غيّرت الأفكار خرائط العالم. حركت الكلمات البشر فى كل مكان، فتفاعلوا وتصارعوا، وبنوا الممالك وهدموا الدول، وبدلوا السياسات، وعمروا، وتوسعوا.
ومَن يقرأ سيرة الشيخ محمد عبدالوهاب، رجل الدين الأهم فى القرن الثامن عشر الميلادى، يُدرك جيدا إلى أى مدى يُمكن للأفكار أن تتمدد وتؤثر فى عدة أجيال وترسم لهم مساراتهم.
حقق الرجل طموحه كمصلح دينى اعتبر أن الناس على ضلال، وأن مُهمته هى تقويم اعوجاجهم، وهذا نفس ما اعتقده حسن البنا عندما أسس جماعة الإخوان سنة 1929، وهو نفس ما رآه كل داعية دينى سياسى مُنذ قطرى بن الفجاءة وحتى جهيمان العتيبى. فكل صاحب فكرة، أسير لها، يُفنى عمره من أجل بعثها حية، وفى سبيل ذلك يستخدم خطابا إقصائيا، مصدرا للكراهية، ومحرضا على العنف والعدوان على الآخرين.
آمن حسن البنا أنه لا تعددية، ولا حزبية، ورأى أن كل فكر آخر بخلاف جماعة الإخوان محكوم عليه مسبقا بالضلال، ومن ثم فإن واجب الجماعة هو إزاحة الآخرين بالكلمة أولا ثم بالسياسة، ثم بالمال والسلاح فيما بعد.
وبمنطق شبيه، حكمت دعوة «عبدالوهاب» على كل القبائل فى الجزيرة العربية بالكفر، تحت باب تبرك الناس بالأضرحة، حتى أنها عرضت على المسلمين الإٍسلام مرة أخرى، وحارب المؤمنون بالفكرة مخالفيهم، واستباحوا دماءهم وأموالهم. ولم يكن غريبا أن تطلق الكتب المؤرخة للوهابية اسم «المسلمين»على المؤمنين بدعوة الشيخ، بينما سمّت الآخرين بـ«المشركين».
ولا فارق فى ظنى بين الخطابين، خطاب حسن البنا الإقصائى، الاستعلائى، الداعى للصراع مع الآخرين تحت هدف تحقيق الخلافة، وخطاب الوهابية المكفر للآخرين، والمحرض عليهم تحت زعم تخليص التوحيد، لقد انتهج كلاهما العنف، وبعثا الكراهية، ومارسا التعصب، لكن أحدهما نجح فصار اسمه مصلحا، بينما فشل الآخر فصار مضلا وموصوما بكل كريهة.
لقد اعتبرت كافة الكتابات المعاصرة لحياة محمد بن عبدالوهاب، الرجل داعية ضلال وفرقة، ووصل الأمر بشقيقه نفسه الشيخ سليمان بن عبدالوهاب وهو عالم دين إلى إصدار عدة كتب ورسائل للتحذير من أفكاره، وتبارى علماء الأزهر واسطنبول فى ديباجة ردود تفصيلية على دعوته.
يحكى لنا صاحب كتاب «عنوان المجد فى تاريخ نجد» كيف قتل الوهابيون الأمير عثمان بن معمر فى المسجد فى العيينه بعد فراغه من صلاة الجمعة، لأنه ليس معهم. ويرصد الباحث فى التاريخ النجدى سعود السبعانى عشرات الوقائع التى أزهقت فيها الأرواح، وأريقت الدماء وخربت الديار لإرغام الناس على قبول دعوة الوهاب، ثُم كيف جرى العدوان على أضرحة الصحابة وآل البيت وأمهات المؤمنين، وأماكن مولد ونشأة النبى «ص»، رغم أن أحدًا لم يكن يعتقد أنها تضر وتنفع. وهذا فى تصورى ما دفع السلطان العثمانى باعتباره رأس السلطة السياسية فى ذلك الوقت إلى تكليف محمد على بالقضاء على الدعوة الجديدة، وبالفعل نجح ثعلب مصر فى محو الفتنة على الأرض، لكن ظلت الأفكار لها أجنحة، فعادت بعد حين لتتمدد وتُهيمن.
يُعلمنا التاريخ أن الدين كان دوما فى الإسلام وكافة الأديان سلمًا للصعود إلى السلطة، يستغله طلاب السلطة فى هدم دول وإقامة غيرها، وعلى أرض الواقع نجحت الفكرة فى بعض الأحيان وفشلت فى أخرى، لكن كان جوهر الفعل واحدًا هو الانتهازية.
والله أعلم.
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: السياسات المولود
إقرأ أيضاً:
أموال وديون ضائعة
مريم الشكيلية
قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ" (البقرة: 282).
كثيرًا ما أصادف، وتحدثت مع أشخاص جلست معهم، وحدثوني عن ديون الناس، وقصصهم وحكايات أخبروني بها، وكيف أن الآخرين يقصدونهم للاقتراض منهم بعضًا من مالهم ثم يمتد الأمر لأكثر من مرة والبعض الآخر يكرر الاقتراض من الشخص بحجج مُختلفة وكلها تختتم بالوعد، والقسم بإرجاع المال في أقرب وقت ممكن ثم تمر الأيام، والأشهر، وحتى السنوات ولا عودة لهذا المال المُقتَرَض.
