لقاء كوهين المنقوش.. ماذا الذي تبحث عنه إسرائيل في ليبيا؟
تاريخ النشر: 3rd, September 2023 GMT
أثارت الكشوفات التي قدمها وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين، حول اللقاء الذي جرى في روما الأسبوع الماضي بينه وبين وزيرة الخارجية الليبية، نجلاء المنقوش، وبمشاركة وزير الخارجية الإيطالي، إنطونيو تاجاني، ردود فعل غاضبة من قبل الجمهور في ليبيا. هذا الغضب دفع رئيس الحكومة الليبية، عبد الحميد الدبيبة، إلى اتخاذ قرار بإقالة المنقوش من منصبها.
وفي المقابل، فقد وجهت المعارضة ووسائل الإعلام الإسرائيلية انتقادات شديدة لكوهين الذي سارع إلى الكشف عن اللقاء بدون التنسيق مع الليبيين من أجل التدليل على تحقيق حكومته إنجازات على الصعيد الخارجي.
وقد بررت المحافل الرسمية الإسرائيلية ذلك بأن اللقاء الثلاثي تم بتنسيق مسبق مع "الدوائر السياسية العليا" في طرابلس وأنه لم يكن ناتجًا عن مبادرة شخصية من المنقوش. وفي هذا السياق، نقلت صحيفة "هآرتس" في عددها الصادر اليوم، الثلاثاء، عن تلك المحافل قولها إن اللقاء بين كوهين والمنقوش كان من المفترض أن يكون مجرد حلقة في مسار يهدف، مستقبلاً، إلى التطبيع الكامل بين الطرفين.
ورغم الردة الغاضبة التي اندلعت في ليبيا عقب الإعلان عن اللقاء بين المنقوش وكوهين، تبين وجود إرث من العلاقات السرية التي كانت تربط إسرائيل بالحكومة التي تدير منطقة شرق ليبيا، والتابعة لخليفة حفتر، وبمستوى أقل مع حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة.
كشفت صحيفة "هآرتس" في نوفمبر 2021 أن صدام، نجل حفتر، زار إسرائيل بهدف طلب المساعدة العسكرية للقوات التي يقودها والده
تاريخ العلاقات الليبية الإسرائيليةبعد إسقاط نظام حكم القذافي، سعت إسرائيل إلى الاتصال بالحكومتين اللتين تتنافسان على تمثيل الليبيين، في بنغازي، وحكومة طرابلس التي تحظى بالدعم الدولي.
وقد عملت إسرائيل على إدارة الاتصالات مع فرقاء الساحة الليبية عبر 3 قنوات رئيسة، وهي:
القناة التي دشنها رفائيل لوزون رئيس "اتحاد يهود ليبيا". القناة التي دشنها مجلس الأمن القومي في ديوان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أثناء ترؤسه الحكومة السابقة. القناة التي أدارها جهاز الموساد.وحسب ما نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت"، فقد نظم لوزون في يونيو/حزيران 2017 لقاءً، في جزيرة رودس اليونانية، بين وفدين من إسرائيل وليبيا. وضم الوفد الإسرائيلي:
غيلا غملئيل، التي كانت تشغل منصب وزيرة المساواة الاجتماعية وتشغل حاليًا منصب وزيرة الاستخبارات، وزير الاتصالات أيوب قر، نائب رئيس الكنيست يحئيل بار، يوف توف ساميا الذي كان قائدًا للمنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال. وغملئيل وساميا ولدا لعائلتين هاجرتا من ليبيا.
ورأس الوفد الليبي وزير الإعلام والثقافة في حكومة الشرق الليبي عمر القويري.
وحسب ما نقلته "يديعوت أحرونوت"، فقد تحدث أحد أعضاء وفد حكومة الشرق الليبي خلال اللقاء عن "حق اليهود الليبيين بالعودة إلى ليبيا والحصول على تعويضات عن الممتلكات التي خسروها". وكما ذكر موقع "تايمز أوف إسرائيل" (TIMES OF ISRAEL)، فقد بارك رئيس "حكومة الإنقاذ" في طرابلس في ذلك الوقت خليفة الغويل اللقاء في رسالة بعث بها إلى المجتمعين.
