قامت الفلسفة بدور كبير في تأصيل أفكار العقل وعبقريته؛ فنجدها بارزة في حياة الإنسان ومذاهبه الفكرية المتعددة؛ حيث وجد الإنسان الفلسفة وسيلة لاستدراج أفكاره ومشاعره الدفينة والتعبير عنها وفق منهج عقلي متجانس مع المنطق البديهي -قدر المستطاع. ونجده يلجأ إلى الفلسفة ليواجه تحديات الحياة، ويجيب عن أسئلتها الكبرى، وأحد أشهر الكتب وأقدمها التي تناولت دور الفلسفة في الحياة هو كتاب «عزاء الفلسفة» للفيلسوف الروماني «بوئثيوس» الذي جاء كتابه بمنزلة عمل فلسفي عميق بقالب أدبي رفيع تناول الحياة الإنسانية بمحطاتها الكثيرة والمتقلبة بين السعادة والتعاسة، وبين الخير والشر؛ ليكون كتاب «عزاء الفلسفة» أحد أروع ما سطرته يد البشرية عبر التاريخ، وكان سلوانا وبلسمًا شافيا لفيلسوفنا «بوئثيوس» وهو قابع في سجنه ينتظر تنفيذ حكم الإعدام.
تذهب الفلسفة كذلك إلى مناح أخرى في الحياة؛ فتأخذ طابع المعين في فهم قضايا الحياة وأسئلتها المعرفية والفلسفية الكبرى مثل ما جاء في كتاب «مشكلات الفلسفة» للفيلسوف البريطاني «بيرتراند رَسِل» الذي فتح آفاقًا فلسفية كبرى أثبتَ بواسطتها قدرة الفلسفة في أن تكون حلًا لمشكلاتها الفلسفية المعرفية الكبرى مثل أصل المادة ووجودها، وقضايا نظرية المعرفة ومدارسها المتباينة مثل معرفة الجزئيات والكليات والمعرفة القبلية -التي تعكس فلسفة كانط في المعرفة- ومنهجية الاستقراء، وكذلك مناقشة مدارس الفلسفة ونقدها مثل الفلسفة المثالية التي أسقطها «رَسِل» من منطلقاته الفلسفية بعد فترة من الولاء لها.
لم تجد الفلسفة بدا -كذلك- أن تكون ركيزة صميمة في العلوم الطبيعية وأولها الفيزياء، ونأخذ -مثلا- منهجية «نيوتن» التي يمكن أن يتفق الأغلبية من العلماء أن قوانينها الفيزيائية مبنية على منطلقات فلسفية عميقة انبثقت بواسطتها قوانين الحركة؛ لتعيد تشكيل فهمنا للكون وحركته. تنطلق فيزياء نيوتن من منطلقات فلسفية تعكس أسئلة عقلية قديمة تشمل حركة الكون بما فيها الأرض والشمس وباقي الكواكب، والمنطلقات التي بنى بها نيوتن نموذجه الفيزيائي استندت إلى مخرجات أرسطية -نسبة إلى أرسطو- تعكس في مجملها قاعدة «الثابت الحتمي»، وجاءت نتيجة لهذه التفاعلات الفلسفية البنية الرياضية التي أخرج نيوتن بواسطتها القوانين الرياضية التي تترجم منهجه الفيزيائي. جاء -بعد ذلك- «إينشتاين» بأفكاره الفلسفية الخاصة بالحركة والكون التي بدأت تُظهر -في حينها- بنية مغايرة لقواعد الفيزياء الكلاسيكية، وتنسف أسس نيوتن العلمية؛ فتحيل أنظار العلم إلى مبدأ النسبية غير الحتمية بدلًا من مبدأ الحتمية الذي صعُبَ على كثير من العلماء -في وقتها- التخلي عنه دون وجود البرهان الرياضي؛ فخرج «إينشتاين» بأفكاره الفلسفية إلى نظرياته النسبية العامة والخاصة بعد صياغة المعادلات الرياضية المناسبة لهذه النظريات التي سمحت للعلم -شيئًا فشيئا- أن يختبرها ويقيسها وفق معايير التجربة العلمية؛ فتتغير مفهومات العلم، وتدخل مرحلتها العلمية الجديدة. ميكانيكا أو فيزياء الكوانتم هي الأخرى لها بنيتها الفلسفية الخاصة، وجاء البرهان الرياضي مترجمًا لهذه البنية الفلسفية، إلا أن دور الفلسفة في حقل الكوانتم لا يزال بارزًا لما يحويه هذا الحقل الفيزيائي من عجائب يُشكل العلم عبر أدواته الرياضية في كشف أسراره وحل ألغازه؛ فتكون الفلسفة عزاءها وملجأها في المحاولة لحل هذه المشكلات التي حيّرت العلم والعلماء.
