لقد كان ذلك التَّدشين الآسر للألباب في غاية الأبَّهة، والاختيال الطَّاووسي، والبذخ البروتوكوليِّ الإنجليزي المستميت في شكليَّاته الزُّخرفيَّة وبهرجيَّته اللامعة بأدق التَّفاصيل. وقد كان ذلك متساوقًا في اقترانٍ طبيعيٍّ بجلالٍ إمبراطوري مهيب كان لا يزال يصرُّ على اعتمار المجد المُرَصَّع بالحنين إلى بقاع شاسعة من الأرض، حيث أُبيدَ عدد هائل من البشر الذين يبدو أنهم كانوا هناك بمحض المصادفة السيَّئة فحسب (1).

كان ذلك التَّدشين الذي لا تنساه الذاكرتان السياسيَّة والسِّينمائيَّة الغربيَّتان هو العرض الافتتاحي للملحمة السِّينمائيَّة «لورَنس العَرَب» من إخراج السّير ديفِد لين David Lean (2). وقد حدثت المناسبة المجيدة والهائلة -- للمفارقة -- في ذات الوقت الذي كانت فيه أرجاء واسعة من المعمورة تتحرَّرُ بنضال أبنائها ودمائهم من نير الكولونياليَّة، وتتطلع بأشواقها إلى غدها، واستعادة ثرواتها وتاريخها وهويَّتها، وتقرير مصيرها، بما في ذلك بلدان في العالم العربي الذي تكالبت عليه الكولونياليَّة الغربيَّة شرقًا وغربًا.

حدث ذلك العرض الاستعراضي في تاريخ مشهود هو مساء يوم الأحد، التَّاسع من ديسمبر 1962. وقد كان الأمر مناسبة استثنائيَّة في تاريخ الإمبراطوريَّة، وكتابتها (inscription) التأريخيَّة عبر الأداة السينمائيَّة، واستحضار ماضيها، وحاضرها، وآماد مستقبلها

(3). وحقًّا، لقد كان للمناسبة السِّينمائيَّة الفخمة أن تكون ممهورة بتوقيعٍ سياسيٍّ كولونياليٍّ وإمبرياليٍّ صريح للغاية منذ البداية.

ما حدث، في بريطانيا (العظمى) وفي ما وراء ذلك، إذن، هو أنه جرى التَّعامل مع الأمر باعتباره حدثًا وطنيًّا ضخمًا ومضمَّخًا برائحة الإمبراطوريَّة، وأمجادها، وذاكرتها. وبالتالي فإن من رعى ذلك الحدث المحفور في ذاكرة التَّاج لم يكن أقل من الرَّمز الإمبراطوري الأول، الملكة إِلِزَبِث الثَّانية Elizabeth II شخصيًّا، وكان من ضمن الحاضرين زوجها الأمير فِلِب Prince Philip، دوقُ أدنبَره، إضافة إلى أكثر من ألفي ضيف من وجهاء القوم السِّياسيين، والعسكريِّين، والثَّقافيين، والاجتماعيِّين، وغيرهم من نُخَب. وقد حدث التَّدشين الملكي الصَّارخ للفيلم في مسرح أوديُن المهيب الذي لا تُقام فيه سوى المناسبات الجليلة، وذلك عقب «الإثارة الصحفيَّة التي لم يولِّدها قَطُّ في بريطانيا أي فيلم من قبل» (4). ما حدث في بداية المناسبة المهيبة كان تذكيرًا طقوسيًّا بالتَّقاليد والمناسبات الإمبراطوريَّة العتيدة، فقد «عَزَفَ حرس الخيول الملكيِّ لحنًا مُبَوَّقًا لحظة أن دخلت الملكة وحاشيتها إلى المسرح، وهتفت فرقة من الحرس الويلزيِّ بالنَّشيد الوطنيِّ... حاول المئات شراء تذاكر حتى وقت رفع ستارة الشَّاشة على الرغم من وجود لافتات عملاقة تقول إن التَّذاكر قد نفدت. آلاف غيرهم تسكَّعوا عند مدخل «مسرح» أوديُن خلال العرض، وذلك في انتظار مشاهدة الملكة وضيوفها وهم يغادرون بعد وقت طويل من منتصف الليل» (5).

-------------------------

(1): نشرت هذه الدراسة بالإنجليزيَّة في الأصل:

Abdullah Habib Almaaini, You Are an Interesting Man:” Gender, Empire, and Desire in David Lean’s Lawrence of Arabia” in Swinging Single: Representing Sexuality in the 1960s, ed., Hilary Radner and Moya Luckett (London: University of Minnesota Press, 1999), 77-102.