أما على صعيد قناة الاتصال التي أدارها "مجلس الأمن القومي" الإسرائيلي، فقد أشرف عليها رونين ليفي، الضابط السابق في جهاز المخابرات الداخلية "الشاباك"، والذي يشغل حاليًا منصب وكيل الخارجية. وحسب الصحيفة، فقد لعب سفير إسرائيل الحالي في ألمانيا رون فراوشر، الذي كان وكيلا للخارجية السابق أيضًا، دورًا مهمًا في بناء شبكة علاقات سرية مع الأطراف الليبية.
وقد كان من الواضح أنه حتى تشكيل حكومة وحدة الوطنية بزعامة عبد الحميد الدبيبة، تركزت الجهود الإسرائيلية على الاتصال برجل الشرق الليبي القوي خليفة حفتر. فقد كشفت صحيفة "هآرتس" في نوفمبر/تشرين الأول 2021 أن صدام (نجل حفتر) زار إسرائيل بهدف طلب المساعدة العسكرية للقوات التي يقودها والده. وأشار تقرير لصحيفة "معاريف" الإسرائيلية إلى أن حفتر يرتبط بعلاقة وثيقة بجهاز الموساد، المسؤول عن إدارة العمليات الاستخبارية الإسرائيلية في الخارج.
وتدل تسريبات الصحافة الإسرائيلية -بعد الكشف عن لقاء كوهين المنقوش- أن إسرائيل عبر جهاز الموساد أجرت اتصالات مباشرة مع أطراف في حكومة عبد الحميد الدبيبة، وهو ما مهد الطريق للقاء الأخير بين كوهين والمنقوش.
ومما يدلل على الاتصالات، بين الموساد وحكومة الدبيبة، حقيقة أن قناة التلفزة "كان" التابعة لسلطة البث الإسرائيلية كشفت مساء الأحد الماضي أن قيادة "الموساد" غاضبة جدا من كشف كوهين خبر لقائه بالمنقوش، على اعتبار أن هذا الكشف يمكن أن يؤثر على مستقبل العلاقات بين الجهاز وحكومة طرابلس.
ولكن إسرائيل التي تبدي حاليا حرصا على فتح قنوات اتصال مع الأطراف الليبية، عملت في الماضي عسكريا واستخباريا بشكل سري داخل ليبيا. فحسب ما ذكرته "هآرتس" في عددها الصادر اليوم الثلاثاء، فقد نفذ جهاز الموساد وشعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية "أمان" ووحدة الكوماندوز البحري، المعروفة بـ "القوة 13" في ثمانينيات القرن الماضي عمليات سرية في عمق الأراضي الليبية لجمع المعلومات الاستخبارية، عبر زرع أجهزة تنصت، ونفذت مهام تهدف إلى إحباط عمليات كان تخطط لها جماعات فلسطينية وجدت على الأراضي الليبية وحظت بدعم النظام السابق.
المصالح الإسرائيلية في ليبياتهدف إسرائيل إلى تحقيق جملة من الأهداف الإستراتيجية والأمنية من خلال فتح قنوات الاتصال مع الفرقاء في الساحة الليبية. وإن أكثر ما أثار القلق في الدوائر الأمنية والعسكرية الإسرائيلية هو حقيقة أن ليبيا تحولت بعد سقوط نظام القذافي إلى مصدر رئيسي لتزويد حركات المقاومة في قطاع غزة بالسلاح، حيث كان يتم تهريب السلاح من ليبيا إلى مصر ومن ثم إلى قطاع غزة عبر سيناء. وحسب "هآرتس"، فقد طلبت إسرائيل من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي العمل على وقف تهريب السلاح الليبي إلى قطاع غزة.
في الوقت ذاته، تحاول إسرائيل توظيف علاقاتها بليبيا من أجل التخلص من اتفاق ترسيم الحدود المائية التي توصلت إليه حكومة "الوفاق الوطني" برئاسة فايز السراج مع تركيا. ويرجع ذلك إلى أن هذا الاتفاق منح تركيا مساحة من المياه كان من المقرر أن يمر عبرها أنبوب الغاز الذي كان سينقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا.
