الـمـؤقـت الـدائـم ..!
تاريخ النشر: 3rd, September 2023 GMT
كل شيء في حياة الفلسطينيين يبدأ مؤقتاً إلى حين تصويبه ولكنه يتحول إلى دائم. فالعوارض وخاصة المرضية منها تتحول إلى أمراض مزمنة، فاللجوء العام 48 كان مؤقتا إلى حين العودة لكن المخيمات أصبحت جزءا من الواقع، منظمة التحرير تم إنشاؤها لهدف التحرير المؤقت لتتحول مع الزمن دون أن تحرر إلى العجل المقدس الذي يجب الحفاظ عليه، حتى وإن فقدت أسباب وجودها التي تمثلت بالصدام المسلح مع إسرائيل لتحرير البلاد كما طلب عبد الناصر من أحمد الشقيري.
«أوسلو» المؤقت والمسقوف بخمس سنوات تحول إلى دائم، والسلطة التي تم تصميمها لإدارة شؤون الفلسطينيين لفترة مؤقتة تحولت إلى دائمة، والانقسام المؤقت تحول إلى دائم، والمجلس التشريعي المحدود زمنيا تحول إلى دائم، والرئيس المنتخب لولاية تحول إلى دائم والمفاوضات المؤقتة مع إسرائيل تحولت إلى دائمة وحوارات المصالحة أيضا كذلك، هكذا الأمر بالنسبة لشعب كل شيء في حياته يبدأ مؤقتا ولا ينتهي.
وحيث إن معالجة نتائج النكبة والتشتت أكبر من طاقة الفلسطينيين وخارج إرادتهم لأن الأمر حينها كان مؤامرة كونية بكى فيها رئيس أميركي مثل هاري ترومان فرحا حين حدثت، وإذا كانت منظمة التحرير لم تصل لهدفها بعد لكن باقي التفاصيل يمكن للفلسطيني أن يغير مجراها لأنها تقع في مجال إرادته وإدارته التي يملك فيها إمكانيات التأثير والتغيير، لم يتم عرض النماذج السابقة بهدف التذكير بالأزمات القائمة بقدر ما يمكن استخلاصه بانعدام كفاءة الفلسطيني في إدارة قضيته إلى الحد الذي يبدو فيه طرفا سلبيا تسوقه الأحداث دون أن يكون قادرا على التأثير فيها.
ما مناسبة التذكير بواقع شديد الوضوح حد أنه يضع أصبعه في أعيننا جميعا، وي فتح على مأساة تزداد تعقيدا لشعب ليس لديه أولوية سوى التخلص من تبعات الاحتلال ليجد أن واقعه يصبح أكثر تكريسا لأزمة الاحتلال بعيدا عن الأحلام الكبرى وشعاراته. لكن الواقع بات مختلفا بعد ثلاثة أرباع القرن على مأساته وثلاثة عقود على الاتفاق الذي أحدث تحولا في المسار التاريخي وتسبب في تعميق المأزق، كل هذا يعكس خطأ ما في المسار ولأن الفلسطيني لا يعرف المراجعة ولا التراجع ولا الوقوف عند الظواهر حتى السلبية منها محاولا التغلب على سوداويته بالشعار الوردي، أخذ هذا الواقع يتدهور اكثر.
مناسبة الأمر أن العالم يتغير ويشهد تحولات كبرى لم يتوقع سرعتها كبار المفكرين ولا المنجمين حتى، ثورة تكنولوجية تحدث انقلابا في العالم القائم، اصطفافات وتكتلات تتغير معها ممكنات القوة. تَضعف أطراف وتنهض أطراف أخرى، وحروب تعيد للصدارة دولا هامشية وتضع دولا كبرى أمام خيارات مأزومة يجيء سؤال قدرة الفلسطيني صاحب القضية الأشهر والأكثر حضورا وحيوية على موضعة نفسه من جديد، مستفيدا من التحولات الكونية وتأثيراتها التي يفترض أن يبحث عن كل خرم إبرة يستطيع منه النفاذ نحو مصلحته.
الولايات المتحدة أثبتت بالدليل القاطع أنها وسيط ليس نزيها ولا محايدا في الصراع الدائر بين الفلسطينيين وإسرائيل، وما زال هناك من يطالبها بلعب دور في إحياء مفاوضات أزمنت لتمارس هوايتها في إدارة الصراع للأبد بلا حل رغم معرفة كل قراء التاريخ بقدرتها على إلزام إسرائيل، أما أوروبا منتجة قيم العدالة بعد أن هزتها كارثة حروب كبرى ومنتجة القيم الديمقراطية تبتلع لسانها على بوابات الحدود الفلسطينية، وفي المحيط، بعض الدول العربية تكتشف أن حكومات نتنياهو التي تتعامل معهم باستخفاف ارتباطا بثقافة متجذرة هي حكومات ديمقراطية متنورة جديرة بالتطبيع المجاني بلا ثمن في مشهد بلغ ذروة سرياليته.
