لجريدة عمان:
2025-04-07@01:11:26 GMT

هل العقل العربي فارغ ..؟

تاريخ النشر: 3rd, September 2023 GMT

هل العقل العربي فارغ؟ هذا السؤال كان يجب أن يُطرح منذ زمن، ولكن الذي ألح على طرحه الآن هو تصريح السير شيرارد كوبر كولز السفير البريطاني السابق لدى السعودية وإسرائيل وأفغانستان، الذي عبّر عن ندمه لتعلم اللغة العربية بدلًا من الصينية؛ لأنّ «العقل العربي فارغ بالمُقارنة مع نظيره الصيني» حسب قوله.

اعتبر البعض أنّ تصريحات كهذه عنصرية، خاصة أنها جاءت أثناء حديثه مع طلاب في حفل عشاء بجامعة «أكسفورد»، وهم في مرحلة التكوين النهائية قبل توجههم إلى تخصصاتهم العملية، بما يعني أنهم «قادة المستقبل».

ولم يكتف السفير بذلك، بل أضاف أنه بعد انضمامه إلى وزارة الخارجية في أواخر السبعينيات، اختار تعلم التحدث باللغة العربية، بسبب أهمية الشرق الأوسط في الشؤون العالمية، وأنّ القسم كان يُعرف في ذلك الوقت باسم «فيلق الإبل».

لا يمكن أن نقول إنّ تلك التصريحات لم تكن عنصرية، بل سنزيد على ذلك بأنّ تلك هي النظرة الغربية السائدة عن العرب والمسلمين؛ ولكن الذي يجب أن يُطرح للنقاش - بغض النظر عن عنصرية التصريح - هل ما قاله السير شيرارد صحيح أم لا؟ وهل علينا أن نأخذ ذلك التصريح من منطلق عاطفي فقط؟ وهل العقل العربي فعلا فارغ؟ وهل يمكن أن تقارن التجربة الصينية في التنمية، مع التجربة العربية؟

أعتقدُ أنّ الرجل قال الحقيقة - وإن كانت مؤلمة لنا - فنحن أمة تركت الحاضر والمستقبل، لتعيش في الماضي وتتفاخر بأمجاد السلف، وتقيم حروبًا عن وقائع حدثت قبل أكثر من ألف سنة؛ فكان من نتيجة ذلك أنّ البلدان العربية - التي حباها الله كلّ شيء وفتح لها الخزائن - بعيدة كلّ البعد عن التقدُّم والازدهار في مجالات العلم والطب والتكنولوجيا والصناعة، حتى وإن كانت تملك قشور الحضارة، مثل ناطحات السحاب والقنوات الفضائية وغيرها، لكنها أمة مستهلكة لكلّ ما تصنعه المصانع العالمية؛ فما إن يفتح الإنسان عينيه في الصباح حتى يجد نفسه في سرير مستورد، ويلتحف بلحاف مستورد، ويستخدم أدوات التنظيف المستوردة، ويلبس المستورد من اللباس، ويأكل الطعام المستورد، ويستخدم كلّ وسائل التواصل والمواصلات من الخارج، وحتى في صلاته فكلّ ما يستخدمه من الخارج، ويفخر بعد ذلك أنه إنسان عصري ومتطور، ممّا يذكرني بموقف حدث في بداية السبعينيات من القرن الماضي، عندما قال أحد الطلبة للمدرس: «الحمد لله تطورنا وأصبحنا نسوق السيارات الآن»، فقال له: «يعني تطورت لما تسوق العربية، لكنك ما صنعتهاش. هو دا تطور؟» وفوق هذا وذلك، فإنّ البلدان العربية - وخاصة الخليجية - ما زالت تستورد حتى الآن الأيدي العاملة من الخارج من أصغر التخصصات إلى أكبرها، وهذا فرض على هذه البلدان أن تكون ضعيفة لا يمكن أن تخرج عن الإملاءات السياسية والقوانين التي تُفرض عليها من الخارج، ممّا يشكل خطرًا كبيرًا على مستقبل هذه الدول من حيث التركيبة السكانية التي تحدّث عنها كثير من المفكرين دون جدوى.