وقد خلص عيران ليرمان، الذي شغل في السابق منصب نائب رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي ويشغل حالياً منصب نائب رئيس "معهد يروشليم للإستراتيجية والأمن" -في دراسة أعدها قبل عام ونصف العام- إلى استنتاج مفاده أنه يتوجب على إسرائيل توظيف علاقاتها مع الأطراف الليبية من أجل الدفع نحو التخلص من اتفاق تقسيم المياه الاقتصادية مع تركيا، لأن هذا الاتفاق يجعل تصدير الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا تحت رحمة أنقرة.
وحسب ليرمان، فإن إسرائيل مطالبة أيضاً بتوظيف اتصالاتها مع الأطراف الليبية لمحاولة منع إيران من الحصول على موطئ قدم في ليبيا بشكل يمكن أن يهدد مصالح تل أبيب. ووفقًا لليرمان، فإن كلا من حفتر والدبيبة معنيان بعلاقات مع إسرائيل انطلاقاً من افتراض مفاده أن الطريق إلى واشنطن يمر بتل أبيب.
ولكن من الواضح أنه، على الرغم من سيل التسريبات حول الاتصالات السرية بين إسرائيل والفرقاء في الساحة الليبية، ليس بوسع تل أبيب تراكم الإنجازات على هذا الصعيد دون مساعدة من أطراف دولية وإقليمية أخرى، وذلك على اعتبار أن محدودية الموارد التي تحوزها إسرائيل تقلل من قدرتها على التأثير إستراتيجيًا في الساحة الليبية. فإسرائيل تعتمد بشكل أساسي على النفوذ الأميركي والأوروبي، وبشكل خاص الإيطالي، بالإضافة إلى ثقل أطراف عربية، مثل مصر والإمارات.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معناوظائف شاغرةترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: عبد الحمید الدبیبة الساحة اللیبیة جهاز الموساد فی لیبیا
إقرأ أيضاً:
قتل المدينة.. ذكريات تتلاشى في ضاحية بيروت التي دمرتها إسرائيل
بيروت، لبنان- تحتفظ زينب الديراني، مثل كثيرين من سكان الضاحية الجنوبية، بذكريات دافئة عن الحي الذي نشأت فيه، عن حفل خطوبة ابنة عمها حيث اجتمع الأهل والجيران يرقصون في الشارع أمام منزلهم في الطابق الأرضي، وعن والدها الذي كان يقصد صالون الحلاقة القريب ليحصل على حلاقة مميزة على يد إبراهيم الشهير بـ"بوب الحلاق".
لكن اليوم، لم يتبقَ من كل تلك التفاصيل سوى صور عالقة في الذاكرة، بعدما تحولت شوارع الحدث -الحي الذي ترعرعت فيه وعاشت فيه 20 عاما- إلى أنقاض بفعل القصف الإسرائيلي خلال الحرب الأخيرة.
كانت الديراني (25 عاما) تعيش في منطقة الحدث، إحدى ضواحي بيروت الجنوبية، التي استهدفتها إسرائيل بشراسة خلال الحرب. في 27 سبتمبر/أيلول 2024، شنّت إسرائيل غارة مدمرة على حارة حريك، مسفرة عن تدمير 6 مبانٍ ومقتل الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، وفقا للتقارير الإسرائيلية.
بعد ساعات فقط من الهجوم، وبينما كان اللبنانيون يترقبون مصير نصر الله، أصدر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي باللغة العربية أوامر إخلاء لسكان مناطق واسعة من الضاحية، مما دفع آلاف العائلات إلى مغادرة منازلها في حالة من الذعر.
إعلانيصف المشهد خضر عيدو -وهو طاهٍ تنفيذي (26 عاما) ويعيش في بشامون قرب الشويفات- قائلا: "كانت الليالي الأولى تحت القنابل مرعبة. أصوات الانفجارات كانت تحطم الصمت، وتبث الخوف في كل زاوية من المدينة. مع كل دويّ، كنا نشعر بأن وجودنا نفسه أصبح هشا أكثر من أي وقت مضى".
على مدى الأسبوعين التاليين، شهدت الضاحية أعنف قصف إسرائيلي منذ حرب 2006، حيث استهدفت الغارات الجوية المنطقة بشكل غير مسبوق. كانت وسائل الإعلام اللبنانية تبث الدمار على الهواء مباشرة، في حين أضاءت سماء الليل ألسنة اللهب البرتقالية والحمراء، حتى بدت وكأنها شروق جديد، لكنه محمّل بالرعب بدلا من الأمل.
