د. يوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

 

تحليلُ الأوضاع الاقتصادية الراهنة يُشير بوضوح إلى أنَّ سلطنة عُمان نجحت في تجاوز العديد من الأزمات المُركبة التي ألحقت أضرارًا سلبية بالاقتصاد الوطني خلال السنوات القليلة الماضية، وفي المُقابل سجّلت مؤشرات إيجابية على مستويات وأبعاد عديدة، ونخص بالذكر منها هنا أولًا: البُعد المالي؛ إذ إنَّ الارتفاع المضطرد في أسعار النفط وتبني سياسات رشيدة واتخاذ تدابير مالية حصيفة، أسهم في إحراز تقدم ملحوظ في اعتدال كفتي الميزانية العامة (الإنفاق والإيرادات)، وخفض الدين العام، والتنويع النسبي لمصادر الدخل، والتحسن اللافت في التصنيف الائتماني لعُمان.

وثانيًا: البُعد الثاني؛ وهو البُعد الاجتماعي؛ والذي تجلّى بوضوح مع إقرار منظومة الحماية الاجتماعية وصدور التشريعات المنظِّمة لها؛ الأمر الذي وضع عُمان في مراتب متقدمة على مسارات التنمية الاجتماعية، وساهم في تحقيق قفزات مؤثِّرة في إيجابيات البُعد الاجتماعي، بفضل الجهود الحثيثة لضمان الحياة الكريمة للمواطنين وتقديم منافع لمختلف الفئات العمرية بما فيهم كبار السن، والأطفال والأيتام والأرامل والأشخاص ذوي الإعاقة، والأسر ذات الدخل المحدودـ وغيرها؛ الأمر الذي يُؤكد مدى عناية واهتمام الحكومة بالأفراد والأُسر في مجتمعنا.

مراقبون كُثُر يرون أنَّ تحقيق نجاحات في البُعد الاقتصادي يبقى هو الضامن لاستدامة البُعديْن المالي والاجتماعي؛ فالاقتصاد القوي ينعكس مباشرةً على المالية العامة مُعززًا نسب الاستقرار فيها، ومن ثمَّ اتساع واستدامة مظلة الحماية الاجتماعية، والعكس صحيح؛ فمتى ما تحرك الاقتصاد بوتيرة جيدة، صعدت مؤشرات النمو والتوظيف والتصدير، وزادت تلقائيًا حصيلة الضرائب من أرباح الشركات التي تمثل قوة دافعة في المنظومة الاقتصادية، وانتعشت الآمال بمزيد من الفرص لتوسيع أعمالها، ودخول شركات جديدة إلى السوق.

وفي الجانب الاجتماعي؛ فإنَّ من شأن الاقتصاد القوي أن يكون قادرًا على توليد فرص عمل ذات دخول جيدة للشباب؛ ومن ثم تراجع الضغط على منظومة الحماية الاجتماعية، فكُلما زاد التوظيف وارتفعت الدخول، تعززت قوة هذه المنظومة باعتبارها منظومة طوارئ وحسب وليست حسابًا جاريًا. ولذلك، يظل تسارع وتحسين وتيرة الاقتصاد الرهانَ الضامنَ لاستدامة البُعدين المالي والاجتماعي، ويُستدل عليه من خلال المؤشرات الاقتصادية الكميّة والنوعيّة المعروفة. وفي هذا السياق، ينبغي الإشارة إلى ضرورة عدم الارتكان إلى الظل الوفير الناتج عن الغيمة التقليدية لارتفاع أسعار النفط، والتي تؤثر مباشرةً على مختلف القطاعات النفطية وغير النفطية.

ولذلك، فإنَّ النظرة التحليلية لأداء الاقتصاد والتمعُن في قراءة مؤشرات مُهمة حول دخول شركات محلية إلى السوق، وتدفق استثمارات أجنبية إلى السلطنة، ومدى إبرام وتنفيذ الصفقات في المشاريع الكبيرة والضخمة في المدن الصناعية (التابعة لمدائن) والمنطقة الاقتصادية الخاصة في الدقم، والمنطقة الحرة في صحار، والمنطقة الحرة في صلالة، علاوة على حجم أرباح الشركات ورفدها للميزانية العامة للدولة، وتبيان قدرتها على توليد فرص عمل مجزية لأبناء وبنات عُمان، كل هذه دلائل ومؤشرات على مدى نجاح خطط تعميق البُعد الاقتصادي، ونضيف إليها وضعية القوة الشرائية للأفراد، وزيادة عدد السياح، ونمو حجم ونوعية الصادرات، لا سيما الصادرات غير النفطية، إضافة إلى زيادة المشاريع في الشق السفلي من الصناعة.

