«الرواية التاريخية» من جورجي زيدان إلى نجيب محفوظ
تاريخ النشر: 2nd, September 2023 GMT
إيهاب الملاح
- 1 -
مرت كتابة الرواية التاريخية في أدبنا العربي الحديث بمرحلتين تأسيسيتين -فيما أتصور- في النصف الأول من القرن العشرين: الأولى؛ مرحلة التأسيس والريادة التي يمكن أن نعود بجذورها إلى الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
في هذه الفترة تأثر أدباؤنا العرب، في بدايات النهضة الأدبية الحديثة، بما قرأوه أو تُرجم لهم من الروايات التاريخية الأجنبية (خاصة روايات سير والتر سكوت البريطاني، وألكسندر دوماس الفرنسي)، وأخذ بعضهم يحاكيها، وقد كان أبرزهم -كما أوضحنا في مقالات سابقة- جورجي زيدان الذي أخرج خلال تلك الفترة روايات (تاريخ الإسلام) وأخرج فيها 22 رواية غطت تاريخ فترات في التاريخ العربي والإسلامي منذ الجاهلية، وحتى نهاية دولة المماليك في مصر على يد محمد علي.
كانت هذه الروايات أول محاولة في الأدب العربي الحديث لإنشاء قصص يستلهم التاريخ والأحداث التاريخية ليعرض إياها في قالب مثير ومشوق، ويقدم مادته التاريخية «بغرض التعليم» وتيسير هذه المادة التاريخية لأكبر عدد ممكن من القراءة، ليهيئهم بعد ذلك لقراءة الكتب التاريخية الحديثة أو التي تتبنى الطرائق الحديثة في عرض المادة التاريخية بخلاف الطرائق التقليدية التي توارثناها عبر القرون.
وقد أخذ جورجي زيدان عن المدرسة الرومانسية اتجاهها إلى التاريخ، وإن اختلف معها في الغاية، إذ الغاية عنده -كما أوضحنا- تعليم الشباب التاريخ، ولذلك كان عرض الحوادث التاريخية وصحتها في المحل الأول من اهتمامه، أما باقي حوادث الرواية نفسها فلم يكن يأتي بها إلا تشويقا للمطالعين، فتبقى الحوادث التاريخية على حالها وتدمج فيها قصة غرامية تشوق المطالع إلى استتمام قراءتها، فيما يقول زيدان نفسه، وذلك لكي يصبح الاعتماد على ما يجيء في هذه الروايات من حوادث التاريخ مثل الاعتماد على أي كتاب من كتب التاريخ.
- 2 -
كانت الانتقالة الثانية -فيما أتصور- في كتابة الرواية التاريخية في أدبنا الحديث بمفهومٍ متطور نسبيا (هل أجاوز الحقيقة لو قلت متطورا فنيا بدرجة كبيرة) عن جورجي زيدان على يد نجيب محفوظ في رواياته «التاريخية» التي استلهم فيها التاريخ المصري القديم، كتب نجيب محفوظ رواياته التاريخية الأولى في ظل تنامي التيار الفرعوني الذي ساعد على إذكائه كثرة الاكتشافات الأثرية اللاحقة التي وضعت مجد الفراعنة أمام الأنظار، الأمر الذي خلق في مشاعر المثقفين رغبة قوية في استطلاع حياة الأجداد وأمجادهم، ولم يكن من قبيل المصادفة أن أول كتاب نشره نجيب محفوظ (سنة 1932)، كان كتابًا مترجما بعنوان «مصر القديمة» للباحث والأثري البريطاني الشهير جيمس بيكي الذي حاول صياغة التاريخ الفرعوني صياغة قصصية تأثر بها نجيب محفوظ (نشر على صفحات مجلة «المجلة الجديدة» لسلامة موسى).
كان سلامة موسى أول من لفت أنظار نجيب محفوظ إلى تاريخ مصر القديمة، وحينما كتب نجيب محفوظ روايته الأولى «عبث الأقدار»؛ نشرها في ظل ما كان يعرف ببعث التيار الفرعوني الذي انتشر في مصر عقب ثورة 1919، إذ لم يكن الكاتب الشاب آنذاك بمعزل عن تلك الروح القومية النامية، والشعور الوطني الجارف الذي كان أحد نواتج الحركة العلمية النشطة والكشوف الأثرية غير المسبوقة التي دارت حول تاريخ الفراعنة؛ وكان من أهم وأبرز تلك الاكتشافات (مقبرة توت عنخ آمون) التي شغلت الدنيا كلها لسنوات طوال.
