في اليوم التالي للمهرجان في مدينة كلايبيدا في لتوانيا توالت العروض والمناقشات والحوارات، وقد خيمت على المهرجان أجواء ألفة ومودة بشكل عام عدا استثناءات محدودة تلتهب فيها العواطف عندما يأتي ذكر الحرب في أوكرانيا.

العرض الثاني الذي نود الحديث عنه في هذا المهرجان كان تحت عنوان "شظية"، والعنوان هنا دلالي يحمل أكثر من رسالة، فالشظية بمعنى البؤرة، نقطة الانطلاق الصغيرة التي منها سيعم الدمار والخراب، والشظية هنا هو الحدث المفصلي الذي اختاره المخرج من مسرحية طويلة هي الشقيقات الثلاث لـ"أنتون تشيخوف"، ليبني على هذا الحدث مسرحية متكاملة، وبالأصح ليشيد على تلك اللحظة ملحمة مسرحية مفعمة.

أن مسرحية "الشقيقات الثلاث" أضحت اليوم واحدة من أيقونات المسرح العالمي، وإن كانت قد كتبت أساسا لمسرح موسكو في 1990م، وقد مثلت لأول مرة عام 1991م، وأول من قام بإخراجها أستاذ الفن المسرحي الشهير قسطنطين استانلافسكي والمخرج فالديمير نميروفيش – دانشينكو.

أسرة بروسوروف هي محور المسرحية لاسيما بناته الثلاث اللواتي نشأن في موسكو لا يستطعن التآلف مع حياة المدن النائية، خصوصا بعد وفاة والدهن، حيث يواجهن حالة من التشتت والضياع، ولا يبقى أمامهن غير التشبث بأمل العودة إلى موسكو، حيث الذكريات الطفولة والماضي الجميل.

"أولغا" هي الشقيقة الكبرى مدربة رياضة في البداية ثم تصبح مشرفة في ذات المدرسة، وفي الجزء الثالث من المسرحية تكون قد بلغت من العمر ما يجعلها فاقدة الأمل في الزواج، "ماشا" شقيقته الوسطى التي تعاني من تشتت عواطفها ما بين زوجها كوليجان وعشيقها مساعد العقيد فرشنين، وعندما يرحل فرشنين في مهمة عمل خارج البلدة، بإيعاز من زوجها، تستقر مع زوجها، إيرنا الشقيقة الصغرى أكثرهن تشبثا بحلم العودة إلى موسكو بحثا عن فتى الأحلام المنشود، وأكثرهن خيبة أمل عندما تجد الحلم يتلاشى تدريجا.

كان للشقيقات الثلاث شقيق غر يدعى أندريه وقع في حب امرأة قروية "ناتاشا" وتزوجها لاحقا، ولم يكتف بالزواج منها بل سلمها الخيط والمخيط في كل ما يتعلق بشؤون العائلة، ولما كانت ناتاشا امرأة متغطرسة قميئة في مظهرها ومخبرها فقد استغلت الوضع أسوأ استغلال ودخلت في صراع مستعر مع الشقيقات الثلاث حتى تمكنت من الهيمنة الكاملة على البيت مما عظم مأساتهن وشقاءهن، بل وحتى اندريه جنى نتيجة اختياره الفاشل فانغمس في لعب القمار والخسائر المادية الفادحة مما اضطره إلى رهن بيت العائلة ليُلبي نهم زوجته الذي لا حدود له ولا واعز.

هكذا أضحى بيت أسرة بروسوروف في الفصل الثالث من المسرحية، كانت النيران تشتعل في جوانح كل أفرادها اشتعالا خانقا ومكبوتا؛ حتى يأتي الحدث الصارخ عندما تشتعل النيران في المدينة، مشهد الحريق هو الشظية التي اختارها المخرج الروسي الشهير ديمتري كريموف ليطلقُ منها مسرحيته وليفجر كل المشاعر المتأججة في وجدان كل شخصيات المسرحية لاسيما أولغا الأخت الكبرى، النيران التهمت المدينة مما اضطر السكان إلى المغادرة على عجل وبعضهم التجأ إلى منزل أسرة بروسوروف، تلعب أولغا دورا محوريا في إيواء الناس ومساعدتهم رغم اعتراض ناتالي...

