ماركيز وقارّة السحر المجهولة.. كيف عبرت مئة عام من العزلة حدود الزمن؟
تاريخ النشر: 3rd, September 2023 GMT
ما أن انتهى الروائي المكسيكي كارلوس فوينتس من قراءة الـ100 صفحة الأولى من رواية "مئة عام من العزلة" للكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، حتى أمسك بورقة وقلم، وراح يكتب: "لقد انتهيت للتو من قراءة الإنجيل الأميركي اللاتيني، وينبغي أن أحيي تلك العبقرية الحارة والمؤثرة لأحد أصدقائي الأكثر حميمية".
لم يكن ما كتبه فوينتس سوى رد فعل على تلك الرواية المدهشة، التي تمكنت من شق مسار منفرد لها في تاريخ الأدب العالمي، وحفرت اسم مؤلفها، في سجل الخلود الأدبي، إلى جانب من عرفتهم البشرية من أدباء لهم أسماء عصية على النسيان، فكما جرى مع العلامات الفارقة في عالم الأدب، كان على غارسيا ماركيز أن يضع بصمته التي ستظل باقية لسنوات بعيدة قادمة.
لا يتعلق الأمر بالعالم الغرائبي ومقدرته الفائقة على رسم الدهشة فوق ملامح القراء، ولا بالحكايات المذهلة التي يختلط فيها السحر بالواقع، التي يطلق ماركيز خلالها العنان لخياله الجامح، فربما كان كل هذا المزيج قد أسهم في حدوث ذلك، غير أنه من المؤكد أن استسلام القارئ وتصديقه تلك الحكايات، التي يدرك من الأساس أن حدوثها مستبعد، هو الذي يثير الدهشة حقا، ويؤكد في الوقت نفسه قدرة ماركيز على إقناع القارئ بإمكانية حدوث ما لا يمكن أن يحدث في الواقع.
ملحمة سرديةاختار ماركيز ذلك الأسلوب الذي جمع فيه بين الخيال بالغ الجموح والحياة اليومية برتابتها المعتادة، من أجل الوصول إلى الحقيقة الكامنة في التجربة الإنسانية عبر موضوعات تدور في مجملها حول الحب والموت والخيانة والصداقة والمرض والغدر والحنان.
واستطاع ماركيز أن يقدم ملحمة سردية، ما زالت تعد من بين الأعمال الفريدة، وأن يتابع من خلالها سيرة حياة عائلة بوينديا بكامل أفرادها وأجيالها، على مدى 100 عام، مجسدا عبرها العديد من المسائل الأساسية المتشابكة في التاريخ البشري، والتي تتعلق بالسلطة والعلاقات العائلية، وقضية العلم. لتشكل علامة فارقة في المشهد الثقافي والأدبي العالمي، من خلال ما اتصفت به من متانة في الأسلوب، وبراعة في اقتناص اللحظة الإبداعية، ورصد حياة الناس وتحولاتهم وتقاليدهم وأحلامهم، بحس سردي مرهف وإبداع منقطع النظير.
في رواية "مئة عام من العزلة" تتداخل الأحلام بالواقع، وتنتقل من حلم خوسيه بوينديا عن المدينة السرابية، إلى قلق أورسولا على أبنائها، فعندما رأى بوينديا أن مدينة صاخبة تنتصب في ذلك المكان، ورأى أن جدران بيوتها تتشكل من المرايا، سأل عن تلك المدينة، فأجابوه باسم لم يسمع به من قبل، وليس له أي معنى على الإطلاق، غير أنه كان في الحلم ذا رنين خارق للطبيعة: ماكوندو.
ومثلما "اخترع" ويليام فولكنر مدينة "جيفرسون"، للحديث عن مسقط رأسه في الجنوب الأميركي، ووصف من خلالها توالي الأجيال التي شهدتها، "اخترع" غارسيا ماركيز مدينة "ماكوندو" لتكون مدينة شبيهة بآركاتاكا، تلك التي ولد فيها في شمال كولومبيا، ليجعل منها، هي الأخرى، صورة لكولومبيا، بل وحتى لدول قارة أميركا اللاتينية.