تلك النظرة التحليلة للواقع الاستشرافية للمستقبل، تمنحنا الفرصة لالتقاط الأنفاس، ودراسة الوضع الاقتصادي، ببُعديه: المالي والاجتماعي.

المُعطيات تُخبرنا أن عجلة الاقتصاد في عُمان تتحرك للأمام بالفعل، إلّا أنها ما زالت بطيئة، كما إن معدل ربحية الشركات ودخول الأفراد والطلب الاستثماري والاستهلاكي والخارجي تظل متواضعة، بينما تتزايد الحاجة المُلِّحة لمزيد من التدخلات وإجراءات التحفيز الاقتصادي، إذ إنَّ الكثير مما نشهده من جهود- وإن كانت مقدّرة- ليست سوى مواصلة لسياسات قديمة بمُسميات جديدة.

ولضمان نمو الاقتصاد في عُمان- كغيرها من الدول- لا بُدَّ من التعامل مع الأبجديات الضرورية والتي بدونها سنظل نتحدث ونُخطط ويظل الاقتصاد أسير أنبوب النفط أو خط الغاز، مع تحسينات هنا وهناك لن تحقق التحول المنشود في تركيبة الاقتصاد؛ ليكون قادرًا على توليد فرص العمل، وتوفير العملة الصعبة، كنتيجة لتوسيع القاعدة الإنتاجية وزيادة التصدير.

ومن وجهة نظري، علينا في المرحلة المقبلة- وترجمة لأهداف رؤية "عُمان 2040"- تَجنُّب الوقوع في أخطاء تقليدية بالتركيز المفرط على الحكومة بأجهزتها وشركاتها المختلفة لقيادة التحولات المنشودة في الجوانب المختلفة، وإغفال الدور الأهم والمفصلي لشركات القطاع الخاص في تشغيل قاطرات الإنتاج وتوليد فرص العمل واستجلاب العملة الصعبة ورفد الميزانية بالإيرادات الضريبية. وهذه الجهود المطلوبة تحتاج عناصر مُحددة بدونها لن نستطيع التقدم، وقد تناولناها بإسهاب في كتاباتنا السابقةـ لكن نشير في هذا السياق إلى إحدى المسلمات والأبجديات الاقتصادية، والتي تقول إنه لا يمكن لأي نشاط اقتصادي أن يبدأ دون توفير رأس المال بالتكلفة والاشتراطات المناسبة، والواقع يُشير إلى أنَّ هذا غير متوفر!

كما إنه لا يمكن لأي نشاط اقتصادي أن يزدهر دون عمالة ماهرة ومبتكِرَة تعمل دون قيود والتزام بنسب تعمين مُعينة، أضف إلى ذلك أن الاقتصاد لا يتحرك في منأى عن قوة شرائية حقيقية، وتزاحم الأقدام في الأسواق المحلية. وفي الاقتصادات صغيرة الحجم لا بُد من وجود منظومة تساعد رجال الأعمال على الوصول إلى الأسواق العالمية ببرامج مساندة حقيقية وليست صورية، بهدف نشر ثقافة التصدير وإطلاق برامج دعم لتكاليف التسويق والشحن والتأمين.

ونختم بالقول، إنَّ عُمان تمتلك الموارد والجاهزية والفرص ومكامن القوة الكافية لنقلها لمكانة اقتصادية مستدامة، لكن لن يتأتّى الأمر بالتردُّد المفرط الذي يُهدر الفرص؛ فالديناميكية في تغيير الأدوات والتوجُّهات في الاقتصاد العالمي والإقليمي، تدفعنا نحو مراجعة الأداء وترسيخ مكانة المنظومات والكيانات الاقتصادية المحلية، وتنفيذ الرؤى والخطط الخمسية من أجل إقرار التدخلات المطلوبة بعد إطلاق عملية مُراجعة فاحصة؛ خاصة وأن قطار الاقتصاد العالمي ينطلقُ في توجهاته الجديدة، في حين أن الانشغال بالعمليات اليومية يُفقدنا القدرة على توجيه بوصلة الاقتصاد الجديد والمضي مع توجهاته المعاصرة، ولن يستطيع الاقتصاد العماني- كغيره من الاقتصادات- الانطلاق إلى آفاق أرحب واكتشاف مُحيطات أعمق في الاقتصاد العالمي، إلّا بعد أن يتحلى ربابنته بالشجاعة المطلوبة للإبحار بعيدًا عن مناطق المياه الساكنة المتمثلة في الأدوات والسياسات التقليدية السائدة، والانطلاق نحو شطآن جديدة تنبض بالديناميكية والحيوية الاقتصادية.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