حياة تحت الأنقاضزعمت إسرائيل أنها تستهدف مخازن أسلحة حزب الله، لكن الواقع على الأرض كان مختلفا، فقد أسفر القصف عن مقتل أو تشريد عشرات الآلاف من المدنيين، في وقت تحولت فيه مئات المنازل والمتاجر إلى ركام، ولم يتبقَ من حياة الناس سوى ذكريات تائهة بين الأنقاض.
زينب الديراني كانت واحدة من هؤلاء الذين فقدوا منازلهم. تحاول استجماع كلماتها وهي تصف حجم الدمار الذي لحق بمسكنها: "لقد قصفوا بجوار منزلي.. المبنى لا يزال قائما، لكن كل شيء بداخله دُمر بالكامل"، وتتوقف للحظة قبل أن تتابع بصوت مخنوق: "غرفتي أصبحت لها شرفة الآن بسبب القنبلة".
ورغم أن منزلها لا يزال واقفا جزئيا، فإن ما حوله لم يكن محظوظا بالقدر نفسه، إذ فقدت الحيّ بأكمله، فقدت صالون الحلاقة الذي كان يقصده والدها، وفقدت معلمتها التي كانت تعدّها شخصية ملهمة في طفولتها.
إعلانوتضيف بأسى: "لقد قصفوا منزلها وقتلوا كل أفراد عائلتها بداخله.. زوجها، ابنتها، ولديها.. كلهم رحلوا في لحظة. كل يوم ترى شخصا يموت".
منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، قُتل أكثر من 2500 شخص في لبنان على يد القوات الإسرائيلية. وفي حين استهدفت الهجمات عديدا من المناطق، كانت بيروت والضاحية الجنوبية من بين أكثر الأماكن تضررا، مما دفع بعض الخبراء إلى تصنيف ما يحدث هناك على أنه "إبادة حضرية" أو "قتل المدينة".
تصف منى حرب، أستاذة الدراسات الحضرية والسياسة في الجامعة الأميركية في بيروت، ما يحدث قائلة: "إنه ليس مجرد دمار مادي، بل إنه محو هائل للمكان والناس وذكرياتهم".
وتضيف: "الأمر يتجاوز المباني المدمرة، لقد فقدنا أيضا الأشياء غير الملموسة.. العادات، الممارسات، تفاصيل الحياة اليومية التي اعتاد الناس القيام بها في تلك الأماكن. إنه تدمير لما يحمله الناس في ذاكرتهم".
يرى أحد الباحثين في مركز "أستوديو الأشغال العامة"، وهو مؤسسة تهتم بالتخطيط الحضري وصنع السياسات في لبنان، أن الحرب لم تدمر الأبنية فحسب، بل قطعت الروابط التي تشكل نسيج المجتمع. يقول الباحث، الذي فضل عدم الكشف عن اسمه، للجزيرة: "الهجمات الإسرائيلية تفكك الصلة بين الناس وأحيائهم، وتقطع الروابط الاجتماعية التي تحدد هوية المجتمع".
ويتابع: "نتيجة لذلك، لا تواجه هذه المناطق الدمار المادي فحسب، بل تشهد أيضا تفككا اجتماعيا عميقا، حيث يضطر السكان إلى التخلي عن الأماكن التي شكلت حياتهم وذكرياتهم وهوياتهم".
في عام 1955، قرر محمد، جد ديانا يونس، مغادرة مدينة بعلبك في وادي البقاع شرقي لبنان، بحثا عن مستقبل جديد، فاستقر في المنطقة الواقعة جنوب بيروت، التي كانت آنذاك مجرد بساتين زيتون ممتدة على مد البصر.
يتذكر يونس تلك الفترة قائلا: "لم تكن هناك ضواحٍ كما نعرفها اليوم، لم يكن هناك سوى أشجار الزيتون وأراضٍ واسعة، لا مبانٍ ولا شوارع مزدحمة". وسط هذا الامتداد الأخضر، قرر محمد وزوجته بناء بيت صغير بأيديهما، وضعا فيه الأساس لحياة جديدة، غير مدركين أن المنطقة التي اختاراها ستتحول يوما ما إلى واحدة من أكثر المناطق حيوية وكثافة سكانية في لبنان.
