لجريدة عمان:
2025-05-01@04:33:57 GMT

بين عبدالله حبيب وبورخيس

تاريخ النشر: 2nd, September 2023 GMT

«ظليت سنين ما أقدر أقرأ كلمة لبورخيس بعد هذا التبرير السخيف». هذه العبارة أدلى بها الكاتب عبدالله حبيب في الأمسية التي احتضنتْها منصة «مجاز» الأسبوع الماضي في مقرها بمدينة السلطان قابوس. كان ذلك في معرض رده على سؤال لسالم الرحبي- مقدم الجلسة- عن المسافة المشتركة بين العمل الفني من جهة، والحياة بمختلف إشكالاتها الأخلاقية والسياسية من جهة أخرى، وأين يجد المثقف العضوي نفسه بين شعارَيْ الفن للفن، والفن للمجتمع؟.

ذكَّرنا عبدالله حبيب في إجابته بأن بورخيس - الأديب الشهير الذي كان ولا يزال ملء السمع والبصر في ثقافتنا العربية منذ ثمانينيات القرن الماضي- لم يكن له موقف مما يجري في بلده الأرجنتين في أوج الحكم الدكتاتوري فيها الذي راح ضحيته كثير من أبناء جلدته، ويقول - أي عبدالله - إنه شاهد فيلمًا وثائقيًّا عنه طُرِحَ عليه فيه سؤال جريء مفاده: سيد بورخيس أين كنتَ حين كان الناس يُذبحون في بلدك كالخراف؟ فأجاب أنه لم يكن يعلم شيئًا عمّا يجري، رغم أنه في الفيلم نفسه وقبل هذه الإجابة بدقائق قال: إن أول ما يفعله صباح كل يوم هو قراءة جرائد بلاده. وهذا هو «التبرير السخيف» الذي قصده عبدالله.

والحقيقة، أن كلام عبدالله حبيب وجيه للحكم أخلاقيًّا على بورخيس، بل يمكنه أن يضيف أيضًا موقفَ الكاتب الأرجنتيني المخزي من القضية الفلسطينية وانحيازه المفضوح للصهاينة، الذي يعرفه عبدالله جيِّدًا، ولكن هل يكفي هذا لنمتنع عن قراءة أديب عالمي كبير وهو الذي كتب أدبًا رفيعًا ما زال يُقرأ في جميع اللغات إلى اليوم؟. للإجابة عن هذا السؤال سأطرح رأيًا مغايرًا لا أزعم أنه الصواب، ولكن يشجعني عليه أن عبدالله حبيب نفسه كتب في إحدى شذرات «أنساغه» ذات يوم أنه من الأفضل أن تكون للمرء آراء خاطئة بدلًا من ألا يكون له رأي على الإطلاق.

حين أعلن الناقد الفرنسي رولان بارت «موت المؤلف» في مقاله الشهير عام 1967م، كان من ضمن مقاصده أن تتاح لنا كقراء فرصة الاستمتاع بالنصّ بعيدًا عن أية سلطة خارجية وعلى رأسها سلطة المؤلف. والسؤال هنا: ماذا لو قرأنا «كتاب الرمل» مثلًا أو «الصانع»، أو «مرآة الحبر» دون أن نعرف أن مؤلف هذه الكتب هو بورخيس؟ ألن نستمتع بها؟ ألن نشعر أننا أمام نصوص بديعة تستحق أن تُقرأ وتُرفع لها القبعات؟ إجابتي هي بلى، بل إنني أظن أننا سنوافق بارت على اعتباره نسبة النص للمؤلف إيقافًا لهذا النص وحصرًا له وإعطاءه مدلولًا نهائيًّا، وإغلاقًا للكتابة، وسنقتنع أن النصّ الجيد قادر على تغذية نفسه بأسباب البقاء بعد أن يحلّق بأجنحته بعيدًا عن مؤلفه.