- 3 -
ولهذا لم يكن غريبًا أن يشغل التاريخ المصري القديم الجانب الأكبر من اهتمامات وشغف «النجيب» الصغير؛ بل إنه تلاقى أيضًا مع ذلك الشغف والحنين والمتعة التي غرستها الأم في نفس ابنها الصغير، حيث كانت تصطحبه في زياراتها المتكررة والطويلة إلى المتحف المصري وللآثار المصرية القديمة. يحكي نجيب محفوظ عن تنامي هذا الشغف بدراسة التاريخ المصري القديم؛ حينما قرر أن يكتب أولى رواياته الفرعونية؛ قائلا:
«ولم ترتبط الكتابة عندي بالقراءة إلا في الفترة التي كتبت فيها الروايات الفرعونية، حيث اقتضى الأمر مني دراسة علم «المصريات»، خاصـة وقد كـان لديّ النية لكتابة تاريخ مصر بأكمله في سلسلة من الأعمال الروائية، كما فعل «جورجي زيدان» في تاريخ الإسلام».
لكن المسألة كانت جذورها أبعد من مجرد التحضر والقراءة لكتابة سلسلة من الروايات التي تسرد تاريخ المصريين في زمن الفراعنة؛ الأمر كان أعمق من ذلك بكثير؛ يقول محفوظ:
«كنت كلما علمت باكتشافٍ جديد لآثار قديمة في أرض مصر عجبت لتاريخ هذا البلد الغني الذي كان طوال تاريخه ملتقيا بحضارات العالم أجمع من الفارسية والرومانية واليونانية في العصور القديمة إلى مختلف الحضارات الغربية في العصر الحديث».
ولهذا، فقد كان للاكتشاف الأول الكبير في أوائل القرن العشرين تأثير رهيب على نجيب محفوظ، وهو اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون عام 1922 على أيدي البريطاني «هوارد كارتر»، ففي ذلك الوقت انبهر العالم كله بما تم إخراجه من هذه المقبرة النادرة التي لم تكن أيدي لصوص المقابر في العصور الغابرة قد وصلت إليها.
ورغم أن صاحبها الفرعون الصغير لم يكن من حكام مصر العظام، ولم يستمر حكمه أكثر من تسع سنوات، إلا أن النفائس التي كانت تزخر بها مقبرته أعطت للعالم فكرة عما كان بداخل مقابر الفراعين الكبار، من أمثال رمسيس الثاني، وأحمس، وخوفو، وأخناتون الذي خلّفه مباشرة في الحكم توت عنخ آمون.
- 4 -
كان لهذا الاكتشاف الجديد أثر أعمق مما نتخيل في حياة نجيب محفوظ لم يفارقه طوال عمره؛ لأنه كان الباعث الذي ولّد بداخله الدافع للكتابة، وحدد له الاتجاه الذي سيتخذه في كتاباته الروائية في ذلك الوقت؛ يقول:
«إنني وجدت في ذلك التاريخ كنزًا زاخرًا بالقصص والمواقف، فقررت أن أهبَ حياتي لكتابة تاريخ مصر القديم بالرواية، وهكذا نشرت بالفعل ثلاث روايات مستوحاة كلها من هذا التاريخ القديم، لكني بعد فترة وجدت أن ثراء التاريخ المصري ليس في القديم وحده، وإنما أيضًا في التاريخ الحديث الذي بهرني بالدرجة نفسها، فاتجهت إليه برواياتي، دون أن أترك التاريخ القديم، فقد عدت إليه مرة أخرى لأكتب رواية «العائش في الحقيقة» عن فرعون مصر الأكبر إخناتون».
لكن اتجاه نجيب محفوظ إلى التاريخ المصري القديم لم يكن يعني المعنى الحرفي فقط لـ «تاريخ الحقبة الفرعونية» من حيث هو تاريخ سياسي وسير شخصيات فراعنة وأسر حاكمة؛ بل كان أيضًا يشغله في القلب من هذا التاريخ «الأدب الشعبي الفرعوني» بالتحديد.
