهر النيل الذي يشق السودان حتى مصر، وتكتنفه مشاكل مصيرية مع إثيوبيا بسبب سد النهضة، وأمن البحر الأحمر الذي يمثل جزءا مهما لمصر في المعنى العسكري، والاقتصادي الخاص به كممر حيوي إلى قناة السويس.
ناهيك عن منافسات بين قوى كبرى تضع نصب عينيها الفوز بقواعد عسكرية على سواحل السودان، ما يؤدي إلى إزعاج على المدى البعيد للدولة المصرية التي ترى أن إقامة قواعد في الجارة الجنوبية أمر غير مريح لها إستراتيجيا، ويفتح الباب أمام صراعات قوى إقليمية ودولية يمكن أن تتحول إلى منغص كبير للقاهرة.
كادت مصر تكرر موقفها في ليبيا مع السودان عندما اختارت دعم قيادات الشرق في الأولى وهو تحرك كانت أبعاده مفهومة عندما بدت هذه المنطقة بؤرة لتنظيمات إرهابية تستهدف الحدود المصرية، وعندما بدت أكثر قربا للجيش السوداني كمؤسسة ضامنة لوحدة البلاد واستقرارها.
خففت التطورات اللاحقة من مستوى انحياز القاهرة، لأن الجيش غير قادر على حسم الحرب حتى الآن، والطرف المقابل ممثلا في قوات الدعم السريع استطاع الصمود في المعارك على مدار حوالي خمسة أشهر، قد تستمر سنوات، فأبدى الخطاب المصري انفتاحا على جميع الأطراف كي تتمكن الدولة من رعاية مصالحها عن كثب.
ولأن مصالح مصر في السودان مركبة ومتعددة ومتشابكة وغير محصورة في منطقة معينة وتمتد بطول السودان وعرضه، من الطبيعي أن تقوم باستدارة تساعدها على إجراء حوارات مع القوى المختلفة، وعدم قصر علاقتها على الجيش فقط، فغالبية الدول المعنية بالأزمة تحاشت الإعلان عن الوقوف إلى جانب أحد الطرفين المتصارعين.
كما أن المعلومات المتداولة حول وجود انتماءات أيديولوجية من قبل قيادات في المؤسسة العسكرية السودانية، بات أمرا مقلقا، فالنظام المصري الذي قضى وقتا طويلا ليتخلص من المتطرفين والإخوان والإرهابيين وتأمين حدوده في جميع الاتجاهات، لن يقبل أن يفتح طاقة أمل لهؤلاء للعودة مرة أخرى من نافذة السودان، ما استلزم عدم الاندفاع خلف مطالبات من الجيش السوداني بدعم عسكري.
يساهم حوار القاهرة مع جميع الأطراف في تغيير انطباعات عن دورها في الخرطوم، ويزيل صورة ذهنية ملتبسة لدى شريحة من النخب السودانية ترى أن غلبة المنهج الأمني في التعامل أعاق فعالية أيّ مقاربة قدمتها مصر أو اعتزمت تقديمها سابقا، وبدأت العديد من الملامح السياسية تظهر بوضوح مؤخرا ويمكن أن يفضي نجاحها إلى تصحيح بعض المغالطات التي لصقت في عقل فئة من السودانيين.
مصر لن تستطيع التعايش مع الحرب في السودان على غرار ليبيا ولن تتمكن من وضع تصورات دقيقة تجنبها ارتدادات المعارك الحالية، ما يجعلها تعيد رسم خططها، ليس فقط فيما يتعلق بالموقف من قوات الدعم السريع كقوة “متمردة”، بل في ضرورة أن تكون لها مقاربتها التي تتجاوز قمة دول الجوار، فالأخيرة قد تدخل في دهاليز يصعب إنقاذها بحكم أن مصالح الدول المشاركة فيها على قدر من التباين.
الواضح أن مصر استوعبت مخاطر الحرب وتداعياتها على مصالحها المتعددة ولن تقف مكتوفة الأيدي أو تؤيد طرفا على حساب آخر، وهي الثيمة التي تمكنها من القيام بدور فاعل في خضم صراع خفي بين الأدوار الإقليمية والدولية، ومهما كان تأثير أصحابها في الأزمة يمكن أن تكون للقاهرة مساهمة سياسية مضاعفة إذا نجحت في جمع القوى السودانية على أرضية وطنية قوامها الأمن والوحدة والاستقرار.
وقد عبر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي عن ذلك بجلاء خلال لقائه مع رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان في مدينة العلمين قبل أيام، وهي أرضية جيدة يمكن أن تلتف حولها الكثير من القوى الرافضة للحرب ووجود فائز ومهزوم فيها، ففي الحالتين لن يتمكن السودان من النأي عن التفكك، فالمنتصر يتغوّل والخاسر لن يستسلم لنتيجة الحرب، ومصر الدولة التي يمكن أن تصبح في مقدمة المتضررين.
