أكد خبير الآثار الدكتور عبد الرحيم ريحان عضو المجلس الأعلى للثقافة لجنة التاريخ والآثار أن استعادة الآثار المصرية من متاحف العالم لن يتحقق بالمانشيتات الصحفية أو المداخلات المبنية على آراء متسرعة غير مدروسة تؤدى بدورها إلى نتائج عكسية، مشيرا إلى أنه منذ سنوات ونحن نتحدث عن عودة حجر رشيد ولن يتحقق شىء وذلك لعدم تأسيس قاعدة معرفية ننطلق من خلالها بمنهجية علمية تكسبنا احترام العالم والتعاطف مع قضيتنا باعتبارنا أصحاب الحق وبناءً عليه يضع الدكتور ريحان بحكم خبرته فى الآثار وبمعاونة الدكتور محمدعطية مدرس ترميم وصيانة الآثار بكلية الآثار جامعة القاهرة وباحث دكتوراه فى القانون الدولى قاعدة علمية قانونية للانطلاق من خلالها تعتمد على آليات وإجراءات تقسّم على المدى القريب والمتوسط والبعيد مؤسسة على عدة محاور تشمل قانون الآثار المحلى واتفاقية اليونسكو 1970 الخاصة بمنع الإتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية و اتفاقية حقوق الملكية الفكرية "الويبو" والزخم الشعبى والإعلام .

وأوضح الدكتور ريحان لـ"البوابة نيوز" أن قانون حماية الآثار رقم 117 لسنة 1983 يحتاج إلى تعديل العديد من المواد منها المادة 8 لضمان حقوق ملكية فكرية مادية ومعنوية للآثار، ونص المادة "تعتبر جميع الآثار من الأموال العامة - عدا الأملاك الخاصة والأوقاف - حتى لو وجدت خارج جمهورية مصر العربية وكان خروجها بطرق غير مشروعة"ن والتعديل المطلوب بدلًا من " وكان خروجها بطرق غير مشروعة " تعدل كالآتى " بصرف النظر عن طريقة خروجها " لأن بعض الآثار خرجت باتفاقيات دولية سليمة مما يعطى لها شرعية دولية مثل حجر رشيد أهم آثار المتحف، والحقيقة أنه خرج بمبدأ الأقوى يمتلك، وبهذا تكون كل الآثار المصرية خارج مصر من الأموال العامة المصرية وينطبق عليها ما ينطبق على الآثار المصرية، ولحين استرجاعها وجب دفع مبالغ نظير عرضها بالمتاحف المختلفة أو استغلالها بأى شكل وبذلك نضمن لها حقوق ملكية فكرية بالقانون المحلى، وكذلك حقوق معنوية بعدم استنساخها أو استغلالها تجاريًا بدون موافقة بلد المنشأ مصر وكذلك عدم العبث بالمومياوات المصرية بالخارج ولا يتم دراستها إلا فى وجود علماء مصريين لضمان نزاهة الأبحاث وقد سبق لمتحف وارسو إعلان أول مومياء حامل فى تاريخ مصر وثبت عدم صحة ذلك بعد قيام العلماء المصريين بدراستها .

وأضاف ريحان أنه يمكن إضافة بند بقانون حماية الآثار يسمح بمقاضاة المتاحف التى تمتلك آثارًا مصرية أمام القضاء المصرى أسوة بالتجربة الإيطالية التى استعادت مائة قطعة أثرية من متحف بول جيتى الأمريكى والمتاحف الأمريكية بالقانون المحلى بوضع مادة فى القانون الإيطالى تتيح لهم مقاضاة مديرى المتاحف المتواجد بها آثارًا إيطالية، وقد حدث أن حكم القضاء الإيطالى بالسجن ثلاثة أشهر على مديرة متحف بول جيتى لوجود قطعة أثرية ترجع إلى العصر الرومانى بالمتحف، وعلى الفور اجتمع مجلس إدارة متحف بول جيتى وقرر إعادة التمثال فورًا لإيطاليا إنقاذًا لسمعة مديرة المتحف، وقد تمكنت إيطاليا من استعادة مائة قطعة أثرية من خمسة متاحف فى الولايات المتحدة الأمريكية ومنها متحف بوسطن للفنون الجميلة بالتقاضى أمام المحاكم الأمريكية. 