مع مرور السنين، ومع توسع العمران، بدأت المدارس والجامعات تظهر في المنطقة، وهو ما جعلها مقصدا لعديد من العائلات الباحثة عن الاستقرار. كبرت عائلة محمد، وكبرت معها الضاحية، التي لم تعد مجرد مجموعة من البيوت الريفية، بل أصبحت مجتمعا حضريا متكاملا.
إعلاناليوم، يُعرف هذا الامتداد رسميا باسم "سهل المتن الجنوبي"، لكنه لا يزال يُشار إليه ببساطة بـ"الضاحية"، اسم أصبح مرادفا للتنوع والتاريخ والتحولات السكانية التي شهدتها المنطقة على مدار العقود الماضية.
تُعرف الضاحية الجنوبية لبيروت بأنها منطقة مترامية الأطراف، تضم بلديات رئيسية مثل الغبيري، وبرج البراجنة، وحارة حريك، والمريجة -تحويطة الغدير- الليلكي، إلى جانب مناطق عشوائية مثل الأوزاعي، وبئر حسن، وحرش الكتيل، وحي السلم، بالإضافة إلى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في برج البراجنة وشاتيلا.
تصف منى حرب، الخبيرة في التخطيط الحضري، الضاحية بقولها: "إنها بحجم مدينة بيروت". وتضيف: "إذا بدأنا من هذا المفهوم، فسندرك أن هذه المنطقة ليست مجرد ضاحية، بل هي مجتمع متكامل متعدد الأوجه، حيث تعيش الأسر، ويعمل الناس، ويتنقلون، ويقضون أوقات فراغهم. لكل طبقة من الحياة هنا قصة خاصة بها".
لم تكن الضاحية كما نعرفها اليوم، بل تشكلت عبر موجات نزوح متتالية خلال العقود الماضية، وهو ما جعلها ملاذا لمئات الآلاف من العائلات الفارة من العنف والنزاعات.
الموجة الأولى (1975-1976) جاءت خلال السنوات الأولى من الحرب الأهلية اللبنانية، حيث طُرد نحو 200 ألف شخص من سكان الأحياء الفقيرة في شمال شرق بيروت، بعضهم تعرض لمجازر نفذتها مليشيات مسيحية يمينية، وهو ما دفعهم إلى الانتقال إلى الضاحية بحثا عن الأمان.
الموجة الثانية الكبرى وقعت خلال الغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان في عامي 1978 و1982، وما تبعه من احتلال استمر حتى عام 2000. أسفرت هذه الأحداث عن نزوح ما يصل إلى 900 ألف شخص، معظمهم من المسلمين الشيعة، الذين استقروا في الضاحية بعد أن اضطروا لمغادرة قراهم الجنوبية.
مع هذه التحولات، تغيّرت التركيبة الديمغرافية للضاحية. كانت المنطقة تضم سابقا طائفة مارونية كبيرة، لكن كما توضح منى حرب، فإن الموارنة "هُجِّروا قسرا وبعنف" خلال موجات النزوح المتتالية. وعلى الرغم من أن بعض المسيحيين لا يزالون يعيشون في المنطقة، فإن الغالبية العظمى منهم لم يعودوا أبدا بعد تهجيرهم خلال الحرب.
إعلانهكذا، لم تكن الضاحية مجرد امتداد عمراني للعاصمة بيروت، بل أصبحت مدينة بحد ذاتها، شكلها التاريخ، وطبعتها الهجرة القسرية، حتى باتت اليوم واحدة من أكثر المناطق تنوعا وكثافة سكانية في لبنان.
على الرغم من التغيرات الديمغرافية التي شهدتها الضاحية الجنوبية خلال العقود الماضية، فإن بعض مظاهر التعددية الدينية لا تزال قائمة. تشير حرب إلى أن "الكنائس والمقابر المسيحية تم ترميمها في العقد الأول من القرن الـ21، وظلت القداسات تُقام كل يوم أحد"، في تأكيد على أن الوجود المسيحي لم يُمحَ بالكامل من المنطقة، حتى لو أن أعداد السكان قد تغيّرت.
