أزمات التطبيع تفجر الجدل السياسي في المنطقة
تاريخ النشر: 2nd, September 2023 GMT
في وقت متزامن وبالصدفة البحتة لكن ذات الدلالة السياسية الرمزية، تعرضت الحياة السياسية في مصر وجارتها من الغرب الشقيقة ليبيا إلى هزة شديدة بسبب قضية التطبيع مع إسرائيل. ففي ليبيا فجر الكشف الذي قام به وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين عن لقاء سري جمعه مع وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش في روما مؤخرا لمناقشة خطوات التطبيع إلى ردة فعل شعبية غاضبة وفورية من مختلف فئات الشعب الليبي، فاقت كل التوقعات وأكدت تجذر العداء لدى كل الشعوب العربية للتطبيع مع إسرائيل قبل انسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد 1967 وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة.
وضعت أخبار التطبيع السري الحكومة ورئيسها تحت أقوى ضغط سياسي كان الأول من نوعه الذي يحظى بإجماع الليبيين المختلفين على كل شيء منذ انتهاء حكم العقيد القذافي قبل ١٢ عاما.
وفي مصر شهد أكبر تجمع لأحزاب المعارضة المصرية وهي الحركة المدنية تصدعا شديدا بين مكوناتها من الأحزاب اليسارية والقومية والليبرالية بما يهدد وجودها كائتلاف وطني ويهدد قدرتها على المشاركة بندية في الحوار الوطني الذي دعاها إليه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. والسبب هنا كان، أيضا، الخلاف حول التطبيع مع رفض رموز قومية أن ينضم لصفوفها ناشر وحقوقي مصري اختير لترؤس الأحزاب الليبرالية الموجودة ضمن الحركة المدنية في الوقت الذي تواجدت فيه أدلة واضحة على أنه قام بالتطبيع مع إسرائيل وكتب مقالات مشتركة مع رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية الأسبق عاموس يادلين.
وتصاعد الخلاف لينتقل من الاجتماعات «الجبهوية» المغلقة إلى وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي ومن السياسة إلى القضاء. ولفت نظر المراقبين لهذه المعركة السياسية أن هذه هي المرة الأولى في العقود الأربعة من التاريخ المصري المعاصر أن تيارا سياسيا - بغض الطرف عن ممارسة رئيسه التطبيع - ويطلب في الوقت نفسه التضامن السياسي معه.
أدت هذه السابقة إلى ارتباك غير متوقع في المشهد السياسي المصري سيكون لها تأثير ملموس على استحقاقات مهمة منها إجراء الانتخابات الرئاسية خلال أشهر قليلة.
ما يجمع الحدثين المصري والليبي من جذر مشترك هو الموقف الشعبي العربي العام من التعامل مع قضية التطبيع -قبل حصول الفلسطينيين على حقوقهم المشروعة - كخطيئة سياسية.
ولم تفعل السنوات شيئا سوى تعميق الموقف الشعبي العربي في كراهية التطبيع وجعلها تزداد ويزداد معها الغضب على ممارسته وممارسيه و«تجريسهم» وإنهاء دورهم العام مهما كان وزنهم. إذ تزايدت الممارسات الوحشية والعنصرية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين قصفا وقتلا وهدما للمنازل، وتفاقم الضم الاحتلالي التوسعي في الضفة الغربية وخنقها بمئات المستوطنات غير الشرعية وأخفقت الاتفاقات الإبراهيمية واتفاقات السلام قبلها في تحقيق ما قالت إنه سيوقف ضم إسرائيل للضفة، إذ فاجأهم اليمين المتطرف الحاكم بتوسيع الاستيطان ومحو أي فرصة لحل الدولتين وإفقاد الأجيال الجديدة أي أمل في عملية أوسلو وما تبعه من انحيازها الحازم لخيار المقاومة كما تشهد على ذلك العمليات الفدائية المتكررة في جنين وطولكرم ونابلس.
٢- انفجار الغضب من عملية الالتفاف على الرأي العام الداخلي: في الحالة الليبية يبدو مصدر الغضب الرئيسي عائدا لما قد يعتبره الرأي العام الداخلي تحايلا أو التفافا من مؤسسة الحكومة على قناعة راسخة عنده مثل رفض التطبيع -قبل حل القضية الفلسطينية -عبر خطوات سرية وغير معلنة ربما مفاجأته بعد فترة من طبخها بالأمر الواقع الذي قد لا يجد مفرا من التسليم به. وكان من المستحيل تقريبا أن تصمد الحكومة الليبية أمام هذا الضغط الوطني الذي شمل الشارع والقوى السياسية ومجلس القبائل الليبية فضلا عن البرلمان والمجلس الرئاسي لولا انحناؤها أمام عاصفة الغضب وسيرها مع التيار الجارف، فأنكر رئيس الحكومة علمه أو موافقته على لقاء الوزيرة الليبية مع الوزير الإسرائيلي وأحالها للتحقيق ثم أقالها وغادرت هي البلاد لتفادي الغضب الشعبي.