وينوه عضو المجلس الأعلى للثقافة لجنة التاريخ والآثار، إلى اتفاقية اليونسكو 1970 الخاصة بمنع الإتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية والتى تحتاج لتعديل بنود مجحفة تعرقل عودة الآثار المصرية ومنها المادة الخاصة بإثبات الملكية بحيث يقع عبء اثبات ملكية الممتلك الثقافي علي الدولة صاحبة طلب الاسترداد فى حالة الآثار المسجلة وفي غير تلك الحالات يقع عبء إثبات الملكية علي الدولة التي تحوز الممتلك المراد استرادده لوجود آثار عديدة هربت ناتج الحفر خلسة فهى غير مسجلة بالطبع ويضيع حق مصر فى استرداها بالمواد الحالية بالاتفاقية وتم استرداد بعضها عن طريق الاتفاقيات الثنائية، ويمكن لمصر ومعها عدد من الدول المتضررة طلب التعديل والنقطة الثانية هى المادة 11 من الاتفاقية ونصها " يعد عملًا غير مشروع تصدير الممتلكات الثقافية ونقل ملكيتها عنوه كنتيجة مباشرة أو غير مباشرة لاحتلال دولة أجنبية لبلد ما " والتى تؤكد أن خروج الآثار أثناء احتلال دولة عمل غير شرعى فكيف تقننه المعاهدة عمل غير شرعى من تاريخ 1970 وعمل شرعى قبل ذلك مما يعنى ازدواجية المعايير لذا وجب تطبيقها بأثر رجعى وبالتالى كل الآثار المصرية بالمتحف البريطانى غير شرعية كما ذكر بديباجة اتفاقية اليونسكو 1970 "أن المؤسسات الثقافية يجب أن تتأكد أن المجموعات الثقافية بها تكونت وفقًا للمباديء الأخلاقية المعترف بها في كل مكان، ولذا يجب أن نحتكم إلى خروج هذه القطع من مصر بشكل غير أخلاقى خاصة مقتنيات المتحف البريطانى التى خرجت عن طريق دبلوماسيين وهواة جمع آثار دفعوا رشاوى للأهالى لجمعها كما حدث فى بردية آنى "كتاب الموتى" الذى حصل عليها (والاس بدج) مساعد أمين جناح الآثار المصرية بالمتحف البريطانى وأحد أبرز ناهبي آثار مصر خلال القرن التاسع عشر الميلادى، كما هرّب 800 جمجمة و24 صندوق آثار إلى المتحف البريطانى، والدبلوماسي "هنري سالت" الذي عينته المملكة المتحدة قنصلًا لها بمصر في العقد الثاني من القرن التاسع عشر، والذى قام بالاستيلاء على الآثار المصرية وشحنها إلى بريطانيا وغيرهم وبخصوص اتفاقية حقوق الملكية الفكرية .

ويوضح الدكتور ريحان إنها أحد ملحقات اتفاقية التجارة العالمية التربس وملزمة للأعضاء الموقعين عليها وكان التوقيع النهائى على الاتفاقية فى المغرب فى أبريل 1994 وبدأ سريانها فى منتصف 1995 وتعمل اتفاقية حقوق الملكية الفكرية على تحقيق الحماية الفكرية بوسيلتين: الأولى هى الحصول على تصريح من مالك الحق الفكرى والثانية هى دفع ثمن لهذا الانتفاع وركزت الاتفاقية على حماية حقوق المؤلفين والمخترعين والمكتشفين والمبتكرين، وتجاهلت التراث المادى بحجة عدم وجود تكييف قانونى، ولكن الغرض الحقيقى هو استمرار استنزاف الشعوب صاحبة الحضارة واستغلال تراثها لديهم دون أى حقوق مادية أو معنوية والمطلوب هو تقدم وزارة السياحة والآثار ووزارة الخارجية رسميًا عن طريق إدارة الملكية الفكرية والتنافسية بقطاع الشئون الاقتصادية بجامعة الدول العربية وللمنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو) بوضع التراث المادى كبند رئيسى ضمن الاتفاقية الدولية لحماية الملكية الفكرية وأن تكون مسئولية الويبو إيجاد تكييف قانونى دولى فهى التى وضعت هذا العائق لإخراج التراث المادى الإنسانى من قائمة الملكية الفكرية ويتابع الدكتور ريحان بأنه يجب استثمار الزخم الشعبى والرأى العام للمصريين داخل مصر وخارجها، ففى فبراير 2023 قامت المستشارة القانونية المصرية ببريطانيا جيهان الحسيني بمحاولة جمع 100 ألف توقيع ليكون مسموحا بأن يناقش البرلمان البريطاني طلبا لتعديل قانون المتحف البريطانى، وهذا القانون هو الذي يعيق استعادة الآثار المهربة، بشرط أن يحمل الموقعون الجنسية البريطانية أو بحوزتهم إقامة في المملكة المتحدة.

