النفوذ الفرنسي بأفريقيا.. من مركز تجاري إلى مستعمرات منهوبة
تاريخ النشر: 3rd, September 2023 GMT
يرجع تاريخ الهيمنة الفرنسية على أفريقيا إلى بدايات القرن الـ17 وتحديدا سنة 1624، حيث زحفت فرنسا نحو مناطق من القارة السمراء لاستغلال سكانها المحليين عن طريق إنشاء أول المراكز التجارية الفرنسية في السنغال.
النشأة والبداياتبدأ الاستعمار في الكشف شيئا فشيئا عن مخططاته عام 1664، عقب تأسيسه شركة الهند الشرقية الفرنسية لتتوسّع مناطق نفوذ باريس وتتطوّر من 3.
وتمكنت الدولة العثمانية من إيقاف فرنسا وحماية العالم الإسلامي وعدد من الدول الآسيوية من التحول إلى مستعمرات فرنسية، ولكن عندما بدأت الدولة العثمانية تفقد قوتها، سارعت فرنسا سنة 1830 إلى احتلال الجزائر ثم التوسّع شمالا في أفريقيا.
سنة 1890 أبرمت فرنسا وبريطانيا معاهدة توسع بموجبها النفوذ الفرنسي في أفريقيا ليشمل منطقة حوض تشاد، وما سمي الأراضي الأفريقية-الفرنسية.
وخلال هذه التطورات، رسمت الدولة العثمانية بمذكرة مؤرخة في 30 أكتوبر/تشرين الأول 1890 مناطق سيطرتها في شمال أفريقيا، وبذلك كانت المناطق الليبية النائية والسودان ومصر وتشاد وغرب إثيوبيا وجنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى وشمال الكاميرون وشمال وشرق نيجيريا ووسط النيجر، ضمن المناطق التابعة للسيطرة العثمانية.
وفي مواجهة المواقف العدوانية لفرنسا، احتفظت الدولة العثمانية عام 1885 بحقوقها في ما يتعلق بشمال الكونغو وشرق النيجر، لكن رغم جملة التدابير التي اتخذتها، فإنها لم تتمكن من إيقاف أنشطة فرنسا الاستعمارية في القارة الأفريقية.
المستعمرات الفرنسية في أفريقيا مستعمرات شمال أفريقيا: الجزائرفي الخامس من يوليو/تموز عام 1830، سلم الداي حسين حاكم الجزائر مدينته للقوات الفرنسية ليبدأ الاحتلال الفرنسي للبلاد، والذي استمر على مدى 132 سنة وانتهى في الخامس من يوليو/تموز 1962، بعد مقاومة امتدت من عهد الأمير عبد القادر الجزائري إلى جبهة التحرير التي شنت حرب استقلال استمرت من سنة 1954 إلى سنة 1962.
تونسدخلت تونس تحت رداء المستعمر الفرنسي سنة 1881 بعد معاهدة الحماية التي بموجبها أصبحت السلطة الفعلية بيد باريس وأزاحت محمد الصادق باي وأصبح منصبه صوريا فقط وواجهة للقرارات المجحفة التي اتخذت ضد الشعب التونسي. واستقلت تونس عام 1956 بعد استعمار دام 75 سنة.
موريتانيابدأ الاستعمار الفرنسي لموريتانيا عام 1902، وقوبل بمقاومة قوية على الصعيدين الثقافي والعسكري، قبل أن تقرر فرنسا منح موريتانيا استقلالها في 28 نوفمبر/شباط 1960 بعد 58 سنة من الاستعمار.
المغربفي 30 مارس/آذار 1912 فرضت الحماية الفرنسية على المغرب بعد توقيع معاهدة الحماية الفرنسية من طرف السلطان عبد الحفيظ، وامتدت فترة الحماية حتى حصول المغرب على استقلاله سنة 1956 بعد استعمار دام 44 سنة.
مستعمرات وسط أفريقيا: ساحل العاجسنة 1843 أصبحت ساحل العاج تحت الحماية الفرنسية ثم صارت مستعمرة فرنسية سنة 1893، وأصبحت دولة مستقلة في السابع من أغسطس/آب 1960، بعد 117 سنة من الاستعمار الفرنسي.
