هل العقل العربي فارغ؟ هذا السؤال كان يجب أن يُطرح منذ زمن، ولكن الذي ألح على طرحه الآن هو تصريح السير شيرارد كوبر كولز السفير البريطاني السابق لدى السعودية وإسرائيل وأفغانستان، الذي عبّر عن ندمه لتعلم اللغة العربية بدلًا من الصينية؛ لأنّ «العقل العربي فارغ بالمُقارنة مع نظيره الصيني» حسب قوله.
اعتبر البعض أنّ تصريحات كهذه عنصرية، خاصة أنها جاءت أثناء حديثه مع طلاب في حفل عشاء بجامعة «أكسفورد»، وهم في مرحلة التكوين النهائية قبل توجههم إلى تخصصاتهم العملية، بما يعني أنهم «قادة المستقبل».
لا يمكن أن نقول إنّ تلك التصريحات لم تكن عنصرية، بل سنزيد على ذلك بأنّ تلك هي النظرة الغربية السائدة عن العرب والمسلمين؛ ولكن الذي يجب أن يُطرح للنقاش - بغض النظر عن عنصرية التصريح - هل ما قاله السير شيرارد صحيح أم لا؟ وهل علينا أن نأخذ ذلك التصريح من منطلق عاطفي فقط؟ وهل العقل العربي فعلا فارغ؟ وهل يمكن أن تقارن التجربة الصينية في التنمية، مع التجربة العربية؟
أعتقدُ أنّ الرجل قال الحقيقة - وإن كانت مؤلمة لنا - فنحن أمة تركت الحاضر والمستقبل، لتعيش في الماضي وتتفاخر بأمجاد السلف، وتقيم حروبًا عن وقائع حدثت قبل أكثر من ألف سنة؛ فكان من نتيجة ذلك أنّ البلدان العربية - التي حباها الله كلّ شيء وفتح لها الخزائن - بعيدة كلّ البعد عن التقدُّم والازدهار في مجالات العلم والطب والتكنولوجيا والصناعة، حتى وإن كانت تملك قشور الحضارة، مثل ناطحات السحاب والقنوات الفضائية وغيرها، لكنها أمة مستهلكة لكلّ ما تصنعه المصانع العالمية؛ فما إن يفتح الإنسان عينيه في الصباح حتى يجد نفسه في سرير مستورد، ويلتحف بلحاف مستورد، ويستخدم أدوات التنظيف المستوردة، ويلبس المستورد من اللباس، ويأكل الطعام المستورد، ويستخدم كلّ وسائل التواصل والمواصلات من الخارج، وحتى في صلاته فكلّ ما يستخدمه من الخارج، ويفخر بعد ذلك أنه إنسان عصري ومتطور، ممّا يذكرني بموقف حدث في بداية السبعينيات من القرن الماضي، عندما قال أحد الطلبة للمدرس: «الحمد لله تطورنا وأصبحنا نسوق السيارات الآن»، فقال له: «يعني تطورت لما تسوق العربية، لكنك ما صنعتهاش. هو دا تطور؟» وفوق هذا وذلك، فإنّ البلدان العربية - وخاصة الخليجية - ما زالت تستورد حتى الآن الأيدي العاملة من الخارج من أصغر التخصصات إلى أكبرها، وهذا فرض على هذه البلدان أن تكون ضعيفة لا يمكن أن تخرج عن الإملاءات السياسية والقوانين التي تُفرض عليها من الخارج، ممّا يشكل خطرًا كبيرًا على مستقبل هذه الدول من حيث التركيبة السكانية التي تحدّث عنها كثير من المفكرين دون جدوى.
لم يكن في حديث السفير البريطاني أيّ انتقاص من اللغة العربية؛ وإنما حديثه انصب على ندمه على تعلمها، إذ لم يفده في شيء، في الوقت الذي رأى فيه -هو والعالم كله- النجاحات التي تحققها الصين الآن، وهي في سبيلها أن تكون دولة عظمى، مما يعني أنّ على الطلبة البريطانيين أن ينظروا للمستقبل؛ ومع ذلك نستطيع أن نقول إنّ مخرجات تعليم اللغة العربية أصبحت الآن ضعيفة في الوطن العربي نفسه، وأصبحت الجامعات العربية تدرّس معظم العلوم الحديثة باللغة الإنجليزية، في حين تؤكد الدراسات أنّ معظم الدول التي نجحت في العلوم والاقتصاد والطب والصناعات، هي الدول التي تدرّس أبناءها بلغتهم القومية، وفي ظني أنّ تلك الدراسات محقة فيما ذهبت إليه؛ فالشواهد تدل على ذلك، مثل نجاح الصين واليابان وكوريا وإيران والهند، وغيرها من البلدان، ولا يمكن أن تُتهم اللغة العربية بأنها السبب في فراغ العقل العربي؛ فعوامل ذلك الفراغ كثيرة منها داخلية ومنها خارجية، ولكن في الغالب الأعم تتحمل الأنظمة مسؤولية ذلك؛ لأنها ابتعدت عن الاهتمام بالعلم إلى التمسك بالقشور فقط، ومما أذكره في هذا المقام أنّ أحد القراء علق على مقال لي حول كورونا، بأنّ «العالم يبحث عن الدواء ونحن استفدنا من كلّ ذلك باستخدام كلمة «جائحة»، وكأننا حققنا كلّ الإنجاز».
