لجريدة عمان:
2024-11-18@18:49:20 GMT

بين عبدالله حبيب وبورخيس

تاريخ النشر: 2nd, September 2023 GMT

«ظليت سنين ما أقدر أقرأ كلمة لبورخيس بعد هذا التبرير السخيف». هذه العبارة أدلى بها الكاتب عبدالله حبيب في الأمسية التي احتضنتْها منصة «مجاز» الأسبوع الماضي في مقرها بمدينة السلطان قابوس. كان ذلك في معرض رده على سؤال لسالم الرحبي- مقدم الجلسة- عن المسافة المشتركة بين العمل الفني من جهة، والحياة بمختلف إشكالاتها الأخلاقية والسياسية من جهة أخرى، وأين يجد المثقف العضوي نفسه بين شعارَيْ الفن للفن، والفن للمجتمع؟.

ذكَّرنا عبدالله حبيب في إجابته بأن بورخيس - الأديب الشهير الذي كان ولا يزال ملء السمع والبصر في ثقافتنا العربية منذ ثمانينيات القرن الماضي- لم يكن له موقف مما يجري في بلده الأرجنتين في أوج الحكم الدكتاتوري فيها الذي راح ضحيته كثير من أبناء جلدته، ويقول - أي عبدالله - إنه شاهد فيلمًا وثائقيًّا عنه طُرِحَ عليه فيه سؤال جريء مفاده: سيد بورخيس أين كنتَ حين كان الناس يُذبحون في بلدك كالخراف؟ فأجاب أنه لم يكن يعلم شيئًا عمّا يجري، رغم أنه في الفيلم نفسه وقبل هذه الإجابة بدقائق قال: إن أول ما يفعله صباح كل يوم هو قراءة جرائد بلاده. وهذا هو «التبرير السخيف» الذي قصده عبدالله.

والحقيقة، أن كلام عبدالله حبيب وجيه للحكم أخلاقيًّا على بورخيس، بل يمكنه أن يضيف أيضًا موقفَ الكاتب الأرجنتيني المخزي من القضية الفلسطينية وانحيازه المفضوح للصهاينة، الذي يعرفه عبدالله جيِّدًا، ولكن هل يكفي هذا لنمتنع عن قراءة أديب عالمي كبير وهو الذي كتب أدبًا رفيعًا ما زال يُقرأ في جميع اللغات إلى اليوم؟. للإجابة عن هذا السؤال سأطرح رأيًا مغايرًا لا أزعم أنه الصواب، ولكن يشجعني عليه أن عبدالله حبيب نفسه كتب في إحدى شذرات «أنساغه» ذات يوم أنه من الأفضل أن تكون للمرء آراء خاطئة بدلًا من ألا يكون له رأي على الإطلاق.

حين أعلن الناقد الفرنسي رولان بارت «موت المؤلف» في مقاله الشهير عام 1967م، كان من ضمن مقاصده أن تتاح لنا كقراء فرصة الاستمتاع بالنصّ بعيدًا عن أية سلطة خارجية وعلى رأسها سلطة المؤلف. والسؤال هنا: ماذا لو قرأنا «كتاب الرمل» مثلًا أو «الصانع»، أو «مرآة الحبر» دون أن نعرف أن مؤلف هذه الكتب هو بورخيس؟ ألن نستمتع بها؟ ألن نشعر أننا أمام نصوص بديعة تستحق أن تُقرأ وتُرفع لها القبعات؟ إجابتي هي بلى، بل إنني أظن أننا سنوافق بارت على اعتباره نسبة النص للمؤلف إيقافًا لهذا النص وحصرًا له وإعطاءه مدلولًا نهائيًّا، وإغلاقًا للكتابة، وسنقتنع أن النصّ الجيد قادر على تغذية نفسه بأسباب البقاء بعد أن يحلّق بأجنحته بعيدًا عن مؤلفه.