البنيندولة أفريقية كانت تعرف قديما باسم داهومي، وهي إحدى الجمهوريات الصغرى غرب أفريقيا، واجهت حملة استعمارية في النصف الثاني من القرن الـ19 انتهى بوقوعها تحت الاحتلال الفرنسي سنة 1894 واستقلت سنة 1960 بعد احتلال دام 66 عاما.
ماليوقعت مالي تحت حكم الاستعمار الفرنسي سنة 1893، وفي 31 مارس/آذار 1960 وافقت فرنسا على منحها استقلالها الكامل، وأصبحت دولة مستقلة في 20 يونيو/حزيران 1960، أي بعد 67 سنة من السيطرة الفرنسية.
بوركينا فاسوخضعت للاستعمار الفرنسي بعد توقيع معاهدة مع "مملكة الفولتا" سنة 1896، وضمت لمستعمرة السنغال العليا، ثم أصبحت سنة 1916 مستعمرة فرنسية منفردة سميت "فولتا العليا". ونالت استقلالها سنة 1960 بعد 64 سنة من الاستعمار.
غينيابدأت فترة الاستعمار في غينيا مع الاختراق العسكري الفرنسي للمنطقة منتصف القرن الـ19 سنة 1898، ثم انهارت الجمهورية الفرنسية الرابعة سنة 1958 بسبب عدم الاستقرار السياسي وفشلها في التعامل مع مستعمراتها، وفي الثاني من أكتوبر/تشرين الأول 1958، أعلنت غينيا نفسها جمهورية مستقلّة.
الطوغورزحت تحت الاستعمار الفرنسي منذ سنة 1916 ونالت استقلالها سنة 1960 بعد 44 سنة من السيطرة الفرنسية.
السنغالسنة 1895 أصبحت السنغال رسميا مستعمرة فرنسية، ونالت استقلالها سنة 1960 بعد 65 سنة من الاستعمار والتقسيم الفرنسي.
النيجركانت النيجر ملكية استعمارية فرنسية من سنة 1900 وبانهيار الجمهورية الرابعة في فرنسا استقلت النيجر بالكامل في الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني 1960.
المستعمرات الفرنسية في أفريقيا الاستوائية: جمهورية أفريقيا الوسطىاستعمرت من قبل فرنسا وألمانيا وامتدت هذه الحقبة الاستعمارية من أواخر 1800 حتى سنة 1960 عندما أصبحت جمهورية أفريقيا الوسطى دولة مستقلة بعد 160 سنة من الاستعمار.
الكونغوتأسست المستعمرة الفرنسية في الكونغو سنة 1880، ثم حصلت البلاد على الحكم الذاتي في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 1958 ونالت الاستقلال عن فرنسا في 15 أغسطس/آب 1960.
الغابوناحتلّت فرنسا الغابون سنة 1885، ثم استقلت البلاد في 17 أغسطس/آب 1960 بعد 75 سنة من الاستعمار.
تشادكانت تشاد جزءا من الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية منذ عام 1900 ونالت استقلالها عام 1960.
الكاميرونبدأت فترة الاستعمار الفرنسي للكاميرون بعد نهاية الحرب العالمية الأولى سنة 1918، واستقلت في الأول من يناير/كانون الثاني 1960، أي بعد 42 سنة من السيطرة الفرنسية.
المستعمرات الفرنسية في جنوب قارة أفريقيا: جزر القمربدأ الحكم الاستعماري الفرنسي في جزر القمر سنة 1841، ثم نالت استقلالها سنة 1975 بعد 134 سنة من الاحتلال.
مدغشقراستعمرت فرنسا جزيرة مدغشقر سنة 1896 ولمدة 64 عاما حتى سنة 1960.
