طرحت العديد من الأفكار بشأن الأوضاع في أفريقيا، وما تزال المحن والحروب تفتك بشعوب القارة السمراء، فيما تستمر حالات التمرد على الجيوش الوطنية المغموسة في الانحيازات السياسية، وتضرب الانقلابات العسكرية على أنظمة ديمقراطية هشة، أو مشكوك في نزاهتها وتبعيتها للخارج، بينما كبار الجنرالات غير عابئين بمبادئ الاتحاد الأفريقي، أو متدثرين بثوب معاداة الاستعمار، وتفكيك أفكاره حول الديمقراطية ومناظير الليبيرالية.



في خضم الحرب المشتعلة في السودان، والانقلاب المستمر في النيجر، وآخر في الغابون، يبحث كثير من المراقبين عن منظور سياسي لفهم ما يجري في هذه البلدان الأفريقية، فيما يوفر الكتاب الذي أصدره "أليكس دي وال" الباحث البريطاني الخبير في الشئون الافريقية والسودانية على وجه الدقة، مدخلا مختلفا عن السائد في التنظير السياسي والاجتماعي والاقتصادي لإفريقيا، فهو كتاب يستند على مفهوم الاقتصاد السياسي، لتحليل أوضاع الحكم والسياسة في المجتمعات الإفريقية، ويجترح مفهوم يطلق عليها "سوق الأعمال السياسية"، وهو نظام حوكمة معاصر تمارس فيه السياسة عبر تبادل الخدمات السياسية، أو الولاء السياسي مقابل العائد المالي، أو منح التراخيص.

في هذه السوق، "العنف هو أحد آليات عقد الصفقات، والذي عبره يستطيع لاعب ثانوي أن يطالب بحقوقه، أو يحاول أن يساوم لسعر أعلى، ويمكن لحاكم أن ينازعه في حقوقه، أو أن يدفعه ليخفض سعره، ويمكن استعمال العنف، لمحاولة الإضرار أو تدمير الداعمين لغريم أو مطالب، وعليه تنخفض قيمته في السوق، ويمكن أن ينشأ العنف من خطأ، فقد يخطئ مدير أعمال سياسي في الحكم على السوق، او قد يخطئ قراءة غرمائه".

الكاتب عمل مستشارا للاتحاد الإفريقي، وهو المدير التنفيذي لمؤسسة السلم العالمي، وأستاذ الأبحاث في كلية فليتشر للدراسات العليا للشؤون العالمية بجامعة تافتس، وقد حوت أعماله العديد من القضايا الإفريقية مثل الأزمات الإنسانية ومرض نقص المناعة البشرية الاإدز وطبيعة الحكم في إفريقيا والنزاعات وبناء السلام.

يضع الكتاب الحالة السودانية نموذجا فاعلا لممارسة مفهوم نظام سوق المال السياسي، وهو ذات المنهج السياسي المتبع في دول إفريقية أخرى، وفي مناطق مختلفة من العالم، وصدرت عن الكتاب نسخة مترجمة باللغة العربية من إصدارت مركز تأسيس للدراسات والنشر في الخرطوم، وقام بترجمته للعربية الحارث عبد الله.

وقام الكتاب الذي يقع في 236 صفحة، ويحمل عنوان منهجه التحليلي "المال والحروب وإدارة أعمال السلطة.. السودان كسوق أعمال سياسية"، هو مختارات من أبحاث إليكس دي وال في إفريقيا، منذ أن بدأ الباحث رحلته الإفريقية من السودان العام 1985م، وكانت بحوثه الأولى تركز على إقليم دارفور غرب السودان، وأصدر في هذا الخصوص كتابا بعنوان "المجاعة التي تقتل: دارفور السودان"، استند فيه على عمله البحثي لنيل درجة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا الاجتماعية من جامعة أوكسفورد، وكتابا بعنوان: "دارفور: تاريخ جديد لحروب طويلة" بالاشتراك مع جولي فلييت، اضافة إلى اعمال بحثية ودراسات أخرى.