وفي المقابل ماذا ستنفعنا معرفتنا أن الكاتب الفلاني عاش مناضِلًا ومات شهيدًا في سبيل القضية التي يؤمن بها إذا كان نصُّه رديئًا ومؤدلجا لا ينتمي للفن!، ألا يحق لنا في هذه الحالة أن ننسى نضاله وصفاته الإنسانية المحببة ونشارك فرجينيا وولف تساؤلاتها: ‏«ألا يجب أن نعتبر بعض المؤلفين كالمجرمين؟ ألا يحق لنا أن نعتبر أولئك الذين يكتبون كتبًا سيئة، كتبًا تضيع وقتنا وتعاطفنا، كتبًا مسروقة، كتبًا خاطئة، كتبًا تملأ هواءنا بالعفن والأمراض، ألا يحق لنا أن نعتبرهم أخبث أعداء المجتمع؟».

وإذن، فإن أهمية الكاتب في نظري لا تنبع من مواقفه الحياتية (مشرفة كانت أم مخزية) ولا صفاته الشخصية (أخلاقية كانت أم غيرها) بل من إجادته مهنته: الكتابة، إن جاز لنا أن نعدّ الكتابة مهنة. وهذا ما يجعلنا نحبّ أشعار المتنبي ونرددها رغم علمنا بتزلفه للخلفاء والأمراء وطمعه في أن يكون واليًا، وهذا أيضًا ما يجعلنا لا نستطيع تجاوز فلسفة هايدجر رغم معرفتنا بانحيازه للحزب النازي، وقس على ذلك عشرات الكتّاب والأدباء والفلاسفة الذين لم يكونوا ملائكة في حيواتهم الشخصية، لكنهم تركوا آثارًا أدبية وفكرية لا تُنسى. وسبب ذلك في ظنّي هو تركيزهم على عملهم الإبداعي أو الفكري قبل أي شيء آخر. يلخّص ذلك الروائي الأمريكي بول أوستر بتأكيده في أحد حواراته بأنْ«لا مسؤولية للكاتب إلا تجاه ما يكتبه. ككاتب، لا يقتضي عملي أن أتحدّث باستمرار في المشاكل السياسية أو الاجتماعية في وسائل الإعلام، بل أن أكتب قصصًا. مهمة الروائي التحدّث عن الحياة الداخلية للبشر».

خلاصة القول: إن المبدع ينبغي بالفعل أن يكون «معجونًا بتراب الأرض وأوجاعها وآلامها» كما قال عبدالله حبيب، وكما أكد أنطونيو غرامشي في حديثه عن «المثقف العضوي»، لكن لا ينبغي مع ذلك أن يكون هذا هو الشرط الوحيد لتلقي إبداعه أو الحكم عليه.

سليمان المعمري كاتب وروائي عماني

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

القبض على صاحب المنزل الذي اعتدى على موظف التعداد السكاني في الديوانية

بغداد اليوم -  

رئيس اللجنة الأمنية العليا محافظ الديوانية الأستاذ "عباس شعيل الزاملي" يعلن إلقاء القبض على صاحب الدار الذي اعتدى على موظف التعداد السكاني، ويوجه بإتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة بحقه.


مقالات مشابهة

  • هذه مواصفات صاروخ فجر5 الذي أعلن عنه حزب الله (إنفوغراف)
  • للمرّة الأولى... ما الذي قصفه حزب الله بالصواريخ؟
  • القبض على صاحب المنزل الذي اعتدى على موظف التعداد السكاني في الديوانية
  • بو حبيب استقبل ممثل منظمة الأمم المتحدة للطفولة في لبنان إدوارد بيجبيدر في زيارة وداعية
  • ياسمين عبد العزيز تتصدر تريند جوجل وتستعد للعودة بقوة في دراما رمضان 2025 بمسلسل "وتقابل حبيب"
  • ياسمين عبد العزيز تتعاون مع 11 نجما في مسلسل «وتقابل حبيب».. انضمام ندى موسى
  • اربيل.. اعتقال حلّال المشاكل الاسرية الذي هدد بنشر صور وفيديوهات ضحاياه
  • كيف تصبر على ابتلاء موت غالي أو حبيب؟
  • الأنبا توما حبيب يترأس قداس عيد الشهيد العظيم مارجرجس بطهطا| صور
  • الأنبا توما حبيب يترأس قداس عيد الشهيد مارجرجس بكنيسة ساحل طهطا