لم يكن في حديث السفير البريطاني أيّ انتقاص من اللغة العربية؛ وإنما حديثه انصب على ندمه على تعلمها، إذ لم يفده في شيء، في الوقت الذي رأى فيه -هو والعالم كله- النجاحات التي تحققها الصين الآن، وهي في سبيلها أن تكون دولة عظمى، مما يعني أنّ على الطلبة البريطانيين أن ينظروا للمستقبل؛ ومع ذلك نستطيع أن نقول إنّ مخرجات تعليم اللغة العربية أصبحت الآن ضعيفة في الوطن العربي نفسه، وأصبحت الجامعات العربية تدرّس معظم العلوم الحديثة باللغة الإنجليزية، في حين تؤكد الدراسات أنّ معظم الدول التي نجحت في العلوم والاقتصاد والطب والصناعات، هي الدول التي تدرّس أبناءها بلغتهم القومية، وفي ظني أنّ تلك الدراسات محقة فيما ذهبت إليه؛ فالشواهد تدل على ذلك، مثل نجاح الصين واليابان وكوريا وإيران والهند، وغيرها من البلدان، ولا يمكن أن تُتهم اللغة العربية بأنها السبب في فراغ العقل العربي؛ فعوامل ذلك الفراغ كثيرة منها داخلية ومنها خارجية، ولكن في الغالب الأعم تتحمل الأنظمة مسؤولية ذلك؛ لأنها ابتعدت عن الاهتمام بالعلم إلى التمسك بالقشور فقط، ومما أذكره في هذا المقام أنّ أحد القراء علق على مقال لي حول كورونا، بأنّ «العالم يبحث عن الدواء ونحن استفدنا من كلّ ذلك باستخدام كلمة «جائحة»، وكأننا حققنا كلّ الإنجاز».

كثيرون انزعجوا من تصريح السفير البريطاني العنصري وتعاطوا معه عاطفيًا، مذكرين الغرب بما صنعته الحضارة العربية، لكن السفير لم يكن يلقي درسًا لقادة المستقبل في تاريخ أمجاد العرب، وإنما تحدّث عن الواقع الحالي، وهو الذي يهم الجيل الجديد الذي سيتسلم زمام الأمور في بلده مستقبلا، وفي اعتقادي أنّ تصريحات كهذه، يجب أن تكون حافزًا لنا لمعرفة مكامن الخلل، والعمل على الإصلاح، لا أن ننزعج منها وننظر إليها من منظور واحد فقط، أنها تصريحات عنصرية؛ فالسؤال هو أين العرب؟ وماذا أفادوا الإنسانية؟ وأين هو موقعهم من الإعراب؟ وماذا استفادوا من ثرواتهم وموقعهم الجغرافي، إلا الصراعات والنزاعات وزراعة الكراهية والاقتتال باسم المذهبية تارة وباسم الطائفية تارة أخرى، وكيف لعب المال العربي الدور في تدمير الوطن العربي؟!

هناك صورتان معبرتان عن الوضع في الوطن العربي وفي الصين؛ الصورة الأولى عن الوضع العربي، أنقلها من فاروق الشرع وزير الخارجية السوري التي ذكرها في كتابه «الرواية المفقودة» عندما قال: «سافرتُ في إحدى المرات من مسقط إلى الدار البيضاء. استغرقت الرحلة من دون توقف أكثر من تسع ساعات، وكانت بكاملها فوق أجواء وأراضٍ عربية. كان طبيعيًا أن يتركز الحديث في الطائرة على الثروات العربية في باطن هذه الأراضي المعطاء، التي يجري استنزافها وكأننا نموت غدًا، والموارد البشرية العربية الهائلة التي لا نستثمرها كما يجب، وكأننا نعيش أبدًا»؛ أما الصورة الثانية عن الصين، فأنقلها من الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل الذي زار الصين في بداية عام 1973، حيث لم تكن تختلف في ذلك الوقت عن أيّ دولة من الدول العربية؛ بل إنّ الدول العربية كانت أكثر تطورًا منها؛ يقول هيكل في كتابه «أحاديث في آسيا» إنّ دبلوماسيًا عربيًا قال له: «أنت ذاهب إلى الصين.. إنك سوف ترى مجتمع النمل.. وفي الغالب سوف تنزل في فندق «الشعوب»، وإذا حدث ذلك فإني أرجوك أن تستيقظ مبكرًا ذات يوم، وانظر من نافذة غرفتك إلى الشارع، وسوف تجد على الناحيتين في الشارع الواسع منظرًا لن يبرح ذاكرتك.. طابور لا ينقطع من راكبي الدراجات الذاهبين إلى عملهم في الصباح على هذه الناحية من الشارع، وطابور آخر لا ينقطع على الناحية الأخرى. سوف تجدهم كالنمل في الحركة وفي الشكل العام. لن تجد في بكين إلا هذه الطوابير من راكبي الدرجات. ليس في الشوارع سيارات لأنّ السيارات لا تخصص إلا لنواب الوزراء ومن فوقهم وللأعمال الرسمية فقط، وفي بكين ميترو تحت الأرض، وهو فخم وأنيق ولكنه للمستقبل».