ومن الجدير بالذكر أن عدد المصريين المقيمين في بريطانيا يتراوح بين 250 و300 ألف مصري، كما أن هناك جاليات عربية يمكن أن تشارك في التوقيع على العريضة كما أن هناك جهود جبارة من العالم المصرى العالمى الدكتور زاهى حواس المحبوب فى العالم كله وله كلمة مسموعة يمكن استثمارها وتوجيهها وفق القاعدة المعرفية لتحقيق نتائج ملموسة على المدى القريب والمتوسط والبعيد، وكذلك الدور الكبير للإعلام لوضع هذه القضية نصب أعينه والاستعانة بالعلماء المتخصصين للاستفادة من كل الرؤى، لكن الاستعجال فى الضغط على الدولة للتقدم رسميًا خاصة للحصول على حجر رشيد فمصيره الرفض، ولو تم الرفض لخسرنا حق المطالبة للأبد لأنه خرج باتفاقية دولية رسمية أى أن إطاره القانونى شرعى لكن إطاره الأخلاقى غير شرعي.

336624749_1544559492720642_4458259673930241670_n 294228264_3174512799480451_7055930483790281522_n

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: المتحف البريطاني

إقرأ أيضاً:

تحولات الغزالي الفكرية.. من العقل الفلسفي إلى الذوق الصوفي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

يُعد الإمام أبو حامد الغزالي (ت. 505هـ) أحد أبرز العلماء الذين جمعوا بين الفقه والتصوف والفلسفة، وكان لموقفه من التصوف تأثير كبير على الفكر الإسلامي. بدأ حياته عالمًا في الفقه والأصول، حيث درَّس في المدرسة النظامية ببغداد، وبرز كأحد أعلام المذهب الشافعي وعلم الكلام الأشعري، غير أن أزمة روحية عميقة دفعته إلى اعتزال الحياة العامة وترك منصبه المرموق، ليخوض تجربة صوفية استمرت سنوات، عبَّر عنها في كتابه "المنقذ من الضلال"، حيث قال: "علمت يقينًا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقتهم أصوب الطرق" (الغزالي، المنقذ من الضلال، ص131).

انعكست هذه التجربة الروحية على كتاباته، لا سيما في "إحياء علوم الدين"، الذي يعد من أهم المراجع الصوفية، حيث جمع فيه بين تعاليم الشريعة وأخلاق التصوف. 

لم يكن تصوف الغزالي منفصلًا عن الفقه، بل اعتبره وسيلة لتزكية النفس وتطهير القلب، مؤكدًا أن التصوف لا يكتمل إلا بالجمع بين العلم والعمل، قائلاً: "التصوف هو صدق التوجه إلى الله، والزهد فيما سوى الله، وتحقيق العبودية القلبية له" (الغزالي، إحياء علوم الدين، ج3، ص30). بهذه الرؤية، أسهم في إضفاء شرعية فكرية على التصوف داخل الإطار السني، وجعل منه نهجًا أخلاقيًا وروحيًا متكاملًا.

 

من النقد إلى التجربة الروحية

في بداية حياته الفكرية، كان الإمام الغزالي شديد الارتباط بعلم الكلام والفلسفة، حيث تلقى تعليمه في المدارس النظامية، التي كانت مراكز أساسية لنشر الفكر الأشعري والمذهب الشافعي. برع الغزالي في المنطق والفلسفة والفقه، لكنه بدأ يدرك تدريجيًا أن هذه العلوم، رغم قيمتها، لا تروي العطش الروحي العميق ولا تمنح الإنسان المعرفة الحقيقية بالله. 

في كتابه "المنقذ من الضلال"، يعترف بأنه عاش فترة من الشك والاضطراب الروحي، حيث وجد أن العقل وحده لا يستطيع أن يصل إلى اليقين المطلق، بل يحتاج إلى تجربة روحية أعمق تتجاوز الاستدلالات النظرية (الغزالي، المنقذ من الضلال، ص120-122).