تحتاج مصر بلورة رؤية خاصة بها قبل أن تستفحل الحرب وتلقي ببراكينها، حيث بدأت أصوات التسوية السياسية تتراجع. رؤية تعتمد على عمق مصالحها الإستراتيجية التي لا تقارن بأيّ دولة أخرى في الإقليم أو خارجه، لأن انتظار السماء تمطر حلا ليس في صالح القاهرة، ما لم تكن طرفا محوريا فيه، فما بعد الحرب يختلف عمّا قبلها، والخرائط التي فهمت تعاريجها سابقا قابلة لأن تتغير وتتبدل في اتجاهات متضاربة، ولذلك لن تقبل مصر الصمت أو التعايش طويلا مع الحرب في السودان.
محمد أبوالفضل – صحيفة العرب
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الحرب فی السودان فی لیبیا یمکن أن
إقرأ أيضاً:
???? عبد الرحمن عمسيب ، الرائدُ الذي لا يكذبُ أهلَه
???? عبد الرحمن عمسيب ، الرائدُ الذي لا يكذبُ أهلَه
( عميد التَنوير ، نِحرِير النبوءاتِ العَتيقة )
في أعمق لحظاتي مع نفسي صدقاً ، لا أراني أعظَمُ مَيلاً للحديث عن الشخصيات، إن تكرَّمَت وأسعفَتني الذاكرة ، فقد كتبتُ قبل عن فيلسوفِ الغناء مصطفى سيد أحمد ، والموسيقار الكابلي ، والمشير البشير ، وشاعر افريقيا الثائر ؛ الفيتوري .
لا أجدُني مضطراً لمدح الرّجال ، ولكنها إحدى لحظات الإنصاف ، ومن حسن أخلاق الرجال أن ينصفوا أعداءهم، دعك من أبناء جلدتهم ونبلائها ، والرجلُ ليس من قومنا فحسب، بل هو شريف قوم وخادمهم ، خطابه الجَسور يهبط حاملاً “خطاب” ابن يعمر الإيادي لقومه ، وخطبة درويش “الهندي الأحمر” ، و”بائية” أبي تمّام ، وتراجيديا الفيتوري في “التراب المقدّس” ..
عبد الرحمن ، لم يكن حالة مثقفٍ عادي ، “عمسيب” مثالٌ للمثقف العضوي قويّ الشَّكِيمَة ، العاملِ علَى المقاومة والتغيير والتحذير ، المحاربِ في ميادين التفاهة والتغييب والتخدير ، المتمرّد على طبقته ، رائد التنوير في قومه ، ظلّ يؤسس معرفياً وبأفقٍ عَالمٍ لنظرية اجتماعية ، نظرية ربما لم تُطرح في السوح الثقافية والاجتماعية من قبل ، أو لربما نوقشت على استحياء في همهمات أحاديث المدينة أو طُرحَت في ظلام الخرطوم عَهداً ثم غابت . هذا الرجل امتلك من الجسارة والثقافة العميقة بتفاصيل الأشياء وخباياها ، ما جعله يُقدم على تحطيم الأصنام السياسية والثوابت الاجتماعية وينفض الغبارَ عن المسكوت عنه في الثقافة والاجتماع والسياسة.
عمسيب قدم نظريةً للتحليل الاجتماعي والسياسي ، يمكن تسميتها بنظرية ( عوامل الاجتماع السياسي) أو نظرية ( النهر والبحر) في الحالة السودانية ، فحواها أن الاجتماع البشري يقوم على أسس راسخة وليس على أحداث عابرة . فالاجتماع البشري ظلّ منذ القدم حول ( القبيلة Tribe ) ثم ( القوم Nation ) ثم ( الوطن Home) ثم ( الدولة country) . هذا التسلسل ليس اجتماعيٌ فحسب، بل تاريخيٌ أيضاً ، أي أن مراحل التحَولات العظيمة في بِنية المجتمعات لا يصح أن تقفز فوق الحقب الاجتماعية ( حرق المراحل).. فالمجتمعات القَبَلية لا يمكنها انتاج (دولة) ما لم تتحول إلى (قومية) ، ثم تُنتج (وطن) الذي يسع عدد من القوميات ، ثم (دولة) التي تخضع لها هذه القوميات على الوطن ، مع تعاقد هذه القوميات اجتماعيا على مبادئَ مشتركة، وقيمٍ مضافة ، كالأمن والتبادل الاقتصادي وادارة الموارد ، والحريات الثقافية ونظام الحكم .
