الازدواجية الثقافية فى الواقع العربى المعاصر-4
تاريخ النشر: 3rd, September 2023 GMT
فى غضون القرن التاسع عشر، كانت الدولة الناشئة فى مصر تستكمل بنيتها كدولة مدنية حديثة على النمط الغربى. وقبل نهاية القرن فرضت نظامها القانونى الجديد بسلسلة من الإصلاحات، شملت إصدار مجموعتين تشريعيتين متماثلتين فى القانون المدني، والقانون الجنائي، والإجراءات الجنائية، والقانون التجاري، والتجارى البحري، وأعادت تشكيل النظام القضائى بإنشاء المحاكم المختلطة والمحاكم الأهلية.
مثلت هذه العملية انقلابًا صريحًا على النظام التشريعى القديم الذى يعتمد إجمالًا على الفقه الإسلامي، لكنها لم تسفر عن نفى كلى لهذا النظام، الذى ظل حاضرًا بشكل رسمى فى مسائل الأحوال الشخصية ( الميراث، الزواج، النسب، وبعض قضايا الوقف) وهى مسائل تدخل فى صميم القانون المدنى الفرنسى. كما ظل حاضرًا على المستوى الشعبى من خلال « الفتوى» التى تمثل نوعًا من القانون «الاختياري» الموازى. والأهم أنه ظل حاضرًا على المستوى النظرى كمدونة ثقافية مرجعية تشكل جزءًا من بنية الدين.
فى هذه النقطة الأخيرة يكمن المشكل؛
فالنظام الفقهي، بحسب الفهم الإسلامى السائد، جزء من بنية الدين، الذى ينظم «تفاصيل» الحياة البشرية بشريعة «مطلقة» أى أزلية ومؤبدة، لا تتغير بتطور الزمن أو تنوع السياقات الاجتماعية. ومن هنا يظهر التناقض الضرورى بين هذا النظام وفكرة «الدولة المدنية» الحديثة التى تقوم جوهريًا على مبدأ القانون. بالنسبة إلى الفكر المدنى الحديث، لا يمكن للقانون أن يكون ثابتًا لأنه يحكم وقائع متغيرة بضرورة التطور والتنوع، ولذلك فهو يُخرج التشريع من دائرة المطلق الأزلي، ويفصل بين الدين والدولة التى هى فى جوهرها قانون. ولذلك أيضًا يقر بواقعة التعددية ويسبغ عليها حماية القانون كقيمة أساسية من قيم الدولة المدنية الحديثة. القانون يتطور ويتنوع بالضرورة، فيما «الشريعة» ثابتة وحصرية بالضرورة، أى أن التناقض بين «الدولة المدنية» و «الشريعة الدينية» تناقض نظرى جوهري، يرجع إلى طبيعة الطرفين المتباينين كليًا على مستوى المفاهيم البنيوية. والمعنى أنه تناقض مبدئى شامل، وليس مجرد تناقض « أخلاقي» بالمعنى الذى يركز عليه وائل حلاق فى طرحه حول « الدولة المستحيلة» ( ينتهى حلاق إلى أن الحكم الإسلامى لا يستطيع أن يتحقق فى صورة دولة مدنية حديثة وهذا صحيح، لكنه لا يؤسس هذه الاستحالة على الطبيعة الحصرية المؤبدة للنظام الدينى التاريخي، بل على الخصائص اللاأخلاقية للحداثة بإطارها الاقتصادى والاجتماعى والسياسي، الذى أفرز نموذج الدولة القومية المعاصرة. وهو طرح يحتاج إلى مناقشة نقدية موسعة فيما يتعلق بفرضيتيه الأساسيتين: مرادفة الشريعة « الفقهية» بالأخلاق، ونفى الأخلاق كليًا عن الحداثة).
-2-
على المستوى الموضوعي، لا تبدو الفوارق واسعة بين مجموعة القوانين الناشئة بمرجعيتها الفرنسية ومجمل الفقه الإسلامي، بل يمكن رصد درجة من التوافق بينهما خصوصًا فى مجال القانون الخاص الذى يهيمن عليه التقنين المدنى. يشير البعض إلى تشابه لافت بين قانون نابليون القديم وخصائص الفقه المالكي، ويرجع بأصول هذا القانون إلى ثقافة الحقبة الأندلسية الإسلامية ذات السمات الفقهية المالكية. هذه الفوارق تظهر بشكل أوضح فى دائرة القانون العام (الدستوري/ الجنائي) سواء على مستوى المفاهيم المرجعية وفلسفة التشريع، أو على مستوى الأحكام التفصيلية.