وأنشر هنا ترجمتي للمادة إلى العربيَّة مع قليل من التعديل والإضافة اللذين اجتهدت أنهما قد يكونان ذوَيْ نفع للقارئ العربي.

(2): في التَّقاليد البريطانيَّة المتبقيَّة منذ الحقبة الإمبراطوريَّة لا يمنح لقب «سير» (Sir) إلا لأشخاص استثنائيين، ويحدث ذلك مرتين في السَّنة بموجب مرسوم ملكي. وقد منح لين (25 مارس/آذار 1908--16 أبريل 1991) هذا اللقب في 30 أكتوبر 1984، وذلك تقديرًا لإسهاماته وخدماته في مجال الفنون. لمزيد من المعلومات حول ذلك في ما يخص لين، انظر:

Kevin Brownlow, David Lean (New York: Wyatt Books, 1996), 690.

(3): هذا ثَبْتٌ بالجهات والأشخاص المشاركين من ممثِّلين، وفنيِّين، وغيرهم من المشاركين في صناعة الفيلم. وهو ثبتٌ ليس كاملاً، بل تمثيلي لغرض الاختصار. ومصدر الثَّبت هو الفيلم نفسه والأدبيَّات الموثوقة عنه، سواء ما ظهر من الأسماء في «تترات» العمل أو لم يظهر. عُرض هذا الفيلم (35 ملم) بعدة نسخ متفاوتة المدَّة، وذلك لأسباب تجاريَّة وسياسيَّة، وقد شاهدْتُها جميعا. لغرض هذه الدراسة اعتمدت نسخة العام 1962 الأصليَّة وغير المحذوف منها شيء (222 دقيقة)، والتي أعيد تسويقها اعتبارا من العام 1989. صُوِّر الفيلم في مواقع في بريطانيا، والأردن، والمغرب، وإسبانيا. الإنتاج: Horizon Pictures. إصدار الإنتاج وتوزيع الفيلم: Columbia Pictures. المُنتِج:.Sam Spiegel المخرج: David Lean. السيناريو: Wilson Michael Robert Bolt. السينماتوغرافيا: Fred A. Young. المونتاج: Anne V. Coates. تصميم الإنتاج: John Box. الموسيقى الأصليَّة:.Maurice Jarr الإخراج الفنِّي: John Stoll and Anthony Masters. الدِّيكور: Dario Simoni. تصميم الأزياء: Phyllis Dalton. المكياج: Charles E. Parker. إدارة الإنتاج: John Palmer and R. L. M. Davidson, Tadeo Villalba. إدارة الموقع: Douglas Twiddy. (تي إي لورَنس) لورَنس العرب: Peter O’Toole. الأمير فيصل: Alec Guinness. الشَّريف علي: عمر الشّريف. ماجد: جميل راتب. عودة أبو (طائي) تايه: Anthony Quinn. الجنرال أللنبي: Jack Hawkins. السَّيد دريدن: Claud Rains. جاسم: I. S. Johar. فَرَج: Michel Ray. داود: John Dimech. الضَّابط التُّركي: Jose Ferrer. الطَّيار التُّركي: Tim Clutterbuck. الرَّقيب التُّركي: Fernando Sancho. جاكسُن بنتلي: Arthur Kennedy. السَّاقي في نادي الضُّباط في القاهرة: Cyril Shaps. المُمرِّضة: Barbara Cole. سائق الشَّاحنة: Roy Stevens. جندي الدَّرَّاجة الناريَّة: Steve Birtles. طَفَس: ضياء محي الدين. مايكل جورج هارتلي: Ian MacNaughton. مقرئ القرآن في خيمة الأمير فيصل: Henry Oscar. العريف جنكنز: Norman Rossington. اثنان من المُعَزِّين في كاتدرائيَّة سانت بول: Victor Croxford and Norman Fisher.

(4): Mandel Herbstman, Lawrence of Arabia Film Daily, December 17, 1962, 6.

(5): نفس المصدر السَّابق.

عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من الم

إقرأ أيضاً:

استطلاع: غالبية الجمهور في إسرائيل لا تثق بتحقيقات الجيش

أظهر استطلاع إسرائيلي نشره "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، وشمل 805 مستطلعين يهود و201 عرب.، واسع تراجعا بنسبة 5.5% في ثقة الجمهور في إسرائيل بالجيش الإسرائيلي وقيادته العليا، وانخفضت نسبة الذين عبروا عن ثقة مرتفعة بالجيش من 74.5% في كانون الأول/ديسمبر إلى 69% في كانون الثاني/يناير الحالي. وتراجعت هذه الثقة بالأساس في الجمهور اليهودي وبلغت 8%.