يضع الكتاب الحالة السودانية نموذجا فاعلا لممارسة مفهوم نظام سوق المال السياسي، وهو ذات المنهج السياسي المتبع في دول إفريقية أخرى، وفي مناطق مختلفة من العالم، وصدرت عن الكتاب نسخة مترجمة باللغة العربية من إصدارت مركز تأسيس للدراسات والنشر في الخرطوم، وقام بترجمته للعربية الحارث عبد الله.ويشمل الكتاب، قضايا معاصرة في الشأن الإفريقي والسوداني على وجه التحديد، فهو يتضمن عملا بحثيا تحليليا لما بعد عزل نظام الرئيس السوداني عمر البشير،  فقد أصدر في أغسطس العام 2019م مقالا بعنوان: "المال والتناقضات: حول حدود تأثير دول الشرق الأوسط"، وورقة أخرى بعنوان: "السودان: تحليل من منظور نموذج الأعمال السياسي".

يعتبر الكتاب أن القرن الإفريقي يمثل سوق أعمال عسكري وسياسي متقدم، ويتميز بانتشار السعي نحو الريع والمحسوبية والرعاية النقدية مع استعمال العنف بشكل روتيني كأداة لاستخراج الريع، وأنه سوقا مندمجا مع الدوائر الاقليمية والعالمية للتمويل السياسي.

ويقدم شرحا لنظريته السياسية بصورة ملخصة عندما يشير إلى عبارة مرسومة على الشاحنات وسيارات الأجرة في غرب إفريقيا: "لا وضع يدوم"، أي "الاضطراب" أو عالم غير مستقر، وهو "مصطلح مأخوذ من ديناميكا الموائع، والذي يشير إلى الطريقة التي يكون فيها النظام غير متوقع فوضوي من لحظة إلى الثانية، ويفتقر إلى نمط قابل للتمييز، ولكنه لا يزال يحتفظ ببنية قابلة للإدراك على مدى زمني أطول".

يشير إلى أن مفهوم السوق السياسي "يعمل على مستويين كإحدى الخصائص العامة للحياة السياسية في كل مكان، وكمكون مركزي في السياسة في الأسواق المتقدمة، يتضمن كل نظام سياسي صفقات بين الأفراد يتم فيها التبادل للعوائد مقابل التعاون، وبعض هذه المعاملات التي تنطوي على خدمات / ولاء / موارد / تراخيص وإكراهات / تهديد / مصنفة على أنها  فساد، والبعض الآخر تعتبر معاملات مشبوهة مباحة".

ويضيف في الفصل الأول: "يمكن للأسواق السياسية أن تزدهر خلف واجهة الدولة المؤسسية، عندما تدخل دولة قوية مثل حكومة سلطوية محكمة التنظيم في أزمة، فقد تتحول إلى سوق أعمال سياسي متقدم بدلا من التحول نحو الديمقراطية".

ويعتقد بأن "أنظمة حكم الأسواق السياسية المتقدمة تجرى فيها الأعمال السياسية عبر التبادل الذي يعد سمة مركزية، ويتم تحديد أسعار سلع التعاون والولاء من خلال العرض والطلب، ويتم تخصيص الموارد وفقا لذلك، وبالتالي تفهم اتفاقات السلام وإنهاء النزاع بين الجماعات المتمردة والأنظمة السياسية وفقا لمفهوم المساومة الاقتصادية لسوق الأوراق المالية في البلدان الإفريقية".

لكن الكتاب يشترط لهذا النوع من الأنظمة السياسية "أن يكون التمويل السياسي في أيدي أفراد لهم مصالح سياسية أو عسكرية أو تجارية، وهنا قد يظهر لقارئ الكتاب نموذج قائد قوات الدعم السريع في السودان الفريق محمد حمدان دقلو المعروف بـ "حمديتي"، الذي حاز على مقدرات مالية ضخمة، ويخوض حاليا حربا ضد الجيش الوطني الذي نشأ تحت رعايته".

ويشير الكتاب إلى ضرورة أن يتوفر شرط لمفهوم هذا النوع من الأنظمة السياسية يتمثل في "أن تكون السيطرة على أدوات العنف مشتتة أو متنازع عليها، وأن لا تتم تسوية النزاعات السياسية عبر القواعد والإجراءات المؤسسية (أي أن القانون يكون خاضعا للإمكانات السياسية)، بالإضافة إلى أن تكون هذه البلدان مندمجة في النظام السياسي والاقتصادي العالمي في وضع التبعية، ويمكن فهم هذه المسالة بالنظر إلى ما يجري حاليا في دول مثل النيجر والجابون والاتهامات الموجه للغرب في التدخل السياسي، والتبعية الاقتصادية".