مع مرور الوقت، بدأ الغزالي يقترب من التصوف بعد أن لاحظ أن الفقه والكلام يهتمان بالظاهر، بينما يهتم التصوف بتطهير القلب والوصول إلى مقام الإحسان. يقول في "المنقذ من الضلال": "علمت يقينًا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقتهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق" (الغزالي، المنقذ من الضلال، ص131). هذا التحول لم يكن مجرد اعتراف نظري، بل كان نتيجة تجربة شخصية مر بها الغزالي، حيث ترك التدريس في بغداد واعتزل في الشام ثم مكة، متفرغًا للعبادة والخلوة والتأمل، وهو ما ساعده على إعادة صياغة رؤيته للعالم واليقين.

أدرك الغزالي أن العلم النظري، رغم ضرورته، لا يكفي وحده للوصول إلى الحقيقة، إذ لا بد أن يكون مقرونًا بالعمل القلبي والتجربة الروحية. في كتابه "إحياء علوم الدين"، شدد على أن المعرفة الحقيقية لا تُكتسب إلا بالتذوق والممارسة، حيث يقول: "ليس الخبر كالمعاينة، ولا المعاينة كالذوق، ولا الذوق كالاتحاد والانغماس" (الغزالي، إحياء علوم الدين، ج3، ص25). ومن هنا، أصبحت رحلته من العلم النظري إلى التصوف تجربة محورية في حياته، انعكست في كتاباته التي جمعت بين البعد الفقهي والروحي، مما جعله أحد أبرز المفكرين الذين حاولوا التوفيق بين العقل والتجربة الروحية في الإسلام.

 

الصوفية كضرورة روحية: فرض عين؟

تُنسب إلى الإمام الغزالي مقولة: "الدخول مع الصوفية فرض عين، إذ لا يخلو أحد من عيب أو مرض إلا الأنبياء عليهم السلام". هذه العبارة تعكس قناعته العميقة بأن التصوف ليس مجرد خيار أو أسلوب تعبدي إضافي، بل هو منهج ضروري لإصلاح النفس وتهذيب الأخلاق. فبحسب الغزالي، الإنسان معرض بطبيعته لنوازع الغرور والرياء والتعلق بالدنيا، ولذلك لا بد له من اتباع نهج روحي يعينه على تزكية قلبه والتخلص من الصفات الذميمة. يرى الغزالي أن التصوف يحقق هذا الهدف لأنه يهتم بجوهر الإيمان، وليس فقط بظواهر الأحكام الشرعية (الغزالي، إحياء علوم الدين، ج3، ص25-27).

لم يكن الغزالي يعتبر التصوف بديلًا عن الفقه أو العقيدة، بل كان يرى فيه مكملًا ضروريًا لهما. ففي رأيه، الشريعة تحدد الأفعال الظاهرة للعبادة، لكن التصوف يهتم بالنيات والصفاء الداخلي. وفي هذا السياق، يشير في "إحياء علوم الدين" إلى أن علم الظاهر (الفقه) يعالج الأفعال، بينما علم الباطن (التصوف) يعالج القلوب، وكلاهما لا غنى عنه للمؤمن الساعي إلى تحقيق الإخلاص في عبادته (الغزالي، إحياء علوم الدين، ج3، ص28-30). وبذلك، لم يكن الغزالي يدعو إلى الانعزال عن أحكام الشريعة، بل كان يؤكد على أهمية الجمع بين المعرفة الدينية الصحيحة والسمو الروحي العميق.

خصص الغزالي في "إحياء علوم الدين" فصولًا كاملة لآداب الصوفية، مشيرًا إلى أن جوهر التصوف يكمن في تحقيق الصفاء الروحي والانشغال بمحبة الله. يقول: "الصوفي هو من صفا قلبه لله، وزهد في الدنيا، وانشغل بمحبته، وانقطعت عنه العلائق إلا من وجهته" (الغزالي، إحياء علوم الدين، ج3، ص30). ومن هنا، فإن دعوته للدخول في طريق الصوفية ليست دعوة إلى الانتماء إلى طريقة صوفية محددة، وإنما دعوة إلى السير في طريق التهذيب الروحي والتقرب إلى الله، وهو ما يراه ضرورة لكل مسلم يسعى إلى إصلاح قلبه وحياته الدينية.