لكن جوهر المشكل ليس هنا. بل فى «مبدأ» الاقتباس من مصدر «وضعي» أى غير إلهي، الأمر الذى ينقل عملية التشريع خارج نطاق السلطة الدينية، ويكرس فكرة التحول إلى الحداثة على حساب الدين؛
فى السياقات المبكرة- حيث كان النظام التراثى القديم فى أشد حالات ضعفه، ويبدى تراجعًا صريحًا أمام العملية التحديثية، قبل تبلور تيار أصولى واع- ثم تمرير النظام القانونى الجديد من دون توقف طويل أمام « المانع الوضعي»، وجرت الإشارة إلى فكرة التوافق العام على حساب التباينات التفصيلية، واستعديت فكرة تشابه القانون الفرنسى مع الفقه المالكي، وتم توظيفها فى الترويج للقانون المدنى الأهلى الذى صدر 1884. ) فى هذا الإطار تم عرض القانون الفرنسي، الذى كان قد ترجم إلى العربية بواسطة رفاعة الطهطاوي، على فقهاء من المالكية الأزهريين لاختبار فرضية التوافق دون إشارة على أصله الخارجي، وانتهى الرأى إلى عدم وجود تعارض مع مبادئ الفقه المالكي).
لاحقًا – وبعد تبلور التيار الأصولى وظهور جماعة الإخوان المسلمين- ستُقرأ عملية الاقتباس من مصدر «وضعي» على حساب «الفقه» بوصفها خرقًا لحاكمية الله الشاملة، وسيشار إلى «القانون» بوصفه نقيضًا موضوعيًا للشريعة. فى الستينيات سينظَّر سيد قطب لهذه الأفكار فى إطار الحديث عن الحاكمية التشريعية كركن من أركان التوحيد، لكنها كانت حاضرة قبل ذلك فى مضامين حسن البنا، وتم طرحها صراحة على لسان حسن الهضيبى عند مناقشة مشروع القانون المدنى «الجديد» 1948. كان الهضيبى قد دعى ضمن عدد من مستشارى محكمة النقض أمام مجلس الشيوخ لإبداء الرأى فى مشروع القانون. ولم يكن الهضيبي، الذى سيصبح المرشد الثانى لجماعة الإخوان قد أعلن حينذاك عن انتمائه إلى الجماعة، لكنه أعلن رأيه واضحًا: هذا القانون لا يستحق النقاش من حيث المبدأ، لأنه لم يصدر مباشرة عن القرآن والسنة. وشرح رأيه نصًا على النحو الآتي: « إن لى رأيًا معينًا فى المسألة برمتها، وليس فى القانون المدنى فقط. وهذا الرأى بمثابة اعتقاد لدى لا يتغير، وأرجو أن ألقى الله عليه. إننى لم أتعرض للقانون المدنى باعتراض أو بنشر، ولم أقل شيئًا يتعلق بمضمونه، لأن من رأيى ألا أناقشه.. والذى قلته هو أن التشريع فى بلادنا كلها وفى حياتنا يجب أن يكون قائمًا على أحكام القرآن، وإذا قلت القرآن فإنى أعنى كذلك بطبيعة الحال سنة الرسول (ص) لأن طاعته من طاعة الله.. يجب أن يكون هذان المصدران هما المصدران لكل تشريع.. الأمور فى الشريعة أمر ونهى وعفو. «وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا» أما العفو فهو من الأمور المباحة التى يمكن لولى الأمر أن يصرفها كما يشاء على ما تقضى به المصلحة. من أجل هذا لم أشترك فى مناقشة مشروع القانون المدنى موضوعًا. ومن رأى أن يصدر كيفما يكون، لأنى شخصيًا أعتقد أنه ما دام غير مبنى على الأساس الذى ذكرته والذى أدين به، فخطؤه وصوابه عندى سيان».
-3-
يعبر هذا الطرح الأصولى عن رؤية المدونة الفقهية، الموروثة من التاريخ السياسى الإسلامي، والتى تشكلت فى ظل الثقافة السائدة فى العصور الوسطى بطابعها الثيوقراطى الأوتوقراطى الصريح. عبر هذه المدونة اختُزلت « الدولة» فى شخص الحاكم الفرد الذى يشار إليه بـ«ولى الأمر»، وهى صيغة تظهر مدى التباعد عن مفاهيم الدولة الحديثة بتكوينها المؤسسى القائم على توزيع السلطة، والفصل بين الدولة والحكومة، وتعزيز فكرة السيادة الشعبية. وعبر هذه المدونة تخلقت فكرة «الشريعة» كجزء من بنية الدين.