يقول الكتاب: "إن معظم البلدان التي تنطبق عليها الشروط السابقة، تكون في حالة نزاع، أو هي عبارة عن بلدان تستمر فيها نماذج وشبكات الأعمال السياسية الخاصة بأوقات الحرب في الازدهار، حتى في فترة نظام ما بعد الحرب، ويوضح بأن هذا النموذج شكل من أشكال الحكم المعاصر وليس بقيمة نماذج قديمة أو نظاما انتقاليا مقدرا له أن تحل محله دولة فيبرية مثالية، كما هو أيضا نظام مرن وديناميكي، كما أنه نتاج للتاريخ الحديث، وتحديدا العولمة الاقتصادية والسياسية"، وعمليات التسييل المختلفة.

"سوقنة" السياسة في السودان بدأت في فترة السبعينات في القرن العشرين، عندما توجه الرئيس جعفر نميري لدول الخليج الغنية حديثا بفعل النفط وللمتبرعين في الغرب لأخذ قروض لمشاريع تنمية، وقبل ذلك الوقت "كان الاقتصاد السياسي للسودان مسيطرا عليه بواسطة أربعة مجموعات سياسية اقتصادية متنافسة حزبان طائفيان يتأسسان على مصالح طبقة التجار في التجارة والزراعة والعمال المنظمون المستقرون في السكة الحديدية والزراعة المروية والجسد البيروقراطي للدولة وقطاع منبثق غير رسمي مرتبط بصعود خدمات التمويل الخاصة".ويشير إلى أن فهم سوق الأعمال السياسي يتطلب "إدراك مهام واستراتيجيات أولئك الذين نجحوا فيه أو ما يسميهم الكتاب برواد الأعمال ومدراء الأعمال السياسية، وهم السياسيون الذين يمتلكون موهبة وقدرة أكثر من غيرهم ويستخدمون عدسات اصحاب الاعمال،، وبالتالي فإن نماذج الأعمال ستكون دليلا مفيدا لفهم أنظمة الحكم هذه وكيف تتغير".

وفي الفصل الثاني يقدم الكتاب دولة السودان كنموذج تطبيقي لسوق الاعمال السياسي، موضحا بأن "الرواية السائدة في التاريخ السوداني لفهم هذا البلد هي منظور صراعات الهوية وحروب الرؤى"، لكن الكتاب يختار مدخلا مختلفا وهو النظر إلى الميزانيات الحكومية، التي يصفها بأنها تشبه "أعمال السحر والشعودة"، لكنه يلاحظ بأن الميزانيات وحجمها كانت عاملا حاسما في إجراء الصفقات السياسية وتسوية النزاعات وإنهاء الحروب بين رواد الأعمال في نظام الحكم السياسي، ويشير إلى أن الكتاب لا يغفل عاملا مهما مثل طوبوغرافيا الثروة والإدارة باعتبارها نقطة انطلاق أخرى لفهم السودان، بالتفاعل مع الاجتماع المالي للتمويل السياسي.

ويرى أن "سوقنة" السياسة في السودان بدأت في فترة السبعينات في القرن العشرين، عندما توجه الرئيس جعفر نميري لدول الخليج الغنية حديثا بفعل النفط وللمتبرعين في الغرب لأخذ قروض لمشاريع تنمية، وقبل ذلك الوقت "كان الاقتصاد السياسي للسودان مسيطرا عليه بواسطة أربعة مجموعات سياسية اقتصادية متنافسة حزبان طائفيان يتأسسان على مصالح طبقة التجار في التجارة والزراعة والعمال المنظمون المستقرون في السكة الحديدية والزراعة المروية والجسد البيروقراطي للدولة وقطاع منبثق غير رسمي مرتبط بصعود خدمات التمويل الخاصة".

 في هذا الخصوص يتتبع الكاتب مناسبات عقد اتفاقات السلام منذ اتفاقية 1972 بين حركة التمرد الرئيسية في جنوب السودان وبين نظام الرئيس الأسبق جعفر نميري (1969 ـ 1985)، وحتى اتفاقات السلام المبرمة مع الحركات المسلحة في اقليم دارفور، موضحا بأن الريع النفطي كان عاملا حاسما لدفع رواد الأعمال السياسيين من أجل توقيع اتفاقية السلام الشامل بين شمال وجنوب السودان العام 2005م، ويشير إلى أن زيادة الميزانية الحكومية بالقروض أو بطرق أخرى تعد الحافز الاساسي لصنع الصفقات السياسية، وفقا لمفهوم سوق الأعمال السياسي ووفقا لمعيار العرض والطلب.

