حرب اليورانيوم.. المعركة القادمة بين روسيا والغرب في الساحل الأفريقي
تاريخ النشر: 3rd, September 2023 GMT
بمجرد استيعاب باريس صدمة وقوع انقلاب النيجر، خرج الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يوم 30 يوليو/تموز الماضي بتصريح يكشف عن حجم إحساسه بالخطر معلنا أن بلاده "لن تتسامح مع أي هجوم على فرنسا ومصالحها" في هذا البلد غرب الأفريقي. (1)
كان ماكرون يدرك حجم التهديد الذي قد يلحق بأمن الطاقة في المفاعلات الفرنسية، فالبلد الذي وقع تحت سطوة مجلس عسكري انقلابي مناهض لباريس (2) يُعَدُّ أقدم رابط بين فرنسا وبين اليورانيوم الذي يُشغِّل المفاعلات التي تولد كهرباء المستعمر القديم.
إرث فرنسي طويل
بمجرد تجاوز (3) لافتة "Arlit" التي كُتبت بحروف صدئة، يشعر المرء أن لقب "باريس الثانية" الذي حظيت به مدينة "أرليت" النيجرية في محله تماما، حيث تروي المدينة القابعة وسط الصحراء الكبرى على بُعد 900 كيلومتر شمال شرق العاصمة نيامي رواية مرور الاستعمار الفرنسي منها ذات يوم، قبل أن تنتهي هذه المرحلة باستقلال النيجر عام 1960.
على مدار الستين عاما الماضية، ظلت فرنسا (4) مهووسة بالحفاظ على موطئ قدم لها في دول غرب أفريقيا عامة، حيث أقامت العلاقات السياسية والدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية مع حكام دول مستعمراتها القديمة، وهي شبكة يُشار إليها غالبا باسم "فرانس أفريك" (Françafrique). لكن على مستوى خاص جدا، حظيت النيجر، وهي الدولة الفقيرة الواقعة في الساحل، بمكانة خاصة لدى باريس، إذ تساهم في إضاءة (5) واحد من كل ثلاثة مصابيح كهربائية في فرنسا، فيما تغرق غالبية المناطق في البلاد في العتمة، حيث لا يحصل ما يقرب من 90% من السكان على الكهرباء بانتظام.
اكتشفت فرنسا لأول مرة (6) اليورانيوم في أزيليك النيجرية عام 1957، قبل الإعلان رسميا عن افتتاح (7) أول منجم لتعدين اليورانيوم على يد الفرنسيين في مدينة أرليت عام 1971، حين قامت شركة "أريفا" الفرنسية المملوكة للدولة والمعروفة حاليا باسم "أورانو" بمهام استخراج المعدن الأكثر استخداما لتوليد الطاقة النووية الفرنسية.
ومع مرور الوقت، أصبحت أورانو تدير ثلاثة مناجم في النيجر (9)، واحد منها فقط قيد الإنتاج حاليا هو منجم "سومير" في أرليت الذي تديره الشركة بالشراكة مع شركة سوبامين النيجرية، فيما أُغلِق "منجم أكوتا" الواقع على بُعد نحو عشرة كيلومترات من المدينة عام 2021، مع ذلك لم تهجر أورانو الموقع، حيث ستقوم فيه بأنشطة "ما بعد المنجم" حتى عام 2033، وبالمثل أغلق (10) منجم "إيمورارين" الواقع على بُعد 80 كيلومترا جنوب أرليت أبوابه، وهو الذي يُعَدُّ موطنا لأحد أكبر رواسب اليورانيوم في العالم، حيث عُلِّق الإنتاج في الموقع بسبب عدم وجود ظروف سوق مواتية. وتعتمد فرنسا بشكل كبير على اليورانيوم في الطاقة النووية التي تولد منها الكهرباء* (11)، حيث لا تزال باريس واحدة من 13 دولة عضوا في الاتحاد الأوروبي تستخدم محطات الطاقة النووية (12) للحصول على طاقتها الكهربائية، وهي تجادل (13) بأن الطاقة النووية تقدم بديلا منخفض الكربون للوقود الأحفوري في إنتاج الكهرباء.