مجازر الاستعمار الفرنسي في أفريقيا "مجزرة الثامن من مايو/أيار 1945″، وفيها دمر الجيش الفرنسي 44 قرية جزائرية في 15 يوما، وكانت حصيلتها 45 ألف شهيد جزائري، في حين تذكر بعض الإحصاءات أن العدد وصل إلى 70 ألف شهيد، إضافة إلى اعتقال أكثر من 5 آلاف جزائري، واستمرت الاعتقالات بعد المجزرة بشهور، وأصدرت المحاكم الاستعمارية الفرنسية الآلاف من أحكام الإعدام في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه. التجارب النووية الفرنسية في مدينة رقان الجزائرية الآهلة بالسكان، وكان أول تفجير نووي فرنسي في المنطقة في 13 فبراير/شباط 1960م، عندما أطلقت فرنسا أولى قنابلها هناك، والتي حملت اسم "اليربوع الأزرق"، وهي قنبلة ملوّثة للغاية ضاهت قوتها 4 أضعاف قنبلة هيروشيما، ولا تزال الآثار السلبية لهذه التجارب مستمرة بين الأجيال المتعاقبة لسكان منطقة رقان الجزائرية. بين 19 أبريل/نيسان و18 يوليو/تموز 1994 كانت فرنسا أكبر الداعمين لحكومة الهوتو الرواندية الحاكمة ضد أقلية التوتسي، من خلال دعمها عسكريا بشحنات من الأسلحة بلغت قيمتها 6 ملايين دولار، كما قدمت البنوك الفرنسية تسهيلات واعتمادات لصفقات أسلحة أبرمتها رواندا مع كل من الصين ومصر وجنوب أفريقيا، رغم علمها بتداعيات قيام المذبحة. وأدت المساعدات العسكرية الفرنسية لزيادة القوات المسلحة الرواندية من نحو 5 آلاف عنصر إلى قرابة 50 ألفا، تكفلت باريس بتدريبهم وتسليحهم."مجزرة كبكب" بتشاد، إذ دعا القادة العسكريون الفرنسيون في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1917 ما يقارب 400 عالم وزعيم محلي مسلم من كافة ربوع تشاد لمناقشة حلول وسطية تتعلق بإدارة البلاد. ودون سابق إنذار تعرض المجتمعون لهجوم مجموعة من المسلحين، بالأسلحة النارية والسواطير، فقتلوا كل المدعوين، ثم وضعت الجثث في حفرة كبيرة بمنطقة أم كامل وعلى إثر تلك المجزرة، استولى الفرنسيون على تشاد بعد أن أزاحت القوات الفرنسية كل مقاومة عسكرية أو ثقافية. في الخامس من أغسطس/آب 1907 قامت القوات العسكرية الفرنسية بعملية ضد مدينة الدار البيضاء، فقصفت البوارج الحربية الفرنسية شوارع المدينة، مما أدى إلى استشهاد نحو 6 آلاف مغربي من أصل 30 ألف نسمة آنذاك، ودمّرت جميع أحياء المدينة، ما عدا الحي الأوروبي الذي بقي آمنا وسليما نظرا لأنه كان يضم السفارات والقنصليات الأوروبية بالمغرب. في ليلة 29 إلى 30 يناير/كانون الثاني 1952، وإثر اندلاع المقاومة الوطنية التونسية المسلّحة سنة 1952، ارتكب جيش الاحتلال الفرنسي مجزرة تازركة بولاية نابل التونسية بقيادة جون دوهوت كلوك، وذلك بإخراج رجال القرية من بيوتهم وتجميعهم في بطحاء تحت الحراسة المشددة ثم اقتحم الجنود الفرنسيون البيوت واغتصبوا النساء التونسيات ثم دهسوا الرضع بالسيارات العسكرية والمصفحات الفرنسية. ورغم استقلال تونس سنة 1956، فإن المجازر الفرنسية لم تتوقف، ففي فبراير/شباط 1958م ارتكبت فرنسا مجزرة "ساقية سيدي يوسف"، حيث كانت الحدود التونسية الجزائرية متنفسا للثورة الجزائرية التي أرهقت الفرنسيين، ومن أجل خنقها وضرب مصادر تمويلها، عمدت فرنسا في الثامن من فبراير/شباط 1958 إلى قصف منطقة سيدي يوسف التونسية، وأسفر الهجوم عن استشهاد نحو 68 بينهم 12 طفلا و9 نساء، إلى جانب 87 جريحا من التونسيين والجزائريين. مع حلول منتصف ليلة 29 مارس/آذار 1947، اندلعت انتفاضة شعبية في جزيرة مدغشقر، نتيجة الاضطهاد الفرنسي المستمر منذ نهاية القرن الـ19 هناك، وكان التعامل الفرنسي مع تلك الانتفاضة دمويا بشكل خيالي، إذ أعدم الفرنسيون مئات السكان، وعذبوا عشرات الآلاف وأضرمت النار في القرى واستهدف المتظاهرون بالذخيرة الحية، كما اغتالت القوات الفرنسية قيادات الانتفاضة، وألقي عدد منهم من الطائرات لإرهاب المطالبين بالاستقلال وتحطيمهم معنويا. الثروات الأفريقية المستغلّة
تعد أفريقيا المزوِّد الرئيسي لفرنسا بالطاقة واليورانيوم والمعادن، إذ تضخّ دول أفريقيّة مثل النيجر ومالي وتشاد 25% من احتياجات المفاعلات النووية التي تعتمدها فرنسا للتزود بالكهرباء.