إلى جانب ذلك، استمر تراجع مستوى الثقة المرتفع برئيس أركان الجيش الإسرائيلي، هيرتسي هليفي، للشهر الثالث على التوالي، وكذلك ببيانات المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي.

ولا يزال مستوى الثقة بالحكومة ورئيسها، بنيامين نتنياهو ، ووزير الأمن، يسرائيل كاتس، متدنيا، حيث عبر عن ثقة مرتفعة بالحكومة 23% من اليهود و9% من العرب؛ وبنتنياهو 33% من اليهود و7% من العرب؛ وبكاتس 26% من اليهود و9% من العرب.

وإثر الخلاف العلني بين كاتس وهليفي، اعتبر 45% من اليهود و29% من العرب أن هليفي مخوّل بتنفيذ تعيينات في مناصب في الجيش حاليا، بينما قال 34% من اليهود و18% من العرب أنه مخول بتنفيذ تعيينات ضرورية لإشغال مناصب شاغرة. وأيد 39% من اليهود و25% من العرب موقف كاتس بأن هليفي ليس مخولا بتنفيذ أي تعيين.

وعبر 50% من اليهود و56% من العرب عن ثقة متدنية أو منخفضة حيال طبيعة التحقيقات التي يجريها الجيش الإسرائيلي بشأن إخفاق 7 أكتوبر.

وقال 61% من اليهود و31% من العرب إنهم متأكدون أو يعتقدون أن الجيش الإسرائيلي سينتصر في الحرب على غزة ، وهذا المعطى يشكل تراجعا عن النسبة في الشهر الماضي، التي كانت 74% بين اليهود و29% بين العرب.

واعتبر 47% من اليهود و19% من العرب أن إسرائيل ستحقق أهدافها في الحرب على غزة بكاملها أو بمعظمها، بينما كانت هاتين النسبتين، الشهر الماضي، 60% بين اليهود و22% بين العرب. وعبر 51% من اليهود و18% من العرب عن رضاهم من "الإنجازات العسكرية في غزة".

وعبر 64% من اليهود و82% من العرب عن تأييدهم لاتفاق تبادل الأسرى، بينما عارض الاتفاق 18% من اليهود و3% من العرب.

وعلى إثر اتفاق وقف إطلاق النار، يعتقد 41% من اليهود و80.5% من العرب أنه حان الوقت لإنهاء الحرب على غزة، بينما ادعى 46% من اليهود و3.5% من العرب أنه لم يحن الوقت لإنهاء الحرب. واعتبر 59% من اليهود و28% من العرب أنه سيكون بإمكان الجيش الإسرائيلي استئناف الحرب، ويعتقد عكس ذلك 34% من اليهود و44% من العرب.

وقال 58.5% من اليهود و52% من العرب إنهم راضون بشكل كبير أو كبير جدا من إنفاذ اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله في لبنان، وأشار 50% من اليهود و62% من العرب إلى أنهم يعلمون أنه يتعين على الجيش الإسرائيلي الانسحاب من جنوب لبنان كي ينتشر الجيش اللبناني في هذه المنطقة. وادعى 23% من اليهود و6% من العرب أنهم اعتقدوا أن الحرب ستُستأنف بعد 60 يوما من وقف إطلاق النار، أي بعد غد الأحد، وهو موعد انسحاب الجيش الإسرائيلي.

ويعتقد 40% من اليهود و50% من العرب أن الواقع الأمني يسمح بعودة السكان إلى بلداهم في الشمال، فيما اعتبر 45% من اليهود و23% من العرب أن الواقع الأمني لا يسمح بذلك.

وقال 52% من اليهود و43.5% من العرب إن على الحكومة الإسرائيلية العمل من أجل إقامة "علاقات مباشرة" مع سورية في أعقاب إقامة نظام جديد فيها؛ واعترض على ذلك 8% من اليهود و7% من العرب، بينما قال 20% من اليهود و11.5% من العرب إنهم يعتقدون بشكل ضئيل أنه ينبغي إقامة علاقات مباشرة.

واعتبر 63% من اليهود و21.5% من العرب أن الدور التركي المتزايد في سورية يشكل تهديدا على إسرائيل. وقال 36% من اليهود و61% من العرب إن على الحكومة الإسرائيلية العمل من أجل تحسين العلاقات مع تركيا، ويعتقد 51% من اليهود و15% من العرب بقدر ضئيل بشأن تحسين العلاقات مع تركيا.