فى واقع الأمر، لا تعبر المدونة عن أكثر من طرح خاص بسياقها التاريخي، أى عن فهم معين للإسلام لا يستغرق صور فهمه الممكنة وغير القابلة للحصر. صدرت المدونة انعكاسًا لتاريخ الدولة فى الإسلام، وكانت هى منْ صنع مفهوم الشريعة، وصدَّره إلى الوعى الإسلامى المسكين الذى لا يعاود التفكير فى تاريخه. أعنى أن «الحضور المتواصل للدولة هو الذى كرس مفهوم الشريعة وليس العكس كما يؤكد التنظير السلفي، الذى يروج لمقولة أن حضور الشريعة فى النص هو الذى أوجب إنشاء الدولة. « ما هو حاضر فى النص – باستثناء المطلق الإيمانى الأخلاقي- هو معالجات تفصيلية لواقعات محلية ذات طابع آنى خاص بمجتمع النص، وتم استصحابها بسبب الدولة إلى المجتمع الإسلامى الجديد مع توسيعها فقهيًا. الدولة، التى نشأت كواقعة اجتماعية طبيعية، هى التى تثبت منظومة الفقه التطبيقى وساعدت على تعميمها، ولم يتخلق خلقًا أو تخترع خصيصًا من أجل تثبيت هذه المنظومة وتعميمها».
يقع الوعى الإسلامى التقليدى ضحية لهذه الفكرة التاريخية التى تضع الإسلام فى خصومة أبدية مع حركة التطور الطبيعي، وحتى الآن لا يزال التضليل الأصولى يمنع هذا الوعى من مناقشة الحل الوحيد الممكن لهذه المعضلة، وهو أن الشريعة الفقهية ليست من المطلق الإلهى الثابت العصى على التغيير.
يتبع..
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: مصر نهاية القرن الإصلاحات القانون المدني الاجراءات الجنائية القانون التجاري النظام القضائي
إقرأ أيضاً:
قلق ألماني من الأحكام في قضية التآمر على أمن الدولة في تونس
أعربت ألمانيا عن قلقها البالغ إزاء تلك الأحكام والعقوبات الصادرة بحق عدد من رموز المعارضة التونسية فيما يعرف بقضية "التآمر على أمن الدولة"، مشيرة إلى أن ظروف المحاكمة لم تراعِ ـ من وجهة نظرها ـ حقوق المتهمين في محاكمة عادلة ومستقلة.
وأبدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الألمانية، أسفها الشديد لاستبعاد عدد من المراقبين الدوليين من جلسة 19 أبريل، ومن بينهم ممثلون عن السفارة الألمانية في تونس، مما يثير تساؤلات حول شفافية سير المحاكمة.
وأكدت المتحدثة أن علنية الجلسات القضائية، وإمكانية المتابعة المستقلة لها مع احترام السيادة الوطنية، تشكلان أساسًا جوهريًا في منظومة دولة القانون.
الجدير بالذكر أن بعض من شملتهم الأحكام يحملون جنسية أوروبية، مما يزيد من حساسية القضية على مستوى العلاقات الأوروبية ـ التونسية.
واختتم التصريح بتأكيد أن الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وتونس تقوم على مبادئ مشتركة، أبرزها احترام دولة القانون، وضمان الحريات الأساسية، والديمقراطية، إلى جانب التنمية الاجتماعية والاقتصادية الشاملة.
وأصدرت محكمة تونسية، في 19 أبريل 2025، أحكامًا بالسجن تتراوح بين 13 و66 عامًا ضد 40 متهمًا في قضية "التآمر على أمن الدولة"، بينهم شخصيات سياسية بارزة من المعارضة، مثل نور الدين البحيري وعصام الشابي وغازي الشواشي.
التهم شملت التآمر على أمن الدولة، تكوين وفاق إرهابي، والتحريض على الفوضى. صدرت بعض الأحكام غيابيًا مع النفاذ العاجل.
ويتهم الرئيس سعيد، سياسيين بـ"التآمر على أمن الدولة والوقوف وراء أزمات توزيع السلع وارتفاع الأسعار"، بينما تقول المعارضة إنه يستخدم القضاء لملاحقة الرافضين لإجراءاته الاستثنائية.
وفي 25 يوليو/ تموز 2021، بدأ سعيد، فرض إجراءات استثنائية شملت حل مجلسي القضاء والنواب، وإصدار تشريعات بأوامر رئاسية، وإقرار دستور جديد عبر استفتاء، وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة.
وتعتبر قوى تونسية هذه الإجراءات "انقلابا على الدستور وترسيخا لحكم فردي مطلق"، بينما تراها قوى أخرى "تصحيحا لمسار ثورة 2011"، التي أطاحت بالرئيس آنذاك زين العابدين بن علي (1987-2012).
القضية التي بدأت في فبراير 2023 أثارت جدلًا واسعًا، حيث اعتبرتها المعارضة ومنظمات حقوقية ذات طابع سياسي، بينما تؤكد السلطات أنها تتعلق بجرائم جنائية خطيرة تمس أمن الدولة.