وإضافة ليورانيوم النيجر، تسيطر فرنسا على مناجم الذهب في مالي وحقول النفط في السنغال عن طريق الشركات الفرنسية العملاقة، التي امتد نفوذها إلى دول غرب وجنوب أفريقيا، من أوغندا إلى كينيا، ومن أنغولا إلى موزمبيق ثم جنوب أفريقيا.
وفي الكونغو تضع فرنسا يدها على معدن الكولتان، الذي يعتبر أساسيا في تطوير الرقاقات الإلكترونية التي تعتمدها جميع التكنولوجيات.
وتجدر الإشارة إلى أن 80% من كل ما يتم استخراجه من الموارد والثروات المعدنية في أفريقيا يصدّر بإشراف فرنسي نحو القارات الأخرى.
كما أن أكثر من 80% من عمليات تعدين الذهب في العالم، تتم في القارة الأفريقية ويتم استخراج 70% من ألماس العالم في القارة الأفريقية، وأكثر من نصف المنغنيز والكروميت وخام الكوبالت من مناجم أفريقيا.
إضافة إلى استخراج ثلث الفوسفاط واليورانيوم المتداول في الأسواق العالمية من القارة السمراء.
عملة "الفرنك الأفريقي"في ستينيات القرن الماضي وأمام تصاعد حركات التحرر والمقاومة الشعبية في جل المستعمرات الفرنسية، قرر الزعيم الفرنسي شارل ديغول منح المستعمرات الفرنسية في أفريقيا الاستقلال، ولكنه رفض بالمقابل منحها الاستقلال التام عن طريق صياغة استعمار جديد يتمثل في ربط هذه المستعمرات اقتصاديا بفرنسا، عبر فرض مواصلة تعامل بلدان القارة السوداء بعملة "الفرنك" الأفريقي، الذي تتحكم باريس في طباعته وتحديد قيمة تداوله وقوته الشرائية.
ويتداول الفرنك الأفريقي في 12 دولة أفريقية كانت سابقا مستعمرات فرنسية، بالإضافة إلى غينيا بيساو (مستعمرة برتغالية سابقة) وغينيا الاستوائية (مستعمرة إسبانية سابقة)، وينقسم الفرنك المتداول إلى صنفين، فرنك وسط أفريقيا، وفرنك غرب أفريقيا.
ورغم أن قيمة الفرنك المتداول في وسط أفريقيا تعادل قيمة الفرنك المتداول في غرب أفريقيا، فإن فرنسا تمنع استعمال عملة دول الوسط في دول الغرب وكذلك العكس.
وتلتزم جميع البنوك المركزية لهذه الدول الأفريقية بالاحتفاظ بنسبة 85% على الأقل من احتياطياتها من العملة الصعبة في البنك المركزي الفرنسي، الخاضع لمؤسسات الرقابة المالية الفرنسية، وذلك وفقا لشروط الاتفاقية المؤسسة للجمعية المالية الأفريقية.
ولا تملك الدول الأفريقية المستعمرة سابقا حق الوصول إلى هذه الأموال، إذ لا تسمح لهم السلطات الفرنسية بالوصول إلى أكثر من 15% من الأموال المودعة سنويا، وفي حال احتياج المزيد تجبرهم على اقتراض أموال إضافية من الخزانة الفرنسية بنسب فوائض تصل إلى 20%، كما تحتفظ باريس بحق رفض إقراض هذه الدول.