وفي المقابل ماذا ستنفعنا معرفتنا أن الكاتب الفلاني عاش مناضِلًا ومات شهيدًا في سبيل القضية التي يؤمن بها إذا كان نصُّه رديئًا ومؤدلجا لا ينتمي للفن!، ألا يحق لنا في هذه الحالة أن ننسى نضاله وصفاته الإنسانية المحببة ونشارك فرجينيا وولف تساؤلاتها: ‏«ألا يجب أن نعتبر بعض المؤلفين كالمجرمين؟ ألا يحق لنا أن نعتبر أولئك الذين يكتبون كتبًا سيئة، كتبًا تضيع وقتنا وتعاطفنا، كتبًا مسروقة، كتبًا خاطئة، كتبًا تملأ هواءنا بالعفن والأمراض، ألا يحق لنا أن نعتبرهم أخبث أعداء المجتمع؟».

وإذن، فإن أهمية الكاتب في نظري لا تنبع من مواقفه الحياتية (مشرفة كانت أم مخزية) ولا صفاته الشخصية (أخلاقية كانت أم غيرها) بل من إجادته مهنته: الكتابة، إن جاز لنا أن نعدّ الكتابة مهنة. وهذا ما يجعلنا نحبّ أشعار المتنبي ونرددها رغم علمنا بتزلفه للخلفاء والأمراء وطمعه في أن يكون واليًا، وهذا أيضًا ما يجعلنا لا نستطيع تجاوز فلسفة هايدجر رغم معرفتنا بانحيازه للحزب النازي، وقس على ذلك عشرات الكتّاب والأدباء والفلاسفة الذين لم يكونوا ملائكة في حيواتهم الشخصية، لكنهم تركوا آثارًا أدبية وفكرية لا تُنسى. وسبب ذلك في ظنّي هو تركيزهم على عملهم الإبداعي أو الفكري قبل أي شيء آخر. يلخّص ذلك الروائي الأمريكي بول أوستر بتأكيده في أحد حواراته بأنْ«لا مسؤولية للكاتب إلا تجاه ما يكتبه. ككاتب، لا يقتضي عملي أن أتحدّث باستمرار في المشاكل السياسية أو الاجتماعية في وسائل الإعلام، بل أن أكتب قصصًا. مهمة الروائي التحدّث عن الحياة الداخلية للبشر».

خلاصة القول: إن المبدع ينبغي بالفعل أن يكون «معجونًا بتراب الأرض وأوجاعها وآلامها» كما قال عبدالله حبيب، وكما أكد أنطونيو غرامشي في حديثه عن «المثقف العضوي»، لكن لا ينبغي مع ذلك أن يكون هذا هو الشرط الوحيد لتلقي إبداعه أو الحكم عليه.

سليمان المعمري كاتب وروائي عماني

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

الذي يأتي ولا يأتي من الحـافلات

الذي يأتي ولا يأتي من الحـافلات
(من أرشيف باب "ومع ذلك" بجريدة الخرطوم 1988)
(طرأ لي إعادة نشر هذه الكلمة القديمة وأنا أرى مصارع السيارات المهجورة ملء البصر في الخرطوم في أعقاب غزوة الجنجويد)