إذ كان من نتاج النشاط المعرفي في تلك الفترة اكتشاف كتابات وبرديات تحمل في طياتها نصوصًا وحكايات شعبية كتبت في العصور الفرعونية، وقام عدد من كبار المؤرخين والأثريين المتخصصين في تاريخ مصر الفرعوني بجمع هذه الحكايات وتصنيفها ودراستها؛ وقدم الأثري الراحل الكبير سليم حسن كتابَه المبهر «الأدب المصري القديم أو أدب الفراعنة» في جزأين؛ الأول في القصص والحكم والتأملات والرسائل، والثاني في الدراما والشعر وفنونه.
- 5 -
وأظن أن نجيب محفوظ قد اطلع على هذا الكتاب، وقرأه بوعي وتركيز؛ ولا أستبعد أن يكون قرأ كتبًا أخرى في الدائرة ذاتها؛ ذلك أن دلائل عدة تشير إلى تركيز اهتمامه على تراث الفراعنة «الأدبي»؛ وعلى الحكايات الشعبية والقصص الخيالية التي أنتجها الفراعنة في ذلك الزمن السحيق.
من ذلك، ترجمة نجيب محفوظ المبكرة جدًا لكتاب الأثري البريطاني جيمس بيكي «مصر القديمة»؛ وهو كتاب صغير الحجم يروي -في قالب قصصي- جانبًا من تاريخ الفراعين وحياتهم اليومية وتقاليدهم واحتفالاتهم الدينية، ووصف لمدنهم ومعابدهم ومسلاتهم.. إلخ،
كل ذلك في سرد جذاب يغلب عليه «التخيل» وإطلاق العنان لـ «خيال الروائي» أكثر من إيراد الوقائع التاريخية والالتزام بحرفية الحوادث والسنين.
في هذا الكتاب المبكر ستتبدى ملامح بازغة لأسلوبية الأديب المنتظر، وكذلك ستنبئ باتجاهه الأصيل لاستلهام «الأدب الشعبي» و«التراث القديم» و«التاريخ الفرعوني» في أعماله التالية...
(وللحديث بقية)
إيهاب الملاح باحث مصري في الأدب والتراث والثقافة
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: نجیب محفوظ مصر القدیم تاریخ مصر فی ذلک لم یکن
إقرأ أيضاً:
الأربعاء.. وزير الثقافة يفتتح الدورة الأولى من مؤتمر الرواية والدراما
يفتتح الدكتور أحمد فؤاد هنو، وزير الثقافة، مؤتمر الرواية والدراما الذى ينظمه نادى القصة بالتعاون مع الجمعية المصرية لأصدقاء مكتبة الإسكندرية، الذي سيقام يومي الأربعاء والخميس 24 و 25 ديسمبر الجاري.
يُذكر أن مؤتمر الرواية والدراما يعقد للمرة الأولى في دورته الأولى التي تحمل اسم الكاتب الكبير الروائي خيري شلبي.
يتضمن المؤتمر جلستين لشهادات المبدعين من الكتاب والمخرجين كما يتضمن جلستين لكبار النقاد والباحثين وهم الدكتور محمود الضبع والدكتورة سحر شريف والناقد الفني رامى عبد الرازق والدكتورة عزة بدر والدكتور سامى سليمان والدكتور منير فوزى والدكتور طارق مختار، ويتناول المؤتمر في هذه الدورة أعمال ثلاثة من أعلام الروائيين الذين تم تحويل رواياتهم للسينما والتليفزيون وهم نجيب محفوظ وخيري شلبي وإحسان عبد القدوس.
كما صرحت الدكتورة زينب فرغلي أمين عام المؤتمر بأن هذا المؤتمر هو باكورة التعاون بين الجمعية ونادى القصة وستتلوه أنشطة عديدة في المستقبل، هذا وسيشارك رئيس مجلس إدارة نادى القصة الكاتب الكبير محمد السيد عيد بإلقاء كلمة في الجلسة الافتتاحية وكذلك سيشارك حمدان القاضي مدير عام الجمعية بكلمة في الجلسة الافتتاحية.
وجدير بالذكر أن المجلس الأعلى للثقافة هو المستضيف للمؤتمر في دورته الأولى وسيلقى أمينه العام الدكتور أشرف العزازى كلمة له في الجلسة الافتتاحية.
اقرأ أيضاًمدبولي يُتابع مع وزير الثقافة استراتيجية عمل الوزارة وأهم الأنشطة والفعاليات المُنفذة
ضمن «بداية جديدة».. الثقافة تشارك التعليم في تنظيم قوافل تعليمية بالغربية
وزير الثقافة و حسين فهمي.. أبرز حضور عزاء زوج لمياء زايد رئيس دار الأوبرا المصرية