 

مقامات التصوف عند الغزالي

مرّ أبو حامد الغزالي (ت. 505هـ) في رحلته الفكرية بمحطات مختلفة، بدأها بالمنهج العقلي الفلسفي والكلامي، لكنه وجد أن هذه العلوم وحدها لا توصل إلى اليقين الروحي الذي كان ينشده. دفعه هذا البحث إلى التصوف، حيث اكتشف أن الطريق إلى معرفة الله لا يعتمد فقط على الجدل العقلي أو الاستدلال المنطقي، بل يحتاج إلى التجربة الروحية والذوق العرفاني. في كتابه "المنقذ من الضلال"، يعترف بأن الكتب الفلسفية والكلامية لم تمنحه الطمأنينة التي كان يبحث عنها، فيقول: "علمت يقينًا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقتهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق" (الغزالي، المنقذ من الضلال، ص131). من هنا، انتقل إلى التصوف، حيث قسم رحلته إلى مرحلتين رئيسيتين: المنهج النظري، والتجربة العملية.

1. المنهج النظري: مقامات السلوك إلى الله

اعتمد الغزالي في فهم التصوف على مطالعة كتب المتصوفة الأوائل، حيث درس مؤلفات الحارث المحاسبي، والجنيد، وأبي طالب المكي، وغيرهم. وجد أن التصوف يقوم على مقامات يرتقي بها السالك تدريجيًا في رحلته الروحية، وأهم هذه المقامات:

الزهد: وهو التخلي عن الدنيا والتعلق بالآخرة، حيث يرى الغزالي أن حب الدنيا يُعد من أكبر العوائق أمام السالك إلى الله (إحياء علوم الدين، ج3، ص175).

المحبة: وهي حب الله حبًا خالصًا، بحيث تصبح مشيئته هي المحرك الأول للسلوك (إحياء علوم الدين، ج4، ص280).

 الإلهام: وهو نور يقذفه الله في قلب العبد ليهديه إلى الصواب دون الحاجة إلى استدلال عقلي طويل (المنقذ من الضلال، ص138).

 الفناء: وهو الوصول إلى حالة من التجرد الكامل من الذات والانغماس في شهود الحق، وهو أرقى درجات التصوف عند الغزالي (إحياء علوم الدين، ج4، ص310).

2. التجربة العملية: الذوق والحال وتبدل الصفات

لم يكتفِ الغزالي بالبحث النظري، بل خاض تجربة صوفية عملية، حيث اعتزل التدريس والفتوى، وخرج في رحلة استمرت نحو عشر سنوات، زار فيها بلاد الشام والعراق ومكة. في هذه الفترة، أدرك أن التصوف ليس مجرد نظريات، بل هو ذوق وحال وتبدل في الصفات الداخلية. ففي "إحياء علوم الدين"، يوضح أن السالك لا يصل إلى المعرفة الحقيقية بالله إلا إذا عاش تجربة روحية صادقة، فيقول: "ليس التصوف كلامًا يقال، بل حال يُدرك، وذوق يُعاش، ومن لم يذق لم يعرف" (الغزالي، إحياء علوم الدين، ج3، ص38). وهكذا، أصبح الغزالي نموذجًا للصوفي الذي يجمع بين المعرفة النظرية والخبرة الروحية، مما جعله أحد أبرز رواد التصوف الإسلامي.

 

نقد الغزالي للصوفية المنحرفة

على الرغم من تأييده العميق للتصوف وإعلائه من شأنه كوسيلة لتزكية النفس والتقرب إلى الله، لم يكن الإمام الغزالي مؤيدًا لكل ما يُنسب إلى الصوفية، بل كان شديد النقد لبعض الممارسات التي رآها خروجًا عن المنهج القويم. كان يرى أن التصوف الصحيح يجب أن يكون منضبطًا بأحكام الشريعة، وأي انفصال بين الظاهر (الشريعة) والباطن (الحقيقة) يؤدي إلى الانحراف. في كتابه "إلجام العوام عن علم الكلام"، يوضح أن بعض الصوفية تجاوزوا الحد، سواء بتركهم الفرائض ظنًا منهم أنهم وصلوا إلى مقام الاكتفاء القلبي، أو بادعائهم الوصول إلى حقائق لا تحتاج إلى التزام بالأحكام الشرعية (الغزالي، إلجام العوام، ص42-44).

