أصير شخصا آخر في يوليو، تحترق أوراق النباتات على شباكي، تشاركني اكتئابي الموسمي، في يوليو يصاحبني خمول شديد طوال اليوم يصل ذروته وقت العصر، أهرب منه إلى النوم واستيقظ بجسد منهك، ومزاج متقلب تفشل في عدله فناجين القهوة، وعلب السجائر.

أنتفض على رنين الهاتف.. ألمح اسمها فألتقطه سريعا فيسقط من يدي، أنتظر تلك البحة في صوتها، فتعيدني لسنوات بعيدة آخر عهدي بصوت أمي، لم نتقابل رغم معرفتنا التي تجاوزت العامين، كل مرة تعرفني بنفسها وكأنها المرة الأولى "أنا بسنت.

. مديرة مؤسسة حياة".

جاملتني اليوم بعبارة لم أسمعها من قبل " أحيى إنسانيتك " تبعتها بجمل مقتضبة عن عجوز مريض، وازدادت بحة صوتها وهي تقول " لو راح مكان غير عندك هيموت". صرت أراها من خلف صوتها، أعلم حالتها، وأدرك أحاسيسها، أنهت حديثها ككل مرة "أتمنى تزورنا في المؤسسة قريب" تلك العبارة التي تختلف فيها بحة صوتها كل مرة عن سابقتها.. عبارة تطورت من المجاملة إلى التمني، ثم إلى ما هو أبعد عن قصد لم أقل خلال المكالمة سوى ثلاث عبارات: "أشكرك"، "تحت أمرك"، " مع السلامة"، تاركا لصوتها المجال لينشر دفئه المعتاد.  

منذ سنوات اخترت الانتقال إلى المحراب، هكذا يطلق حسن وأحمد - رفقاء درب العمل الخيري- على استراحتي الصغيرة بجوار الدار الخيرية التي بناها والدي في المنصورية، قبل رحيله عن الحياة، ويضمهما سور واحد تعزله الأشجار العالية عن كل شيء سوى السماء.

في يوليو الماضي جمعتني الصدفة برانيا في عزاء راضي، أقدم نزيل بالدار التي تستضيف المسنين مرضى الزهايمر، يوم عزائه رأيتها تستند بيدها إلى سيارتي، وباليد الأخرى تمسح دموعها المنسابة خلف النظارة الشمسية الكبيرة لم تنتبه لصوت ريموت فتح السيارة، فانتظرت لبرهة لكنها ظلت على حالتها.. "إنتى كويسة"؟، انتبهت وأومأت برأسها "تحبي أوصلك؟ رايحة فين؟" لم نتبادل الحديث طوال الطريق من مصر الجديدة إلى المعادي عندما توقفت كانت تعبث بحقيبتها، ناولتني قلما وبصوت خفيض قالت "تليفونك" وهي تضع يدها الأخرى قبالتي في إشارة لكتابة رقمي على يدها، هممت بالبحث عن ورقة فوجدتها تقرب يدها أكثر، بصعوبة حاولت الكتابة على يدها المتعرقة دون أن أؤلمها. لا أتذكر أنها شكرتني على توصيلها، بعد مغادرتها ندت عنها التفاته سريعة قبل أن يبتلعها مدخل العمارة الضخم، ملامح دقيقة، جسد ضئيل، شعر بني قصير، وأقراط عديدة تبرق بأذنيها الصغيرتين، أصرت على توطيد العلاقة سريعا وأعجبني ما بذلته من جهد؛ كان كفيلا لعزوف مثلي أن يتركها تقترب.
جذبتني عفويتها وإيقاع روحها ذات الوتيرة الواحدة وسط كل هذا الصخب، جبنت أن أتوقف لأسأل نفسي عن حقيقة إحساسي ناحيتها، فقط حرصت على أن أبقيه تحت السيطرة ولم أكن أدرك أن ذلك يزيد روحي إرهاقا

تركتها تضع الحدود، اختارت متى نتقابل وأين.. في البداية اكتفت بقضاء ليلة كل أسبوع بالمحراب، تأتى ليلا وترحل في الصباح الباكر، غير ذلك اختارت التواصل عبر رسائل الموبايل عوضا عن المكالمات.. بعد فترة أصبحت تقضى ليلتين أو أكثر، وصارت لا تهتم بأوقات المغادرة وعن قصد تركت انطباعا للعاملين بالمكان بأنها زوجتي تزامنا مع تلميحاتها حول الزواج وكونه فكرة رجعية بلا معنى.. اليوم يمر عام على وجودها بحياتي ومازالت الوحدة تسكنني!.