وإجمالا، منذ سنة 1961 تحتفظ فرنسا بالاحتياطات الوطنية لـ14 دولة أفريقية وهي: البنين وبوركينا فاسو وغينيا بيساو وساحل العاج ومالي والنيجر والسنغال والطوغو والكاميرون وجمهورية أفريقيا الوسطى وتشاد والكونغو وغينيا الاستوائية والغابون، وبذلك تحقق الخزانة الفرنسية ما يعادل 500 مليار دولار من الأرباح والعوائد السنوية من أفريقيا.
وتجدر الإشارة إلى أن الزعماء الأفارقة الذين عارضوا هذا النظام، إما تعرضوا للقتل أو تعرضوا لانقلابات عسكرية أطاحت بحكمهم، أو لإثارة احتجاجات شعبية مسلحة تدخل بلدانهم في دوامات من العنف والفوضى يتطلب التعافي من مخلفاتها عقودا طويلة.
تراجع النفوذ الفرنسي في القارة السمراءبدأ الدور الفرنسي في قارة أفريقيا في التراجع، خاصة مع تراجع اعتماد الفرنك الفرنسي في عديد من الدول الأفريقية، ويرجع ذلك لظهور منافسين أقوياء لفرنسا في دول الساحل وجنوب الصحراء مثل الصين وأميركا وروسيا، إضافة إلى ارتفاع كلفة التدخلات العسكرية والمحافظة على الوجود العسكري في القارة، في وقت تعاني فيه فرنسا أزمات ومشاكل اقتصادية أدت إلى تفاقم الاحتجاجات الشعبية التي غالبا ما تحولت إلى مواجهات عنيفة بين الأجهزة الأمنية والمتظاهرين.
وبدأت استفاقة الشعوب الأفريقية بالتوازي مع اتساع رقعة الأطماع تجاه ما تكتنزه أفريقيا من ثروات طبيعية مهمة بالنسبة إلى البلدان القوية التي أصبحت ترى القارة رئة العالم.
لكن استقلالية القرار في هذه الدول ما زالت ضعيفة، نظرا إلى ضعف اقتصاداتها وارتفاع مديونيتها، كما أنها تعاني من التدخلات الخارجية من خلال تمويل بعض الفئات أو الحساسيات السياسية التي تُدعَم لتنفيذ الأجندات الاستعمارية فيها.
من جهة أخرى فإن العديد من البلدان الأفريقية بدأت في التخلص من الهيمنة الفرنسية إما عن طريق الإطاحة بالرؤساء المحسوبين على فرنسا وإعلان العداء لها، وإما من خلال توقيع شراكات اقتصادية، صناعية وفلاحية مع دول مثل الصين وروسيا وأميركا وتركيا، الأمر الذي أدى إلى تراجع قدرة فرنسا على الفعل والتغيير السياسي في القارة السمراء.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الاستعمار الفرنسی الدولة العثمانیة القارة السمراء أفریقیا الوسطى الفرنسی فی فی أفریقیا فی القارة فرنسیة من أغسطس آب عن طریق
إقرأ أيضاً:
نحو عالم ما بعد الغرب: الترامبية وإعادة توزيع مناطق النفوذ في العالم
أثناء زيارتي للبرازيل للمشاركة في بعض الأنشطة العلمية، تعرفت على بعض جوانب الفكر السائد هنا والذي يعبر عن تيار معادٍ للمقاربات الكولونيالية الغربية، وذلك من أجل إعادة تشكيل عالم ما بعد الغرب. إنها صيحة من أجل صعود الجنوب العالمي والتي تعبر عنها بعض المؤشرات الجديدة مثل صعود الصين وتوسع مجموعة بريكس وانضمام الاتحاد الأفريقي لمجموعة العشرين وهلم جرا. وفي هذا السياق، جاءت رئاسة دونالد ترامب الثانية للولايات المتحدة، والتي بدأت في عام 2025، لتمثل أحد أعراض التحولات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية العميقة. وربما يمثل هذا العصر الجديد ترسيخاً لإجماع واسع النطاق بين القوى الكبرى والقوى الصاعدة، حيث يعترف الجميع ضمناً أو صراحةً بأن عصر الأحادية القطبية الذي تشكل في أعقاب انهيار الإتحاد السوفيتي قد ولى وراح أوانه.