يتبادر إلى أذهان البعض هذا السؤال: أفقدت الفلسفة جاذبيتها وفعاليتها في قضايا الحياة والعلوم؟ أم تعيش الفلسفة على أنقاض مجدها القديم، وتحاول أن تُخرِجَ جديدها بمساعدة العلم؟ للإجابة على هذه التساؤلات ينبغي أن نعود إلى ماهية الفلسفة وماهية العلم وأسس العلاقة بينهما؛ فالفلسفة أداة عقلية وفكرية جريئة تقتحم كل مجالات الحياة ومعارفها، ولا تقود -بالضرورة- إلى نتائج يقينية بل مقاربات عقلية تمهيدية يتولى العلم -بعد ذلك- فحصها عبر المنهج الرياضي -أو النظري بشكل عام- والتجريبي، وتحديد تفاصيلها المهمة ليفرز نتيجته اليقينية الحتمية حسب معايير العلم وقواعده (بشكل نسبي)، وحينها يتضح أن في أصل المنهج المعرفي تأتي الفلسفة أولا عبر طرح الأسئلة بكل أنواعها ومستوياتها، وثم يأتي العلم في مرحلة ثانية؛ كون العلم وفقا لمعاييره الصارمة لا يجرؤ اقتحام كل القضايا المعرفية، أو بمفهوم آخر لا يخرج إلا بنتائج أقرب إلى اليقين. تتضح هنا العلاقة بين الفلسفة والعلم؛ إذ الفلسفة أقرب لتكون أداة عقلية من أن تكون علما موضوعيا؛ فنجد الفلسفة في كل حقول الحياة ومعارفها؛ فهناك فلسفة للعلوم، وفلسفة للوجود، وفلسفة للجمال، وفلسفة للتاريخ. يتضح من هذا أن الفلسفة منذ نشأتها التأصيلية الأولى جاءت لتكون بمنزلة أداة عقلية (معرفية) تحل محلّ المناهج المعرفية -الزائفة- البدائية مثل السحر والأساطير والخرافة، والعلم يأتي بعد الفلسفة ليكون بمثابة أداة معرفية متقدمة تلتزم بمعايير علمية أكثر صرامة، وهذا ما يقودنا إلى تبنّي قاعدة -لبعض الحالات والظروف العلمية- مفادها أن عمل الفلسفة في قضايا علمية (معرفية) سبق للعلم حسم أمرها مجرد ترف معرفي لا يقود إلا إلى استبداد فلسفي قد يحطّ من نتائج العلم، ومن الممكن كذلك أن نجد العلم يضيق ذرعًا من سطوة الفلسفة وعدم يقين نتائجها كما حدث عند عالم الفلك «جاليليو جاليلي» الذي أعلن تمرده على الفلسفة الأرسطية السائدة وخرج بأفكاره العلمية التي نفضت يدها من غبار الفلسفة الأرسطية؛ ليعلن عن مرحلة ما بعد الفلسفة، ولكن في حالات علمية أخرى تبقى الفلسفة قادرة على استكمال دورها وبعث نشاطها ولو بعد مدة من الجمود الفلسفي، وهذا يحصل عند حالات يعجز العلم فيها عن بلوغ نتائجه النهائية (اليقينية) مثل الذي نراه في حقل فيزياء الكوانتم ونظريات نشأة الكون -وتفرعاته المستجدة- التي لم تنفض يدها من الفلسفة. نجد -في الوقت نفسه- أن بعض تفرعات الفلسفة وخصوصا الحديثة -في حالات أخرى- تنبثق من نظريات علمية مثل ما حدث للفلسفات المادية التي تأثرت بنظريات نيوتن في الفيزياء الكلاسيكية، وبعض المدارس الفلسفية التي جاءت نتيجة لنظرية التطور الداروينية. ستبقى علاقة الفلسفة والعلم علاقة موضوعية تبحث في قضايا الحياة ومعارفها حتى بلوغ المعرفة اليقينية، وستبقى الفلسفة أداة عقلية وفكرية يبرز عزاؤها في مراحل علمية معقدة وإنسانية صعبة -بشكل عام.
