«ظليت سنين ما أقدر أقرأ كلمة لبورخيس بعد هذا التبرير السخيف». هذه العبارة أدلى بها الكاتب عبدالله حبيب في الأمسية التي احتضنتْها منصة «مجاز» الأسبوع الماضي في مقرها بمدينة السلطان قابوس. كان ذلك في معرض رده على سؤال لسالم الرحبي- مقدم الجلسة- عن المسافة المشتركة بين العمل الفني من جهة، والحياة بمختلف إشكالاتها الأخلاقية والسياسية من جهة أخرى، وأين يجد المثقف العضوي نفسه بين شعارَيْ الفن للفن، والفن للمجتمع؟.
والحقيقة، أن كلام عبدالله حبيب وجيه للحكم أخلاقيًّا على بورخيس، بل يمكنه أن يضيف أيضًا موقفَ الكاتب الأرجنتيني المخزي من القضية الفلسطينية وانحيازه المفضوح للصهاينة، الذي يعرفه عبدالله جيِّدًا، ولكن هل يكفي هذا لنمتنع عن قراءة أديب عالمي كبير وهو الذي كتب أدبًا رفيعًا ما زال يُقرأ في جميع اللغات إلى اليوم؟. للإجابة عن هذا السؤال سأطرح رأيًا مغايرًا لا أزعم أنه الصواب، ولكن يشجعني عليه أن عبدالله حبيب نفسه كتب في إحدى شذرات «أنساغه» ذات يوم أنه من الأفضل أن تكون للمرء آراء خاطئة بدلًا من ألا يكون له رأي على الإطلاق.
حين أعلن الناقد الفرنسي رولان بارت «موت المؤلف» في مقاله الشهير عام 1967م، كان من ضمن مقاصده أن تتاح لنا كقراء فرصة الاستمتاع بالنصّ بعيدًا عن أية سلطة خارجية وعلى رأسها سلطة المؤلف. والسؤال هنا: ماذا لو قرأنا «كتاب الرمل» مثلًا أو «الصانع»، أو «مرآة الحبر» دون أن نعرف أن مؤلف هذه الكتب هو بورخيس؟ ألن نستمتع بها؟ ألن نشعر أننا أمام نصوص بديعة تستحق أن تُقرأ وتُرفع لها القبعات؟ إجابتي هي بلى، بل إنني أظن أننا سنوافق بارت على اعتباره نسبة النص للمؤلف إيقافًا لهذا النص وحصرًا له وإعطاءه مدلولًا نهائيًّا، وإغلاقًا للكتابة، وسنقتنع أن النصّ الجيد قادر على تغذية نفسه بأسباب البقاء بعد أن يحلّق بأجنحته بعيدًا عن مؤلفه.
وفي المقابل ماذا ستنفعنا معرفتنا أن الكاتب الفلاني عاش مناضِلًا ومات شهيدًا في سبيل القضية التي يؤمن بها إذا كان نصُّه رديئًا ومؤدلجا لا ينتمي للفن!، ألا يحق لنا في هذه الحالة أن ننسى نضاله وصفاته الإنسانية المحببة ونشارك فرجينيا وولف تساؤلاتها: «ألا يجب أن نعتبر بعض المؤلفين كالمجرمين؟ ألا يحق لنا أن نعتبر أولئك الذين يكتبون كتبًا سيئة، كتبًا تضيع وقتنا وتعاطفنا، كتبًا مسروقة، كتبًا خاطئة، كتبًا تملأ هواءنا بالعفن والأمراض، ألا يحق لنا أن نعتبرهم أخبث أعداء المجتمع؟».
وإذن، فإن أهمية الكاتب في نظري لا تنبع من مواقفه الحياتية (مشرفة كانت أم مخزية) ولا صفاته الشخصية (أخلاقية كانت أم غيرها) بل من إجادته مهنته: الكتابة، إن جاز لنا أن نعدّ الكتابة مهنة. وهذا ما يجعلنا نحبّ أشعار المتنبي ونرددها رغم علمنا بتزلفه للخلفاء والأمراء وطمعه في أن يكون واليًا، وهذا أيضًا ما يجعلنا لا نستطيع تجاوز فلسفة هايدجر رغم معرفتنا بانحيازه للحزب النازي، وقس على ذلك عشرات الكتّاب والأدباء والفلاسفة الذين لم يكونوا ملائكة في حيواتهم الشخصية، لكنهم تركوا آثارًا أدبية وفكرية لا تُنسى. وسبب ذلك في ظنّي هو تركيزهم على عملهم الإبداعي أو الفكري قبل أي شيء آخر. يلخّص ذلك الروائي الأمريكي بول أوستر بتأكيده في أحد حواراته بأنْ«لا مسؤولية للكاتب إلا تجاه ما يكتبه. ككاتب، لا يقتضي عملي أن أتحدّث باستمرار في المشاكل السياسية أو الاجتماعية في وسائل الإعلام، بل أن أكتب قصصًا. مهمة الروائي التحدّث عن الحياة الداخلية للبشر».