مع توافد موجات المهاجرين الجدد إليها، لم تعد الضاحية مجرد منطقة مجاورة لبيروت، بل أصبحت امتدادا حضريا كثيفا، يكاد يضاهي العاصمة من حيث الحجم والكثافة السكانية، حيث نما العمران بشكل متسارع، وتوسعت البنية التحتية لتستوعب الأعداد المتزايدة من السكان، مما جعلها إحدى أكثر المناطق ازدحاما في لبنان.
بالنسبة إلى محمد، جد ديانا يونس، الذي كان أحد أوائل من استقروا في الضاحية، شهد بأم عينيه كيف تحولت هذه المنطقة من بساتين زيتون هادئة إلى مدينة مكتظة بالحياة. وكما توسعت الضاحية، نمت عائلته أيضا؛ فمع مرور السنوات، تزوج كل واحد من أبنائه، وأصبح كل منهم يبني طابقا جديدا فوق بيت أبيهم، ليؤسس أسرته الخاصة، في مشهد يعكس التحولات السريعة التي طرأت على المنطقة.
اليوم، أصبحت الضاحية شاهدا على عقود من التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، من منطقة زراعية بسيطة إلى واحدة من أكثر المناطق تأثيرا في المشهد اللبناني.
غالبا ما تصف وسائل الإعلام الدولية الضاحية الجنوبية لبيروت بأنها "معقل حزب الله"، في محاولة لاختزالها في بُعد سياسي وأمني فقط، متجاهلة تعقيداتها الاجتماعية والثقافية. حتى داخل لبنان، هناك من ينظر إليها باعتبارها "غيتو" شيعيا أو منطقة متمردة، كما أشارت منى حرب في مقال نشرته عام 2009 عن الضاحية.
لكن حرب ترفض هذه النظرة التبسيطية التي تتجاهل واقع الحياة اليومية في المنطقة، وتقول في حديثها للجزيرة الإنجليزية: "مئات الآلاف من الأفراد ذوي الأصول والهويات المتعددة يعيشون هناك"، مشيرة إلى أن بيروت ولبنان عموما صغيران إلى حد يجعل من المستحيل العيش في الضاحية من دون أن تكون متصلا ببقية المدينة والمجتمع ككل.
إعلاننشأت في الضاحية عدة تيارات سياسية وحركات اجتماعية منذ ستينيات القرن الماضي، لكن الحرب الأهلية اللبنانية غيرت موازين القوى فيها. خلال الحرب، سيطرت على المنطقة حركة أمل، الذراع المسلح لحركة "المحرومين" التي أسسها الإمام موسى الصدر.
لكن في عام 1984، بدأ حزب الله في كسب أنصار داخل الضاحية، وفي عام 1989، اندلعت مواجهات بينه وبين حركة أمل، انتهت بسيطرة الحزب على أجزاء واسعة من الضاحية، ليصبح لاحقا القوة السياسية والعسكرية الأبرز فيها. حتى اليوم، يحتفظ الحزب بشبكات سياسية واجتماعية واسعة النطاق داخل الضاحية، كما أن وجود أعلامه وتجمعاته وخطاباته العامة كان مشهدا مألوفا على مدار العقود الماضية.
لكن على الرغم من وجود أنصار لحزب الله في الضاحية، فإن تصنيف المنطقة بـ"المعقل" يثير اعتراضات واسعة، ليس فقط بين الباحثين، بل أيضا بين سكانها أنفسهم. ترى حرب وآخرون أن استخدام مصطلح "معقل" يتجاهل التنوع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي في الضاحية، بل ويعمل على إضفاء الشرعية على العنف ضدها، وكأنها مجرد هدف عسكري وليس حيا نابضا بالحياة.
تقول حرب: "هناك صورة نمطية غير إنسانية تروجها وسائل الإعلام الغربية، تربط جميع سكان هذه المنطقة بتوجهات سياسية معينة، وهو أمر بعيد عن الواقع".
قبل أن تتحول الضاحية إلى ساحة حرب، جاءت زينب الديراني إليها عام 2021 من بلدتها قصرنبا في البقاع بحثا عن فرص عمل، في وقت كان فيه لبنان يواجه واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخه. كانت زينب تحمل طموحات كبيرة، وبذلت جهدا هائلا في حياتها المهنية، إذ عملت لأكثر من 14 ساعة يوميا إلى جانب دراستها للكيمياء والتشخيص الطبي.