ويرى ماركيز أن ماكوندو كانت يومئذ قرية تضم نحو 20 بيتا مبنيا من الطين على ضفة نهر صغير، مياهه صافية تنساب في مجرى تغطي أرضه حصى ملساء متلألئة بيضاء كبيرة الحجم، كأنما هي من بيض ما قبل التاريخ. ثم يغرق في سرده ليفصح عن عوالم خاصة ابتدعها بنفسه ورسم خيوطها بقلمه، وبنى سورها وحصنها بإبداعه المتألق.
يبحر ماركيز في ملحمته السردية في تاريخ المنطقة وشعبها متتبعا مسار تكونها ويقول: "في كل عام كانت تصل عائلة غجرية فقيرة فتقيم خيامها قرب القرية. وعلى أصوات الأبواق العالية وهدير الطبول الصاخبة، تقوم تلك العائلة بعرض المخترعات الجديدة".
ولكن قبل ذلك، تستهل أحداث هذه الرواية بهذا الملمح من الواقعية السحرية: "بعد سنوات عدة، وأمام فصيلة الإعدام رميا بالرصاص، يتذكر العقيد أوريليانو بوينديا، ابن خوسيه أركاديو، بعد ظهر ذلك اليوم البعيد عندما اصطحبه والده لاكتشاف الثلج".
قاعدة العجائبأراد ماركيز أن تكون ماكوندو مرآة لما يحدث ليس فقط في كولومبيا، ولكن في جميع أنحاء أميركا الجنوبية التي عاشت في عزلة عن العالم، مثلما أبقت على صلة متقطعة معه.
وقد أراد الإشارة إلى ذلك من خلال غجر "ميلكيادس"، الذين كانوا يقومون بين الحين والآخر بغزوها على قاعدة من العجائب من بينها الخرز والحلي، التي خدمت المبشرين والغزاة دائما، وقد اعتمد ماركيز في سرد ذلك، على أسلوبه المدهش، وطريقته المبتكرة في دمج أخاييل السحر مع تفاصيل الواقع، وبشكل مستمر، الأمر الذي أدى من خلال أسلوب بارع إلى اختلاق عالم أسطوري قادر على تسويق الوهم، ودفع القارئ إلى التعامل معه على اعتبار أنه حقيقة تجسدت يوما ما على أرض الواقع.
ومن يومها باتت "مئة عام من العزلة" واحدة من أهم الروايات في أدب أميركا اللاتينية، وفي العالم أيضا. تلك الحكاية التي قدمت أحداث قصة أجيال عائلة بوينديا، في الوقت الذي كانت فيه أميركا اللاتينية تمر بتغيرات سياسية واجتماعية كبيرة، وكانت تلك التغييرات تعكس حياة تلك العائلة، من خلال عمل معقد ومتعدد الطبقات يعني بتقديم نماذج دالة على ما تضمره الطبيعة البشرية.
عالم سحريعام 1967، رأت "مئة عام من العزلة" النور لتقلب فن السرد رأسا على عقب، وتمنح مؤلفها جائزة نوبل للآداب فيما بعد، وقبل ذلك ومن بعده، تتم ترجمتها إلى عشرات اللغات في العالم، وتروي حكاية المنشأ والتطور والخراب، الذي عاشته قرية متخيلة، ظهرت في الروايات الثلاث التي كان مؤلفها ماركيز قد نشرها سابقا، ويقوم هيكلها السردي على تاريخ سلالة بأجيالها المتعاقبة.
في هذه الرواية أعادنا ماركيز إلى الدهشة والمتعة والتشويق، كأننا في عالم ألف ليلة وليلة، أو في رحلة عوليس في الأوديسا حيث الإثارة والمفاجآت والعجائبية.
وراح ينقلنا في تلك العزلة إلى عالم السحر والدهشة، ومتعتها المتواصلة، تلك التي لا تكف الحكايات فيها عن التناسل، لتتحول عبر الخيال الجامح إلى رواية تعنى بمصير البشرية، وتمتزج من خلالها القضايا الكبرى والصغرى، والعلم والسلطة، والحب والنوازع والسحر والواقع، إلى درجة الوصول إلى ما يمكن لخيال ماركيز أن يبتكره، مثل ذلك المشهد الذي تطير فيه ريميديوس متجهة نحو السماء.
