المنادي الشعبي " محمد إبراهيم الحلواني"
تاريخ النشر: 3rd, September 2023 GMT
عبر أزمنة التاريخ الإسلامي عرفت بلداننا العربية والإسلامية شخصية نمطية لعبت دورا إعلانيا وإعلاميا كبيرا في حياتنا الاجتماعية والثقافية في زمن خلت فيه وسائل المعلوماتية كما نحن عليه الآن عرفت بما يسمي بالمنادي الشعبي.
وشخصية المنادي فيما مضي في مدننا وقرانا المصرية علي وجه الخصوص كانت عبارة عن شخصية تقدم خدمة اجتماعية فضلا عن كونها وسيلة للإعلام والتبليغ عن موضوعات هامة من خلال مواهب فن المناداة التي كانت تتوافر عند البعض، وكانت تلك الشخصية تؤدي وظيفتها بأمر الولاة والحكام في حينه كتكليف أو تؤدي وتمتهن تلك الوظيفة من تلقاء نفسها لتمتعها بقدرات خاصة تسخرها للرزق، ولهذا فقد كانت بمثابة المبلغ الرسمي للمسئول وأداته في التبليغ وهمزة الوصل بينه وبين أهل الحي أو البلدة باعتبار المنادي مكلف من الوالي بتبليغ الناس عن كل الفرمانات والتعليمات التي تصدر من الدولة كالتوعية من الأمراض ومواعيد التطعيم والمطلوبين للخدمة الإجبارية أو في مشاريع شق الترع وإنشاء الطرق والجسور أو لدفع الضرائب والجزية أو للإعلان عن منسوب النيل والفيضان كما كان عليه التبليغ في عهد الدولة الأيوبية والمملوكية وما تلاها من عهود، والإعلان عن مواعيد المناسبات والأعياد من خلال معرفة أهلة الشهور العربية والاحتفالات والموالد الدينية وأخبار الجيش والدولة أو الإعلان عن الأشياء المفقودة وغيرها من المعلومات.
يري الدكتور رشدي صالح في كتاباته عن التراث الشعبي وعن فن النداء أن تلك النداءات المختلفة وبعيدا عن دورها الوظيفي النفعي كان لها دور جمالي لأنها تدخل في فنون النثريات الأدبية متي توافرت فيها القدرة علي الإجادة والنطق وطلاوة الأسلوب وحلاوة الصوت وتنسيق الجمل ومنها ينفذ الصوت بما يحمله من إعلان للقلوب، كما يدخل فن النداء كفرع من فروع الأدب الشعبي وما له من مكانة داخل النصوص الأدبية من سير وحكايات شعبية وغيرها من المواد الأدبية التي تدخل في نسيج الدراما الشعبية حتي أصبح المنادي والراوي شخصية هامة داخل فروع مواد الأدب الشعبي لما كانت تقوم به من وظيفة درامية انتقلت إلي فنوننا الأدبية الرسمية كالرواية والمسرحية والقصة باعتبارها نماذج ملحمية لتواجد شخصية المنادي والراوي بها لتوظيفه للإعلام والإخبار لتلخيص وربط الأحداث بعضها ببعض أمام المشاهد.
كانت شخصية المنادي الشعبي ظاهرة من ظواهر الفلكلور في المجتمع المصري وظلت هكذا إلي أن تلاشي دورها وانقطع في بلداننا إلي حد كبير بسبب التقدم في وسائل الإعلام الحديثة حتي تبدلت الظاهرة الفلكلورية إلي مسميات أخري رغم أنها تؤدي نفس الغرض عندما انعدمت في العزب والكفور والقري المصرية وسط وجود مكبرات الصوت وعالم الاتصالات وغيرها، وقديما كان المنادي يجول القري والنجوع، والأحياء والأزقة بالمدن وكان يتجول بنداءاته العذبة وسط أماكن التجمعات كالأسواق، والأعياد والمناسبات الدينية وتجمعات الطرق الصوفية في الموالد المختلفة في ربوع مصر وحول المساجد الكبري بالقاهرة والمدن، ليعلن عن موضوع معين خاتما كلامه بالحاضر يعلم الغائب.
كان المنادي فيما مضي وفي عهد الولاة والسلاطين يقوم بتبليغ أوامرهم ونواهيهم بعكس ما يحدث الآن لتدخل وسائل الإعلام بحسب توجهاتها في الرسالة الموجهة إلي الجمهور كما كان ما يردده المنادي فيما مضي مادة لإسعاد الناس وبخاصة عندما كان يعلن عن اقتراب مناسبات الأعياد والموالد وفيضان النيل وغيرها من الأمور التي كانت تسعد الناس، بل كان مادة للحديث والسمر بين أفراد العائلة حول حادث قد حدث أو حادث قادم، ففي أيام السلطان برقوق في عهد الدولة المملوكية كان قد أعلن عن أنه ' لا مجزوم ولا أبرص ولا أقطع يقيم بالقاهرة ومن أقام بها منهم وسط أو شنق أي قطعه السيف من وسطه إلي نصفين ' وكان قد جري تجريس امرأة كانت قد تزوجت من رجلين في وقت واحد فرفعت علي جمل وزفت في شوارع القاهرة وعلي رأسها طرطور أحمر ونودي عليها عن طريق المنادي ذو الصوت الجوهري ولباسه المتميز بقوله ' هذا جزاء من يتزوج من رجلين في الإسلام '، وكان إذا شاع الوباء كان المنادي يقوم بإخبار الناس وتحذيرهم وإعلانه عن التطعيم والعلاج.