قبل عام 2000، كانت فرنسا (14) تعتمد بشكل أساسي على إنتاجها المحلي من اليورانيوم، لكن مع نضوب اليورانيوم داخل الأراضي الفرنسية حيث أغلق آخر منجم فرنسي عام 2001، ركزت الحكومة الفرنسية أكثر على سياسة التنويع في استيراد اليورانيوم من أصل أجنبي، بوصفه مصدرا آمنا لشركة الطاقة الفرنسية (EDF) المشغل لمحطات الطاقة النووية في فرنسا، وعملا (15) بتوصية قديمة العهد لوكالة الإمداد التابعة للجماعة الأوروبية للطاقة الذرية (Euratom).
وفي السنوات الأخيرة، ركزت (16) إستراتيجية باريس في جلب اليورانيوم على دول آسيا الوسطى مثل أوزبكستان وكازاخستان وأستراليا، وذلك لأسباب تتعلق بالتكلفة، فحتى عام 2022 كان لفرنسا خمسة موردين لليورانيوم: كازاخستان، وأوزبكستان، وأستراليا، وكندا، بالإضافة إلى النيجر التي ظلت (17) توفر 15% من احتياطات فرنسا من المعدن المشع، فيما تتحكم شركة أورانو في معظم إنتاج البلاد الذي يُشكِّل أكثر من 4% من إجمالي الناتج العالمي.
ورغم أن النيجر لم يعد الآن الشريك الإستراتيجي لباريس كما كان في ستينيات أو سبعينيات القرن الماضي، ظل استخراج اليورانيوم من النيجر على يد الفرنسيين حتى يومنا هذا قضية مشتعلة، وذلك بسبب بحجم مبيعات شركة أورانو الفرنسية، الذي كان قبل نحو عقد من الزمان (18) يصل إلى 9 مليارات يورو (12.4 مليار دولار) سنويا، أي يزيد على أربعة أضعاف الميزانية السنوية للنيجر (البالغة مليارَيْ يورو) بالكامل، حيث أثار ذلك غضبا داخليا حول ضرورة استخدام الأموال من الصناعات الاستخراجية لتعزيز التنمية في أحد أفقر بلدان العالم وأقلها نموا.
أثار الغضب أيضا حوادث الإهمال من قبل الفرنسيين الذين تركوا عندما استخرجوا اليورانيوم مستويات خطيرة من النفايات المشعة بين السكان المحليين الذين يعيشون بالقرب من المناجم، فقد تُركت (19) بلدة أرليت وحدها مع 20 مليون طن من النفايات المشعة بعد إغلاق منجم "أكوتا" في عام 2021.
اليورانيوم في قلب المخاوف الفرنسية
كان موظفو شركة أورانو الفرنسية منهمكون في عملهم عندما تلقوا خبر (20) وقوع انقلاب عسكري في البلاد يوم 26 يوليو/تموز الماضي. كان على إدارة الشركة الفرنسية آنذاك العمل على طمأنة موظفيها وتهيئتهم أيضا للتكيف مع السياق الحالي وأوله حظر التجول في جميع أنحاء النيجر. وبالفعل، استطاع (21) موظفو أورانو البالغ عددهم 900 شخص في النيجر -معظمهم مواطنون نيجريون- مواصلة أنشطتهم من داخل مقر الشركة في نيامي، وفي مواقع العمليات في أرليت وأكوكان، ورغم أنه لا يوجد حتى هذه اللحظة ما يشير إلى أن الشركة ستضطر إلى مغادرة النيجر، فإن مخاوف عدة أُثيرت لدى إدارة الشركة العاملة في البلاد منذ 50 عاما، كاحتمالية طرد المجموعة الفرنسية من قِبل العسكريين، أو وقوع أي طارئ يدفعها للانسحاب القسري.