ربما لأجل ذلك راحت الروائية رضوى عاشور تقول إن "شهرزاد، جدتنا، منحت خيالها وحكاياتها بالتساوي لكل كتاب العالم". لكن غارسيا ماركيز ظل الكاتب الأمهر بمزجه هذه الخلطة العجيبة كلها بقوة سرد مدهشة وعمق إنساني فريد في الكتابة الروائية لينتج نصوصا يمكن أن تربح معركتها مع التاريخ ببساطة.
وهو نفس ما أشارت إليه الروائية نجوى بركات، حين قالت إن ماركيز كتب عن الحب والحرية والسياسة والإنسان والمجتمع، وفي كل ما كتبه نجد شيئا ما يُلامس حلم الإنسان بغد مشرق. وتضيف: "إننا لا نبالغ إن قلنا، إن ماركيز حض القارئ على خلق خياله المبدع. فالكتابة عنده هي مزاوجة بين الواقع والخيال". في حين يرى الروائي اللبناني جبور الدويهي أن ماركيز "جعلنا كقراء عرب نعي أكثر تفاصيل موجودة في واقعنا، جعلنا ننتبه إلى قرانا، إلى دواخلنا، إلى الأنظمة الدكتاتورية التي تتحكم بمصائرنا".
ويضيف الدويهي أن "الواقع العربي لا يختلف كثيرا عن واقع أميركا اللاتينية وهذا ما يُقربنا أكثر إلى أدب ماركيز الذي أسس لأدب أميركا اللاتينية في وقت كانت تعاني فيه من إرهاصات وتخبطات. علمنا في مرحلة ما أن في إمكاننا تناول موضوع الدكتاتوريات السياسية بعيدا من التعصب الأيديولوجي الذي كان يقتل كتاباتنا عنها. فتح ماركيز للمجتمعات المكبوتة التي تحضر فيها الخرافة والسحر والشعوذة أفقا إنسانيا عميقا لا ينفصل عن الخيال. لذا، أقول إن ماركيز اكتشف قارة مجهولة في الأدب، فتح الباب عليها لكي يدخلها من يشاء".
ألاعيب سرديةفي إحدى حكاياته التي ظلت تتوالد من حكايات سابقة، يتحدث عن أم جدة أورسولا التي ارتعبت من قرع أجراس الإنذار ودوي المدافع، ففقدت السيطرة على أعصابها، وجلست على الموقد المشتعل، فخلفتها الحروق وقد تحولت إلى زوجة لا نفع فيها مدى الحياة، ولم يعد بإمكانها الجلوس إلا على جنب واحد، محاطة بالوسائد. ولا بد أن شيئا غريبا قد أثر على طريقتها في المشي، لأنها لم تعد قط إلى السير على مرأى من الناس.
يضيف ماركيز أن الفجر كان يفاجئها وهي في الفناء، فلا تجرؤ على النوم، لأنها كانت تحلم بأن الإنجليز، ومعهم كلاب اقتحامهم المتوحشة، يدخلون من نافذة مخدعها، ويخضعونها لأعمال تعذيب مخجلة، بحدائد مُحماة حتى الاحمرار. فقرر زوجها الانتقال بأسرته للعيش بعيدا عن البحر، وبنى هناك عند أحد منحنيات سلسلة الجبال لزوجته غرفة نوم بلا نوافذ، كيلا يجد قراصنة كوابيسها مكانا يدخلون منه.
وينتقل ماركيز في فصل آخر ليشير إلى أن خوسيه أركاديو بوينديا -الذي كانت له مخيلة جامحة تتجاوز على الدوام عبقرية الطبيعة وتمضي إلى ما وراء الإعجاز والسحر- حين رأى المغناطيس في يد الغجري بينما سيطر الذعر على الجميع، فكر في أنه بالإمكان استخدام ذلك الاختراع يوما لاستخراج الذهب المدفون في الأرض.
وفي موضع آخر، يشير ماركيز إلى أن أورليانو، وهو أول كائن بشري ولد في ماكوندو، كان صامتا ومنطويا على نفسه. وقد بكى وهو في بطن أمه، وخرج إلى النور بعينين مفتوحتين. وبينما هم يقطعون له الحبل السري، كان يحرك رأسه من جهة إلى أخرى، ليتعرف على أشياء الغرفة، ويتفحص وجوه الناس بفضول ومن دون دهشة.