إعلانلم تكن تحب حيّها كثيرا، لكنها رغم ذلك تحتفظ بذكريات جميلة عن الجلوس مع والديها في نهاية اليوم، يتبادلان الأحاديث، وعن عمتها التي كانت تمرّ لزيارتهم باستمرار.
نشأت منى حرب في الضاحية الجنوبية، لكنها غادرتها قبل نحو 30 عاما. أما والدها، فكان يذهب إلى برج البراجنة لشراء الخبز واللحوم والجبنة واللبنة حتى أسابيع قليلة مضت.
تقول بأسى: "كان المنزل جيدا وآمنا"، قبل أن تتوقف للحظة وتضيف بصوت منخفض: "قبل ذلك".
اليوم، يجد أكثر من مليون شخص -أي ما يعادل 20% من سكان لبنان- أنفسهم في حالة نزوح قسري بسبب الحرب الأخيرة. وبينما دُمّرت منازلهم، لم يجد كثيرون منهم مأوى، فافترشوا الحدائق العامة، والشوارع، وحتى شواطئ البحر، في مشهد يعيد إلى الأذهان الأزمات الإنسانية التي عصفت بلبنان على مر العقود.
يقول الباحث في أستوديو الأشغال العامة: "بالنسبة إلى النازحين، الصدمة مزدوجة، ليس فقط لأنهم طُردوا من منازلهم تحت التهديد، ولكن لأنهم يشهدون أيضا محو روابطهم الثقافية والجسدية بأرضهم". وأضاف أن ما يحدث في الضاحية ليس مجرد قصف عشوائي، بل هو "محاولة متعمدة لمحو وجود المجتمع ذاته"، في إشارة إلى حجم الدمار الذي طال المنطقة منذ بدء العدوان الإسرائيلي.
ليالٍ مرعبة ودمار ممنهجمنذ 27 سبتمبر/أيلول 2024، شنت إسرائيل عشرات الغارات على الضاحية، وفقا لمصادر محلية. وبعد توقف استمر أسبوعا تقريبا، استؤنف القصف بوتيرة أعنف، إذ شهدت ليلة 23 أكتوبر/تشرين الأول 2024 واحدة من أشد ليالي القصف رعبا، حين شنت إسرائيل 17 غارة جوية أسفرت عن تدمير ما لا يقل عن 6 مبانٍ، كان من بينها مكتب قناة الميادين الإعلامية.
ويؤكد الباحث في أستوديو الأشغال العامة أن "رسم خريطة للدمار أمر معقد، لكن الواضح هو أن الضاحية تعرضت لهجمات وحشية يومية". ويضيف: "ما يميز هذه الضربات هو العنف العشوائي ضد المدنيين، حيث لم تعد تقتصر على أهداف عسكرية مزعومة، بل امتدت لتشمل الأبنية السكنية والشوارع والمحال التجارية".
إعلانوكانت الأوامر الإسرائيلية بالإخلاء تصدر عبر منصة إكس، حيث نُشرت خرائط للضاحية مع تمييز المباني المستهدفة باللون الأحمر. وفي كثير من الحالات، مُنح السكان ساعة واحدة فقط للمغادرة، ومع كل ليلة كانت المهلة تقلّ، لتتحول إلى دقائق معدودة في بعض الأحيان.
يضيف الباحث: "المباني والشوارع والأحياء بأكملها تم تحديدها ورسم خرائطها بشكل منهجي، ثم استُهدفت بغارات جوية دقيقة، في إطار إستراتيجية مدروسة للقضاء على المساحات المدنية".
المأوى المفقوديوم 27 سبتمبر/أيلول 2024، أجبرت زينب الديراني وعائلتها على مغادرة منزلهم. انتقل والداها للعيش مع شقيقتها في أحد الأحياء المسيحية، بينما وجدت زينب ملجأ مؤقتا في متجر بعين الرمانة.
ومع استمرار عمليات الإخلاء، انتقدت منظمة العفو الدولية الطريقة التي أُجبر بها السكان على المغادرة، ووصفتها بأنها "مضللة وغير كافية". وأشارت إلى أن بعض الهجمات وقعت بعد أقل من 30 دقيقة من إصدار التحذير، بينما جاءت هجمات أخرى من دون أي تحذير على الإطلاق.