في البداية، يمكن القول إن منع الشركة من استكمال عملها بأي شكل من الأشكال لن يقتصر على إلحاق خسائر اقتصادية جمة بها، فعدم وجود بديل عنها أو التخلي عن العمليات الأمنية في المنجم (22) سيؤدي إلى وقوع مخاطر صحية وبيئية كبيرة، بسبب تلوث المياه الجوفية التي قد يستخدمها السكان بترسبات اليورانيوم، حيث تؤدي الشركة مهام تغطية المخلفات والصخور المتبقية لمنع الغبار المشع من الانتشار أو منع مياه الأمطار من تحميل المياه الجوفية وتلويثها.
وفي وقت يُبرز فيه انقلابيو النيجر عضلاتهم متحدين فرنسا والمجتمع الدولي، لا يمكن تجاوز حقيقة كون فرنسا المستعمر القديم للبلاد تلعب دورا لا يمكن الاستغناء عنه على الفور. بادئ ذي بدء تقدم باريس (23) حزمة مساعدات اقتصادية وتنموية كبيرة منذ عقود للبلاد التي يعيش 40% من سكانها في وسط الفقر، حيث تُشكِّل المساعدات الخارجية 9% (24) من الناتج المحلي الإجمالي، ونحو 40% من ميزانية الدولة، فيما تتجه 33% من صادرات النيجر التي تعاني من انحدار اقتصادي حاد إلى فرنسا، وكلها تقريبا تتكون من الوقود المشع.
في الحقيقة، ستجد النيجر في حال إصرار الانقلابيين على إنهاء الوجود الفرنسي، واستمرار تعليق المساعدات الفرنسية من قِبل باريس، صعوبة في العثور على الشريك المناسب البديل للمساعدة في تعدين اليورانيوم ومتابعة عملية بيعه. أما بالنسبة للحكومة الفرنسية، فلا تقتصر مخاوفها على الضجر المتزايد من نفوذها السياسي المتقلص داخل النيجر وعبر منطقة الساحل على نطاق أوسع، بل تتخوف باريس من مصير استقرار الطاقة اللازم للصناعة النووية الفرنسية الضرورية بالفعل لإنتاج الكهرباء (25).
في هذا السياق، سرعان ما جاءت إشارات تدعم مخاوف باريس، مع تصاعد الخطاب المناهض لفرنسا من قِبل العسكريين الذين اتهموا الحكومة الفرنسية "بالرغبة في التدخل عسكريا" في بلادهم (26)، ليهدد المجلس العسكري في البلاد بعدها بتعليق صادرات المعدن الثقيل إلى فرنسا، وهو ما أعطى فكرة لباريس عما ينتظرها في واحدة من أهم مستعمراتها الأفريقية السابقة، بعدما تلقت في الآونة الأخيرة ضربات خطيرة متلاحقة بسبب الانقلابات المناهضة لنفوذها في دول مالي وغينيا وبوركينا فاسو.
في اللحظات الأولى لوقوع الانقلاب، جادل (27) الفرنسيون بأن منع اليورانيوم لن يكون ذا ضرر على فرنسا في المدى القصير والمتوسط، كون باريس تملك مخزونا إستراتيجيا من اليورانيوم في جميع مراحل التحول تعادل عامين من الاستهلاك. ومع ذلك لا ينكر الفرنسيون أنفسهم أن النيجر ما زالت تلعب دورا مهما في إمدادات البلاد من اليورانيوم، ومن شأن تعليق عملية استغلال هذا المعدن من النيجر المقدر بـ15% من احتياجات محطاتها النووية أن يؤثر على عملية حصولها على الطاقة، فنحو 70% من كهرباء فرنسا مستمدة من الطاقة النووية، إذ تُعَدُّ الدولة الأكثر اعتمادا على الطاقة النووية في العالم.