خلاصة القول: إن المبدع ينبغي بالفعل أن يكون «معجونًا بتراب الأرض وأوجاعها وآلامها» كما قال عبدالله حبيب، وكما أكد أنطونيو غرامشي في حديثه عن «المثقف العضوي»، لكن لا ينبغي مع ذلك أن يكون هذا هو الشرط الوحيد لتلقي إبداعه أو الحكم عليه.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
عيد اللغة العربية
عيد اللغة العربية هذا العام أطل ولم يجد أحدا في بلادنا الحبيبة فالمواطن أما لاجيء ، نازح أو هائم علي وجهه وقد اعياه البحث عن ملاذات آمنة يلتقط فيها بعض أنفاسه ومن ثم يواصل الرحلة ( رحلة الضياع ) !!..
لو أن من أشعلوا الحرب اللعينة العبثية المنسية استطاعوا أن يجردونا من احلامنا لما ترددوا في مصادرتها للصالح العام كما يزعمون عندما يريدون التبكيت علي المواطن وحشره دائما في الزوايا الضيقة !!..
كنا عند حلول الثامن عشر من شهر ديسمبر من كل عام نتوجه الي المنتديات الادبية والثقافية في العاصمة أو الأقاليم لنحتفل بعيد اللغة العربية الشريفة ، لغة القرآن الكريم ، لغة أهل الجنة ، التحدث بها فضيلة وتعلمها واجب .
وهنالك في قاعة الشارقة وفي رحاب ندوة العلامة عبدالله الطيب يصطف العلماء في المنصة الرئيسية يتقدمهم تلميذ العلامة عبدالله الطيب البروف صديق عمر الصديق ويومها تكون القاعة المهيبة مضمخة بأريج اجود الكلم بلسان عربي مبين وينداح النثر الموموسق والشعر الرصين يجريان في صفاء مثل النيلين يحملان من المعاني والحكمة والمتعة والجمال الكثير الكثير .
تسمع البروف صديق عمر الصديق بصوته المميز وسمته الرزين ووقفته الوادعة ووجهه الطلق واشاراته اللماحة وعيونه المشعة بالذكاء واللباقة والأناقة والبلاغة يخيل اليك وكأنه مصاحب لابن الحسين الكوفي ( المتنبي ) في رحلة من رحلاته التي تكاد لا تهدأ ودائما معه مكتبته المتحركة علي ظهر بغير بها من أمهات الكتب في مقامها جديرة بأن يكون متصفحها هذا الشاعر الفيلسوف الذي ملأ الدنيا وشغل الناس .
ننتظر البروف صديق بعد العودة من سياحته الأدبية غير العادية مع أشعر شعراء زمانه ذاك الإنسان القلق الذي يمدح نفسه قبل أن يتجه الي مدح الأمراء والكبار وهو يري نفسه ليس بأقل منهم أن لم يكن أفضلهم ولكن للاسف وقد سعي لأن تكون له ولاية يحكمها وبذل كثيرا من الوقت والمحاولات والسفر والتغرب والتقلب في البلدان ولم يقبض إلا الريح الي أن وافته المنية مقتولا في بادية السماوة بسيف فاتك الاسدي عدوه اللدود .
كنا سنسمع الدرر والعجايب مروية بعذوبة مفرطة وعلم غزير متدفق من ابن توتي البروف صديق لم لا وقد نال الكثير من حكمة وجودة شيخه ابن المحاذيب عبدالله الطيب الذي نال ثقة العاهل المغربي الملك محمد الخامس ومن بعده ابنه وكان يحاضرهم في المسجد الكبير هما والرعية والضباط والاجناد فيتحفهم بأسرار لغة الضاد ويكشف لهم عن أدق اسرار حلاوتها وأناقتها ودقة تعابيرها واتساع معانيها وخفة ظلها وجمالها الذي لا يباري !!..
مازلنا وأملنا في الله سبحانه وتعالى كبير أن تتوقف هذه الحرب اللعينة العبثية المنسية وان نعود لديارنا سالمين غانمين سعيدين فرحين مستبشرين وان نسعد مجددا بما كان عندنا من منتديات أدبية وثقافية فيها نرتاح من ضغوط الحياة وبها يعود الينا الصفاء والنقاء واتزان النفس مما يحفز علي المزيد من العمل والإنتاج وبهما تسير الحياة وتبني الاوطان !!..
حمد النيل فضل المولي عبد الرحمن قرشي .
معلم مخضرم .
ghamedalneil@gmail.com