المحاسبة العامة من أجل المساءلة العامة
تاريخ النشر: 3rd, September 2023 GMT
نيويورك ــ يمتلك القطاع العام في أي دولة قومية حديثة اعتيادية حصة أكبر من النشاط الاقتصادي مقارنة بأي جهة اقتصادية أخرى، وفي عام 2021، تراوح الإنفاق الحكومي العام الأولي للدول الأعضاء في مجموعة السبع بين 39.41% من الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة الامريكية إلى 57.66% من الناتج المحلي الإجمالي في فرنسا.
تفرض الحكومات متطلبات صارمة على الكيانات الخاصة من أجل عمل المحاسبة على أساس الاستحقاق وذلك وفقًا للمعايير الدولية لإعداد التقارير المالية أو مبادئ المحاسبة المقبولة على نطاق واسع ويتضمن ذلك إعداد ميزانية عمومية مدققة تتضمن جميع الأصول والالتزامات المالية والحقيقية التي تحدد صافي القيمة التقليدية. قد يفترض المرء أن الحكومات تلتزم بمعايير مماثلة، فتلتزم على سبيل المثال بالمعايير المحاسبية الدولية للقطاع العام (وهو الخيار الصحيح)، ولكن أغلب الحكومات تتخلف كثيراً عن الوفاء بهذه المعايير، ونيوزيلندا فقط هي التي تستخدم المعايير المحاسبية الدولية للقطاع العام كأساس لنظام الإدارة المالية لديها. وبدلا من ذلك، تركّز الحسابات التي يقوم بها القطاع العام على التدفقات النقدية القصيرة والمتوسطة الأجل ــ يعتبر عجز الموازنة العامة للحكومة مثالا واضحا على ذلك ــ وعلى مجموعة فرعية من الالتزامات التعاقدية للقطاع العام، والتي عادة ما تكون إجمالي أو صافي ديونه المالية. وكما أظهرنا أنا وزملائي في كتاب من المقرر أن يصدر قريباً تحت عنوان «صافي القيمة العامة: المحاسبة والحكومة والديمقراطية»، فإن هذا النهج معيب إلى حد كبير ــ وله تداعيات بعيدة المدى على الإدارة الاقتصادية. بادئ ذي بدء، عادة ما تبني الحكومات القواعد المالية الخاصة بها على تدابير ضيقة للديون والعجز، ففي الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، تتعهد الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بأن تكون ديونها أقل من 60% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي وإبقاء العجز عند مستوى أقل من 3% من الناتج المحلي الإجمالي. إن هذا لا يعتبر منطقيًا من الناحية الاقتصادية حيث تتجاهل المقاييس المتعلقة بالديون عادة أغلب الأصول ــ وخاصة الأصول التجارية الحقيقية للقطاع العام ــ وبعض الالتزامات المهمة بما في ذلك القيمة التي يتم خصمها حاليًا لاستحقاقات معاشات التقاعد في القطاع العام كما تفشل مقاييس العجز في التمييز بين إصدار الديون لتمويل النفقات الجارية والعجز الذي يتم تكبده من أجل تمويل النفقات الرأسمالية التي تدر تدفقات نقدية مستقبلية.
يمكن أن تكون الأرقام المرتبطة بالأصول والالتزامات المفقودة هائلة، وفي البلدان الأربعة والعشرين التي يقدم لنا صندوق النقد الدولي قواعد بيانات حديثة بشأنها للفترة من 2020 الى 2021 تتراوح أصول القطاع العام من 88% من الناتج المحلي الإجمالي إلى أكثر من 800%. (يعكس الرقم الأخير الموارد المعدنية وموارد الطاقة في منغوليا).