أحد أخطر الانحرافات التي انتقدها الغزالي هو ادعاء بعض الصوفية أنهم بلغوا مقامًا يسمح لهم بإسقاط التكاليف الشرعية عن أنفسهم، حيث اعتبر هذا النوع من التصوف مخالفًا لحقيقة الدين. يحذر الغزالي من الغلو في فكرة "الكشف الباطني"، إذ يرى أن بعضهم وقعوا ضحية الوهم عندما زعموا أنهم وصلوا إلى معرفة خاصة بالله تتجاوز الكتاب والسنة. يقول: "قد استدرج الشيطان قومًا فزيّن لهم القول بوحدة الوجود المطلقة، فخرجوا عن حد الاعتدال، وظنوا أنهم قد أدركوا الحقائق الإلهية بمجرد الذوق والمكاشفة" (الغزالي، إلجام العوام، ص45). من هنا، كان الغزالي يرفض التصوف الذي ينحرف عن ضوابط الشريعة، ويؤكد أن أي تجربة روحية يجب أن تكون محكومة بالنصوص الدينية.

كما انتقد الغزالي بعض المظاهر السلبية التي انتشرت بين الصوفية في زمانه، مثل الاعتماد على الكرامات بدل الاجتهاد في العبادة، والمبالغة في التركيز على الرؤى والمنامات كوسيلة لاستنباط الأحكام. في كتابه "إحياء علوم الدين"، يفرق بين الصوفية الحقيقيين الذين يسلكون طريق التهذيب والمجاهدة، وبين المدعين الذين يبحثون عن الشهرة أو يدّعون امتلاك قدرات خارقة. يقول: "كثُر المتصوفة في زماننا، فمِنهم الصادق في سيره إلى الله، ومنهم مَن جعل التصوف وسيلة لكسب الدنيا والجاه، فالتصوف الحق هو تصفية القلب، لا مجرد لبس الصوف والرقص والوجد" (الغزالي، إحياء علوم الدين، ج3، ص62). ومن خلال نقده الحاد لهذه الممارسات، سعى الغزالي إلى إعادة التصوف إلى أصله النقي القائم على الزهد والإخلاص، بعيدًا عن الإفراط والتفريط.

 

أثر الغزالي في التصوف الإسلامي

كان للإمام الغزالي تأثير بالغ في مسار التصوف الإسلامي، إذ استطاع أن يقدم نموذجًا متوازنًا يوفق بين الشريعة والحقيقة، مما جعله جسرًا بين الفقهاء والصوفية. قبل الغزالي، كان هناك توتر بين الاتجاهات الفقهية والتصوفية، حيث كان بعض الفقهاء ينظرون إلى الصوفية بعين الريبة، معتبرين أنهم يبتعدون عن الالتزام الظاهري بالشريعة، بينما كان بعض الصوفية يرون أن الفقهاء يركزون على الأحكام الظاهرية دون النفاذ إلى جوهر الدين. من خلال كتابه "إحياء علوم الدين"، قدم الغزالي معالجة شاملة تجمع بين التزكية الروحية والالتزام بالأحكام الشرعية، مما ساهم في ترسيخ التصوف كجزء من الفكر الإسلامي السني (الغزالي، إحياء علوم الدين، ج1، ص3-5).

انعكس تأثير الغزالي بوضوح في الحركات الصوفية التي جاءت بعده، مثل الطريقة الشاذلية والنقشبندية، حيث استندت هذه الطرق إلى منهجه في الجمع بين العبادة الظاهرة والتزكية الباطنية. فقد تأثر أبو الحسن الشاذلي (ت. 656هـ) بمفهوم الغزالي عن التصوف المتوازن، حيث أكد على أهمية الجمع بين الذكر والعمل وعدم الانعزال عن المجتمع، وهو ما يظهر في كتاباته حول التوكل والسير إلى الله. كما اعتمدت الطريقة النقشبندية، التي أسسها الشيخ بهاء الدين نقشبند (ت. 791هـ)، على منهج الغزالي في تربية المريدين وتوجيههم إلى تصفية القلب دون إهمال الشريعة. ويؤكد الباحث أبو العلا عفيفي أن الغزالي "وضع الأسس الفكرية التي مهدت لظهور التصوف الطرقي الذي أصبح أكثر تنظيمًا في القرون التالية" (عفيفي، التصوف: الثورة الروحية في الإسلام، ص132).

يُعد كتاب "إحياء علوم الدين" من أكثر الكتب تأثيرًا في الفكر الصوفي حتى يومنا هذا، إذ جمع بين الأحكام الفقهية والأخلاق الصوفية، مما جعله مرجعًا للمريدين والعلماء على حد سواء. فقد قسّمه الغزالي إلى أربعة أجزاء تتناول العبادات والمعاملات والمهلكات والمنجيات، حيث ركّز على الجانب الروحي للإسلام وأهمية إصلاح القلب قبل إصلاح العمل (الغزالي، إحياء علوم الدين، ج1، ص6-10). ويرى المستشرق لويس ماسينيون أن الغزالي "نجح في إعادة الاعتبار للتصوف داخل التيار السني، بعد أن كان يُنظر إليه بتوجس من قبل الفقهاء التقليديين" (ماسينيون، التصوف والفكر الإسلامي، ص211). ومن هنا، فإن تأثير الغزالي لم يكن محصورًا في عصره، بل امتد ليشكل مرجعية أساسية للتصوف السني حتى اليوم.