وعبر 69% من اليهود و33% من العرب عن قلقهم من محاولات أجنبية، من جانب روسيا وإيران على سبيل المثال، لتقويض التضامن الاجتماعي في إسرائيل من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، بينما قال 26% من اليهود و41% من العرب إنهم غير قلقين من محاولات كهذه.

ويعتقد 28% من اليهود أن شعور التضامن الاجتماعي في إسرائيل تعزز، بينما يعتقد 37% أن هذا الشعور تراجع، واعتبر 24% أن هذا الشعور لم يتغير. إلا أن 63% أفادوا بأنهم قلقون حيال الوضع الاجتماعي الإسرائيلي في اليوم التالي للحرب على غزة.

وأفاد 33% من اليهود و17% من العرب بأن لديهم شعور بالأمن مرتفع، فيما قال 48% من اليهود ة43% من العرب إن شعورهم بالأمن متوسط، بينما أشار 18% من اليهود و30% من العرب إلى أن شعورهم بالأمن منخفض

واعتبر 70% من اليهود و52% من العرب أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، سيعمل لمصالحة المصالح الأمنية الإسرائيلية بقدر مرتفع، بينما قال 19% من اليهود و23% من العرب إن ترامب سيفعل ذلك بقدر منخفض.

وفي موازاة الاستطلاع أعلاه، نشر "معهد أبحاث الأمن القومي" استطلاعا آخر شمل مستطلعين يهود حول استقالة رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، هيرتسي هليفي، وتبين منه أن الاستقالة لا تدل على نهاية الحرب، بينما يعتقد 12% أن تشكل نهاية للحرب.

وقال 74% إنهم يصدقون أقوال هليفي في رسالة استقالته بأن "الجيش الإسرائيلي سجل إنجازات كبيرة"، واعتبر 17% أن الجيش الإسرائيلي حقق أهداف الحرب.

وعبر 54% عن قناعتهم بقدر ضئيل أو ضئيل جدا بأن تعيين رئيس أركان الجيش القادم سيستند إلى اعتبارات مهنية فقط، بينما اعتبر 38% أن التعيين سيتم بقدر كبير أو كبير جدا استنادا إلى اعتبارات مهنية فقط.

وعلى إثر موجة استقالات كبار الضباط، يعتقد 50% أنه يجب أن يحدد قريبا موعدا لتبكير الانتخابات العامة، بينما يعتقد 41% عكس ذلك. ويوافق 76% على أنه يجب تشكيل لجنة تحقيق رسمية في أحداث 7 أكتوبر، بينما لم يوافق 19% على ذلك.

وعبر 79% عن ثقة كبيرة أو كبيرة جدا بالجيش الإسرائيلي، مقابل 20% الذي عبروا عن ثقة بقدر ضئيل أو عدم ثقة بتاتا بالجيش الإسرائيلي.

المصدر : وكالة سوا اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد المزيد من الأخبار الإسرائيلية حكومة نتنياهو توعز للجيش بألا ينسحب من القطاع الشرقي بجنوب لبنان مكتب نتنياهو: تم إطلاع أهالي الأسرى على الاستعدادات لمفاوضات المرحلة الثانية إسرائيل: المستشارة القضائية للحكومة تطالب بتعيين رئيس للمحكمة العليا الأكثر قراءة "الكابنيت" يُصادق رسميا على صفقة غزة وتنفيذها يبدأ الأحد قبل يومين من وقف إطلاق النار بغزة.. طالع حصيلة الشهداء والجرحى الصحة العالمية تخطط لإدخال مُستشفيات جاهزة إلى غزة تفاصيل اجتماع فلسطيني أوروبي بشأن غزة بعد الحرب عاجل

جميع الحقوق محفوظة لوكالة سوا الإخبارية @ 2025

مقالات مشابهة

  • استطلاع: غالبية الجمهور في إسرائيل لا تثق بتحقيقات الجيش
  • إلى العرب والأجانب الموجودين في لبنان.. اعلان مهم من الأمن العام
  • المتصهينون العرب وانتصار المقاومة الفلسطينية
  • رسالة إلى «غزّة» في صمودها
  • شوبير يعلق على هدف إمام عاشور.. شاهد
  • حسين خوجلي يكتب: أسدٌ وصقرٌ ورتبة
  • ترامب ومشاريع الإعمار
  • ما خسرته إيران ربحه العرب
  • هكذا أثّر ترف الحضارة على عناوين كتب العرب
  • انتصرت غزة.. وانهزمت حكومات العرب..!!