عندما أتيحت لي الفرصة أن أزور الصين عام 2006، فإنّ الصورة الذهنية لبكين كانت عن الدراجات الهوائية فقط، فإذا بي أفاجأ بذلك التطور الهائل، والآن ها هي الصين تغزو العالم كله بمنتجاتها الخفيفة والثقيلة، ولم تتحجج بحججٍ واهية عن كثرة السكان، وأصبحت تصدّر السيارات والتي كانت عام 1970 تعد بعدد الأصابع في بكين؛ فالأمم الحية تعرف كيف تستفيد من أبنائها - مهما كثروا - وتعرف أيضًا كيف تفيدهم.

وإذا كان السفير البريطاني قد قارن بين العرب والصين، فإنه يجدر بي أن أتحدث عن شخصية أخرى قارنت بين العرب واليابانيين، هو الكاتب والأستاذ الجامعي الياباني «نوبوأكي نوتوهارا»، من خلال كتابه القيّم «العرب - وجهة نظر يابانية»، فما جاء في كتابه لا يمكن أن يصنف بأنه عنصري، لأنّ الرجل صديقٌ ومحبٌ للعرب وعاش بينهم سنوات طويلة، وما كتبه هو تشخيص صادق للوضع كما عايشه؛ فهو يرى أنّ المجتمع العربي يعاني من مشكلتين أساسيتين هما القمع، وغياب العدالة الاجتماعية وعدم المساواة أمام القانون، وهذا أدى إلى غياب المسؤولية العامة، ففعلَ الناسُ كلّ شيء، وتعرضت حقوق الإنسان للخطر، ولذلك أصبح الفرد هشًا وساكنًا بلا فعالية، لأنه يعامَل دائمًا بلا تقدير لقيمته كإنسان. ويقول المؤلف: «في مجتمع مثل مجتمعنا نضيف حقائق جديدة، بينما يكتفي العالم العربي باستعادة الحقائق التي كان قد اكتشفها في الماضي البعيد، أما الأفراد العرب الذين يتعاملون مع الوقائع والحقائق الجديدة يظلون أفرادًا فقط ولا يشكلون تيارًا اجتماعيًا يؤثر في حياة الناس».

يتساءل «نوبوأكي نوتوهارا» - ونتساءل معه - كم يحتاج العرب من الوقت لكي يستفيدوا من تجاربهم ويصححوا أخطاءهم ويضعوا أنفسهم على الطريق السليم؟! وإذا حدث ذلك هل يمكن أن نقرأ تصريحات عنصرية ضدهم؟!

زاهر المحروقي كاتب عماني مهتم بالشأن العربي ومؤلف كتاب «الطريق إلى القدس»

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: السفیر البریطانی اللغة العربیة لا یمکن أن من الخارج

إقرأ أيضاً:

إنجاز جديد لـ GPT-4.5.. يجتاز اختبار "العقل البشري" ويربك خبراء الذكاء الاصطناعي

كشفت دراسة جديدة أجراها باحثون في جامعة كاليفورنيا، سان دييغو أن أحدث نماذج الذكاء الاصطناعي، GPT‑4.5 من OpenAI وLlama‑3.1‑405B من Meta، تمكّنا من اجتياز اختبار تورينغ ثلاثي الأطراف تحت ظروف معينة، وهو ما يعيد طرح الأسئلة حول مدى اقتراب الذكاء الاصطناعي من التفكير البشري.

ووفقاً لنتائج الدراسة، أخطأ المحققون في تمييز الآلة عن الإنسان خلال جلسات محادثة استمرت لمدة 5 دقائق، حيث تم اعتبار GPT‑4.5 في 73% من الحالات هو "الإنسان"، مقارنة بالشخص البشري الحقيقي، وفق "إنترستينغ إنجينيرينغ".

هذا الإنجاز تم بفضل استخدام مُوجِّه استراتيجي يُعرف باسم "PERSONA"، يُزوّد النموذج بشخصية افتراضية مليئة بالتفاصيل اليومية والعاطفية، ما يجعل تفاعله أكثر واقعية.

أما نموذج Llama‑3.1‑405B، فنجح هو الآخر في خداع المحققين بنسبة 56% عند توجيهه لشخصية معينة، في حين حقق النموذج المرجعي GPT‑4o نسبة لا تتجاوز 21% باستخدام تعليمات بسيطة فقط.