 

الغزالي والتكفير: 

من المفارقات التي قد تبدو غريبة للقارئ أن الإمام أبا حامد الغزالي كان من أشد المنتقدين لمنهج التكفير المطلق، رغم أنه نفسه اشتهر بتكفير بعض الفلاسفة في كتابه "تهافت الفلاسفة". فقد رأى الغزالي أن بعض الفلاسفة خرجوا عن أصول العقيدة الإسلامية في قضايا محددة مثل قدم العالم، وإنكار البعث الجسدي، وإنكار علم الله بالجزئيات، معتبراً أن هذه المسائل الثلاث تمثل كفراً صريحاً، بينما اعتبر غيرها من المسائل مجرد بدع أو أخطاء فكرية (الغزالي، تهافت الفلاسفة، ص12-15). ومع ذلك، لم يكن الغزالي يدعو إلى تكفير كل الفلاسفة دون تمييز، بل ميز بين من تبنّى هذه الآراء جهلاً وبين من أصرّ عليها عناداً.

وكما سبق الاشارة كان الغزالي في بداياته متأثراً بالمنهج الكلامي الأشعري، ثم انفتح على الفلسفة ودرسها بعمق، حتى قيل عنه إنه "بلع الفلاسفة وأراد أن يتقيأهم فما استطاع" (الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج19، ص323). في كتابه "مقاصد الفلاسفة"، عرض أفكار الفلاسفة بشكل دقيق دون نقد، مما دفع البعض للظن أنه يدافع عنهم، لكنه في "تهافت الفلاسفة" وجّه إليهم نقداً لاذعاً، معتبراً أن بعض آرائهم تؤدي إلى الإلحاد والانحراف عن العقيدة الصحيحة (الغزالي، مقاصد الفلاسفة، ص5). إلا أن الغزالي في كتابه "المنقذ من الضلال" عاد ليؤكد أن التكفير ليس بالأمر الهيّن، وأنه ينبغي التريث والتفريق بين الخطأ العقدي الصريح وبين الاجتهاد الذي قد يكون خاطئاً ولكنه لا يخرج عن الملة (الغزالي، المنقذ من الضلال، ص146).

ورغم مكانته العلمية الكبيرة، تعرض الغزالي لانتقادات حادة، خاصة من بعض الفقهاء الذين رأوا أن آراءه الصوفية والفلسفية تميل إلى الغموض والتأويل البعيد. وقد اتُهم في بعض الأوساط بأنه تأثر بالفلسفة إلى حدّ أنه استخدم بعض مصطلحاتها في كتبه، خاصة في حديثه عن الفناء والتجربة العرفانية، مما دفع البعض إلى التشكيك في آرائه حول المعرفة الدينية (ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج4، ص66). كما أن بعض الفقهاء الحنابلة والمحدثين رأوا أن بعض تأويلاته في "إحياء علوم الدين" قد تقود إلى الانحراف عن ظاهر النصوص، إلا أن هذه الانتقادات لم تصل إلى حد إجماع العلماء على تكفيره، بل ظلت في إطار الجدل الفكري الذي كان سائداً في عصره. وهكذا، فإن الغزالي، رغم موقفه الحاد من الفلاسفة، ظل واعياً بخطورة التكفير، وكان يدعو إلى الاعتدال في الحكم على المخالفين، وهو ما يظهر بوضوح في كتاباته المتأخرة.

 

الصراع بين الفقهاء والسلطة

لم تكن كتابات الإمام أبي حامد الغزالي (ت. 505هـ) محل قبول مطلق في جميع أقطار العالم الإسلامي، بل واجهت معارضة شديدة في بعض المناطق، خصوصًا في بلاد المغرب والأندلس. كانت الدولة المرابطية، بقيادة السلطان علي بن يوسف (ت. 537هـ)، تتبنى المذهب المالكي بشكل صارم، وكان علماؤها يعتبرون بعض آراء الغزالي، خاصة في "إحياء علوم الدين"، خروجًا عن النهج الفقهي التقليدي بسبب اعتماده على التصوف وتأويلاته الفلسفية. وبتأثير بعض الفقهاء، أصدر السلطان أوامر بمنع تداول كتبه، حيث رأى بعض فقهاء المالكية أن كتاباته قد تفتح الباب أمام ممارسات صوفية غير منضبطة أو أفكار تأويلية بعيدة عن النصوص الشرعية (ابن الأبار، الحلة السيراء، ج2، ص311).