كثيرون انزعجوا من تصريح السفير البريطاني العنصري وتعاطوا معه عاطفيًا، مذكرين الغرب بما صنعته الحضارة العربية، لكن السفير لم يكن يلقي درسًا لقادة المستقبل في تاريخ أمجاد العرب، وإنما تحدّث عن الواقع الحالي، وهو الذي يهم الجيل الجديد الذي سيتسلم زمام الأمور في بلده مستقبلا، وفي اعتقادي أنّ تصريحات كهذه، يجب أن تكون حافزًا لنا لمعرفة مكامن الخلل، والعمل على الإصلاح، لا أن ننزعج منها وننظر إليها من منظور واحد فقط، أنها تصريحات عنصرية؛ فالسؤال هو أين العرب؟ وماذا أفادوا الإنسانية؟ وأين هو موقعهم من الإعراب؟ وماذا استفادوا من ثرواتهم وموقعهم الجغرافي، إلا الصراعات والنزاعات وزراعة الكراهية والاقتتال باسم المذهبية تارة وباسم الطائفية تارة أخرى، وكيف لعب المال العربي الدور في تدمير الوطن العربي؟!
هناك صورتان معبرتان عن الوضع في الوطن العربي وفي الصين؛ الصورة الأولى عن الوضع العربي، أنقلها من فاروق الشرع وزير الخارجية السوري التي ذكرها في كتابه «الرواية المفقودة» عندما قال: «سافرتُ في إحدى المرات من مسقط إلى الدار البيضاء. استغرقت الرحلة من دون توقف أكثر من تسع ساعات، وكانت بكاملها فوق أجواء وأراضٍ عربية. كان طبيعيًا أن يتركز الحديث في الطائرة على الثروات العربية في باطن هذه الأراضي المعطاء، التي يجري استنزافها وكأننا نموت غدًا، والموارد البشرية العربية الهائلة التي لا نستثمرها كما يجب، وكأننا نعيش أبدًا»؛ أما الصورة الثانية عن الصين، فأنقلها من الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل الذي زار الصين في بداية عام 1973، حيث لم تكن تختلف في ذلك الوقت عن أيّ دولة من الدول العربية؛ بل إنّ الدول العربية كانت أكثر تطورًا منها؛ يقول هيكل في كتابه «أحاديث في آسيا» إنّ دبلوماسيًا عربيًا قال له: «أنت ذاهب إلى الصين.. إنك سوف ترى مجتمع النمل.. وفي الغالب سوف تنزل في فندق «الشعوب»، وإذا حدث ذلك فإني أرجوك أن تستيقظ مبكرًا ذات يوم، وانظر من نافذة غرفتك إلى الشارع، وسوف تجد على الناحيتين في الشارع الواسع منظرًا لن يبرح ذاكرتك.. طابور لا ينقطع من راكبي الدراجات الذاهبين إلى عملهم في الصباح على هذه الناحية من الشارع، وطابور آخر لا ينقطع على الناحية الأخرى. سوف تجدهم كالنمل في الحركة وفي الشكل العام. لن تجد في بكين إلا هذه الطوابير من راكبي الدرجات. ليس في الشوارع سيارات لأنّ السيارات لا تخصص إلا لنواب الوزراء ومن فوقهم وللأعمال الرسمية فقط، وفي بكين ميترو تحت الأرض، وهو فخم وأنيق ولكنه للمستقبل».
عندما أتيحت لي الفرصة أن أزور الصين عام 2006، فإنّ الصورة الذهنية لبكين كانت عن الدراجات الهوائية فقط، فإذا بي أفاجأ بذلك التطور الهائل، والآن ها هي الصين تغزو العالم كله بمنتجاتها الخفيفة والثقيلة، ولم تتحجج بحججٍ واهية عن كثرة السكان، وأصبحت تصدّر السيارات والتي كانت عام 1970 تعد بعدد الأصابع في بكين؛ فالأمم الحية تعرف كيف تستفيد من أبنائها - مهما كثروا - وتعرف أيضًا كيف تفيدهم.