حرب اليورانيوم.. روسيا في المقدمة
كان زعيم (28) المجموعة الروسية شبه العسكرية فاغنر يفغيني بريغوجين -الذي قُتل مؤخرا في تحطم غامض لطائرته- من أوائل مَن تدخل في أزمة انقلاب النيجر، فالرجل الذي تدفق الآلاف من مقاتليه إلى دول مالي وبوركينا فاسو بعد استيلاء عسكري مماثل على البلاد سرعان ما عرض المساعدة على العسكريين في النيجر، وهو أمر أثار عدة مخاوف منها مصير اليورانيوم الذي يُصدَّر إلى فرنسا والاتحاد الأوروبي في حال قبول عرض فاغنر أو الروس عامة من قِبل المجلس العسكري في النيجر.
ومع عدم استبعاد احتمالية أن يلجأ (29) الحكام العسكريون الجدد في النيجر لاستخدام ورقة اليورانيوم ومنع شحناته عن الغرب ردا على عقوبات الاتحاد الأوروبي وقطع المساعدات، يتعين علينا الوقوف قليلا عند أهمية النيجر لاستقرار الطاقة الأوروبي، فنيامي كانت (30) في عام 2021 أكبر مورد لليورانيوم إلى الاتحاد الأوروبي، تليها كازاخستان وروسيا، وفقا لوكالة الإمداد التابعة للجماعة الأوروبية للطاقة الذرية، وهي الآن (31) سابع أكبر منتج لليورانيوم في العالم. تزيد أهمية النيجر إذا علمنا حجم أهمية الطاقة النووية في أوروبا، ففي عام 2022، شكَّلت (32) نحو 10% من استهلاك الطاقة في الاتحاد الأوروبي، دون نسيان معطى مهم للغاية، وهو أن النيجر لا تحظر استخدام اليورانيوم لإنتاج الأسلحة النووية، بينما يقصر منتجو اليورانيوم الرئيسيون الآخرون مثل أستراليا وكندا بشكل صارم استخدام المعدن على المجال المدني.
وحتى بالنظر إلى البدائل عن اليورانيوم النيجري، لا يقدم لجوء فرنسا والاتحاد الأوروبي إلى الدول المنتجة المهمة مثل كازاخستان أو أوزبكستان ضمانات حقيقة لاستقرار الطاقة، ففي وقت لن تتوانى روسيا عن استخدام الطاقة سلاحا اقتصاديا، فإن هذين البلدين (33) اللذين يُمثِّلان وحدهما نصف اليورانيوم الطبيعي الذي تستورده فرنسا ويُشكِّلان نحو 50% من إمدادات المعدن في العالم هما في المحصلة جمهوريتان سوفيتيان سابقتان تقعان تحت سطوة الكرملين، إذ يُنقَل كل وقودهما المشع على يد شركة روساتوم، وهي شركة الطاقة النووية الوطنية الروسية.
تُعد روسيا نفسها موردا كبيرا (34) آخر لليورانيوم المستخدم في المحطات النووية الأوروبية، وتُعَدُّ أيضا أحد أكبر مصدري اليورانيوم في العالم (35) (36)، وهي تسيطر على ما يقرب من نصف قدرة تخصيب المعدن المشع عالميا. يعني ذلك في المحصلة أن هناك قبضة روسية خانقة أطلق عليها المسؤولون الأميركيون (37) مؤخرا "نقطة ضعف إستراتيجية غير مستدامة"، فنحو ثلث اليورانيوم المخصب الذي استهلكته المرافق الأميركية العام الماضي آتٍ من روسيا. وفي وقت لا يزال اليورانيوم والطاقة النووية عموما غير خاضعة للعقوبات الدولية، فإن الاتحاد الأوروبي قد يكون مضطرا للتحول عن تبني (38) عقوبات ضد روسيا في القطاع النووي، أو على الأقل تأجيل هذه العقوبات حتى حين.