بيد أن المقلق حقاً أن بعض ملامح الفوضى في النظام الدولي ارتبطت بتراجع نفوذ الولايات المتحدة تحت قيادة ترامب الثانية، وبدعم من كبار رجال الأعمال في شركات التكنولوجيا الكبرى والنظام المالي المهيمن. ينعكس ذلك في شعار “ماجا” أو “جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” استناداً إلى الأسس الإمبريالية في القرن التاسع عشر التي طبقها عدد من رؤساء الولايات المتحدة آنذاك. وعليه، من أجل فهم سياسات إدارة ترامب الثانية ينبغي العودة إلى الوراء عند بداية تشكيل السياسات التوسعية الأمريكية.
استلهام العصر الذهبي للتعددية القطبية
من الواضح أن دونالد ترامب استلهم سياسات أربعة رؤساء أمريكيين من القرنين التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حيث دمج إرثهم في استراتيجيته السياسية. كان الأول هو جيمس مونرو (1817–1825)، الذي عُرف بـ”مبدأ مونرو” الرافض للتدخل الأوروبي في الأمريكتين، ولعل تأثيره واضح على سياسة ترامب الخارجية “أمريكا أولاً”، التي ركزت على السيادة الوطنية ومقاومة العولمة (الانعزالية الجديدة). أما الرئيس الثاني فهو أندرو جاكسون (1829–1837)، الزعيم الشعبوي المدافع عن “الرجل العادي”، والذي روّج لواحدة من أكبر عمليات الإبادة الجماعية للشعوب الأصلية بإصداره قانون إبعاد الهنود عام 1830. لقد ألهم جاكسون خطاب ترامب المناهض للنخبة بحسبانه شخصية من خارج المؤسسة، وبسبب جاذبيته للناخبين من الطبقة العاملة.
ومن جهة ثالثة أصبح ويليام ماكينلي (1897–1901)، المُلقب بـ”رجل التعريفات” بسبب سياساته التجارية الحمائية نموذجاً لاستخدام ترامب العدواني للتعريفات الجمركية لحماية الصناعات الأمريكية. لقد صعد كل من ويليام ماكينلي ودونالد ترامب إلى الصدارة من خلال الدعوة إلى سياسات تجارية حمائية، حيث اشتهر ماكينلي بقوله أنه “رجل التعريفة الجمركية”. رأى كلا الرئيسين أن التعريفات الجمركية أداة لحماية الصناعات والوظائف الأمريكية من المنافسة الأجنبية. لقد فضل ماكينلي، مثل ترامب، في البداية تعريفات عالية على السلع، كما يتضح من قانون تعريفة ماكينلي في 1 أكتوبر 1890، الذي رفع متوسط الرسوم على الواردات إلى 49.5٪. ومع ذلك، تطور نهج ماكينلي عندما أدرك إمكانية المعاملة بالمثل التجارية وحاجة أمريكا إلى أن تصبح دولة تجارية. بحلول الوقت الذي أصبح فيه رئيساً في 1897، دافع ماكينلي عن خفض الحواجز التجارية من خلال اتفاقيات متبادلة، وفي خطابه الأخير في 5 سبتمبر 1901، أكد أن “الحروب التجارية غير مربحة”. من ناحية أخرى، تبنى ترامب موقفاً أكثر صدامية، عندما قرر في وقت سابق من هذا العام تطوير التعريفات الجمركية المتبادلة على الواردات إلى الولايات المتحدة، وذلك في إطار الوفاء بوعده الانتخابي “العين بالعين” بشأن مسائل التجارة العالمية. في حين أن كلا الرئيسين قد اشتركا في تركيز أوّلي على الحمائية، فإن تحول ماكينلي في النهاية نحو المعاملة بالمثل التجارية يقدم درساً مفيداً لترامب، لا سيما في مسالة المرونة والقدرة على التكيف في العلاقات المعقدة مع القوى الاقتصادية مثل الصين. ويقترح روبرت ميري، كاتب سيرة ماكينلي، أن ترامب يجب أن يفكر في تطور سياسات ماكينلي، مع الاعتراف بأنه في حين أن التعريفات يمكن أن تحمي العمال الأمريكيين في البداية، فإن اتباع مقاربة أكثر دقة في التجارة أمر ضروري لتحقيق النمو الاقتصادي المستدام والتعاون الدولي.