وإذا كان السفير البريطاني قد قارن بين العرب والصين، فإنه يجدر بي أن أتحدث عن شخصية أخرى قارنت بين العرب واليابانيين، هو الكاتب والأستاذ الجامعي الياباني «نوبوأكي نوتوهارا»، من خلال كتابه القيّم «العرب - وجهة نظر يابانية»، فما جاء في كتابه لا يمكن أن يصنف بأنه عنصري، لأنّ الرجل صديقٌ ومحبٌ للعرب وعاش بينهم سنوات طويلة، وما كتبه هو تشخيص صادق للوضع كما عايشه؛ فهو يرى أنّ المجتمع العربي يعاني من مشكلتين أساسيتين هما القمع، وغياب العدالة الاجتماعية وعدم المساواة أمام القانون، وهذا أدى إلى غياب المسؤولية العامة، ففعلَ الناسُ كلّ شيء، وتعرضت حقوق الإنسان للخطر، ولذلك أصبح الفرد هشًا وساكنًا بلا فعالية، لأنه يعامَل دائمًا بلا تقدير لقيمته كإنسان. ويقول المؤلف: «في مجتمع مثل مجتمعنا نضيف حقائق جديدة، بينما يكتفي العالم العربي باستعادة الحقائق التي كان قد اكتشفها في الماضي البعيد، أما الأفراد العرب الذين يتعاملون مع الوقائع والحقائق الجديدة يظلون أفرادًا فقط ولا يشكلون تيارًا اجتماعيًا يؤثر في حياة الناس».
يتساءل «نوبوأكي نوتوهارا» - ونتساءل معه - كم يحتاج العرب من الوقت لكي يستفيدوا من تجاربهم ويصححوا أخطاءهم ويضعوا أنفسهم على الطريق السليم؟! وإذا حدث ذلك هل يمكن أن نقرأ تصريحات عنصرية ضدهم؟!
زاهر المحروقي كاتب عماني مهتم بالشأن العربي ومؤلف كتاب «الطريق إلى القدس»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: السفیر البریطانی اللغة العربیة لا یمکن أن من الخارج
إقرأ أيضاً:
أبو الغيط: مجلس الوزراء العرب للأمن السيبراني.. إضافة جديدة لمنظومة الأمن القومي العربي
أكد أحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية في كلمته في اجتماع الدورة الأولى لمجلس الوزراء العرب للأمن السيبراني المنعقدة بالرياض انه يجب على الدول العربية التعامل مع البيئة الأمنية العالمية عالية المخاطر، الاستثمار الجاد في مجال الأمن السيبراني، وان مجلس الوزراء العرب للأمن السيبراني يمثل إضافة جديدة لمنظومة الأمن القومي العربي.
واعرب عن سعادته بالمشاركة في الدورة الأولى لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب، والمبادرة لإنشاء هذا المجلس الهام، في هذا التوقيت الدقيق والحساس الذي يشهد فيه العالم العديد من التحديات والتهديدات المرتبطة بمجال الأمن السيبراني، وبالذات في ضوء هيمنة الرغبة في تسريع وتيرة التحول الرقمي في جميع المجالات والقطاعات.
واعرب عن تطلعه إلى أن يمثل هذا المجلس الوليد منصة انطلاق جديدة تعزز الجهود العربية في موضوعات حماية المعلومات والأمن السيراني، وأن يمثل قيمة مضافة لمنظومة العمل العربي المشترك، تعكس الرغبة في التعامل الجاد مع أدوات العصر الحديث ومواكبة ما يشهده قطاع التكنولوجيا من تحولات متسارعة تأتي في مقدمتها القفزات الهائلة في مجال الذكاء الاصطناعي، خاصة في العامين الأخيرين.
وأضاف ان جامعة الدول العربية أدركت منذ فترة خطورة التحديات والتهديدات الناتجة عن عدم مواكبة التقدم في المجالات المرتبطة بتكنولوجيات العصر الحديث.. مما دفعها إلى إيلاء أهمية خاصة بتلك المجالات، ومن بينها، قضية الأمن السيبراني.. .حيث تحملت الجامعة العربية خلال الفترات السابقة، ومن خلال أجهزتها والمجالس الوزارية المتخصصة المختلفة مثل مجلس الوزراء العربي للاتصالات والمعلومات، مسئولية متابعة موضوعات الأمن السيبراني في مختلف المحافل الإقليمية والدولية.