صدمة الفقدانبالنسبة لمازن، وهو صاحب محل هدايا وعطور في المريجة، لم يكن القصف مجرد كارثة مادية، بل كان فقدانا لكل ما كان يعني له الحياة. كان يعيش حياة هادئة مع قطته المحبوبة "سيسي"، التي أصبحت نجمة حسابه على "تيك توك". ولكن عندما ضربت غارة جوية المبنى الذي يسكن فيه حين كان خارجه لشراء بعض الحاجات، انهار المبنى بالكامل، تاركا سيسي تحت الركام.
وفي مقطع فيديو انتشر على "تيك توك"، ظهر مازن وهو يقف أمام أنقاض منزله يبكي بحرقة وينادي على قطته المفقودة، بينما انهالت التعليقات برموز تعبيرية باكية وأخرى تعبر عن الحزن.
يقول مازن للجزيرة: "ذهبت كل حياتي، لا مشكلة، سأجد منزلا آخر… لكن الشيء الوحيد الذي يهمني هو إذا ما كانت سيسي قد نجت. إن شاء الله لم تمت".
لم يفقد الأمل في العثور عليها، فكل يوم يذهب إلى موقع الدمار بحثا عنها، وينام في العراء، متنقلا بين الشوارع والشرفات، ويقول: "ما زلت أعيش حياة هادئة، لا يهمني أي حزب أو طائفة، أنا فقط أحب الحياة والقطط والحيوانات"، يقول بنبرة مفعمة بالألم والاستسلام.
إعلان تاريخ يعيد نفسهلم تكن هذه المرة الأولى التي تعيش فيها الضاحية هذا النوع من التدمير الشامل. ففي حرب يوليو/تموز 2006، خاض حزب الله وإسرائيل حربا استمرت 34 يوما، قُتل خلالها أكثر من 1220 شخصا، معظمهم من اللبنانيين، في حين دُمر حوالي 245 مبنى وفق ما أطلق عليها الجيش الإسرائيلي "عقيدة الضاحية"، وهي تكتيك عسكري يقوم على التدمير غير المتناسب.
ورغم الحروب السابقة، فإن الضاحية استمرت في النمو واحتضنت سكانها النازحين من مناطق أخرى. لكن اليوم، يواجه بعض هؤلاء السكان واقعا مختلفا، إذ لم يعد كثيرون يرون في الضاحية مكانا يصلح للعيش بعد انتهاء الحرب.
تقول ديانا يونس: "عائلة خالي قررت عدم العودة. يخططون لبيع كل ممتلكاتهم هنا والانتقال إلى مكان آخر. لم يعد أحد يريد الضاحية".
ذكريات تتلاشى وأحلام تتبددنشأت منى حرب في الضاحية، التي غادرتها قبل 30 عاما، وكان والدها حتى وقت قريب يذهب إلى برج البراجنة لشراء الخبز والجبنة، ليس لعدم توفرها في مكان آخر، ولكن لأن هذه الرحلة عبر الأزقة الضيقة كانت تمنحه شعورا بالانتماء والارتباط بالمكان.
تقول بحزن: "هذا مجرد مثال بسيط على شيء قريب مني تم محوه تماما".
أما زينب الديراني، التي حلمت دائما بحياة خارج الضاحية، فوجدت نفسها أمام واقع لم تكن تتمناه. "أردت الرحيل، لكن ليس بهذه الطريقة… أشعر أن كل أحلامي تنهار"، تقول بصوت يملؤه الألم والصدمة.
وتضيف: "ما زلت أعيش في حالة إنكار… وكأنني في كابوس لا أريد أن أستيقظ منه، لأنني عندما أفعل، سأجد نفسي أمام حقيقة قاسية لا أعرف كيف أتعامل معها".
ففي حين تتلاشى ذكريات الطفولة والأيام الجميلة، يغلب شعور الرعب والخوف من المستقبل على سكان الضاحية. وتختتم زينب حديثها بعبارة موجعة: "نحن نجلس وننتظر يومنا… من المؤسف أن أقول هذا، لكننا ننتظر اللحظة التي سنُقتل فيها مثل أحبائنا وأصدقائنا".
إعلان