ولكن هذه تقديرات إحصائية وليست نتاج أنظمة محاسبية على أساس الاستحقاق وتتراوح الأصول الثابتة ــ البنية التحتية إلى حد كبير ــ بين 23% إلى 188% من الناتج المحلي الإجمالي، ومن الممكن أن تكون الأصول المالية كبيرة كما هو الحال في النرويج حيث حولت الحكومة قسماً كبيراً من ثرواتها المتعلقة بالمعادن والطاقة إلى حيازات من الأصول المالية والتي تقدر قيمتها الآن بنحو 450% من الناتج المحلي الإجمالي. وعلى الرغم من أن اليابان لديها أعلى نسبة من الالتزامات الحكومية مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي في عينة صندوق النقد الدولي (369.2% في عام 2020) إلا أن أصولها أعلى من ذلك حيث تصل الى 378.2% من الناتج المحلي الإجمالي، مما يجعلها تتمتع بصافي ثروة إيجابية في القطاع العام. إن هذا الأمر لا ينطبق على المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة الأمريكية أو أي دولة أخرى من دول مجموعة السبع باستثناء كندا. علاوة على ذلك، فإن من المرجح أن بيانات صندوق النقد الدولي تقلل من قيمة الأراضي المملوكة للقطاع العام حيث عادة ما يكون العقار أكبر فئة أصول منفردة في أي اقتصاد وعادة ما تكون الحكومات أكبر ملاك العقارات وبفارق كبير في كثير من الأحيان، ومع ذلك فإن العديد من الحكومات تعلن عن حيازات عقارية صغيرة (أو حتى صفر حيازات) علمًا أنه من بين تلك الحكومات التي تعلن عن حيازات الأراضي يبلغ متوسط القيمة حوالي 25٪ فقط من الناتج المحلي الإجمالي.
إن الأصول التجارية العامة (الأصول التي يمكن أن تدر دخلاً إذا تمت إدارتها بشكل احترافي) لا يتم الإفصاح عنها بشكل كافٍ في كثير من الأحيان أو لا يتم الإفصاح عنها على الإطلاق وحتى ما يتم الإفصاح عنه فمن المرجح أن يتم التقليل من قيمته وذلك بسبب عدم تمتع الإدارة في الغالب بالاحترافية. أما في الولايات المتحدة الأمريكية فتمتلك الحكومة الفيدرالية ما يقرب من ثلث إجمالي الأراضي أي حوالي 640 مليون فدان. إن وزارة الدفاع الأمريكية، على سبيل المثال، تدير 26 مليون فدان تتكون من قواعد عسكرية وميادين تدريب وغيرها. يدير فيلق المهندسين بالجيش الأمريكي ربع قدرة الطاقة الكهرومائية الأمريكية وأكثر من 4300 منطقة ترفيهية وشواطئ وأنظمة مياه وصرف صحي محلية. لا تمثل الميزانية العمومية لحكومة الولايات المتحدة الأمريكية سوى جزء صغير جداً من الأراضي التي تمتلكها. إن من الأمثلة الأخرى على الثروة العامة المخفية والتي يتم تقديرها بأقل من قيمتها الحقيقية هي العقارات الحضرية المملوكة للقطاع العام علمًا أن القطاع العام هو المالك المهيمن للعقارات في كل مدينة أمريكية كبرى، حيث يسيطر على ما لا يقل عن نصف سوق العقارات، والذي غالبًا ما يعادل بالقيمة العادلة الناتج الاقتصادي السنوي للمدينة. إن الفشل في حساب هذه الأصول وإدارتها بشكل غير احترافي يمكن أن يتسبب في ضرر دائم لقدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها تجاه الأجيال الحالية والمستقبلية بما في ذلك من خلال تقويض العمل المناخي. أما التزامات القطاع العام فهي تتراوح بين نحو 80% إلى 370% من الناتج المحلي الإجمالي في عينة صندوق النقد الدولي كما تمثل سندات الدين حوالي 60% من الناتج المحلي الإجمالي ــ وحوالي 34% من إجمالي الالتزامات ــ في المتوسط، ويبلغ متوسط التزامات معاشات التقاعد في القطاع العام 40% من الناتج المحلي الإجمالي. لقد سجلت 8 من البلدان الأربعة والعشرين - بما في ذلك 5 دول من مجموعة السبع - صافي قيمة سلبية في القطاع العام للفترة 2020-2021.
لذا يتعين على السلطات المالية أن تبدأ في عمل ميزانيات عمومية تقليدية تقدّم تقديرات يمكن التعويل عليها بشكل أكبر لصافي القيمة التقليدية والتي يمكن أن تكون سلبية، ومن أجل إدارة الأصول والالتزامات بشكل فعال، يجب على تلك السلطات كذلك عمل ميزانيات عمومية شاملة (أو قيود الميزانية التي تأخذ بالاعتبار الحاضر والمستقبل) والتي تشمل القيمة التي يتم خصمها حاليًا لتدفقات الإيرادات غير التعاقدية المتوقعة في المستقبل مثل الضرائب (الأصول الضمنية) والنفقات مثل إعانات الضمان الاجتماعي (الالتزامات الضمنية). إن هذا من شأنه أن يُظهِر صافي القيمة الشاملة للحكومة ــ والتي على عكس صافي القيمة التقليدية، لا ينبغي أن تكون سلبية لو أردنا تجنب الإعسار العادل أو إعسار التدفق النقدي (عدم القدرة على تلبية الالتزامات المالية التعاقدية عندما تصبح مستحقة). إن المخاطر كبيرة وكما أظهرت دراسة أجراها صندوق النقد الدولي عام 2021، فإن استقراء السياسات الحالية للإنفاق العام والإيرادات الضريبية غالبا ما يؤدي إلى صافي قيمة سلبية شاملة وهذا يعود في كثير من الأحيان الى شيخوخة السكان. وبعبارة أخرى، ما لم تعد الحكومات النظر في معاييرها المحاسبية، فقد ينتهي بها الأمر إلى دفع ثمن باهظ نتيجة لذلك.