ووفقاً للباحث الرئيسي كاميرون جونز، حقق  GPT‑4.5، باستخدام مُوجِّه "PERSONA" الاستراتيجي، نسبة نجاح بلغت 73% ، مما يعني أنه في جلسات الدردشة التي استمرت خمس دقائق، تم التعرف على نظام الذكاء الاصطناعي على أنه الإنسان أكثر من الإنسان نفسه.

وبحسب كاميرون جونز، فإن الأداء المذهل للنماذج اللغوية لا يعود فقط إلى تطورها التقني، بل إلى مدى قدرة النموذج على تبني "هوية" كاملة، تُضفي على المحادثة طابعاً بشرياً مقنعاً، يشمل الحديث عن العلاقات والمشاعر واليوميات.

وعند إزالة هذه "الشخصيات الافتراضية"، تراجع أداء GPT‑4.5 إلى 36%، مما يؤكد أن التخصيص عامل حاسم في قدرة الذكاء الاصطناعي على تجاوز الاختبار.

هل اختبار تورينغ لا يزال معياراً فعّالًا؟

يهدف اختبار تورينغ، الذي وضعه العالم البريطاني آلان تورينغ عام 1950، لقياس قدرة الآلة على "التفكير" عبر محاكاة المحادثة مع البشر.

فإذا فشل الشخص في التمييز بين الإنسان والآلة خلال المحادثة النصية، فإن الآلة تعتبر قد نجحت في "لعبة المحاكاة".

لكن مع تطور التكنولوجيا، بات هذا المعيار محل شك، إذ يرى نقّاد أن الاختبار بات يقيس قدرتنا على تصديق المحاكاة أكثر من كونه مقياساً دقيقاً للوعي أو الذكاء الحقيقي.

 محاكاة أم ذكاء؟

ورغم الإنجاز التقني اللافت، يبقى السؤال الأهم مطروحاً: هل هذه النماذج "تفكر" حقاً؟، أم أنها فقط تحاكي السلوك البشري ببراعة، بفضل قواعد بيانات ضخمة ونماذج مطابقة أنماط معقدة؟

الدراسة تُظهر أن الذكاء الاصطناعي بات يقترب من اجتياز واحد من أقدم تحديات الفكر البشري، لكنها في الوقت ذاته تُسلّط الضوء على حدود هذا الإنجاز، وتعيد طرح الأسئلة الفلسفية الكبرى حول طبيعة "الذكاء" و"الوعي".

وسيبرز السؤال، هل تُقنعنا روبوتات الدردشة البليغة بسهولة بالغة، أم أن نماذج الذكاء الاصطناعي قد تجاوزت بالفعل عتبةً مُميزة من التفكير الحسابي؟.

خلاصة

بينما يُواصل الذكاء الاصطناعي تقدمه بخطى متسارعة، يبدو أن اجتياز اختبار تورينغ لم يعد مجرد إنجاز تقني، بل أصبح مرآة تعكس قدرتنا كبشر على التفاعل مع آلة تتحدث لغتنا، بل وتُجيد خداعنا أحياناً.

مقالات مشابهة

  • د. محم بشاري يكتب: استئناف العمران الإنساني من التجزيء المعرفي إلى التكامل القيمي
  • مدرسة أثينا.. عندما جمع رفائيل الفلاسفة في لوحة واحدة
  • اللهم نصرك الذي وعدت ورحمتك التي بها اتصفت
  • هيئة الرأي العربية في كركوك ترحب بعودة البارتي: استوعبوا الدرس - عاجل
  • علي جمعة: الطاعة أن تعبد الله كما يريد بعيدا عن العقل والهوى
  • الكشف عن الدولة العربية التي قدمت دعما لحملة القصف على اليمن
  • إنجاز جديد لـ GPT-4.5.. يجتاز اختبار "العقل البشري" ويربك خبراء الذكاء الاصطناعي
  • اليماحي: البرلمان العربي ملتزم بدعم القضايا العربية وعلى رأسها فلسطين
  • عيد محور المقاومة الذي لا يشبه الأعياد
  • مراسل سانا في حلب: قوات الجيش العربي السوري تصل إلى محيط مناطق قوات سوريا الديمقراطية في مدينة حلب وتؤمّن الطريق الذي سيسلكه الرتل العسكري المغادر من حيي الشيخ مقصود والأشرفية باتجاه شرق الفرات