ويتحدث عن الأب خوسيه أركاديو الذي كان يتحدث لحفيديه عن عجائب الدنيا، ليس بالقدر الذي تتيحه له معارفه، وإنما بعصر مخيلته إلى حدود لا تصدق، وكان أن تعلم الطفلان أنه بالإمكان اجتياز بحر إيجه سيرا على الأقدام، بالقفز من جزيرة إلى أخرى.
في حين يشير ماركيز إلى ببغاوات الغجر الملونة بكل الألوان، التي ترتل أغنيات رومانسية إيطالية، والدجاجة التي تبيض 100 بيضة ذهبية على إيقاع الدف، والقرد المروض الذي يحزر الأفكار، والآلة المتعددة الاستخدامات التي تنفع في الوقت نفسه لتثبيت الأزرار وخفض حرارة الحمى، وجهاز نسيان الذكريات الخبيثة، ولزقة تبديد الوقت. وألف اختراع آخر جميعها عبقرية وفريدة، حتى أن خوسيه أركاديو بوينديا رغب في اختراع آلة الذاكرة، كي يتذكر كل تلك الآلات.
واقعي وعجائبييستخدم ماركيز لغة ساحرة تختلط عبرها حيل الواقع بالعجائبي، وهو ذلك النهج الذي مكن أدباء كثر في أميركا اللاتينية من جذب انتباه القراء في جميع أنحاء العالم، في أعقاب تمكنهم من إنتاج عديد من الروايات الناجحة، فإلى جانب ماركيز، هناك يوسا وبورخيس والليندي وكاربنتيه وكورتاثار واستورياس، وغيرهم ممن يحتلون مكانة سامقة في خريطة الرواية العالمية، وينتمون إلى تلك القارة اللاتينية. ولم يحدث ما يماثل ذلك في المنطقة العربية رغم تشابه الظروف بين هذه المنطقة وتلك القارة، والقراءة في رواية ماركيز أو الروايات التي كتبها أدباء تيار الواقعية السحرية قد تذكرنا بما تعايشنا معه من تلك الحكايات التي زرعتها فينا غرائب ألف ليلة وليلة، والأساطير التي تناقلتها أجيالنا، التي يؤكد ماركيز وبورخيس وآخرون من أدباء تلك القارة والقارات الأخرى أنهم نهلوا منها، واستفادوا من إلهامها، في خلق عوالم رواياتهم.
ويحكي ماركيز في الصفحات الأولى لروايته وهو يقدم شخصيات ملحمته عن أن خوسيه أركاديو بوينديا، الذي لم يكن يؤمن آنذاك بنزاهة الغجر، استبدل بغلة وماعز بسبيكتين ممغنطتين. بينما كانت زوجته أورسولا إيغوران تعقد الأمل على تلك الحيوانات، لتوسيع ميراث الأسرة الهزيل، لكنها لم تتمكن من ثنيه عن عزمه، فقد رد عليها زوجها: "عما قريب سيكون لدينا فائض من الذهب لتبليط أرضية البيت"، وانهمك طوال شهور في إثبات صحة تكهناته، وارتاد المنطقة شبرا شبرا، بما في ذلك قاع النهر، وهو يجر وراءه السبيكتين الحديديتين، ويرتل بصوت عال تعويذة الغجري ميلكيادس، وكان الشيء الوحيد الذي استطاع استخراجه من باطن الأرض، "هو درع حديدية من القرن الخامس عشر، جميع أجزائها ملتحمة بطبقة من الصدأ، ولجوفها رنين أجوف، كرنين قرعة ضخمة مملوءة بأحجار. وعندما تمكن خوسيه أركاديو بوينديا ورفاق حملته الأربعة من فك مفاصل الدرع، وجدوا فيها هيكلا عظميا متكلسا، يحمل قلادة نحاسية معلقة حول عنقه، فيها خصلة شعر امرأة".
يتحدث ماركيز في سيرته (غير الذاتية) -التي أوردها كتاب "حياة ماركيز" لجيرالد مارتن- عن سر الواقعية السحرية التي دارت أعماله حولها، بأن منطقة الكاريبي علمته رؤية الواقع بطريقة أخرى، وقبول عناصر ما وراء الطبيعة كجزء من تفاصيل الحياة اليومية هناك.