ويعتبر الحاج محمد إبراهيم الحلواني بقرية شمبارة بمحافظة الشرقية هو من أواخر الذين امتهنوا مهنة المنادي فهو من مواليد 1925 وقد عاش حياته في بدايتها متنقلا بين الكثير من المهن حتي التقيناه أثناء عمله في فترات سابقة ثم قمنا بالتسجيل معه لمعرفة أخباره وأخبار مهنته تلك التي عرفناه بها ونحن أطفالا صغارا لتجواله في الكثير من القري بما فيهم قريتنا قرية بني قريش حتي قال ' اسمي محمد إبراهيم الحلواني العشماوي، يسمونني بالحلواني بسبب عمل والدي بقرية شمبارة قديما بصناعة الحلوي وبيع الشربات بالموالد وبيع العطارة، عشت فقيرا وبعد وفاة أبي ترك لنا الكثير من الإخوة وتزوجت أمي وتفرقنا فقمت بالعمل في تبييض النحاس عند رجل اسمه شرعان بقرش ساغ وعشت ظروف صعبة وانتقلت للعمل في ميت غمر وعملت بها لمدة 11 عام مع شيخ النحاسين وتزوجت ابنته وبعدها اختلفنا وانتقلت إلي العمل بالتل الكبير ببيع الشربات وتزوجت بها للمرة الثانية وفي هذا الوقت تعرضت مصر وبخاصة منطقة القناة والإسماعيلية لمرض الكوليرا فقمت بممارسة مهنة الحانوتي مع زوجتي ثم عدت إلي شمبارة وأخذت العهد من الطريقة الرفاعية وتوجهت للطرق الصوفية واندمجت في الموالد الدينية وكنت حافظا للقرآن الذي ميزني بطلاقة اللسان وحلاوة الصوت، وكان تكويني الجسماني قوي وأضافت لي ذقني الطويلة الهيبة والتأثير الديني الصوفي وكنت لذلك مقربا من الطرق الصوفية وبخاصة في لقائي بهم في الموالد الدينية الكبيرة والموالد الصغيرة المنتشرة بالقري المجاورة لأولياء الله الصالحين، مما دفعني إلي أن أشاهد ذات مرة بقري الإسماعيلية أحد الناس يمتهن مهنة المنادي حاملا خرجا علي كتفه فأحببت تلك المهنة فبدأت في الموالد بحمل الكاس النحاسي الذي يصدر أصوات لضبط إيقاعات الذكر والزفة بالموالد الدينية واشتهرت بتلك المهنة ومارستها فترة طويلة من حياتي، ثم قمت بعمل المسحراتي بقرية شمبارة ومعها كنت أقوم بالنداء علي الأشياء المفقودة بالقرية والقري المجاورة سواء بالمشي علي الأقدام ليلا أو بركوب الحمار فأعلن عن أمانة مفقودة أو موجودة أو عن فقدان طيور وحيوانات وكنت أعلن عنها بصوتي القوي المؤثر ثم اختم قائلا: يا سمعين الصوت بالصلاة علي النبي ياولاد الحلال ياراديين الأمانات رايح حمار أبيض أو معزة حمرة من امبارح العصر لفلان ابن فلان واللي يلاقيها حلاوتها أحسن منها والأجر والثواب عند الله، أو الإعلان عن أمانات أو عن تطعيم وخلافه من مصالح الناس، وكنت أقوم بهذا العمل مقابل قروش زهيدة أو مكيال من القمح أو الأرز أو هدية من أصحاب الأمانات، وبعدها طلب مني أن أخبر الناس عن مواعيد الموالد الدينية الكبيرة كمولد الرفاعي والحسين والسيدة زينب والسيدة عائشة ومولد سيدي أحمد البدوي وإبراهيم الدسوقي وغيرها ثم الإخبار عن الأولياء الصالحين المنتشرين في القري بجوارنا، فحملت الراية ولبست اللبس الديني ذو الألوان المزركشة وركبت حماري ومعي خرج أو أكثر وبدأت أطوف البلاد لأعلن عن الموالد وكنت أجد الفرحة من أهل القري وأناسها الذين كانوا يقدمون لي العطايا من أموال ومحاصيل زراعية ابتهاجا بقدوم الموالد وبخاصة في شهور الصيف ومن أشهر المواقف المضحكة أنني ذات مرة رحت أدعوا لمولد بسيط بقرية أبو نجاح بالشرقية فوصلت أوراق المولد إلي القاهرة وقبل موعد المولد بيومين فوجئ عمدة القرية بوصول سيرك الحلو إلي المولد ولم يتمكن من العبور بسبب وجود ترعة بكوبري صغير عرقلة