632.3 مليون درهم إيرادات «دبي المالي» خلال 2024


دبي (الاتحاد)
أعلنت شركة سوق دبي المالي عن نتائجها الموحدة للسنة المالية المنتهية في 31 ديسمبر 2024، حيث سجل السوق زيادة بنسبة632.3 مليون درهم إيرادات «دبي المالي» خلال 2024 مقارنة مع 329.6 مليون درهم في عام 2023.
وأعلنت الشركة عن تحقيق إجمالي إيرادات قدره 632.3 مليون درهم لكامل السنة المالية 2024، بنمو بلغ 15.5% مقارنة مع العام السابق.
وجاء هذا النمو مدفوعاً بأحجام التداول القوية وتدفقات رؤوس المال الوفيرة والزيادة اللافتة في نشاط المستثمرين من شريحتي الأفراد والمؤسسات، والأداء المستقر للسوق وكذلك تحسن عوائد الاستثمارات.
وحقق سوق دبي المالي نتائج قوية للفترة المنتهية في 31 ديسمبر 2024، مرسخاً مكانته باعتباره السوق المالي الرائد في المنطقة.
وشهد السوق خلال العام ثلاثة اكتتابات عامة أولية، بما في ذلك إدراج شركة «طلبات» الذي احتل المرتبة الأولى كأكبر طرح عام أولي للتكنولوجيا في العالم لهذا العام.
وحقق مؤشر سوق دبي المالي قفزة قوية بواقع 27.1%، مغلقاً عند مستوى 5,158.67 نقطة في نهاية العام، وهو المستوى الأعلى له منذ سبتمبر 2014، فيما شكّل إنجازاً بارزاً لفترة العقد الماضي.
كما حافظت دبي على مكانتها المتميزة كأفضل الأسواق أداءً في دول مجلس التعاون الخليجي للعام الثاني على التوالي، ويُعتبر هذا النمو اللافت للمؤشر أكبر مكسب سنوي خلال ثلاث سنوات ويعزز مسار سوق دبي المالي التصاعدي للعام الرابع على التوالي.
وارتفعت القيمة السوقية للشركات المدرجة في سوق دبي المالي خلال عام 2024 إلى 907 مليارات درهم، بزيادة بنسبة 32% مقارنة مع 688 مليار درهم في عام 2023.
وارتفع متوسط قيمة التداول اليومي بنسبة 5%، ليصل إلى 423 مليون درهم، في حين نما إجمالي قيمة التداول بنسبة 5.5% ليصل إلى 107 مليارات درهم.
وخلال اجتماع مجلس إدارة الشركة الخميس، تمت مناقشة النتائج السنوية وتم اعتمادها تمهيداً لعرضها خلال اجتماع الجمعية العمومية السنوية القادم، وأوصى مجلس الإدارة بتوزيع أرباح نقدية على المساهمين بقيمة 256 مليون درهم، وبنسبة 3.2% من رأس المال، و97% من إجمالي الأرباح المحتجزة القابلة للتوزيع.
وقال معالي هلال سعيد المري، رئيس مجلس إدارة سوق دبي المالي إن النتائج القوية التي حققها سوق دبي المالي تعد إنجازاً مهماً سيعزز مكانة دبي كوجهة رائدة تستقطب المستثمرين العالميين، بما يتماشى مع تطلعات القيادة الرشيدة لترسيخ مكانة الإمارة مركزاً مالياً عالمياً رائداً، حيث عزز سوق دبي المالي موقعه باعتباره السوق المالي الأفضل أداءً على مستوى المنطقة، مواصلاً تحقيق المزيد من النمو، بما يعكس رؤية دبي الطموحة، وبنيتها التحتية العالمية المستوى، إلى جانب التزامها الثابت بتوفير فرص جديدة للشركات والأفراد على حد سواء.
وقال حامد علي، الرئيس التنفيذي لسوق دبي المالي وناسداك دبي إن هذا العام شكل نقطة تحول مفصلية لأعمالنا، حيث وسعنا محفظتنا وأتحنا المزيد من الفرص لمجموعة متنوعة من المستثمرين والجهات المصدرة على حد سواء، ونجحنا من خلال البنية التحتية المبتكرة لسوق دبي المالي ومبادراتنا المتنوعة، في ترسيخ مكانة السوق الرائدة في طليعة الأسواق المالية، ما عزز الدور الريادي لمدينة دبي كوجهة عالمية رئيسة للنشاط المالي.
وأضاف أن إنجازات عام 2024 تعكس مستوى التطوّر والنمو في الأسواق المالية بدبي، ويسهم نجاح الاكتتابات البارزة التي شهدناها في عام 2024، إلى جانب زيادة نشاط التداول ومشاركة المستثمرين الأجانب، في تعزيز جاذبية دبي كوجهة مفضلة للشركات والمستثمرين من كافة أنحاء العالم.
واستقطب السوق خلال عام 138,262 مستثمراً جديداً، ما شكّل زيادة قوية بنسبة 120.5% مقارنة مع 62,676 مستثمراً جديداً في عام 2023، مع الإشارة إلى أن 85% من المستثمرين الجدد هم من الأجانب، حيث ساهم المستثمرون الأجانب بنشبة 50% من إجمالي قيمة التداول في عام 2024 مقارنة مع 47% في عام 2023 ، بحصة رأسمال بلغت 21% من إجمالي القيمة السوقية عند إغلاق السوق بنهاية العام.
وشهد السوق زيادة ملحوظة في إقبال المستثمرين من شريحة المؤسسات، حيث ارتفعت حصتهم في قيمة التداول ارتفاعاً كبيراً إلى 65% مقارنة مع 58% في عام 2023، وهو ما يعكس جاذبية السوق العالية بالنسبة لقاعدة متنوعة ومتنامية من المستثمرين. كما شهد سوق دبي المالي عاماً قوياً من الاكتتابات العامة الأولية، مسجلاً ثلاث عمليات إدراج ناجحة، تنوّعت بين الشركات العائلية وشركات القطاع الخاص والجهات الحكومية.
وأسهمت هذه الاكتتابات في تعزيز نشاط السوق بشكل كبير، حيث جمعت شركات باركن وسبينس وطلبات من خلال اكتتاباتها عوائد إجمالية بقيمة 10.48 مليار درهم، وهو ما شكل زيادة كبيرة مقارنة مع عوائد الاكتتابات العامة الأولية في عام 2023 والبالغة 1.97 مليار درهم.