٣- في الحالة المصرية تبدو المعركة الأخيرة حول التطبيع جزئيا بعيدة عن المؤسسة الرسمية، إذ تعبر بقدر أكبر عن التغير الجوهري الذي طرأ على التيارات السياسية المصرية، حيث انتقل جزء من التيارين اليساري والليبرالي في العقود الثلاثة الأخيرة إلى التماهي مع أولويات الغرب في قضايا حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحرية اختيار الجندر وحقوق المثليين والعابرين جنسيا..إلخ. وتراجعت أولويات الاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية وتراجعت معها أولويات القضايا القومية مثل القضية الفلسطينية ولم يعد التطبيع مع إسرائيل بالتالي من المحظورات عند اليسار الليبرالي أو عند الليبراليين العرب الجدد كما هو عند اليسار الاجتماعي واليسار القومي.
بعبارة أوضح كانت المعركة السياسية حول التطبيع تعبيرا تاريخيا عن تحولات خرجت فيها مجموعات سياسية مصرية جزئيا أو كليا من الجبهة الوطنية الشاملة لمقاومة التطبيع التي كانت تضم في مصر جميع التيارات السياسية.
٤- جزء كبير من رفع درجة سخونة المعركة حول التطبيع تمثل فيما يمكن وصفه بالميكافيلية السياسية لجماعات الإسلام السياسي والتي تتحرر من الالتزام المبدئي برفض التطبيع مثل كل التيارات الوطنية والقومية. فمنذ قبول الحزب الإسلامي تأييد الغزو الأمريكي للعراق ومشاركته في مجلس الحكم الانتقالي الذي أسسه بول بريمر أصبح موقف هذا التيار من الإمبريالية الغربية أو من التطبيع مع إسرائيل موقفا يتفق مع المصلحة السياسية لفصيله في هذه الساحة العربية أو تلك وليس موقفا مبدئيا. وتدل على ذلك الحالة الأخيرة في الأسبوع نفسه بساحتين مختلفتين. إسلاميو ليبيا كانوا من القوى الشعبية الغاضبة من لقاء وزيرة خارجيتهم مع وزير خارجية العدو.. بينما وقف الإسلام السياسي المصري ومعظم خطابه بات يأتي من الخارج مع الناشط الليبرالي -رغم أنه يقوم بالتطبيع المحرم مع إسرائيل - فقط نكاية في السلطة السياسية المصرية.
هذا الاستخدام والاستغلال السياسي لقضية مبدئية ومركزية لدى الشعوب العربية ضاعف من أصداء المعركة حول التطبيع وخلق حالة غير مفهومة من الفوضى السياسية كتلك التي أثارها في وقت من الأوقات دعوات رموز الإسلام السياسي الصريحة لحلف الناتو في ٢٠١١ للتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية للإطاحة بالرئيس السوري أو للإطاحة بالزعيم الليبي السابق وهي دعوات اكتوى العالم العربي منها وما زال بحروب أهلية أو بصراعات مسلحة تتجدد من وقت لآخر بين أبناء الوطن الواحد.
حسين عبدالغني إعلامي وكاتب مصري
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التطبیع مع إسرائیل
إقرأ أيضاً:
هل التطبيع السعودي مع الاحتلال ممكن رغم تصريحات ولي العهد الأخيرة؟
يرصد الإسرائيليون في الآونة الأخيرة زيادة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان من انتقاداته لدولة الاحتلال، لاسيما في قمة الرياض الأخيرة، واتهامه بارتكاب إبادة جماعية في قطاع غزة، وهو في الوقت نفسه، يواصل تدفئة العلاقات مع إيران، ورغم كل ذلك فلا تزال الولايات المتحدة هدفه الرئيسي.
وقال المراسل السياسي لموقع "زمن إسرائيل" ليزار بيرمان: إن "رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عرض مؤخرا على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك رؤيته لمستقبل مشرق للمنطقة بمجرد إتمام إسرائيل والسعودية اتفاق التطبيع من أجل إنشاء شرق أوسط جديد، استمرارا لاتفاقات أبراهام قبل أربع سنوات، مما يستدعي تحقيق اتفاق سلام تاريخي بين الرياض وتل أبيب".