نشر ترمنقهام مؤلف كتاب (الإسلام في السودان) جملة من الأفكار الخاطئة عن ثقافة السودان وإسلامه. غير أنني اتفق كثيراً مع ملحوظته القائلة بأن خريجي المدارس الحديثة (الصفوة بتعبير آخر) غير راغبين في إجراء تحسين جذري في حياة مواطنيهم. فعلى أن ترمنقهام أذاع هذه الملحوظة في الأربعينات إلا أنها ما تزال صادقة إلى حد كبير.
سمّت جريدة (السيـاسة) في افتتاحية لها مشكلة المواصلات (الهاجس اليومي) الذي يجعل حياة المواطن عبئاً لا يطاق. ولعل أخطر مظاهر المشكلة ليس المعاناة اليومية التي يتكبدها المواطن في غدوه ورواحه، ولكن إحساسه بأن هذه المشكلة المعلقة لأكثر من عقد من الزمان تبدو بلا حل قريب أو بعيد.
فالمعتمدية تراوح في مكانها القديم من المشكلة بين إنزال بصات جديدة (أو الوعد بذلك) وبتصليح العطلان منها وبين حملات تأديبية على أصحاب المركبات العامة الذين يزوغون عن العمل بالخطوط مكتفين بالبنزين. كما تتمسك المعتمدية في وصاية فارغة بفئات قانونية للطلبة وغير الطلبة. وفي مطالبة أهل حي بعينه من المعتمدية الانصياع للفئة التي قررها أصحاب المركبات العامة مؤشر قوي على استفحال المشكلة وعدم واقعية (أو بالأحرى جدية) المعتمدية.
ولعل أكثر دواعي اليأس من حل أزمة المواصلات هو تطاولها على خيالنا وفكرنا. فالأزمة غير واردة في أجندة فكرنا السياسي والاجتماعي والنقابي. فلم نعد نسمع شيئاً عن الدراسة التي التزمت المعتمدية بإجرائها على ضـوء استبيانات وزعتها. وهذه الدراسة هي الدليل الوحيد على أن المشكلة شاغل فكري معتبر يتجاوز همهمات المكتوين بنار الأزمة مما تنشره الصحف.
وأهـل الفكر عن المسألة في شغل وانصـراف. فطاقم الدولة القيادي اكتفى بتوسيع بند شراء العربات الحكومية (الخاصة) ليمتطيها آناء الليل وأطراف النهار. فقد صدقت وزارة الاقتصاد مؤخرا بـ 15 مليون دولار لشراء عربات كريسيدا تدفع مقابلها الوزارة من سمسم الوطن، أو القضارف. كما اتجهت نقابات الاطباء وأساتذة الجامعات والبياطرة وغيرهم الى مساومات مع وزارة التجارة وموردي السيارات لاستيراد عربات خاصة بأعضائها. ولا غبار على هذه الإجـراءات لو لم تكن هروباُ من مواجهة هذه الأزمة المزمنة. وما يجعل ذلك الهروب سخيفاً بحق هو أن يصدر من أكثر الفئات فصاحة في السياسة وأنسبها تأهيلاً للنظر في الأزمة وتدبير الحلول.
فمعاناة الشعب ليس عبارة تقال وتبتذل بالتكرار. إنها أوجاع بلا حصر تستنفر الخيال والنظر. فعلى أيام اختناقات البنزين تفتق ذهن الجماعات الصفوية عن فكرة إدخال الحاسوب لضبط توزيعه. ولكن حين يستمر المواطنون على أرصفة الشوارع لأكثر من عقد من الزمان ينتظرون الذي لا يأتي من الحـافلات فصفوتنا السياسية والفكرية خالية الوفاض من الحيل والمناهج.
لقد صدق ترمنقهام في واحدة وهي أن الصفوة من كل شاكلة ولون غير راغبة في تحسين حياة أهلها من كل شاكلة ولون.


ibrahima@missouri.edu

   

مقالات مشابهة

  • من هدوء المدينة إلى نار الاشتباكات والطائفية... ما الذي حدث في جرمانا السورية؟
  • الملاكم محمد علي وحرب فيتنام: البطل الذي رفض التجنيد فعوقب على مواقفه ثم انتصر
  • «العدد فاق توقعاتي».. حسام حبيب يعلن انتهاء مسابقة المواهب بألبومه الجديد
  • فاقت توقعاتي.. حسام حبيب يعلن انتهاء مسابقة المواهب ويؤكد: الجمهور صاحب القرار
  • المشهد اليمني الذي يشبهُ غزة
  • ما هو صاروخ “بار” الذي استخدمه الاحتلال لأول مرة في غزة؟
  • “حبيب الملا ومشاركوه” يتوسع في مصر
  • «حبيب الكل».. سعد الصغير ينعى أمح الدولي بكلمات مؤثرة
  • العشاء الذي أسهم في إنقاذ أوروبا
  • الذي يأتي ولا يأتي من الحـافلات