لم تتوقف الحملة على كتب الغزالي بوفاة السلطان علي بن يوسف، بل استمرت في عهد ابنه تاشفين بن علي، الذي كان أكثر تشددًا في محاربة "البدع" كما كان يسميها فقهاء المرابطين. في إحدى رسائله الموجهة إلى القضاة والولاة، شدد على ضرورة ملاحقة كتب الغزالي وإحراقها، قائلاً: "فمتى عثرتم على كتاب بدعة أو صاحب بدعة فإيّاكم وإيّاه، وخاصة وفّقكم الله كتب الغزالي. فليتتبع أثرها وليقطع بالحرق المتتابع ضرها" (ابن الأبار، الحلة السيراء، ج2، ص312). يعكس هذا الموقف حدة الخلاف بين الاتجاه الفقهي الصارم في المغرب وبين الفكر الذي كان يمثله الغزالي، والذي جمع بين الفقه والتصوف والفلسفة.

أسباب معارضة المرابطين للغزالي

كان موقف المرابطين من الغزالي نابعًا من عدة عوامل، أبرزها:

    انتقاد الغزالي للمذهب المالكي: في بعض مؤلفاته، لم يخفِ الغزالي انتقاده لبعض الآراء الفقهية السائدة في الغرب الإسلامي، مما أثار حساسية فقهاء المالكية ضده (الغزالي، المستصفى، ج1، ص10).

    العداء للتصوف العرفاني: كانت الدولة المرابطية تفضل التصوف السني المعتدل، بينما رأى بعض علمائها أن الغزالي متأثر بالتصوف الفلسفي الذي قد يؤدي إلى الابتعاد عن ظاهر الشريعة (ابن خلدون، المقدمة، ص418).

    الخشية من التأثير الفكري: انتشرت كتب الغزالي بسرعة بين طلاب العلم والمثقفين، مما أثار مخاوف فقهاء المرابطين من أن تؤدي أفكاره إلى زعزعة نفوذ المدرسة المالكية التقليدية في المغرب.

ورغم هذه الحملة، فإن فكر الغزالي لم يُطمس، بل استمر تأثيره عبر الأجيال، خاصة بعد سقوط دولة المرابطين وصعود الموحدين، الذين كانوا أكثر انفتاحًا على أفكاره.

خاتمة

الإمام الغزالي لم يكن مجرد فقيه أو متكلم، بل كان باحثًا عن الحقيقة، ورأى في التصوف وسيلة لإصلاح القلب وتقريب الإنسان من الله. ورغم أنه مدح الصوفية، فإنه كان حريصًا على التمييز بين التصوف الصحيح والتصوف المنحرف. لذا، فإن مقولته عن "فرضية الدخول مع الصوفية" تعني ضرورة تهذيب النفس وليس بالضرورة الانضمام إلى الطرق الصوفية بمعناها الطرقي المتأخر.

مقالات مشابهة

  • فضيحة جديدة تهز المتحف البريطاني.. تمثال مصري قديم مرتبط بمهرب آثار دولي
  • تعدى على حقوق الملكية الفكرية.. ضبط المدير المسئول عن مطبعة غير مرخصة بالسلام
  • عبدالرحيم علي يعزي الزميل محمد الدوي في وفاة خاله
  • انتهك حقوق الملكية الفكرية.. القبض على صاحب مطبعة بالسلام
  • ندوة موسعة عن أهمية التوازن بين حرية التعبير وتنظيم المحتوى وحماية الملكية الفكرية
  • تحولات الغزالي الفكرية.. من العقل الفلسفي إلى الذوق الصوفي
  • رئيس المخابرات المصرية يبحث مع البرهان سبل استعادة الاستقرار للسودان
  • رئيسا المخابرات العامة المصرية ومجلس السيادة السوداني يبحثان استعادة الاستقرار وإنهاء الحرب في السودان
  • عبدالرحيم ركب مكان اخوهو
  • الذكاء الاصطناعي يرصد مخالفات استخدام الهاتف في الأردن