ومع إظهار موسكو استعدادها لدخول معركة النفوذ في النيجر، تخشى فرنسا والغرب من أن يقدم الكرملين فعليا على استخدام اليورانيوم بوصفه سلاحا اقتصاديا (39) لذا فإنهما تستعدان للدفاع عن مصالحهما حتى النهاية، مع يعني أن الدولة الساحلية الفقيرة والمهمشة في طريقها للتحول إلى ساحة لصراع النفوذ على حساب سكانها الفقراء والمهمشين.
لديها ثاني أكبر أسطول في العالم بعد أسطول الولايات المتحدة- البالغ عددها 56 في محطات الطاقة الثمانية عشر باستخدام اليورانيوم.
———————————————————————————————-
المصادر:(1) Niger coup leaders accuse France of wanting to ‘intervene militarily’
(2) A Shrinking Footprint in Africa for France, the Former Colonizer That Stayed
(3) A forgotten community: The little town in Niger keeping the lights on in France
(4) A Shrinking Footprint in Africa for France, the Former Colonizer That Stayed
(5) Niger coup will have global ramifications for the US, France, and Canada
(6) A guide: Uranium in Niger
(7) مصدر سابق
(8) How dependent is France on Niger’s uranium?
(9) مصدر سابق
(10) Niger is among the world’s biggest uranium producers
(11) Niger coup will have global ramifications for the US, France, and Canada
(12) Nuclear energy
(13) There’s a lot of posturing’: Europe’s nuclear divide grows as one plant opens and three close
(14) Crise au Niger : l’uranium au cœur des préoccupations françaises
(15) Après le coup d’État, quid de la dépendance à l’uranium du Niger ?
(16) Uranium : la crise au Niger, un risque pour l’approvisionnement de la France ?
(17) US/France threaten intervention in resource-rich Niger: Fears of war in West Africa
(18) Niger fails to reach uranium mining deal with French nuclear firm Areva
(19) French uranium mine leaves 20 million tonnes of radioactive waste in Niger
(20) Update on the situation in Niger
(21) Uranium : Au Niger, Orano poursuit ses activités d’extraction… et doit aussi sécuriser une mine fermée pour éviter tout risque radioactif
(22) المصدر السابق نفسه
(23) Is Niger’s coup a sign that France’s influence in the Sahel is over?
(24) Concern ova Niger uranium dey grow afta coup
(25) Le Niger, un fournisseur majeur d’uranium pour la France, y compris à usage militaire
(26) Coup d’État au Niger : à quel point la France dépend-elle de l’uranium nigérien ?
(27) Niger coup sparks concerns about French, EU uranium dependency
(28) مصدر سابق
(29) المصدر السابق نفسه
(30) مصدر سابق
(31) مصدر سابق
(32) US/France threaten intervention in resource-rich Niger: Fears of war in West Africa
(33) The Long Arm of the Kremlin and the Politics of Uranium
(34)مصدر سابق
(35) Why The Niger Coup Has Sparked Concerns About Nuclear Power
(36)مصدر سابق
(37) Testimony of Dr. Kathryn Huff
(38) مصدر سابق
(39) Macron’s Africa Strategy in Tatters as Bet on Niger Unravels
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الاتحاد الأوروبی الطاقة النوویة الیورانیوم فی فی العالم فی النیجر فی البلاد من ق بل على ید الذی ی
إقرأ أيضاً:
خطابات أبي عبيدة وكسب المعركة الإعلامية
سالم الكثيري
يرى الكثير من المحللين أنَّ إسرائيل فشلت عسكريًا وإستراتيجيًا في حربها الأخيرة ضد المقاومة الفلسطينية؛ فمن الناحية العسكرية لم تتمكن من تهجير سكان غزة أو السيطرة على شمالها كمنطقة عازلة، كما فشلت في إنشاء المستوطنات والإبقاء على محوري نتساريم وفيلاديلفيا، ومن الناحية الإستراتيجية لم تستطع تحقيق أي من أهدافها المُعلنة كاحتلال غزة أو فرض السيطرة الإدارية عليها أو استعادة الأسرى بالقوة أو التخلص من المقاومة واجتثاثها، كما كان يزعم نتنياهو بأنه لن تكون هناك حماس في اليوم التالي للحرب.