واعرب عن أمله في أن يجد المجلس وأمانته الفنية الناشئة من الأفكار والمقررات الصادرة عن هذه الأجهزة والمجالس ما يكفي للبناء عليه والاسترشاد به لتأسيس إطار عربي موحد لمكافحة الجرائم الالكترونية وحماية الفضاء السيبراني العربي.
وأشار إلى بعض هذا الجهد الذي بُذل كالاستراتيجية العربية للاتصالات والمعلومات (الأجندة الرقمية 2023-2030) التي تم اعتمادها في قمة الرياض عام 2023، والاستراتيجية العربية للأمن السيبراني التي أعدتها المنظمة العربية لتكنولوجيا الاتصال والمعلومات تنفيذاً لقرار القمة الاقتصادية والتنموية ببيروت عام 2019.. والتي تمت احالتها إلى المجلس وفق قرار مجلس الوزراء العربي للاتصالات والمعلومات.
ودعا إلى استكمال هذه المسيرة والبدء في تنسيق التعاون مع مجلس الوزراء العرب للاتصالات والمعلومات لتنفيذ الاستراتيجية العربية للأمن السيبراني، كخطوة نحو وجود فضاء سيبراني عربي آمن، وكذلك التعاون مع الأمانة الفنية لمجلس الوزراء العرب للاتصالات والمعلومات والفرق الفنية المنبثقة عنها بغرض تنسيق الموقف العربي في المحافل الخاصة بالأمن السيبراني.
وقال ان عدة دول عربية حققت طفرات مشهودة في مجال الأمن السيبراني، حيث قطعت أشواطاً كبيرة في تطوير البنية التحتية الخاصة بها ووضع الأنظمة واللوائح ذات الصلة، مما انعكس على ترتيب مراكز الدول العربية في مؤشر الأمن السيبرانى GCI الصادر عن الاتحاد الدولي للاتصالات ITU خلال التقرير الأخير عام 2024، والتي تصدرت فيه ثماني دول عربية التصنيف الأول وأربعة دول التصنيف الثالث، وست دول التصنيف الرابع ودولة واحدة التصنيف الخامس.
وأضاف انه وعلى الرغم من هذه المؤشرات الإيجابية، لازالت المنطقة العربية تواجه العديد من التحديات نتيجة تطور الهجمات الإلكترونية بوتيرة أسرع من أي وقت مضى، وقد زادت الهجمات الإلكترونية بشكل ملحوظ خلال العامين الماضيين نظراً لحالة عدم الاستقرار الجيوسياسي والأمني التي تشهدها بقاع كثيرة في العالم، ومن بينها المنطقة العربية، ويقتضي التعامل مع هذه البيئة الأمنية عالية المخاطر، الاستثمار الجاد في مجال الأمن السيبراني، ووضعه في مقدمة أولويات الحكومات العربية وكذلك المؤسسات الصناعية والشركات الكبيرة والصغيرة. ولا يخفى على أحد، السعي المحموم للعديد من دول العالم لتطبيق استراتيجيات الأمن السيبراني لحماية الفضاء الرقمي.. .ففي عالم متصل بشبكة الإنترنت بشكل دائم صار الجميع أكثر عرضة للهجمات السيبرانية، بل أصبح الفضاء السيبراني نفسه ساحة من ساحات الحرب.. .خاصة في ظل التوجه عالمي نحو رقمنة كافة مجالات الحياة، والتي تتطلب انسيابية المعلومات وأمانها وتكامل أنظمتها.. مما يستوجب المحافظـة على الأمن السيبراني، وتـعـزيـزه، حمايةً للمصالح الحيوية للدولـة ولأمنها الوطني وكذا البنى التحتية الحساسة والقطاعات ذات الأولوية والخدمات والأنـشطة الحكوميـة.. .فمقارنةً بسائر دول العالم تعتبر المنطقة العربية الأكثر تعرضاً للهجمات وذلك بسبب الموقع الجغرافي والأهمية الاستراتيجية بالنسبة للشركات المستثمرة الكبرى، وبحسب الخبراء والتقارير الصادرة عن المراكز المتخصصة فمن المتوقع أن يصل سوق الأمن السيبراني في منطقة الشرق الأوسط إلى 44.7 مليار دولار بحلول عام 2027.
وأكد على أن الأمن السيبراني هو أحد أكبر التحديات المعاصرة التي تواجهنا، سواء على صعيد الأمن بمعناه الشامل أو استدامة النمو الاقتصادي.. .ويظل العمل الجماعي والمشترك على الصعيد العربي هو السبيل الأمثل لبناء منظومة عربية صلدة نقف بها سوياً على تلك الجبهة المهمة والخطيرة.. .وإنني على يقين في أن مجلس الوزراء العرب للأمن السيبراني سوف يمثل إضافة جديدة لمنظومة الأمن القومي العربي.