المنطق.. حالة تسويغية لإرضاء العامة
تاريخ النشر: 3rd, September 2023 GMT
يَحُلُّ الـ «منطق» بمسميات كثيرة، وتحت عناوين كثيرة، وهو في كل أحواله لن يخرج عن مفهوم الـ «قناعة» فما أقتنع به هو منطق، بالنسبة لي، ولذلك تاه مفهوم المنطق كتطبيق، وأصبح توظيفه خاضعا لما يريد أن يصل إليه الفرد، المجموعة، الدولة، المجتمع الدولي، وفق أجندات كل واحد من هؤلاء. ولذا لا يتصور أن يكون هناك منطقا عالميا في أي شأن من شؤون الحياة يتفق عليه الجميع، ويرضى الجميع بما يؤول إليه؛ حتى وإن أسند بتعريف علمي، ففي كل أحواله لن يخرج عن مبدأ الربح والخسارة، وإلا لو احتكم الجميع إلى منطق واحد في أي شأن من شؤون الحياة ما حدث ما حدث، ولعاش الناس في أمن وسلام واطمئنان.
والذي أستغربه من هذه التعريفات، وكأن واضعيها يتحدثون من برج عاجي، هذا بخلاف الفوقية التي يشرفون من خلالها عند وضع التعريفات، والمسألة ببساطة هي: أن كل ما يحيط بنا، أو نمارسه كسلوك، هو عبارة عن مجموعة أفكار اقتنعنا بها، أو لم نقتنع منبثقة عن منطق تم الترويج له بحرفية متقنة، حتى أصبح التسليم له، لا يحتاج إلى جلسة حوارية عن ماهيته الموضوعية، ذلك أن المنطق - كما يوصف - بأنه هو أبو الأفكار، وأن كل الأفكار المنبثقة عن منطق ما، هي خارجة من تحت ردائه، ولأنه منطق يتم في المقابل، التسليم له تسليما مطلقا «اغمض عينيك واتبعني».. كما أن المنطق يظل هو المادة التي يدغدغ بها عاطفة العامة لقبول الأفكار، فالجمهور العريض لا تستوقفه الأسئلة كثيرا، وقد لا يهتم بموضوعية الفكرة المراد تنفيذها وسموها كحصيلة معرفية، أو توظيفها، فهو يذهب إلى النتائج مباشرة، سواء أكانت نتائج مادية مقبوضة، أو نتائج معنوية محسوسة، ولذلك تنتشي نفوس أصحاب الرسائل المروجون لمنطق ما، وتبتهج كثيرا عند التفكير لتوظيف فكرة ما، حيث يذهبون إلى صناعة منطق قبل المطالبة بتنفيذ الفكرة/ الأفكار، لتوهمهم أن الجمهور أول ما يذهب إليه هو السؤال عن منطق الفكرة، وأن هذا الجمهور يحرص على أن يكون المنطق متوافقا مع قناعاته، فيذهب إلى تنفيذ مجمل الأفكار بعد ذلك.
والواقع أن الجمهور يذهب مباشرة إلى النتائج العامة المتحققة، وهي النتائج المعبرة عن المنطق المنبثقة منه مجمل الأفكار التي تم تنفيذها على أرض الواقع، فالباحث عن عمل، قد لا يلتفت كثيرا إلى مبررات الضائقة الاقتصادية، وهي الناتجة عن منطق أن «توفر الوظائف معتمد على مدى قدرة المؤسسات على توفير الرواتب لموظفيها؛ وبغير ذلك لا يمكن أن توظف أعدادا كثيرة لن تقدر على توفير المخصصات المالية لهم في نهاية كل شهر» فما يهمه هو أن يتوظف وفقط، والمشارك في انتخابات المجالس التشريعية القائمة على منطق السلطة التشريعية؛ ما يهمه هنا هو إيصال صوته إلى صانع القرار، سواء الوسيلة «سلطة تشريعية» أو فرد له القدرة على إيصال هذا الصوت، هنا لا يهتم بـ «إدراك الكليات» ولا «الاستدلال الصحيح لقوانين المعرفة التشريعية» فهذا كله من مهمات الخبراء، والمتخصصين الذين لهم القدرة على التنظير في هذه الجوانب كلها.