ويستطرد عقب ذلك، مؤكدا أن منطقة الكاريبي عالم قائم بذاته، ويشرح ذلك بالقول إن أول أثر من آثارها الأدبية السحرية هو "مذكرات سفينة" الذي كتبه المؤلف كريستوفر كولومبوس، معتبرا أن هذا الكتاب يتحدث عن نباتات خرافية، وعوالم أسطورية، لأن تاريخ الكاريبي مليء بالسحر، هذا السحر الذي جاء به العبيد الزنوج من أفريقيا، كما جاء به القراصنة السويديون والهولنديون والإنجليز، مؤكدا في الوقت نفسه أن الخليط البشري والتناقضات الموجودة في منطقة الكاريبي، لا يُمكن العثور على مثيل لها.
ويعود ماركيز ليؤكد: "إنني أعرف كل جزرها. فتيات مولدات ذوات بشرة بلون العسل، وعيون خضراء، ومناديل رأس ذهبية. صينيون مهجنون من السكان الأصليين يغسلون الملابس، ويحملون التمائم. هنود حمر يخرجون من دكاكينهم التي يبيعون فيها العاج في وسط الشارع، قرى مليئة بالغبار قائظة، تدمر الأعاصير منازلها. وعلى الجانب الآخر، ناطحات سحاب بزجاج ملون وبحر بـ7 ألوان".
وحين سأله الكاتب الفنزويلي ميندوزا: "ماذا كنت قد وضعت نصب عينيك عندما جلست لكي تكتب (مئة عام من العزلة)؟"، رد ماركيز قائلا: "التعبير تعبير أدبي مُحكم عن جميع التجارب التي كانت قد مرت بي بطريقة من الطرق في أثناء طفولتي، فأنا لم أرد سوى تقديم شهادة شعرية عن عالم طفولتي. هذه الطفولة التي أمضيتها، في منزل واسع كئيب، مع أخت كانت تأكل التراب، وجدة كانت تحدس المستقبل، وأقارب كثيرين كانوا يحملون الأسماء الأولى نفسها، ولا يميزون بين الغبطة والجنون تمييزا كبيرا".
من المؤكد أن رواية "مئة عام من العزلة" واحدة من أعظم الأعمال الأدبية في القرن العشرين، لأنها من خلال سردها لقصة حياة عائلة بوينديا عبر 100 عام، وارتباطها بتجربة أميركا اللاتينية وتاريخها وتحولاتها الاجتماعية والسياسية، وابتكارها لتقنيات سردية جديدة، من بينها الجمل والفقرات الطويلة والتدفق السردي، استعرضت تعاقب الزمن والأحداث التي تؤثر في أفراد العائلة وتحولات المجتمع الذين يعيشون فيه. ولعل هذا هو ما يضع هذه الرواية على قائمة الخلود، انطلاقا من أسلوبها السردي الفريد، الذي يمزج فيه ماركيز بين الواقع والخيال بطريقة غير تقليدية، يبدو فيها العالم الواقعي متحديا لقوانين الطبيعة، وتتجاوز خلاله الرواية حدود الزمن بطريقة مبهرة، تروي الأحداث عبرها مرور الأجيال والعقود دون انقطاع.
إلى جانب تقديم الرواية لعديد من الشخصيات التي تتطور مع مرور الزمن وقيام الرواية بتناول جوانب متعددة من الحياة الإنسانية، مثل الحب والوحدة والحرب والسلطة والزمن، بلغة مبهرة، تساعد في إيصال الأحداث والمشاعر بشكل بديع.
ألق فوضويأخيرا، استطاعت "مئة عام من العزلة" الجمع بين الأسلوب السردي الفريد والتعامل العميق مع مجموعة من القضايا الإنسانية والاجتماعية، مما جعلها تعتبر أيقونة أدبية ستظل باقية، عبر الأزمان.
ربما لهذه البراعة انتشرت "مئة عام من العزلة" وبقية أعمال ماركيز التي تشع جمالا وبساطة وشاعرية، وألاعيب سردية ماكرة أيضا، حول العالم، خالقا بواقعيته السحرية نصوصا، كانت لها أصداء هائلة، وهو ما تجسد في وصف الشاعر بابلو نيرودا للرواية بأنها "أعظم نص كتب باللغة الإسبانية منذ دون كيشوت".