ويليم إتش. بويتر كبير الاقتصاديين السابق في سيتي بنك والعضو السابق في لجنة السياسة النقدية في بنك إنجلترا، وهو مستشار اقتصادي مستقل.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: من الناتج المحلی الإجمالی الناتج المحلی الإجمالی فی صندوق النقد الدولی الولایات المتحدة فی القطاع العام للقطاع العام یمکن أن أن تکون عادة ما من أجل إن هذا
إقرأ أيضاً:
تريليون دولار خسائر أوكرانيا من الحرب فما تداعياتها على الاقتصاد؟
سقط اقتصاد أوكرانيا سريعا كأول ضحايا الحرب الروسية، ولا يزال يئن من التداعيات الكارثية في ختام عامها الثالث. فالأرقام المعلنة على مختلف المستويات الحكومية والمتخصصة مهولة، ولا تبشر بانتعاش قريب.
وقد تجاوزت الخسائر المباشرة، بحسب دراسة أجراها معهد كييف للاقتصاد بالتعاون مع البنك الوطني والوزارات المعنية، 88 مليار دولار، لكنه رقم لا يأخذ بعين الاعتبار حجم الضرر الذي لحق بقطاعات البنية التحتية والسكن والخدمات التعليمية والطبية والاجتماعية وغيرها.
أما الخسائر غير المباشرة، بحسب المعهد، فقد تجاوزت حاجز التريليون دولار الذي توقعه البرلمان بداية الحرب، إذا بلغت نهاية العام الماضي 1.164 تريليون دولار، منها 170 مليار دولار للبنية التحتية وحدها.
أكبر الخسائر التي سببتها هذه الحرب تتعلق بالقطاعات الإنتاجية:
أولها التجارة التي فقدت 450.5 مليار دولار. ثم الصناعة والبناء بنحو 410 مليارات. تليها الزراعة بما يقارب 83 مليارا. كما تكبد قطاع الطاقة -الذي ركزت روسيا ضرباتها عليه خلال العامين الماضيين- خسائر تجاوزت 43 مليار دولار. وجاء بعده قطاع النقل بخسائر تبلغ نحو 39 مليارا. ويأتي بعده قطاع الرعاية الصحية بنحو 11.4 مليار دولار من الخسائر. يليه قطاع التعليم بنحو 14.5 مليارا. ثم السياحة بواقع 7.3 مليارات دولار. إعلان أعباء فرضتها الحربوإلى جانب ما سبق، فرضت الحرب أعباء كبيرة على الاقتصاد الأوكراني في مجالات جديدة، على رأسها إزالة الألغام التي استحوذت خلال 3 سنوات على 42 مليار دولار، وكذلك إسكان النازحين والمدمرة بيوتهم بنحو 22.4 مليارا.
كما اضطرت الحكومة لصرف 10 مليارات على المعونات الاجتماعية، وأنفقت 13.4 مليارا على إزالة المباني المدمرة وغيرها من مخلفات القصف الروسي.
عجز الناتج المحلييعجز الناتج المحلي الأوكراني عن تحمل ما سبق، فقد هوت مؤشراته بداية الحرب بنسبة قاربت 35%، ثم تحسنت نوعا ما بعد خروج الروس من 6 مقاطعات، واستقرت مع تراجع يقارب 15%، بحسب وزارة المالية.
ويوضح أوليكسي بلينوف خبير الاقتصاد بموقع "فوربس أوكرانيا" بالقول "يبلغ الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لأوكرانيا الآن حوالي 3 أرباع مستوى ما قبل بداية الحرب عام 2022، وقد أدت الحرب إلى زيادة نفقات الميزانية بنحو 70% يتحملها الناتج المحلي".