الساعة الثانية صباحا، فرغت علبة سجائري، وعلبة المنوم، ومواجهتي لنفسي.

الأيام في يوليو متشابهة ثقيلة مثل ردها المتوقع على رسالتي "هجيلك لو خلصت مع أصحابي بدري".
في الصباح أرمي قطرات من الدواء على عيني المحترقتين بليالي يوليو، وأخفي الهالات السوداء بنظارات قاتمة لا تفارقني حتى الغروب 
في المساء أعبر الممر الخلفي بين الدار والمحراب، ألمح المزيد من أوراق النباتات تقاوم الاصفرار الذي يسبق احتراقها، لم أكترث لانعكاسات ضوء الغرفة الصغيرة من خلف زجاج بابها الملون معلنا عن وجودها.. أقاوم اشتياقي لحضن أعلن فيه عن ضعفي الإنساني، وأنا أكاد أراها من خلف الباب تلصق وجهها باللابتوب الصغير تتابع أعمالها، تراجعت إلى غرفة نومي.. ألمح مفرش السرير الحريري ذي اللون الذهبي؛ تلك المفارش التي تفضلها مع موسيقى غريبة ليلة ممارسة الحب، لم أشك لحظة أنها تعلم أنى لم أصل معها أبدا إلى نشوتي كرجل، وبدا أن ذلك لا يعنيها، جسدها النحيل المنهك طوال اليوم في عملها، وعقلها المتهاوي في رحلة اللهاث في ماراثون لا ينتهي من مصالح، ومجاملات؛ وتنازلات، يتركانها نهاية كل يوم كقطعة أثاث قديمة تسمع صوت طقطقتها كل حين، صرت أشك مؤخرا أن وجودها هدفه فقط أن تنافس في جلسات الشلة المتباهيات بوجود حبيب.

الليلة قررت ألا أمارس معها تلك التمثيلية الساخرة، أغمضت عيني، فوجدت وجهه المحاصر بالتجاعيد يطاردني، اعتدلت على جانبي الأيمن وهززت رأسي بإصرار أسقط ملامحه من مخيلتي.. فملامح راضي قبل رحيله لم تكن تئن تحت وطأة المرض بقدر ما تصرخ من الوحدة، بعدما تباعدت زيارات أبنائه، وغيب الموت زوجته التي واظبت على زيارته على كرسي متحرك حتى فتراتها الأخيرة ورغم أنه لم يكن يدرك من هي ولا أنها رحلت إلا أن شيئا به انكسر.. عدت أتقلب في سريري وأستقر على جانبي الأيسر، وملمس الفراش الحريري يستفز جسدي.

ثعبان قرمزي ذو رأس كبيرة يتسحب على طرف الفراش الذهبي، لا أعلم كيف رأيته بوضوح وسط العتمة، أندفع بقوة مغادرا سريري، أطير في الهواء وأهوي مصطدما بحواجز كثيرة، تسقط مع جسدي وفوقه لحظة ارتطامه بالأرض. لم أستطع كتم أنيني، والألم يعتصر جسدي، تطن أذني بضجيج صادر من أعماقي، لا أعلم أين أنا ولا ماذا يحدث؟!. أحاول النهوض ولا أستطيع، أزحف في كل اتجاه.. أتحسس ما حولي، بصعوبة أتمكن من النهوض، بعض من ارتياح ينتابني عندما تلامس يدي مقبض الباب. خرجت إلى الردهة، اعترت جسدي قشعريرة، أنزع قميصي الملتصق بجسدي المبلل بالعرق الغزير، وأطوحه بعيدا.. كل شيء يبدو في مكانه، حجرة المكتب مازالت مضاءة، أعود الى سريري 
يغمر ضوء الصباح غرفتي ذات النوافذ الزجاجية الملونة، تاركا في عيني المفتوحتين منذ الأمس حرقة شديدة،
أرفع وجهي ناحية رزاز الماء المندفع من الدش، يأتيني صوتها "أنت زوغت فين امبارح؟"، لم تنتظر إجابة على السؤال، انفردت بمرآة الحمام تضع عدساتها اللاصقة، ندت عنها التفاته سريعة ناحيتي وأنا أجفف جسدي.." إيه الكدمات اللي في جسمك دي؟ أكيد ما سمعت كلامي وركبت الموتوسيكل "سؤال آخر لم تنتظر إجابته وغادرت!.
الآن أدرك أنها لم تكن إلا جزءا من ارتحالي نحو عالم أقل وحدة، الحقيقة إن وجودها قد زاده حدة.
بجوار البوابة الكبيرة أقف أتفقد حالة الموتوسيكل المهمل من شهور.. في طريقي إلى "مؤسسة حياة"، أتعمد ألا أنظر إلى مؤشر البنزين، بل وأتغافل عن ارتداء الخوذة؛ لربما ليوليو وأحزانه قليل من النسيم.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: علياء مصطفى فی یولیو

إقرأ أيضاً:

"الاقتصاد نيوز" تنشر المقررات الكاملة لجلسة مجلس الوزراء

الاقتصاد نيوز - بغداد

تنشر "الاقتصاد نيوز"، المقررات الكاملة لجلسة مجلس الوزراء السابعة عشرة المنعقدة، الثلاثاء، برئاسة رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني.