ومن الناحية الإعلامية، يُدرك المتابع- بما لا يدع مجالًا للشك- أنَّ إسرائيل قد خسرت هذه المعركة قطعًا؛ حيث اهتزت صورتها عالميًا منذ أحداث "طوفان الأقصى" لتظهر ولأول مرة على حقيقتها ككيان مجرم مُحتل، بعد أن كانت تعيش دور الضحية، كما كان يصورها ويُروِّج لها دائمًا الإعلام الأمريكي، الذي يُسيطر على آلة الإعلام على مستوى العالم. وفي سابقة تُعد الأولى من نوعها، شاهدنا جميعًا ما تعرضت له إسرائيل وجيشها من هجومٍ شرسٍ من كثير من القنوات والصحف العالمية، منذ أحداث السابع من أكتوبر، فيما لمسنا في نفس الوقت الطرح الإيجابي للرأي العام العالمي تجاه القضية الفلسطينية بشكل عام والمقاومة بشكل خاص؛ حيث تناولت الكثير من وسائل الإعلام الغربية هذه القضية بشكل مختلف، عمَّا كانت عليه طيلة العقود الماضية من تعتيم وتضليل إعلامي؛ بل وصل الأمر بالكثير من وسائل التواصل الاجتماعي والنشطاء المستقلين إلى الوقوف في صف المُقاومة بشكل صريح وعلني مع ما واجهه هؤلاء من مضايقات سياسية وإعلامية؛ بل ومالية من قبل اللوبيات الاقتصادية والشركات العالمية الداعمة للصهيونية، بعدما اتضح أنَّ ما كان يُنشر في الإعلام الإسرائيلي والغربي ليس إلّا تزييفًا وقلبًا للحقائق.
تمكنت المقاومة من توظيف التقنيات الحديثة وأدوات التصوير كطائرات الدرون والهواتف الذكية وغيرها من برامج لتوثيق أحداث المعركة اليومية ونشرها على منصات التواصل الاجتماعي باحترافية أذهلت حتى المختصين والخبراء قبل عامة الناس، بدايةً باللقطات الأولى لعملية "طوفان الأقصى" التي مثَّلت الصدمة الكبرى لإسرائيل وكل حلفائها، ثم بث الخطابات المتوالية لأبي عبيدة الناطق الرسمي باسم كتائب القسام، والتي باتت محل اهتمام الإعلاميين والسياسيين عالميًا، لما تحمله من صدقٍ في المضمون، ودقة في الطرح، وأداء متفرد يستنهض فيه الأمتين العربية والإسلامية وكل أحرار العالم، للوقوف في وجه الظلم والطغيان الصهيوني، ولتفاعل هذه الخطابات مع أحداث المعركة أولًا بأول؛ مما جعل من "فارس الإعلام المُلثَّم" أبو عبيدة، بصوته الندي وبلسانه الفصيح وبلغته القرآنية المبدعة والرصينة في الوقت نفسه، أيقونةً من أيقونات الإعلام، طيلة أحداث الحرب، ولم يزل كذلك.