عبور سيرك بهذا الحجم وجاءت الناس من كل مكان مستغربة لوجود هذا السيرك وتدخل العمدة وأقنع العاملين بالسيرك بالعودة لأنه مولد صغير ولا يتناسب مع هذا السيرك وبسبب ذلك اختفيت فترة خوفا من المساءلة، وفي ذات المرات كنت أدعوا لولي اسمه سيدي أبوطوالة بقرية أبوطوالة بمنيا القمح سنة 1992 فخرج لي من أحد الزوايا المقامة علي أحد الترع وكان شيخا متزمتا وقال لي أن ما تفعله حرام وعليك أن تمشي طالبا الصدقة فقط ولا تقول المولد فلان أو الولي فلان لأن هذا كفر وهددني ولم يكن منظره يدل علي أنه من المتصوفين ولكنه أخافني لأنه كفر عملي وسمعت كلامه للأسف، وذات يوم نادتني امرأة في الوقت الذي كان فيه مولد الشيخ جودة أبو عيسي بمنيا القمح علي الأبواب وقالت لي ما لك يا شيخ محمد أنت عيان فين صوتك اللي كان بيجلجل وبعدها خجلت من نفسي وبدأت ارجع إلي عملي وأذيع أخبار الموالد والأعياد دون خوف من هؤلاء المتشددين الذين كانوا قد بدءوا يكفروا أعيادنا ومناسباتنا دون أن يلتفت إليهم أحد وكنت أقول الآتي علي سبيل المثال يا أهل بني قريش الكرام لقد آن الأوان وارتفعت الأعلام من هدي المصطفي سيد الأنام قد عزمنا بمشيئة الله تعالي عن السجادة الشريفة بإقامة مولد الليلة لله لعائلة الفقي ومولد أبو فارس ويقيمهما الشيخ حامد الجوهري أو المولد النبوي الذي يقيمه الشيخ سليم أبو رخا والشيخ إبراهيم عطية عمارة حسب ما صرحت به الطريقة الفلانية، عودا عودا إلي كل عام والدعوة عامة جميعا ونحن ندعي الخلافة والطرق الصوفية والدراويش والمشايخ والذاكرين وأصحاب الدفوف والسيوف والرايات وندعوا البائعين ومنهم الحلوانية والفسخانية والشرباتلية والحرامية والعواطلية والقراداتية وأصحاب المهن والحرف والدعوة عامة لكم جميعا أعاده الله عليكم بالخير واليمن والبركة يا أصحاب العوايد والفتة واللحمة مجانا، هكذا كنت أدعوا علي حماري ومعي عصاتي وراياتي وسبحتي وملابسي التي كنت أنسجها من قطع متعددة الألوان من الأقمشة القديمة التي كانت تستخدم في كسوة أضرحة الأولياء كل عام وكانت النساء تتبرك بها مع الأطفال إضافة إلي ما كنت أقوم به من الأدعية والرقي الشعبية للحالات المرضية وغيرها.
وهكذا لخص محمد الحلواني رحلته مع فن النداء وهو فن يكاد يكون قد اندثر في مصر وكثير من بلداننا العربية ورغم هذا التسجيل وهذا الحوار الذي أدرته معه كأحد الظواهر الفلكلورية لم أتمكن أن أحصل منه علي الكثير من حياته وأعماله التي تدخل في نطاق التراث الشعبي وبسبب أنني عطلته أثناء عمله كنت قد أخذت منه العهد بأن أقوم معه بإجراء تسجيلات أخري مفيدة ولكن بسبب مشاكل الحياة والسفر خارج مصر تأخرت عنه كثيرا وعندما فكرت في السؤال عنه بقريته بشمبارة الميمونة مؤخرا من أجل مواصلة ما اتفقنا عليه علمت أنه قد وفاته المنية رحمه الله منذ زمن، وهذا هو حال أصحاب التراث الشعبي في مصر الذين قصرنا كدارسين وباحثين في حقهم وحق التسجيل معهم حتي ضاعوا منا وأضعنا علي مصر تراثها الشعبي وذاكرتها الشعبية بكل ما تحمله من ظواهر فلكلورية
.
صالح أبومسلم
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: العربية والإسلامية الکثیر من
إقرأ أيضاً:
شاهد بالأرقام | الإسناد الشعبي اليمني في عام الطوفان الأول ..
???? بالأرقام | الإسناد الشعبي اليمني في عام الطوفان الأول ..#لستم_وحدکم pic.twitter.com/328YIsmQiJ
— قناة المسيرة (@TvAlmasirah) November 13, 2024