المخرج كريموف التقط لحظة الحريق تلك ووضعها تحت المجهر فصنع منها عرضا مسرحيا خلابا، ولا تأتي هذه المسرحية كعلاقة طارئة بين نصوص تشيخوف والمخرج كريموف، بل هي علاقة متأصلة نتج عنها أكثر من عمل مسرحي لاسيما مع نص مسرحية الشقيقات الثلاث.

شظايا الشقيقات الثلاث

تبدأ المسرحية بمشهد عبثي في عمارة بمصعد تقليدي، عبثية المشهد تتكرر عندما يقف المصعد في حالة الصعود، وتفتح أبوابه في ذات الوقت الذي تهبط فيه فتاة صغيرة من الطابق الأعلى إلى أسفل تطبطب كرتها، تتعثر الفتاة على السلم قبيل المصعد ثم تتماسك وتواصل طبطبة الكرة، وهي نازلة على السلم إلى الطابق الأسفل، يتكرر هذا المشهد في مطلع المسرحية عشرات المرات بكل تفاصيله الدقيقة بينما حركة سكان العمارة مستمرة في الدخول والخروج من وإلى شققهم وإلى المصعد الذي يتواجد به رجل عجوز ضئيل بالكاد يتحرك بدا أقرب إلى الرجل الآلي في حركته والرجل المحنط في هدوئه وسكينته.

لا شك أن في حركة الفتاة المتكررة الدؤوبة دلالة موحية للحياة الروتينية الجامدة غير المنتجة للشقيقات الثلاث لاحقا في المسرحية، فالتكرار يعني الملل الجمود العبثية واللا معنى، هو مشهد يحيلنا إلى أسطورة سيزيف الإغريقية القديمة إذ تجرأ سيزيف على الآلهة وجعل للبشر حياة أبدية فعاقبته الآلهة بأن يحمل صخرة من القاع إلى أعلى الجبل كلما وصل إلى القمة تسقط الصخرة وتتدحرج إلى القاع، فيعيد سيزيف الكرة مرة تلو مرة في تكرار أبدي لا متناه، فما قيمة حياة أبدية مثل هذه؟ بعض النقاد يرجعون منبت مسرح العبث إلى أسطورة سيزيف، ولكننا هنا نكتفي بدلالتها الموظفة في المسرحية، وتداعيات هذا التوظيف، ألا تحمل حياتنا المعاصرة نوعا من هذا الروتين المتكرر؟ سؤال أخاله لزم خاطر كل من شاهد هذا المشهد من المسرحية.

ثم يطالعنا مشهد الرواق العميق بأبعاده الثلاثية المتقنة وإطلالاته الجانبية وتفاصيله الدقيقة الذي يتقلص تدريجيا مع حركة الممثلة حتى يتمحور حول حجرتها في تكنيك غاية في الإبداع، لننتقل إلى مشهد آخر، حيث تقف الممثلة وحيدة في صالة فارهة تعلوها ثرية ضخمة.

هل مشهد الثرية مقتبس من شبح الأوبرا؟

مشهد الثرية يحيلنا تلقائيا إلى المسرحية الموسيقية الشهيرة في برودواي، شبح الأوبرا، التي عرضت لمدة تزيد عن 35 سنة متواصلة التي شاهدها أكثر من 19 مليون مشاهد من جميع أنحاء العالم، ما يهمنا هنا من مسرحية شبح الأوبرا المشهد الأخير عندما تسقط ثرية ضخمة من أعلى المسرح إلى القاع في حركة دراماتيكية أخاذة تذهل الجمهور وترعبه، هذا المشهد أصبح أيقونة المسرحية ومدعاة لجذب المشاهدين في أمريكا بل والعالم كله، فقد أضحى أيقونة مسرحية وأيقونة سياحية. في مسرحية شظية المخرج وظف مشهد الثرية لتكون الثرية شظايا من شظايا المسرحية المتناثرة ولتحمل دلالة الأصالة والمكانة المندثرة لأسرة بروسوروف المأسوف عليها.

مسرحية "شظية" عندما تكون السينوغرافيا البطل المتوج للعرض المشهد الأبرز في المسرحية والأكثر إثارة عاطفية وبصرية الذي احتل مساحة واسعة من العرض في ذروته هو مشهد الحريق، لا أتذكر أني شاهدت مثله أبدًا على كثر ما شاهدت من مشاهد الحريق في المسرحيات، قدم المشهد في منتهى الحرفية، للحظات بدا لنا أن المسرح كله يحترق، ثم تلاه مشهد الانفجار والحطام وتناثر الشظايا، مع المؤثرات الصوتية والإضاءة بدا المسرح كله يرتج ارتجاجا من أقصاه إلى أقصاه، وبدا الجمهور في خضم المشهد جزءًا أصيلا منه ومن أحداثه وطبيعته يعيشونه بكل جوارحهم وأحاسيسهم ناهيك عن الممثلين الذين تفاعلوا مع الحدث بتفاصيله الدقيقة.