لهذا كله، كانت "مئة عام من العزلة" -وستظل- واحدة من الأعمال السردية العابرة للزمن، التي ستضمن لاسم غابرييل غارسيا ماركيز البقاء في سجل الأعمال الأدبية الكبرى التي عرفها العالم.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: أمیرکا اللاتینیة من خلالها فی الوقت الذی کان من خلال
إقرأ أيضاً:
لذا لزم التنويه: الزمن في السجن (4)
"أضعُ علامة جديدة على الحائط، لأنهي شهرا بانتظارٍ آخرفي الحائطِ متسعٌ لمنتهى العمر.. عاما بعد عام
الحوائط -أصلا- لا تعبأ بالحياة، تماما كما لا يعبأ السجان
أما النفسُ فقد ضاقت بالعلاماتِ.. بالحوائط.. وبالانتظار"
ليس أحمق من بدء رحلتك السجنيّة بحساب الوقت، تلك العلامات على الحائط ستبقى ندوبا في روحك، حتى بعد خروجك، وإلى أن تموت، لن تنصلح علاقتك بالوقتِ وقد ظللت تحسبه يوما فساعة فدقيقة، بانتظارِ أن تخطّ خطا جديدا على حائط زنزانتك، لن تسامحه و-ربّما لن تسامح نفسك.
وليس أحمق كذلك من التخلّي عن الانتباه للوقتِ والوعي به، حفرةٌ هائلةٌ تترقّب ابتلاعك حينها، في لحظتك المناقضة لكلّ ما هو حيّ/حيوي أو إنساني، عليكَ أن تنتبه دون أن تسقط، عليكَ أن تعي -ربّما- حتى تستطيع التحايل. فالزمن السجنيّ ليس مجرّد معيار، إنّما معركة قائمة/مستمرّة بين حفرة اللحظة، وبين الماضي ذاكرة والقادمُ أحلاما، وكلّ احتيالٍ تقوم به سيكون جسرا يعبر بك إلى العالم والحياة والحريّة ولو لـ لحظات.
الوقت في السجن ليس محايدا، بل هو سلطة، أداةُ قمع، ومعركةٌ دائمة. ويكفي -بحسب فوكو- أن يُنتزع منك الحق في إدارة وقتك حتى تُنتزع إنسانيّتك بالتدريج، لا يحتاج الأمر إلى أسوار وأبواب ليحدث، فما بالك وكلاهما واقعٌ في حياتك السجنيّة؟ بين عشرات الجدران الأسمنتيّة الخرساء، وعشرات الأبواب الحديديّة الصدئة، تحدّد السلطةُ -حسب قوانينها أو حسب مزاج المختلّ صاحب القرار- متى تستيقظ ومتى تأكل ومتى تنام ومتى تتحرّك و-ربّما- متى تموت.
هي لا تسجن جسدكَ وحده حين تفعل، إنّما زمنك كذلك، وسجن الزمن ليس فقط أشدّ قسوة، إنّما أكثر قدرة على الإرباك، وإحداث الزلزلة فيما رسخ بنفسك وذهنك.
في السجن ليس ثمّة زمنٌ واحد، هناك زمنٌ آخر تحت الجلد وفي الدماغ أو الروح، زمنٌ داخليٌّ أشدّ بطئا وثِقلا من ذلك الآخر الدائر في تعاقب الليل والنّهار. إنّه ذلك الزمن الحيويّ الذي لا يدور مع عقارب الساعة أو يُنزع مع أوراق التقويم، بل تقيسه دقّات قلبٍ وتخلّجات جلد وتقلّباتُ نفس، دقيقةُ الانتظار تمتدُ فيه عمرا، ولمسةٌ في الزيارة تطولُ لتملأ أسابيع ما بين زيارتين.
والزيارةُ ليست ذلك اللقاء الذي يجرب تحت أعين الضباط والمخبرين وأجهزة التسجيل فحسب، بل هو نصٌّ مليءٌ بالعلامات وكل نصّ يفتح أبوابا للمعنى تمتد بعيدا عن الحوائط والقضبان: كلّ كلمة عابرة، نَفَس روتينيّ، رعشة شفاة، أو تشتّت فكرٍ ونظر.. يُعاد رسم الزمن حولها -كما الأفكار والهواجس- فتطول وتقصر حسب ما تحمله من أملٍ أو خيبة.وسطر في الرسالة قادرٌ على "شقلبة" عالمك لأيّام: تؤوِّلُ الكلمات، تستنبط النبرة والصوت، تفتّش عمّا لم يُقل وتفسّر ما لم يُبيّن، تقرأ الفراغات بين السطور قبل أن تقرأ الكلام المكتوب ذاته.