وقال المكتب الإعلامي لرئيس الوزراء في بيان، اطلعت عليه "الاقتصاد نيوز"، إن "السوداني ترأس، اليوم الثلاثاء، الجلسة الاعتيادية السابعة عشرة لمجلس الوزراء، جرت فيها مناقشة الأوضاع العامة في البلاد، ومتابعة عدد من الملفات المندرجة ضمن الخطط الستراتيجية للحكومية، فضلاً عن التداول في الموضوعات المدرجة على جدول الأعمال واتخاذ القرارات اللازمة بشأنها".

وأضاف البيان، أن "مجلس الوزراء وافق على تخويل السادة؛ أمين بغداد والمحافظين، بحسب التخصص، صلاحية تخصيص قطع الأراضي التابعة للمؤسسات البلدية إلى الدوائر الحكومية الخدمية لاستخدامها للأغراض الرسمية، وذلك استنادًا إلى أحكام قانون إدارة البلديات (165 لسنة 1964) المعدّل".

وزاد أنه "في إطار الاتفاقية الستراتيجية الموقعة بين العراق وتركيا، خلال زيارة الرئيس التركي إلى بغداد في نيسان الماضي، خوّل المجلس السيد وزير الموارد المائية صلاحية توجيه الدعوات والتوقيع لتنفيذ مشروعات؛ (ريّ الجزيرة، وريّ الحويجة، وسد أبو طاكية، وسدّ الأبيض، وسدّ الخزر".

واشار إلى أنه "ضمن جهود الحكومة في مجال البيئة، صوّت المجلس على اعتماد "المبادرة الوطنية للرقابة والتفتيش البيئي"، كإجراء وطني ستراتيجي، مع الأخذ بعين الاهتمام تعديل المبادرة لتتضمن تولي وزارة البيئة التعاقد مع الجهات المختصة لتقديم الدعم الفني واللوجستي للمراقب البيئي على وفق القانون".

وتابع: "في إطار الجهود الصحية لمواجهة الأوبئة، أقر مجلس الوزراء توصيات لجنة الأمر الديواني (23514 لسنة 2023) بحسب الآتي:

1-         اعتماد اللجنة الوطنية للصحّة الواحدة، الجهة الوطنية المسؤولة عن إدارة الأحداث والأزمات الصحّية والوبائية كافة، وأخذ القرارات الضرورية لحماية المجتمع، وتكون هي الجهة المعنية بتقويم الفعاليات وتوجيهها مع الجهات المختصة، لضمان استجابة متكاملة ومتناسقة للأمراض الوبائية.

2-         السماح باستيراد اللحوم أو الحيوانات الحيّة، مع التأكيد بأخذ الإجراءات الضرورية كافة، للتأكد من سلامتها قبل وبعد دخولها إلى العراق، حفاظاً على الأمن الغذائي.

3-        تمويل وزارة المالية مبلغ (3) مليارات دينار، من موازنة احتياطي الطوارئ، إلى اللجنة الوطنية للصحّة الواحدة، لتمكينها من تنفيذ إجراءات السيطرة على تفشي الأمراض، وفق خطة تشغيلية لها، بما يصبّ في السيطرة على الأمراض ومن ضمنها النشاط الإعلامي والتوعوي والإرشادي والرقابي، بحسب تبويب وزارة الصحة وكما يأتي؛ (1.750) مليار دينار إلى وزارة الزراعة، و(1) مليار دينار إلى وزارة الصحة، و(250) مليون دينار إلى وزارة البيئة.

4-        إعطاء استمرارية خدمة للمجازر الحكومية، لمدّة (3- 5) سنوات، بعد تأهيلها بالمتطلبات الضرورية، ووحدات المعالجة والإشراف البيطري.