ووصف بيرمان الصفقة المحتملة بـ"نقطة تحول حقيقية في التاريخ، ستؤدي لمصالحة تاريخية بين المسلمين واليهود، بين مكة والقدس"، مضيفا أن "نتنياهو لم يكن الوحيد الذي بشّر بقرب التطبيع مع السعودية، ففقبل أيام من الانتخابات الأمريكية، حاول وزير الخارجية أنتوني بلينكن الترويج له، عندما قال قبل مغادرته إسرائيل إنه رغم كل ما حدث من حرب دائرة، فلا تزال هناك فرصة غير عادية في المنطقة للتحرك في اتجاه مختلف تماما، حيث ستكون السعودية في قلب هذا الأمر، بما يشمل على الأرجح تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ومع ذلك فإن الإشارات القادمة من المملكة تحكي قصة مختلفة".
وأوضح أن "خطاب ابن سلمان أمام الزعماء العرب والمسلمين في الرياض، اتهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة، ودعاه لعدم انتهاك سيادة إيران، وأخبر القادة المجتمعين أنه يجدد إدانته ورفضه المطلق لعمليات القتل بحق الشعب الفلسطيني، وراح ضحيتها 150 ألف من القتلى والجرحى والمفقودون، معظمهم من النساء والأطفال، مما يجعل من اتهاماته القاسية، وفي منتدى عام واسع، التصعيد الأبرز في انتقادات الرياض لتل أبيب، وأصبحت أكثر وضوحا منذ هجمات حماس في السابع من أكتوبر".
واستدرك بالقول إن "هناك أسباب للتقليل من أهمية هذه الانتقادات، لأن القمم التي يستضيفها ابن سلمان في الرياض غالبا ما تستخدم كمنصات للمظاهرات والتصريحات الفارغة، بحسب زعم جون حنا، زميل بارز في معهد الأمن اليهودي الوطني الأمريكي، وابن سلمان لا يرغب بأن ينأى بنفسه كثيراً عن الخط العام للشعوب العربية التي تشاهد الحرب الدائرة في غزة منذ أكثر من عام".
ونقل عن سايمون هندرسون، زميل بارز في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط، أن "هناك مؤشرات على حدوث تغييرات جوهرية في الاتجاه السعودي تجاه إسرائيل، فقد شهدنا نشاطا دبلوماسيا متزايدا حول القضية الفلسطينية، آخرها إطلاق دول أوروبية وعربية وإسلامية مبادرة، بقيادة السعودية، لتعزيز الدعم لإقامة دولة فلسطينية، وصوّتوا لصالح منح العضوية الكاملة للفلسطينيين في الأمم المتحدة، مما يعني أن اتجاه اللجوء للمجتمع الدولي يكتسب زخما".
وأضاف أن "هناك اتجاه سعودي آخر يقلق الاحتلال، انعكس في كلمات ابن سلمان، وهو الدفء المستمر في علاقاته مع إيران، حيث زارها قائد الجيش السعودي فياض الرويلي على رأس وفد عسكري رفيع المستوى، والتقى بنظيره الإيراني محمد بكري، كما شاركتا في مناورة بحرية، مما يؤكد أن التغيير في الموقف السعودي تجاه إيران ينبع من اعتبارات سياسية واقعية تتعلق بأمن المملكة، وإبقاء إيران على مسافة منها، ومنعها من الإضرار بمصالحها".
وأوضح أن "هذا قد يتغير بسرعة نسبيا عندما تتغير الظروف، والتغيير الذي يبحث عنه السعوديون هو اتفاقية دفاع مع الولايات المتحدة تتضمن ضمانات رسمية لأمنهم، حيث حاولت إدارة جو بايدن إدراج التطبيع مع إسرائيل في إطار اتفاق ثلاثي، ويتوقع أن يروج الرئيس القادم دونالد ترامب لاتفاق مماثل، لكن ثمن مثل هذه الصفقة بالنسبة لإسرائيل مع السعوديين سيكون مرتفعاً ويتمثل بالمطالبة علناً بإحراز تقدم كبير نحو إقامة دولة فلسطينية".
وأضاف أنه "في ظل إدارة أمريكية أكثر دعماً لإسرائيل وفي وضع تضعف فيه إيران بشكل كبير بسبب فقدان أذرعها في المنطقة، والعقوبات التي قد تفرض عليها، قد يخفف ابن سلمان من مطالبه بشأن القضية الفلسطينية، خاصة إذا هدأ القتال في غزة".
وختم بالقول إنه "إلى أن يتولى ترامب منصبه في يناير 2025، يدرك السعوديون أن فرص تحقيق تحالف دفاعي مع الولايات المتحدة ضعيفة، لذا فإن الهجمات العلنية على إسرائيل في المنتديات الإسلامية تشكل وسيلة مريحة لتخفيف التوترات، لأن المرحلة الانتقالية ذات الثلاثة أشهر في الولايات المتحدة، لا يُتوقع خلالها تحقيق أي تقدم دبلوماسي ملموس".