د. معمر بن علي التوبي كاتب وباحث عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الفلسفة فی
إقرأ أيضاً:
عبقرية فكرية وأدبية.. صباح الخير يا مصر يحيي ذكرى ميلاد مصطفى محمود
استعرض برنامج صباح الخير يا مصر تقرير عن ذكرى ميلاد الدكتور مصطفى محمود، الطبيب والأديب والعالم والمفكر والإعلامي الكبير، الذي أسهم بعمق في الحركة الثقافية والفنية العربية.
ولد مصطفى محمود في 27 ديسمبر 1921 في قرية ميت خاقان بمحافظة المنوفية، نشأ في جوار مسجد "المحطة" الشهير، وهو ما أثّر بشكل واضح على أفكاره وتوجهاته.
شغفه بالعلم والفكرمنذ صغره، أظهر مصطفى محمود شغفًا بالموسيقى والعزف على العود، كما اهتم بالكهرباء والاختراعات مع صديقه. ورغم حبه للموسيقى، إلا أن دراسته في كلية الطب كانت هي الطريق الذي اختاره لتطوير ذاته.
تخرج في كلية الطب عام 1953 وتخصص في الأمراض الصدرية، لكنه قرر ترك مهنة الطب في عام 1960 ليتفرغ للكتابة والبحث العلمي والفكري.
مسيرة أدبية وعلمية رائعةألف الدكتور مصطفى محمود نحو 89 كتابًا في مجالات متنوعة، وكانت كتبه جزءًا أساسيًا من الثقافة العربية. من أشهر مؤلفاته "رحلتي من الشك إلى الإيمان"، "حوار مع صديقي الملحد"، و"لغز الموت". كما قدم أعمالًا أدبية متميزة في الرواية والمسرح، مثل "العنكبوت"، "المستحيل"، و"شلة الأنس".
البرنامج الأشهر “العلم والإيمان”من أبرز محطات حياته الإعلامية هو تقديمه لبرنامج "العلم والإيمان"، الذي بدأ عام 1971 واستمر حتى 1997. قدم في هذا البرنامج أكثر من 400 حلقة، حيث ناقش فيه موضوعات علمية وفلسفية بعمق، وأثر بشكل كبير في وجدان المشاهدين المصريين والعرب.
الجوائز والتكريمحاز مصطفى محمود على العديد من الجوائز والتكريمات طوال مسيرته، منها جائزة الدولة التشجيعية في عام 1970 وجائزة أدب الرحلات في 1975، بالإضافة إلى جائزة الدولة التقديرية في الأدب في 1995.
الجانب الخيري والتأسيساتكان للمفكر الراحل بصمة كبيرة في العمل الخيري، فقد أسس مسجدًا باسم "مسجد مصطفى محمود" في الجيزة عام 1979، وألحق به مستشفى خيرية ومراكز طبية أخرى. كما أسس جمعية خيرية تضم مراصد فلكية ومتحفًا للجيولوجيا.
وفاته وإرثه الفكريتوفي الدكتور مصطفى محمود في 31 أكتوبر 2009 بعد صراع مع المرض، ليبقى إرثه الفكري والثقافي خالدًا في ذاكرة مصر والعالم العربي، حيث ترك بصمته في مجالات العلم والفكر والإعلام، ليظل اسمه محفورًا في قلوب محبيه.