التغيير الأبرز في إسرائيل بوصول حكومة يمينية دينية تحدث قدرا كبيرا من التآكل في قوة إسرائيل وحضورها وعلاقاتها الدولية، فهي لا تتوقف عن صناعة الأزمات ويكفي تصريح الحركة لبن غفير وتصريح محو حوارة لسموتريتش وبيانات الراعي الأميركي وعدم استقبال نتنياهو ومنع وزرائه الالتقاء مع نظرائهم الأميركيين، وإلى حد كبير ينسحب ذلك على معظم دول العالم.
أين الفلسطيني وماذا يفعل وكيف استثمر هذا التغيير سواء الدولي أو الإسرائيلي الذي قدم له جائزة كبرى ووفر أرضية لبرنامج ومجال عمل لا ينتهي؟ لا شيء سوى الانتظار والتجميد المكلف جدا والذي لا يبقي فقط الأمور على صعوبتها بل يزيدها تعقيدا. فالسلطة مع الزمن تتحول إلى مؤسسة خدماتية تقوم بإدارة شؤون السكان تحت الاحتلال عبر الإدارة المدنية، والانقسام الذي حدث بعد طرد حركة حماس للسلطة من غزة يؤدي مع الزمن إلى تباعد بين مجتمعين منفصلين بالمعنى النفسي والثقافي وأسس لانفصال دائم والمؤسسات التي انتخبت يوما تآكلت، كلفة الانتظار تزداد تباعا إلى الدرجة التي لا يحتملها الشعب وقضيته.
هل يمكن مراجعة التاريخ والاستفادة من التجربة؟ هذا لم يحدث ومن المشكوك أن يحدث رغم وطأة التجربة، فتلك ليست عرفا سياسيا فلسطينيا ولا عربيا حتى، هل يمكن الاستفادة من تغيرات تفرضها اللحظة الكونية؟ من المشكوك فيه أيضا رغم أن هناك فرصة وفرتها تلك اللحظة السياسية عادة تتطلب رشاقة وسرعة استجابة لأن الكلفة أقل من كلفة الانتظار، لقد اتسعت كثيرا مساحة الحركة بالنسبة للفلسطيني وتنتظر دوره، ويمكن أن يفعل الكثير وهو قادر لكن ليس قبل الوقوف أمام التجربة والمساحة والبرنامج الممكن الذي وفرته.
المصدر: وكالة سوا الإخبارية
إقرأ أيضاً:
عندما يُغيِّب الموت أمهات الزمن الجميل
د. إبراهيم بن سالم السيابي
غيَّب الموت إحدى أمهات الزمن الجميل بعدما خسرت معركتها الأخيرة في هذه الدنيا، بعد رحلة أثمرت تأسيس بيت وأسرة وأبناء يُكملون رسالتها في هذه الحياة، هي امرأة كانت تنتمي لهذا هذا الجيل من الأمهات الذي لا يعوض، أُمَّهات يُمثلن رمزًا للطيبة ودفء المشاعر الذي يجمع بينها وبين جيرانها وأبناء الحارة القديمة بكل معانيها وقيمها الثرية.
ورغم الظروف وقسوة الحياة، كانت تلك الأمهات حاضرات دائمًا يُقدمن العون والمساندة بلا تردد فهن ربات بيوت يقمن بإعداد كافة مستلزمات البيت والأسرة بلا كلل ولا ملل وهنَّ كذلك معلمات بلا مؤهلات علمية وهن طبيبات قبل أن تعلق شهادات الطب في أروقة المستشفيات والعيادات وهن ممرضات يضعن بلسمهن الخاص لكي يداوي كل أنواع الجروح والآلام، وتراهن الابتسامة لا تفارق مُحيَّاهُن في كل وقت وكل حين، وكانت هؤلاء الأمهات وكلماتهن تنطق بالحكمة ويجبرن الخواطر ويخففن عن الجميع قسوة الزمن والأحزان، كنَّ مثالا يحتذى به، والواحدة منهن كانت تحمل في قلبها صبر السنين وروحًا مليئة بالتفاؤل والأمل، كنَّ يجمعن بين القوة والحنان، وبين الصلابة في مواجهة المحن والدفء الذي يجعل كل من حولهن يشعر بالأمان، .لم يكنَّ فقط أمهات لأبنائهن؛ بل أمهات للحارة بأكملها، كن يشارك الجميع أفراحهم وأتراحهم، ويفتحن أبواب بيوتهن وقلبوهن لجبر الخواطر لكل محتاج. كانت كلماتهن تلامس القلوب، ونصائحهن تُنير الدروب ولم تكن أيديهن تعرف الراحة، فقد كانت أيديهن مشغولة دائمًا بالعمل من أجل الآخرين، وعيونهن مليئة بالحب والاهتمام.