يتناول الكتاب في فصله الثالث أزمة إقليم دارفور في غرب السودان، ويعتبرها سوق أعمال سياسي شبه مثالي يتضمن مزادا للولاءات السياسية ذات بعد إثني، وفي هذا الفصل يشير إلى أن السوق شهد فوضى في العرض والطلب وتدخلات دول الجوار مثل تشاد وليبيا وارتريا وجنوب السودان، إلى حين تدخل الولايات المتحدة لـ"تنظيم السوق" عبر الضغط على اطراف النزاع المسلح أو "رواد الاعمال" لتوقيع اتفاقات سلام، فيما سعت الحكومة والمتمردون من أصول عربية إلى صيغة أيضا مثلما تم ذلك بين المجموعة التي مثلها حميدتي وبين الحكومة.

في الفصل الرابع، يتناول الكتاب المأزق الذي يواجه حكام السودان اليوم "بغض النظر عن كونهم جنودا أو أصحاب مليشيا شبه عسكرية أو تكنوقراط مدنيين، أو سياسيين مدنيين ـ هو أنهم لا يمتلكون الموارد المادية أو الخبرة أو السمعة لإدارة سوق اعمال سياسي مبني على نظام مليشيا شبه عسكرية من المرتزقة ورأسمالية محاسيب ولكن أيضا لا يملكون الوسائل لتغييره".

وجدير بالذكر أن الكتاب يحتوي تحليلا لمآلات الوضع في السودان بعد الثورة الشبابية التي عزلت نظام الرئيس عمر البشير وقبل اندلاع الحرب الجارية، وفي هذا الجزء "اقترح منظور سوق الأعمال السياسي أن الخيارات للسودان، تقع بين عدد من الطرق التي يمكن عبرها تنظيم سوق الأعمال السياسية، أما حكومة لصوص مركزية فعالة، أو احتكار قلة تواطئية / تنافسية، أو منافسة حرة غير منظمة، أو خليط من هذه الانماط، منبها إلى عناصر تتكون منها الساحة السودانية مندمجة مع سوق الاعمال السياسية في المنطقة العربية والافريقية".

يرى أستاذ العلوم السياسية المرموق حسن الحاج علي الذي كتب تقديم الكتاب، "على الرغم من الجهد المبذول من أنصار مدخل السوق السياسي، وعلى رأسهم اليكس دي وال في تقديم تحليل يشخص الواقع السوداني والإفريقي، وفي دول أخرى مشابهة، إلا أن المدخل لا يمكن الاعتماد عليه وحده في تفسير وفهم أوضاع تلك الدول، وذلك لأن اتباع الواحدية في التفسير ستدفعنا للوقوع في مزالق الاختزال، فالواقع الإفريقي معقد لا يمكن اقتصاره على عوامل السوق وحدها، ولا يمكن أن نتجاهل عوامل قيمية وثقافية واجتماعية في تحليلنا للواقع الإفريقي".

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب أفريقيا الكتاب العرض صراعات أفريقيا كتاب صراعات عرض كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة السیاسة فی فی السودان سوق أعمال فی هذا فی دول

إقرأ أيضاً:

الانتخابات الفرنسية.. مأساة فرنسا وكابوس أوروبا الموحدة

لم يكن مفاجئًا أن يحصل حزب "التجمع الوطني" الذي يمثل تيار اليمين المتطرف بقيادة مارين لوبان، على المرتبة الأولى في انتخابات الجمعية الوطنية (البرلمان) الفرنسية التي جرت يوم 30 يونيو/حزيران الماضي. ذلك أن اليمين المتطرف في عموم أوروبا يهيمن تدريجيًا على المشهد السياسي.

ولعلّ فرنسا ستكون البلد المحوري الأول في الاتحاد الأوروبي الذي سيسيطر عليه اليمين الشعبوي بعد إيطاليا، ثم ستعقبهما ألمانيا التي أصبح فيها اليمين الشعبوي يمثل القوة السياسية الثانية في البلاد، كما برهنت على ذلك الانتخابات الأوروبية الأخيرة. مما يعني أن حيازة اليمين الشعبوي للسلطة بشكل كامل في الاتحاد الأوروبي قد تحصل في الأمد القريب أو المتوسط كما تدل على ذلك عدة مؤشرات.