والزمنُ في السجن أزمانٌ، أو على الأقلّ هو زمنٌ مركّب: زمنٌ مسلوبٌ وآخر داخليّ مقاوم أو منكسر، وثالثٌ كنصٍّ يُعاد تأويله بعد قراءته مع كلّ رسالةٍ أو زيارةٍ أو خبر.
هكذا تصبح الرسالةُ براحا متحايلا، وشعاع حريّةٍ أو جسر عبورٍ مؤقّت إلى رحابة العالم من ضيق الزنزانة، وإلى الوقت الحيّ من مواقيت السجّان القسريّة.
والزيارةُ كذلك لا تعودُ مجرّد لقاءٍ جسديّ مؤّقت، بل طقسُ مقاومة، و"وعاء ادّخار" للمشاعر كما للجسد وللذاكرة كما للروح، يتجسّد فيها زمنك الداخليّ: عناق لحظةٍ يروي عطش أسابيع الحرمان، ونظرة واحدة تختزنُ عونا على ألف يومٍ من الغياب؛ الزيارةُ تعيد تشكيل الزمن، وتكسر إيقاع السجن المفروض.
حتى التريّض "ساعةُ الشمس في السجن" التي رأى درويش استحقاقها لأن تُذكر ضمن ما تستحقّ الحياة لأجله على هذه الأرض، يتحول إلى فسحة دلالية: خطى قليلة بين جدارين قريبين، تصبح إبحارا كاملا إلى ذكريات العمر جميلها وثقيلها، أو إلى مستقبلٍ تخلقه متجاوزا لإمكانات الواقع والجسد في خيالك الذي لا يُسجن.
في مواجهة زمننا السجنيّ، نبتكرُ جسورا أو ثغرات "ربّما ننفق العمر كي نثقب ثغرة ليمرّ النور للأجيال مرّة"، لكنّنا نفعل هذه المرّة ليمرّ النور والحريّة والحياة -ولو مؤقّتا وجزئيّا- لنا نحن.. جسور من أحلام مؤجّلة، من رسائل سوّد الكثير من سطورها حبرُ الرقيب، من زيارات تخرقُ الزمن ولو خرقتها أعين الضبّاط والمخبرين، من تريّضٍ يُستعاد فيه الجسد ولو لدقائق، ولو في الخيال المتفلّت من الرقابة والقمع.
ولأن فوكو علّمنا أن الزمن المراقب يخلق أجسادا طيّعة، فإن جسورنا ليست مجرد عزاء، بل مقاومة.. ولأن برغسون أهدانا فكرة الزمن الحي، فإن كل لحظة أملٍ -مهما خفت نورها- تمتد كالعروق تحت تراب الأسى.. ولأن بارت نبهنا إلى أن كل نصّ مفتوح على تأويلات لا نهائية، فإن كل رسالة وزيارة تصبح وثيقة حرية مكتوبة بالحبر الخفي للصبر.
هكذا يصبح السجن ليس موتا للزمن بالضرورة، كما يريد منه أن يكون، بل مولدا لأزمنةٍ جديدة: زمن الذاكرة، زمن الحلم، زمن التأويل، زمن الحب.. والوقت الذي كان سلاحا بيد السجّان، نصنع منه نحن جسورا صغيرة، ضيقة، لكنها تقود إلى عالم كامل من الحياة والحريّة.
سيأتي يومٌ -ولو بعُد-
تعالجُ ضمتُنا فيه كلَّ ما اعتَرَانا،
تسيلُ دمعاتُنا المؤجلات، وداعا لمن فُقد،
ننتشي بالشعر، بالأمنيات، بالحياة.
أنشغلُ عنها بصحبةِ موسيقاي وكتبي،
وتنشغلُ عني بتخيّل طفلٍ تأخرَ مجيئه.
ننحشرُ في مطبخٍ صغير، نعدُّ وجبة نحبها،
ولا يفيقنا من (قبلةٍ اعتراضية) إلا رائحة الشوّاط.
ننتفضُ في حضرةِ فلسطين، بتوقٍ وحنين.
نتأسّى على ثورتنا المغدورة،
نرفضُ الكراهيةَ والقبح،
نُكملُ الحلم، ونُكملُ الحياة.