أخيراً، أثر الرئيس ثيودور روزفلت (1901–1909)، الذي ركز على القوة الوطنية والقيادة العالمية الحازمة، على خطاب ترامب حول استعادة الهيمنة الأمريكية، وإن كان ترامب قد ابتعد عن الإصلاحات التقدمية لروزفلت. ولاشك أن هذه الشخصيات التاريخية أسهمت في تشكيل التركيبة الشخصية المعقدة للرئيس ترامب والتي تجمع بين الشعبوية والحماية الاقتصادية والنزعة الوطنية، وذلك بما يتناسب مع التحديات السياسية والاقتصادية الحديثة.
نحو تعددية قطبية مغايرة
لقد برزت الولايات المتحدة كقوة عظمى صاعدة خلال القرن التاسع عشر، حيث عززت هيمنتها الإقليمية في الأمريكتين عبر سردية “مبدأ مونرو”، بينما شرعت في الانغماس المتزايد بالشئون العالمية، متحديةً بذلك التقسيمات التقليدية لمناطق النفوذ في الصين التي رسمتها القوى الأوروبية. وفي هذا السياق، أعلنت واشنطن عن ضرورة منح جميع الدول حقوقاً متساوية في التجارة مع الصين، وهو الموقف الذي عُرف لاحقاً باسم سياسة “الباب المفتوح” أواخر القرن ذاته، بهدف إعادة توزيع مناطق النفوذ القائمة والحفاظ على امتيازات متكافئة للقوى الاستعمارية الغربية. وعلى الصعيد الأمريكي، ارتكز “مبدأ مونرو” على فكرة “مناطق النفوذ”، بالادعاء بأحقية الولايات المتحدة في اعتبار القارة الأمريكية بأكملها بمثابة “حديقة خلفية” لها، مع إصرارها على إبعاد القوى الأوروبية وغيرها خارج النصف الغربي من الكرة الأرضية، حيث مثلت أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي النطاق الجغرافي الطبيعي لهذه الهيمنة الصاعدة في إطار التشكيل الاجتماعي الرأسمالي الأمريكي.
ومن جهة ثانية، شكلت حقبة الحرب الباردة النموذج الأكثر وضوحاً لتقسيم العالم إلى مناطق نفوذ بين الكتلة الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة والكتلة الاشتراكية بزعامة الاتحاد السوفييتي، حيث تجسد هذا التقسيم عبر تحالفات عسكرية مثل حلف الناتو وحلف وارسو، مع تهديد دائم بالرعب النووي والدمار المتبادل. وقد خلّف هذا النظام الثنائي القطبية إرثاً من “الحروب بالوكالة” في العالم الثالث، التي تحولت إلى ساحات لتصفية حسابات القوى العظمى، فيما قاومت دول الجنوب هذا الترسيم عبر مبادرات مثل مؤتمر باندونج الأفروآسيوي (1955) وحركة عدم الانحياز، بالإضافة إلى مؤتمر بانكوك لحقوق الإنسان (1993) الذي دافع عن رؤية ثقافية نسبية لحقوق الإنسان مع التركيز على التنمية الاقتصادية والاجتماعية كشرط أساسي لها، مؤكداً على مبادئ السيادة الوطنية وعدم التدخل.