واكمل البيان، أنه "في ملف الكهرباء، وافق المجلس على ما يأتي:

أولاً/ الدعوة الخاصة بالصيانة طويلة الأمد (LTSA) للوحدات الـ (DIBIS 2×160 MW GTE-160) لمدة خمس سنوات، لـ(محطة كهرباء الدبس الغازية) بعهدة شركة (سيمنس انيرجي) الألمانية، بمدة تنفيذ وصيانة (5 سنوات)، بحسب جدول التوقيتات الزمنية، ومدّة ضمان التشغيل مستمرة خلال 5 سنوات و(365 يومًا) على حساب الموازنة التشغيلية لوزارة الكهرباء بعد آخر صيانة، ومن منشأ أمريكي أو أوروبي، واصلة إلى موقع المحطة على نفقة الشركة الألمانية، وتخويل السيد مدير عام الشركة العامة لنقل الطاقة الكهربائية/ المنطقة الشمالية صلاحية توقيع العقد مع الشركة.

ثانياً/ إحالة الدعوة الخاصة بتجهيز مواد/ مرحلة أولى لتأهيل الوحدات (1، 2، 4) محطة كهرباء المسيب الحرارية، بعهدة شركة (سيمنس إنيرجي) الألمانية، بحسب أسلوب الدفع المقدم من الشركة، وتخويل السيد مدير عام الشركة العامة لإنتاج الطاقة الكهربائية/ الفرات الأوسط صلاحية الإحالة والتعاقد، على أن تكون الإجراءات الخاصة بالعقد على وفق تعليمات تنفيذ العقود الحكومية (2 لسنة 2014) والضوابط الملحقة بها.

وأبرز البيان، أنه "في قطاع النقل، جرت الموافقة على تخويل وزير النقل صلاحية التفاوض والتوقيع على مشروع اتفاقية تعاون بين العراق وتونس في مجال النقل البحري، استنادًا إلى أحكام الدستور، وإعداد وزارة الخارجية وثيقة التخويل اللازمة، ورفعها إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء من أجل استحصال توقيع رئيس مجلس الوزراء".

ووافق المجلس على مشروع قانون حماية المُسعف والمنقذ التطوّعي الذي دققه مجلس الدولة، وإحالته إلى مجلس النواب، مع الأخذ بعين الاهتمام ملحوظات الدائرة القانونية في الأمانة العامة لمجلس الوزراء، في ظل التغيرات التي أجراها مجلس الدولة على مشروع القانون المذكور آنفًا.

وأوضح أنه "ضمن العمل الحكومي الخاص بمشاريع البنى التحتية، وإنجاز المتلكّئ منها، جرت الموافقة على ما يأتي:

1.        زيادة الكلفة الكلية ومقدار الاحتياط لمقاولة مشروع (إنشاء الممر الثاني لطريق الرميثة– النجمي بطول (12.700 كم) المدرج ضمن موازنة محافظة المثنى، مع تعديل اسم المشروع ليشمل تفاصيل المقطع الجديد.

2.استحداث مكوّن (استشاري/ مهندس مقيم لمشروع الأعمال التكميلية لإنشاء مستشفى في محافظة البصرة) بضمنها مبلغ الاحتياط، مع زيادة الكلفة الكلية له، مع زيادة الكلفة الكلية لمشروع (إنشاء مستشفى في محافظة البصرة).

3.زيادة مقدار الاحتياط والكلفة الكلية لعقد (الإشراف الهندسي لمشروع تشييد مبنى الأمانة العامة لمجلس الوزراء).

وختم البيان، أنه "في إطار إكمال مشاريع المصافي النفطية، وافق المجلس على زيادة كلفة مكوّن (منح الرخصة P/2171/2(FCC,CCR,NHT,PENEX)) وزيادة مقدار الاحتياط للعقد المذكور ضمن الكلفة الكلية لمشروع (مصفى كربلاء).


ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التيليكرام

مقالات مشابهة

  • التجارة السورية تكشف لشفق نيوز حقيقة إرسال أطنان إضافية من القمح العراقي
  • "الاقتصاد نيوز" تنشر المقررات الكاملة لجلسة مجلس الوزراء
  • تربية السويداء تقيم معرضاً فنياً ونشاطاً ثقافياً في ثانوية عصام حرب
  • شفق نيوز تفتح ملف الأورام الخبيثة ومعاناة محاربي السرطان في بغداد (صور)
  • ما هي النباتات التي تعيش في الجو الحار؟
  • بمقابلات خاصة.. شفق نيوز تخوض في تفاصيل مباراة الشرطة وأربيل
  • علامة HONOR في السعودية توسع وجودها في المملكة من خلال متجرها الراقي الجديد في الرياض
  • شفق نيوز توثق فعاليات إيران إكسبو بمشاركة 100 دولة
  • جامعة الفيوم تنظم ندوة عن حماية الملكية الفكرية وتعزيز إبداعات الشباب
  • الله محبة.. إلهام شاهين تعلق على انضمامها لسفينة السلام