ثم ما تعرضه فصائل المقاومة من مقاطع وصور بأساليب مبتكرة، كالسهم الأحمر الذي يتتبع رؤوس الجنود الصهاينة والآليات العسكرية، والذي أصبح رمزًا عالميًا لقنص الأعداء، بحيث توضح هذه المقاطع شجاعة المقاومين في التصدي لجحافل جنود الاحتلال المدججين بالسلاح والعتاد والمُحصَّنين بالمدرعات والدبابات من "المسافة الصفر" بملابس خفيفة رثة وبدون خوذات للرأس أو سُترات واقية من الرصاص، وذلك في سبيل الدفاع عن الوطن ضد محتل غاصب. أضف إلى ذلك إظهار مقاطع لقادة المقاومة من قلب المعركة وجهًا لوجه مع العدو؛ حيث استُشهد الكثير منهم وأياديهم على الزناد، من أجل نصرة قضيتهم، وليس من المكاتب الفاخرة والابراج المحصنة، كما هو حال قادة جيش الاحتلال. وخاتمة المسك في المشاهد الأخيرة لسيناريو وإخراج عملية تسليم الأسرى برمزياتها المُعبِّرة وتفاصيلها الدقيقة في الصمود والتحدي، بداية من ميدان فلسطين والسرايا والتي تعد من أكبر ميادين غزة، ومخيم جباليا الذي دمره جيش الاحتلال بقصفه على مدار 100 يوم متتالية، ومن ثم من أمام بيت قائد المقاومة الشهيد يحيى السنوار ومهندس الطوفان الشهيد محمد الضيف في خان يونس في ميناء غزة؛ حيث أعلنت حماس عن تواجد قائد كتيبة الشاطئ أبو عمر الحواجري في مراسم التسليم، بعد أن زعم جيش الاحتلال قتله سابقًا، لتكون هذه اللقطات بمثابة الضربة القاضية والدليل الداحض لكل ادعاءات إسرائيل الكاذبة بأن أسراها يتعرضون للتعذيب وسوء المعاملة، بينما ظهر الأسرى والأسيرات بحالة صحية جيدة ونفسية عالية وبملابس وتسريحات شعر أنيقة وابتسامات عريضة.
واستثمرت المقاومة منصة وساحات التسليم كلوحة إعلانات مُتنقلة لعرض رسائلها المباشرة كصور الشهداء والعبارات الموجهة للرأي العام الإسرائيلي والعالمي والحاضنة الشعبية والحضور الكثيف لرجال المقاومة بمختلف وحداتهم، بمن فيهم "وحدة الظل"، وكذلك الرسائل الضمنية التي تؤكد سيطرتها التامة على القطاع؛ كمراسم تواقيع تسليم الأسرى مع ممثلي الصليب الأحمر بندية تامة، بكل تفاصيلها الدقيقة، إضافة إلى ظهور بعض المقاومين على متن سيارة كبيرة سوداء كانوا قد استولوا عليها من "فرقة غزة" الإسرائيلية في السابع من أكتوبر، وامتشاق احدهم السلاح الإسرائيلي "تافور"، في استعراضٍ يحمل دلالات ورسائل إعلامية واضحة؛ الامر الذي أزعج الحكومة الإسرائيلية كثيرًا؛ حيث ذكرت القناة 12 الإسرائيلية أن في كل نقطة يتم فيها تسليم المحتجزين، يتم نقل رسالة محددة من حماس. وأشارت القناة الإسرائيلية إلى أن اختيار جباليا ومنزل السنوار ومخيم الشاطئ والميناء مواقع لتسليم المحتجزين لم يكن عشوائيًا، موضحة أن اختيار مواقع التسليم يؤكد قدرة حماس على السيطرة على هذه المناطق، رغم الضربات التي تلقتها.
ومن هنا يُمكنُنا القول إنَّه بالقدر الذي صمدت فيه المقاومة بالقليل من السلاح أمام جيش مُنظَّم مُزوَّد بأعتى الأسلحة وأحدث التقنيات على ما أصابها من ضربات موجعة، فقد كسبت المعركة الإعلامية التي لا تقل أهمية عن المعركة العسكرية؛ وذلك أن إيصال عدالة القضية الفلسطينية للرأي العام العالمي، هو الذي سيدفع بها إلى الأمام، وسيُرجِّح كفتها مع الأيام، لما لقوة الإعلام من تأثير كسلاح مستقبلي فعَّال بلا منازع.
رابط مختصر