أما في الوقت الراهن وفي مرحلة ما بعد الحرب الباردة، يواجه دونالد ترامب في ولايته الثانية- سيناريو تعددية قطبية مختلفة جذرياً عن نموذج القرن التاسع عشر الإمبريالي، حيث تُعبّر التعددية الحالية عن “تعددية بعيدة عن المركزية الأوروبية” تبرز فيها مراكز قوى جديدة، خاصة في آسيا بقيادة الصين، كواقع تاريخي في ظل الفوضى النظامية العالمية. ولا يخفى أن الغرب يعيش في هذا الإطار أزمات اجتماعية وسياسية متصاعدة، بينما تتصاعد قوة الصين كتحدٍّ للنظام الرأسمالي الاستقطابي، في مشهد يعيد ترتيب التوقعات الجيوسياسية ويسلط الضوء على استحالة استعادة الهيمنة الأمريكية عبر النيوليبرالية. وعلى الرغم من أن إدارة ترامب تسعى إلى إحياء نموذج القرن التاسع عشر في تحديد مناطق النفوذ عبر اتفاقيات صريحة وضمنية مع القوى الكبرى، يظل التساؤل المركزي حول استعداد قوى مثل الصين وروسيا لتقاسم هذه الرؤية القائمة على التقسيم الإمبريالي الجديد.
مرحلة الفوضى أو النظام الذي لم يولد بعد؟
غالباً ما يتم تحليل مشهد النظام الدولي المتحول من خلال أطر مختلفة، مع وجود نموذجين بارزين هما النظام العالمي “جي -صفر” أو (G- 0) ومجلس القوى الجديد. ويتميز النظام العالمي “جي-صفر” الذي اقترحه ايان بريمر بغياب القيادة العالمية، مما يؤدي إلى زيادة عدم الاستقرار وتوفير مزايا لجهات فاعلة معينة. ولاشك أن هذه البيئة تدعم صعود القوى الإقليمية وتشكل تحديات للتعاون الدولي، كما يتضح في الحالات التي تسعى فيها دول أو تكتلات منفردة إلى مصالحها دون وجود استراتيجية عالمية متماسكة. على سبيل المثال، توضح الاختلافات في مقاربات التخفيف من تغير المناخ بين الدول الكبرى هذا النقص في القيادة الموحدة. في المقابل، يتصور مجلس القوى الجديد مجموعة توجيهية تتكون من ستة فاعلين عالميين: ربما يمكن الحديث عن الولايات المتحدة والصين والهند وروسيا واليابان والاتحاد الأوروبي. وتهدف هذه المجموعة إلى التخفيف من حدة التنافس بين القوى الكبرى ومعالجة التهديدات العابرة للحدود الوطنية مع الحفاظ على القيم الأساسية مثل السيادة والسلامة الإقليمية. مثال على ذلك يمكن أن تكون الجهود المشتركة التي تبذلها هذه القوى لمكافحة الأوبئة العالمية أو لوضع معايير للأمن السيبراني، مما يعكس اتباع مقاربة موحدة بشان التنسيق لمواجهة التحديات المشتركة. وربما يعكس هذا النموذج مفهوم مجلس أوروبا في القرن التاسع عشر.
ختاماً، فإن صعود الجنوب العالمي في عصر الترامبية يعكس تحولاً جوهرياً في النظام العالمي، حيث تسعى الدول النامية إلى تعزيز استقلالها السياسي والاقتصادي وسط تراجع الهيمنة الغربية التقليدية. ولعل قيام البرازيل بإعادة فرض التأشيرات على مواطني الولايات المتحدة وكندا وأستراليا يقدم في دلالته الرمزية تعبيراً عن القدرة على الرد. وفي مواجهة السياسات الإمبريالية متعددة الأقطاب التي تتبناها إدارة ترامب، يقدم الجنوب العالمي نموذجاً بديلاً للتعاون الدولي يرتكز على مبادئ باندونج وعدم التدخل واحترام السيادة. وعليه، يصبح الجنوب العالمي مع تصاعد المنافسة بين القوى الكبرى محوراً أساسياً في تشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب، حيث تلعب مبادرات مثل مجموعة بريكس ومبادرة الحزام والطريق دوراً محورياً في تعزيز التعاون بين دول الجنوب. ومع ذلك، فإن هذا التحول لا يخلو من التحديات، إذ يتطلب ذلك تحقيق توازن دقيق بين القوى العالمية المتنافسة وتعزيز التعاون الإقليمي لضمان التنمية المستدامة والحوكمة العادلة.
أ. د. حمدي عبد الرحمن حسن – بوابة الأهرام اليوم
أستاذ العلوم السياسية في جامعتي زايد والقاهرة