مقالات مشابهة

  • السوداني: العراق أرض خصبة لكل الأحلام الاقتصادية
  • ترامبونوميكس .. القومية الاقتصادية في مواجهة العولمة يعطي قُبلة الحياة لـ أمريكا
  • مولود جديد كل 16 ثانية خلال 2024.. خبراء: تراجع معدلات المواليد في مصر نتيجة الأوضاع الاقتصادية والتغيرات الاجتماعية.. الزيادة السكانية تؤثر على الموارد والبنية التحتية وتفاقم الأزمات
  • وزيرة التخطيط تستعرض خطة التنمية الاقتصادية للعام المالي 2025
  • وزيرة التخطيط تنافش المنهجية الجديدة لإعداد خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية والإنفاق الاستثماري
  • المشاط: نسعى لتحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة وحوكمة الإنفاق الاستثماري
  • التحديات الاقتصادية: هل العراق محصن ضد الأزمات؟.. الاحتياطي النقدي مثالا - عاجل
  • 632.3 مليون درهم إيرادات «دبي المالي» خلال 2024
  • المجلس الاقتصادي والاجتماعي يدعو لتوضيح مسؤولية شركات التكنولوجيا بخصوص انتهاك حقوق الطفل
  • تقرير لمعلومات الوزراء حول الاقتصاد الإبداعي وأهميته في التنمية الاقتصادية