هل يمكن أن نقول إن السينوغرافيا البصرية كانت هي بطلة العرض؟ نعم السينوغرافيا كانت أروع ما في المسرحية، الحقيقة، إن جاز القول، المسرحية كانت مدرسة لفن السينوغرافيا وكيفية تنفيذها وتوظيفها، لا سيما في مشهدي الحريق والحطام والشظايا المنتشرة في كل مكان، ولا عجب في ذلك فالمخرج في الأساس هو واحد من أشهر السينوغراف في روسيا قبل أن يكون مخرجا.

ربما يجدر بنا أن نقف عند ملاحظة مهمة تتمثل برغبة المخرج الملحة في استخدام كل الوسائل المسرحية المتاحة بالذات البصرية منها في تنفيذ عمله، وهو لا شك متقن لها كل الاتقان ولا غضاضة في ذلك من حيث المبدأ، لولا أني استثقلت تكرار المشاهد عبر التصوير السينمائي الذي حد بشكل أو آخر من وهج التشكيل والأداء المسرحي الحي والمباشر وتسبب في تطويل مدة العرض المسرحي، ولكن تبقى هذه وجهة نظر شخصية، فقد وجدت ثناء على تلك المقارنة بين العرض المسرحي والتصوير السينمائي لدى العديد من الزملاء الذين شاهدوا العرض.

ولا نبخس الممثلين حقهم في هذه المسرحية، فقد عملوا باقتدار على استهام طبيعة شخصيات تشيخوف المركبة والمعقدة، فكان الغالب في الأداء هو الرتم الداخلي العميق، والطاقة المكبوتة الموحية ومن ثم انفجار مدوي عاصف على المستوى الداخلي والخارجي، فالشظايا ليست صورة مشهديه سينوغرافية بقدر ما هي شخصيات ونفوس تتمزق على خشبة المسرح لتنثر شظاياها على الجمهور. "شظايا" هي مسرحية فرجة بالدرجة الأولى، تستعصي على الوصف وتستعصي على الناقد أو المتابع أن يفيها حقها.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی المسرحیة

إقرأ أيضاً:

بعروض مسرحية وورش إبداعية.. قصور الثقافة تواصل فعالياتها بقرى«حياة كريمة» بدمياط

قدّمت الهيئة العامة لقصور الثقافة، برئاسة اللواء خالد اللبان، جولة جديدة من الأنشطة الثقافية والفنية ضمن فعاليات الأسبوع المنفذ بقرى مبادرة "حياة كريمة"، بمركز كفر سعد بمحافظة دمياط، في إطار برامج وزارة الثقافة المصرية لتعزيز العدالة الثقافية.

نفذت الفعاليات بإشراف الكاتب محمد ناصف، نائب رئيس الهيئة، وشهدت حضور كل من أحمد يسري، مدير عام ثقافة الشباب والعمال، د. بدوي مبروك، مدير عام الإدارة العامة لثقافة القرية، المخرج محمد صابر، مدير عام الإدارة العامة للمواهب، ونجوى كيوان، مدير فرع ثقافة دمياط.

واستهلت مع الورش الفنية والحرفية بمشاركة أطفال وشباب جمعية الابن الخاص والتنمية لرعاية ذوي الإعاقة بكفر سعد.
وقامت المدربة هند الشناوي خلال ورشة "فن الماندالا"، بتدريب المشاركين على هذا الفن التشكيلي الذي يستخدم كوسيلة علاجية لتهدئة الأعصاب من خلال تلوين وحدات متكررة، ولاقت الورشة تفاعلا إيجابيا من المشاركين.

وفي ورشة "الطباعة بالاستنسل" واصل المدرب فادي السيد، تدريباته على تصميم لوحات فنية تضم أشكالا متنوعة من الزهور والفراشات وغيرها من الأشكال بطريقة إبداعية.