هذه النظرية تشير إلى أن الاجتماع السياسي في السودان ظل في مساره الطبيعي لمراحل التسلسل التاريخي للمجتمعات والكيانات ، إلى أن جاءت لحظة ( الاستعمار) Colonization . ما فعله الاستعمار حقيقة ، أنه وبدون وعي كامل منه ، حرق هذه المراحل – قسراً – وحوّل مجتمعات ما قبل الدولة ( مجتمعات ما قبل رأسمالية) إلى مجتمعات تخضع للدولة.
فالمجتمعات التي كانت في مرحلة ( القبيلة) او تلكَ في مرحلة( القومية) قام بتحطيم بنيتها وتمحوراتها الطبيعيه وتحويلها إلى النموذج الرأسمالي الغربي ، خضوع قسري لمؤسسات الدولة الحديثة، مجتمع ما بعد استعماري ، تفتيت لمفاهيم الولاءات القديمة الراسخة ، بل وتغييرها إلى نظم شبه ديموقراطية، وهذا بالطبع لم يفلح، فبعد أن حطّم المستعمر ممالك الشايقية ودولة سنار ومشيخات العرب بكردفان ومملكة الفور ، وضم كل ذلك النسق الاجتماعي ( القبلي / القومي) إلى نسق الوطن/ الدولة.. أنتج ذلك نخب وجماعات سياسية ( ما بعد كولونيالية ) تعيش داخل الدولة ، لكنها تدير الدولة باللاوعي الجمعي المتشبّع بالأنساق التقليدية ( القبيلة / الطائفة / القومية) ، أي مراحل ماقبل الوطن والدولة.
ما نتج عن كل هذه العواصف السياسية والاجتماعية ، والاضطرابات الثقافية، أن هذه المجتمعات والقوميات التي وجدت نفسها فجأة مع بعضها في نسق جديد غير معتاد يسمى ( الدولة) ، وأقصدة بعبارة ( وجدت نفسها فجأة) أي أن هذا الاجتماعي البشري في الاطار السياسي لم يتأتَ عبر التمرحلات الطبيعيه الانسانية المتدرجة للمجتمعات، لذا برزت العوامل النفسية والتباينات الثقافية الحادة ، الشيئ الذي جعل الحرب تبدأ في السودان بتمرد 1955 حتى قبل اعلان استقلاله . ذات الحرب وعواملها الموضوعيه ومآلاتها هي ذات الحرب التي انطلقت في 2002 ثم الحرب الأعظم في تاريخنا 2023 .
أمر آخر شديد الأهمية، أن دكتور عبد الرحمن ألقى حجرا في بركة ساكنة، وطرق أمراً من المسكوت عنه ، وهو ظاهرة الهجرات الواسعة لقوميات وسط وغرب افريقيا عبر السبعين عاما الماضية ( على الأقل) , فظاهرة اللجوء والهجرات الكبيرة لقبائل كاملة من مواطنها لأسباب التصحر وموجات الجفاف التي ضربت السهل الافريقي، ألقت بملايين البشر داخل جغرافيا السودان، مما يعني بالضرورة المزيد من المنافسة العنيفة على الأرض والموارد وبالتالي اشتداد الحروب والصراعات بالغة العنف، وانتقال هذا التهديد الاستراتيجي إلى مناطق ومجتمعات وسط وشمال السودان ( السودان النّهري)
اذن ، سادتي ، فنظرية (الاجتماع السياسي ، جدلية الهوية والتاريخ ) هذه تؤسس لطرائق موضوعيه ( غير منحازة) لتفسير الظواهر الاجتماعية والثقافية وجدليات الحرب والسلام ، وتوضّح أسباب ظاهرة تعدد الجيوش والميليشيات القبلية والمناطقية والخطابات المؤسسة ديموغرافياً ، وما ينسجم معها من تراكمات تاريخيه وتصدّعات اجتماعية عميقة في وجدان تلك الجماعات العازية .. التوصيات البديهية لهذا الخطاب ، أن الحلّ الجذري لإشكاليات الصراع في السودان هو بحلّ جذور أزمة الهوية، والهوية نفسها لم تكن ( أزمة) قبل لحظة الاستعمار الأولى ، بالتالي تأسيس كيانات جديدة حقيقية تعبّر عن هويات أصحابها والعقد الاجتماعي المنعقد بين مجتمعاتها وقومياتها .
النظرية التي أطلق تأسيسها دكتور عبد الرحمن، لم تطرح فقط الأسئلة الحرجة ، بل قدمت الإجابات الجسورة وطرقت بجراءة الأبواب المرعبة في سوح الثقافة والاجتماع والسياسة في السودان.
Mujtabā Lāzim
إنضم لقناة النيلين على واتساب