وكنت أستمع لهذه القصص من الناس، واعتقدت أنَّ هذه الأمور من الاقتراض تكون في بيئة النساء فقط، ولكن عندما سألت حين شدني الموضوع برُمته تبيّن لي بأن اعتقادي خاطئ فهذه الاقتراضات ومن بعدها ديون غير مسددة يشترك فيها النساء والرجال معًا، وهنا لا أقصد الجميع لطفًا وإنما أتحدث عن البعض عن فئة من الناس تستسهل طلب الأموال من الآخرين وتستصعب سدادها بحجة أنها لا تملك المال، وهنا أيضًا لا أتحدث بالضرورة عن اقتراض أموال كبيرة وإنما قد تكون أموالًا معدودة، ولكنها مع الأسف أيضًا لا ترد إلى أصحابها.
ثم إن الديون المستحق سدادها ليست فقط بين طرفين وإنما هناك أموال وديون لم تسدد بين المشتري والتاجر الذي يملك محلا صغيرا يكسب منه قوته.. مع الأسف عندما تستمع لهم يقصون عليك عجائب القصص عن أناس اشتروا منهم بالدين ولم يسددوا ديونهم حتى البعض منهم لم يسدد لسنوات طويلة وفي كل مرة يكرر سوف أدفع ديني عندما كذا وكذا وكلها أعذار واهية والبعض الآخر يقصد التاجر ويشتري منه لمرة واحدة وبالدين ثم لا يراه بعدها أبدا حتى لا يطالبه بالدفع.
وأيضًا هناك نوع آخر من الديون الضائعة التي تترك أصحابها دون حساب للضمير وهي ديون بعض تقديم خدمة معينة وأمثلة على هذه الخدمات (صالونات تجميل، ونساء يمتهن بعمل الحناء) وغيرها من هذه الخدمات التي انتشرت في وقتنا الحالي فلو استمعتم لقصص هؤلاء لشاب شعر رأسك من غرابتها وحيلها.
والأغرب من كل هذا هو عندما يعذر الشخص عن اقتراض الشخص الآخر للمال وتكرار الأمر دون سداد المال السابق فإنه يعامله بعدها مُعاملة سيئة أو جافة أو حتى يصل الأمر به أنَّه يتحدث عنه بين الناس بصفات سيئة.
إنَّ انتشار هذا السلوك في مجتمع مسلم يعي تمامًا أهمية سداد الدين وعواقبه الوخيمة على الفرد في الدنيا والآخرة لهو أمر لا يُمكن إلا أن نقف عنده بشيء من التفكير والتعمق، وإنني أرى أن غياب الحقوق بهذا الشكل لهو كفيل بأن يترك شرخا في النفوس بين الناس في الدنيا وما يترتب عليه العقاب في الآخرة، وليس هذا فحسب وإنما أرى أن انتشار هذه الأفعال يترتب عليه قلة البركة في الأموال، وانتشار السخط وعدم الرضا بما قسمه الله تعالى من رزق والسعي الدائم لما في يد الآخر من وفرة في المال ومحاولات بقصص سخيفة حتى اقترض من الآخرين وعدم سداد الدين لاحقًا.
إن الاقتراض الذي أتحدث عنه اليوم ليس الاقتراض الذي يقصده الناس في الحالة الملحة والتي تستدعي فعلًا أن أقترضَ من الآخر مثال حاجتي للمال في ظرف صحي، أو غيرها من الأحداث التي تصادف الناس دون حساب وهي لا تملك المال الكافي لقضاء تلك الحاجة وأنني أعلم اليوم أن هناك أناساً فعلًا بحاجة إلى وقوف الناس معهم ومنها أنهم لا يملكون وظيفة تسد حاجاتهم أو مسرحين يعولون أسراً تقطعت بهم السبل في ظرف معين هنا وجب على الخيرين أن يسعوا للمساعدة إذا كانوا باستطاعتهم فلهم أجر فك الكرب عن محتاج، ولكنني أتحدث عن الاقتراض لأسباب سخيفة جدًا، مثال أن أتعرض لضعظ من ابنتي أو ابني لأنه يُريد أو تُريد أن تشتري هاتفًا على مستوى عالٍ من الجودة، أو شراء كماليات ومواكبة آخر صيحات الموضة، أو حتى الاقتراض للسفر لعدة أيام حتى يراني الناس أنني أتجول وأسافر وأنني أعيش برغد عيش، أو أنني أريد أن أعيش مثل فلان وفلان، حتى لو على حساب الآخرين.. هذه وغيرها من الأسباب التي لم ينزل الله بها من سلطان!
في نهاية هذا المقال.. أتمنى من الجميع أن يكونوا أكثر وعيًا وإدراكًا ولا نُساعد في انتشار هكذا سلوكيات، تخلف ما تخلفه من ضغائن بين الناس، وتكون سببًا لقلة البركة والخير في المجتمع.