وفي ورشة "الأركت"، قدم المدرب أيمن السعدني، شروحات مبسطة لتصميم أشكال ديكورية كوحدات الإضاءة والتابلوهات.
وأعربت المتدربة نور حسين، عن سعادتها للمشاركة في الورشة، مشيدة بجودة التدريب وسهولة التطبيق.

وشهدت ورشة "أشغال المكرمية"، للمدربة سارة أبو صالحة، تنفيذ معلقات وحقائب بالخيوط الملونة بتقنيات مختلفة.
وأعربت المتدربة منال يحيى عن امتنانها بالورشة المجانية التي أتاحت لها تقديم أول عمل فني خاص بها.
كما استمرت فعاليات ورشة "تصميم الحقائب بالخرز" للمدربة رانيا سرحان.

من ناحية أخرى، واصلت الباحثة سمر عناني حديثها خلال ورشة "الحكي الشعبي"، عن رحلة العائلة المقدسة إلى مصر، بجانب تقديم مجموعة من الأمثلة والقصص الشعبية. 
وأبدى المتدرب عبد الله محمد إعجابه بالورشة، مشيرا إلى اكتسابه معارف جديدة حول الألعاب الشعبية والحكايات التراثية المتعلقة بالعادات والتقاليد.

أعقب ذلك لقاء توعوي استكملت خلاله د. رغدة عبد الحليم، مدير إدارة التوعية بالشركة القابضة لمياه الشرب، الحديث عن "ترشيد الاستهلاك"، كما تواصلت فعاليات ورشة تعليم "أساسيات السباكة"، وفقرة الألعاب التفاعلية التي تهدف إلى تقديم رسائل توعوية للأطفال بأسلوب مبسط.

كما تضمنت الفعاليات تقديم اسكتشات مسرحية متنوعة، بجانب عرض مسرحي، بعنوان "الوردة الزرقاء" لفرقة قصر الطفل بجاردن سيتي، من تأليف وإخراج فاطمة المعدول، وتدريب عبير شلتوت.

بالإضافة إلى فقرات فنية بمشاركة الطلاب الموهوبين من المدارس الصناعية والفنية، ومدرسة المدينة المنورة الابتدائية، تنوعت ما بين "إلقاء الشعر، الغناء، التمثيل، الاستعراض، والإنشاد الديني".
فيما استمر توافد الرواد على معرض الكتاب "يلا نقرأ" الذي يضم أحدث إصدارات الهيئة العامة لقصور الثقافة بأسعار مخفضة.

واختتم اليوم بتكريم عدد من الأمهات المثاليات على مستوى المحافظة، وعمدة القرية، وكذلك القائمين على الفعاليات الثقافية.

وتنظم هيئة قصور الثقافة الفعاليات، من خلال الإدارة المركزية للدراسات والبحوث برئاسة د. حنان موسى، وبالتنسيق مع إقليم شرق الدلتا الثقافي، بإدارة الكاتب أحمد سامي خاطر، وفرع ثقافة دمياط، وبالتعاون مع المجلس القومي للمرأة، وصندوق مكافحة المخدرات، والشركة القابضة لمياه الشرب، وجمعية رعاية ذوي الإعاقة بكفر سعد.

ومن المقرر أن تنتقل الفعاليات بدءا من اليوم الخميس إلى جمعية تنمية المجتمع بقرية الإسماعيلية، وتختتم غدا الجمعة بمركز شباب كفر سعد.

مقالات مشابهة

  • بعروض مسرحية وورش إبداعية.. قصور الثقافة تواصل فعالياتها بقرى«حياة كريمة» بدمياط
  • مسرحية إيرانية عنوانها إخفاء الميليشيات
  • مأرب.. مقتل نجل القيادي والبرلماني الإصلاحي "منصور الحنق" بنيران الحوثيين
  • تحركات جزائرية لترتيب قمة ثلاثية في طرابلس
  • مدرب صور: النقاط الثلاث أهم من المستوى الفني !
  • وداعة- مسرحية الثوري.. من صفقة الشقة السرية إلى وشاية إسرائيل!
  • ستيفن بيرجوين قد يغيب عن المباريات الثلاث المقبلة في دوري روشن
  • مصر.. سجال اشتعل بين وسيم يوسف وأمير سعودي بعد تدوينة عن البلد
  • إصابة لبنانيين بنيران العدو الصهيوني جنوبي لبنان
  • لبنان: جريح بنيران الاحتلال في ميس الجبل