قد تكون مشكلة المنطق أنه جامد، ولا يقبل التغيير كثيرا، بينما؛ في المقابل؛ أن ظروف الحياة متجددة ومتغيرة، وتتصادم بصورة مستمرة مع الثبات الذي يكون عليه المنطق، وعودة على المثال أعلاه - التوظيف - ففي فكر الباحث عن عمل أن تعمل المؤسسات على البحث عن وسائل أخرى للاستثمار الذي يتيح لها سيولة مادية تستطيع من خلالها أن تستوعب العدد الكبير من الموظفين، وليس البقاء على مصدر دخل واحد فقط، ولذلك فهناك معركة «حامية الوطيس» بين الطرفين، فالأحلام المدغدغة لعاطفة الجمهور، والتي يرسمها المنطق مع بداية النشأة تبدأ في التراجع، وذلك لأن جميع المسوغات التي ذكرت عند لحظة الميلاد؛ لن تكون منطقية في مرحلة متأخرة من عمر الحياة، والسبب أن هناك مستجدات تحدث في ديناميكية الحياة اليومية، تتصادم مع كل الثوابت القائمة على المنطق في مرحلة متقدمة عند نشأة الفكرة، ولذلك يظل هناك جدل قائم بين المراحل، وقد يشير إلى نفس المعنى الذي يذهب إلى مفهوم «صراع الأجيال» أو بمعناه الكبير «صراع الحضارات» ومن يراقب الواقع بدقة يجد هذا الأمر واضحا جليا في كل جوانب الحياة اليومية، ولنأخذ مثلا آخر؛ قريبا منا، وهي العائلة الممتدة؛ ومنطقها على أنها الحارس الأمين لأخلاقيات المجتمع منذ النشأة، وحتى مراحل ما بعد سن الرشد، فهناك قناعة كبيرة بهذا المنطق، ولذلك عمرت طويلا، حيث نظر إلى نتائجها مثل: قدرتها على تبني الأخلاق السامية، والتربية السليمة، والتكاتف الاجتماعي، ولكن لأن الحياة متغيرة، ومتجددة؛ كما أسلفت؛ لم يعد للعائلة الممتدة اليوم تلك المكانة التي كانت تحتلها في زمن ما؛ حيث حلت مكانها العائلة النووية، أو الأسرة النووية المُشَكَّلَةُ من «والدين، وطفل أو طفلين أو ثلاثة بالكثير» وأن مجمل نتائجها الاجتماعية من تأسيس القيم التربوية والسلوكية، تنازعها عليها اليوم مجموعة من المؤسسات بما يسمى بـ «محاضن التربية»حيث تتولى هذه المحاضن تصدير مختلف القيم، حتى يكاد أن لا يكون أي دور للأبوين في هذا التشكل القيمي الجديد، مع وجود تسارع غير طبيعي في مجريات الحياة اليومية، حيث يقضي كلا الوالدين جزءا كبيرا من وقتيهما في الوظيفة التي تمتد فترة عملها ثلثي النهار في بعض الوظائف.
شُرْعِنَتْ مع بداية تشكل الوعي الجمعي في كثير من بقاع العالم بما يسمى بـ «النظريات» في مختلف فروع العلوم: النظريات الاجتماعية، النظريات الاقتصادية، النظريات السياسية، النظريات الثقافية النظريات الإعلامية، المذاهب في الديانات المختلفة، النظريات الرأسمالية، النظريات الشيوعية، وفي كل هذه النظريات وجد مرتكز يسمى المنطق ترتكز عليه هذه النظرية أو تلك، وسوقت هذه النظريات على أنها الحل الأمثل لموضوعاتها التي تنادي بها، واشتغلت عليها الميكنة السياسية أكثر من غيرها، وانخرط الفهم العام للجمهور إلى ضرورة تبنيها والأخذ بها، بصفتها المخرج من تداعيات ما يتناقض مع مفهومها، وعلى هذا الفهم تم تجيير الأطماع والحروب، واستغلال الشعوب، تحت مسوغات جانبية كثيرة، مَنْطَقَهَا القويُّ، وفرضها على الضعيف لتحقيق مآربه الخاصة، فاحتلت الدول، وانتهكت الحقوق الإنسانية، وشرد الملايين من شعوب العالم من بلدانها، وسرقت ثرواتها على مسمع ومرأى من الجميع، وإمعانا في تسويق ما يسمى بـ «منطق الحماية الدولية للشعوب المستضعفة، وعدم تدخل الدول في شؤون بعضها البعض، وعدم الاعتداء» أنشئت منظمات دولية تستبطن السم الزعاف للبشرية جمعاء؛ تحت عناوين كثيرة تسويغية الهدف المعلن إرضاء الجمهور؛ وغير المعلن هي أوكار لرسم الدسائس، وسرقة الثروات، وامتهان وإذلال الشعوب المغلوب على أمرها تحت غطاء «الشرعية الدولية» ومن هذه المسوغات المعلنة: (الحماية من المخاطر، إشاعة الأمن، المحافظة على حقوق الإنسان، حماية المرأة والطفل، عدم احتلال الشعوب، إشاعة الأمن والسلم الدوليين) ومسميات كثيرة مغرية تسيل لعاب الضعفاء، وتبرر التسلط والهيمنة للأقوياء، ولذلك وظف المنطق الذي برر لإنشاء هذه المنظمات «الظالمة» للتستر على التوظيف السيئ له، ولم تجن الشعوب؛ إلا الهوان، والظلم، والتشتت.