ويضيف في حديث للجزيرة نت "وفقا لتوقعات مختلفة، وصل الدين العام عام 2024 إلى نحو 90-99% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي (نحو 184.3 مليار دولار)".
وكان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قد قال إنه بلاده تحتاج شهريا 5 مليارات دولار للتعامل مع الحرب وتداعياتها، في إطار ميزانية تعتمد بنسبة 41% على المساعدات الخارجية.
تراجع صناعي زراعيتراجع قطاعا الزراعة والصناعة تاركين أكبر الأثر على حجم الناتج المحلي، إذ كانا يشكلان 12.2% و28.6% من قيمته على التوالي.
وتقول خبيرة الاقتصاد أولينا بيلان "إنتاج الصلب تراجع 3 مرات بحكم احتلال أراضي جنوب شرق أوكرانيا، التي تضم 70% من مناجم ومصانع البلاد، وحجم الصندوق الزراعي تقلص بواقع الربع".
وتضيف للجزيرة نت "على سبيل المثال، أوكرانيا كانت تنتج 20-21 مليون طن من الصلب كل عام، واحتلت بذلك المرتبة 12 إلى 14 في الترتيب العالمي، لكن إنتاجها تراجع قرابة 3.5 مرات، وانتقلت بذلك إلى المركز 20 عالميا".
إعلانأما في المجال الزراعي، فتقول بيلان "حوالي 20% من الأراضي الأوكرانية محتلة، والقصف مستمر على أراضي باقي المقاطعات، كما أن موانئ التصدير على البحر الأسود محاصرة منذ 3 سنوات".
يلمس الأوكرانيون أثر الحرب على اقتصاد بلادهم والجيوب يوميا، فقيمة عملتهم الوطنية (هريفنيا) هوت على مدار 3 سنوات إلى نحو 42 هريفنيا مقابل الدولار الواحد، بدلا عن 26.5 بداية 2022.
ورغم رفع متوسط الدخل من 15 ألف هريفنيا قبل الحرب إلى نحو 23 ألفا نهاية 2024، بقيت الرواتب عند حدود 550 دولارا، ولكن مع زيادة حادة في نسب التضخم، وصلت 12% العام الماضي وحده، بعد أن بلغت قرابة 7% عام 2023، والعام الذي قبله بلغت 26.6% بحسب وزارة المالية.
أما الشركات الصغيرة والمتوسطة، التي تشكل العمود الفقري للاقتصاد الأوكراني، وتوفر 74% من الوظائف، فقد توقفت نسبة 9.6% منها عن العمل نهائيا، وبلغت خسائر النسبة الباقية نسبا قاربت 56% من قيمتها السوقية، في وقت استعادت نسبة 27% منها فقط مستوى أرباح ما قبل الحرب.
وعلى مدار 3 سنوات، ارتفعت نسبة البطالة في البلاد بواقع الضعف تقريبا، بعد أن كانت عند حدود 10.1% نهاية عام 2021، وفق خدمة التوظيف الحكومية.
تشاؤم وبصيص أملوبناء على ما سبق، تتشكل صورة قاتمة متشائمة للمشهد الاقتصادي في أوكرانيا التي يقول مسؤولوها إنها بحاجة إلى "خطة مارشال" لإعادة الإعمار بما لا يقل عن 500 مليار دولار بعد الحرب.
وتقول الخبيرة بيلان للجزيرة نت "دون شك، عام 2025 سيكون صعبا على الاقتصاد، لأن المساعدات الخارجية أصبحت أقل، مع شروط كثيرة تلمح إليها إدارة ترامب في الولايات المتحدة".
لكنها ترى مؤشرات إيجابية، وتضيف "حقق الناتج المحلي نموا بنسبة 3.6% عام 2024، وتراجع انكماش الاقتصاد من 50% منتصف 2022 إلى نحو 33% اليوم. كما زادت الميزانية عما كانت عليه بداية الحرب، لكن الدعم الخارجي لها تراجع من 60 إلى 40% خلال 3 سنوات".
إعلانومن وجهة نظر الخبيرة، فإنه "مقارنة ببريطانيا التي لم تخسر شيئا من أراضيها خلال الحرب العالمية الثانية، وتراجع ناتجها المحلي بنسبة 30%، فإن المؤشرات الأوكرانية ليست في غاية السوء، خاصة وأننا مازلنا نعيش الحرب، وتحتل روسيا 20% من أراضينا".
وتختم بقولها "هذه المؤشرات تدل على أننا سنكون قادرين على التعافي خلال 4-5 أعوام بعد نهاية الحرب".