ونحن نؤمن بقضاء الله وقدره وسنته في هذه الأرض منذ بدء الخليقة بأن كل من عيلها فان والإنسان مهما طالت رحلته في هذه الدنيا فلاشك أنه راحل، ولكن كم يؤلمنا كثيرا هذا الرحيل وهذا الفقد، بالإضافة إلى ما يتركه هذا الفقد في قلوب الأهل والأصحاب والأقارب من حسرة وحزن، كما إنَّ مثل هؤلاء الأمهات لا يمكن تكرارهن أو تعويضهن؛ فكُل واحدة منهن قد رحلت تركت بصمة لا تمحى في نفوس كل من عرفها، وعزاؤنا بأن تبقى كل واحدة منهن دائمًا مصدر إلهام لنا لنحيا بروحها وقيمها، فهن نموذج للمرأة التي لا تنحني أمام الصعاب، والتي تسعى دائمًا لأن تجعل من حولها أفضل وأقوى وذكراها يجب أن تبقى في كل زاوية من الحارة، وفي كل قلب عرف قيمتها وحبها، وكل واحدة منهن نموذج لامرأة من ذلك الزمن الجميل يفتقده ويحن إليه كل من عاش ذلك الزمن.
فقدان الأم موقف من أصعب المواقف لما فيه من الحزن والانكسار الذي يمر به الأبناء وتمر الأسرة به في حياتها.
لا شك أن رحيل الأم عن الدنيا لا يعني فقط فقدان شخص عزيز، بل هو غياب الحنان والحب الذي لا يعوضه شيء؛ إذ إنَّ الأُم هي الملاذ الأول والأخير، هي من تمنحنا القوة لمواجهة الحياة، وهي النبض الذي يدق في أرواحنا مهما ابتعدنا أو تغيرنا.
عندما ترحل الأم، يشعر الإنسان وكأنه فقد ركنًا أساسيًا من أركان وجوده، فهي التي كانت تبني لنا عالما من الأمان والدفء بحضورها، وحين تغيب، يصبح العالم مكانًا أكثر برودة وأكثر وحدة. غيابها يشبه انطفاء شمسٍ كانت تشرق كل يوم لتمنح الحياة لونها وبهجتها، إنه ألم لا يمكن وصفه بالكلمات، بل هو شعور دائم بالحسرة والحنين.
يقول أحدهم إنه لم يحس بأنَّه تعدى مرحلة الطفولة إلّا عندما رحلت أمه عن هذه الدنيا فقد كان يعيش كطفل صغير في أحضانها بالرغم أنه أصبح أبًا؛ بل جِدًّا منذ سنين.
الحياة بدون آلام تأخذ طابعًا مختلفًا، فذكرياتها وفي المواقف التي كانت تملاها بحضورها وحنانها شيء آخر وحلم آخر فهي مصدر للدفء أحيانًا، وسبب في الحزن عند فقدانها.
الأم ليست مجرد شخص، بل هي رمز للحب الصادق والتضحية غير المشروطة فهي التي تعبت وسهرت وضحت من أجل أن ترى أبناءها في أفضل حال، وعندما نفتقدها نفقد ليس فقط الحاضر، بل نفقد الماضي بكل تفاصيله والمستقبل الذي كنا نتخيله معها وتصبح الأعياد والمناسبات بلا طعم، ويصبح كل فرح ناقصًا، وكأننا نفتقد جزءًا من أرواحنا.
كم هو صعب عندما يعيدنا الحنين إلى الذكريات، إلى ضحكاتها التي كانت تملأ المكان، وكلماتها التي كانت تهدئ القلوب، وحتى نظراتها التي كانت تحمل كل معاني الحب والاهتمام ودعائها الذي يعطي القلب الراحة والسكينة هذه الذكريات بالرغم صعوبتها قد تصبح وقودًا نستمد منه الطاقة لمواجهة الأيام.
الحقيقة لا يمكن تجاوز فقدان الأم بسهولة، ولكن يمكننا أن نحول هذا الفقد الى قوة تلهمنا لنكون أشخاصًا أفضل، يمكننا أن نكرم ذكراها من خلال العيش وفق القيم التي غرسَتها فينا، ومن خلال مشاركة حبها وعطائها مع الاخرين وكل فعل طيب نقوم به وكل دعاء نصليه هو امتداد لإرثها الذي لن يمحوه الزمن.
نعم إن رحيل الأم هو واقع مؤلم يترك أثرًا لا يمحى في القلب وانكسارًا ما بعده انكسار لا يُجبر أبدًا مهما طالت الأيام ويبقى مكانها فارغاً لا يمكن أن يملأه أحد، ولكنه أيضًا يفتح أعيننا على جمال الحياة الذي كانت تصنعه لنا بحضورها وكانت تكافح من أجلها لكي نكون سعداء، بالتالي يجب أن نستمر في تذكرها بكل الحب والامتنان، وأن نجعل من ذكراها دافعًا لنكون أشخاصًا يحملون في قلوبهم شيئًا من حنانها وعطائها.
إن فقدان الأم رغم الألم والفقد يُعلمنا الكثير عن الحياة، عن الحب، وعن قيمة الأشخاص الذين يحيطون بنا ويجعلنا نقدر أكثر قيمة العائلة والأسرة وقيمة الوقت الذي نقضيه مع أحبائنا.
وفي الختام.. الله نسأل الصبر لكل من فَقَدَ أمّه، والدعاء لكل الأمهات اللاتي رحلن عن هذه الدنيا بأن يتغمدهن الله بواسع رحمته ويدخلهن فسيج جناته إنِّه قريب سميع الدعاء.