ولكن ما يثلج الصدر أن الشعوب تدرك مجمل مسوغات المشروعات التي ينادى بها باسم المنطق، ولذلك فهي تنتفض المرة تلو الأخرى حتى توقف هذا النزيف الذي يراق على أرصفة الظلم والقهر، وكما يقال: «للظلم جولة وللحق جولات، وعلى الباغي تدور الدوائر» ولأن الحياة قائمة على التغيير، متجاوزة حالات الجمود الذي يتضمنه المنطق، كما هي قائمة على الحق والظلم، فسوق يظل الصراع قائما، وستظل الصورة تراوح نفسها بين هزيمة ونصر، وبين غروب في بقعة ما، وشروق في بقعة آخر، وهذه مغالبة تعيشها البشرية منذ نشأتها الأولى، ولن تتوقف عند حد معين، وسيظل الإنسان هو الفاعل الأسمى فيها، وهو الذي يدير دفتها نحو المهالك والمآسي مرة، ونحو السمو والارتقاء مرات عديدة.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الحياة تعود إلى قصر بعبدا مع أول يوم عمل للرئيس جوزيف عون
قال أحمد سنجاب، مراسل قناة القاهرة الإخبارية في بيروت، إن الحياة عادت إلى القصر الجمهوري في منطقة بعبدا بعد فترة انقطاع استمرت أكثر من 26 شهرًا بسبب الشغور الرئاسي، وذلك بعد وصول الرئيس اللبناني الجديد، جوزيف عون، إلى القصر أمس، بدأ الرئيس عون يومه الأول بلقاء رئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان، حيث طلب منه الاستمرار في عمل الحكومة كحكومة تصريف أعمال حتى يتم إجراء المشاورات النيابية الملزمة الأسبوع المقبل لتسمية رئيس وزراء جديد وتشكيل حكومة جديدة في أقرب وقت.
لبنان يستعد لنزع السلاح البرلمان العربي يهنئ الرئيس عون بمناسبة انتخابه رئيسًا لجمهورية لبنان لقاء بين الرئيس عون وقائد الجيش بالإنابةوأضاف خلال رسالته على الهواء أنه شهد اليوم لقاءً بين الرئيس عون وقائد الجيش بالإنابة، حيث تم مناقشة الوضع الأمني في البلاد، خاصة في الجنوب اللبناني، والتطورات المتعلقة بتنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار في مختلف المناطق، وتم التركيز على الوضع الأمني في المناطق الجنوبية وحل القضايا المتعلقة بالاستقرار هناك.
الرئيس جوزف عونفي السياق نفسه، من المتوقع أن تشهد الساعات القادمة سلسلة من الزيارات من قبل السياسيين إلى الرئيس جوزف عون في أول يوم من عمله الرسمي، كما يترقب وصول الرئيس القبرصي إلى لبنان في زيارة رسمية لتهنئة الرئيس عون وتعزيز العلاقات بين لبنان وقبرص، وتعد هذه أول زيارة لمسؤول أجنبي إلى الرئيس الجديد بعد انتخابه.
جدير بالذكر أن رئيس الوزراء اللبناني، نجيب ميقاتي، أعلن استعداد بلاده في نزع السلاح بالجنوب اللبنان، خصوصًا منطقة جنوب الليطاني.
وأكد ميقاتي، في تصريحات بعد لقائه بعون، الرئيس اللبناني، اليوم الجمعة، على ضرورة الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني، ووقف الخروقات، مؤكدًا السعي لضمان أن تكون الدولة موجودة على كل الأراضي اللبنانية.
وبعد يوم من اختيار عون رئيسًا في جلسة، أنهت أكثر من عامين من شغور المنصب الرئاسي بسبب خلافات بين القوى الداخلية في البلاد، أضاف رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية: أننا اليوم أمام مرحلة جديدة، سنبدأ بجنوب الليطاني من أجل سحب السلاح، وأن تكون الدولة موجودة على كل الأراضي بدءًا من الجنوب".
لقاء أحمد الشرع في دمشق:كشفت رويترز عن لقاء مرتقب بين رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، والقائد العام للإدارة الجديدة في سوريا، أحمد الشرع في دمشق غدًا السبت.