ولعل تقدم اليمين في فرنسا وإمكان فوزه في الجولة الثانية من الانتخابات الراهنة، سيكون ذلك الخطوة الأولى في هذا المسار، نظرًا للموقع المركزي الذي تحتله فرنسا في الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى البعد الرمزي الذي تمثله في الخيال السياسي والثقافي الأوروبي الحديث والمعاصر.

وفي هذا الصدد، وبعد أن عالجنا في مقالتين سابقتين العوامل التي أدت إلى صعود اليمين الشعبوي والمخاطر التي يحملها صعوده للسلطة على أوروبا من حيث عودة الشمولية، فإن الحالة الفرنسية – وما أسفرت وستسفر عنه في الانتخابات الراهنة في جولتها الثانية بخصوص الاستقطاب بين اليمين المتطرف واليسار، وانهيار تمثيلية الفاعلين السياسيين التقليديين – تقدم لنا نموذجًا للدراسة يقارن في جهة أداء اليمين، والقضايا التي استثمر فيها بذكاء بين الأزمة الاقتصادية ومشكلة الهوية والقيم الثقافية، وفي الجهة الأخرى، بدائل ذلك اليمين والطاقات المضادّة، والدور المطلوب من المواطنين الفرنسيين الذين تعود أصولهم إلى خلفيات مهاجرة في إعاقة الهيمنة السريعة لليمين.

ويمثل اليسار وقواه السياسية هنا الاختيار النموذجي في فرنسا لما يمثله خطابه وعرضه السياسي من عناصر جذب، سواء داخل فرنسا، أو في القضايا الدولية والإقليمية، بما يخفف حدة التوتر والنزاعات في أوروبا والشرق الأوسط على السواء.

1- الانتخابات الفرنسية.. أزمة النظام السياسي

 

كشفت نتائج الانتخابات الفرنسية عن أزمة عميقة تواجه فرنسا في مستويين اثنين:

المستوى الأول: النظام السياسي

ستؤدي النتائج في جميع الحالات إلى تشكيل الحكومة من الطيف السياسي المعارض للرئيس، وهو طيف قد يمثل أغلبية البرلمان، مما يعني افتراضَ عطلٍ في تمظهرات السلطة بين الجمعية الوطنية (البرلمان) والحكومة والرئيس، ووجود توترٍ قد ينتج عنه عدم استقرار سياسي. وتشير التوافقات الراهنة بين طيف اليسار الذي حل في الجولة الأولى ثانيًا بعد حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف بقيادة مارين لوبان، ويمين الوسط الذي يقوده إيمانويل ماكرون، إلى انسحاب حوالي 214 مرشحًا، مما يفسح المجال أمام الدعم المتبادل للحيلولة دون تصدر اليمين الشعبوي للانتخابات.

هذا الخيار التوافقي، وإن كان سيؤثر على فرص اليمين الشعبوي في تصدر الانتخابات بشكل مريح، لا يحل معضلة أزمة السلطة، بل سيفرض إستراتيجيات جديدة في التعايش السياسي والمؤسساتي، وهو ما سيكون صعبًا في ظل التباين الحاد في البرامج السياسية والاجتماعية بين اليسار بمكوناته المتنوعة، وحزب ماكرون الليبرالي. بل يمتد الخلاف إلى القضايا الإقليمية والدولية، وعلى رأسها الحرب الروسية الأوكرانية والعدوان على غزة.

المستوى الثاني: المشهد السياسي والمجتمعي

أفرزت الانتخابات استقطابًا حادًا بين أقصى اليمين وأقصى اليسار؛ ظل مؤجلًا منذ مجيء الرئيس الفرنسي ماكرون إلى السلطة. لم يكن الرئيس الفرنسي في واقع الأمر في مساره كفاعل سياسي يستند إلى تاريخ سياسي عريق كباقي الشخصيات السياسية الفرنسية التي مرّت على الحكم، وإنما استثمر بذكاء في التناقضات الحاصلة، وفي التخوفات المجتمعية من اليمين الشعبوي آنذاك.

نفس الإستراتيجية حاول ماكرون الاستثمار فيها عقب الانتخابات الأوروبية، إذ كان رهانه الأساسي قائمًا على إحداث انقسام بين مكونات اليسار أولًا، ثم إمكانية الاستفادة من الانطباعات السائدة عن اليمين المتطرف، في محاولة لجعل المجتمع في مواجهة مدّ اليمين الشعبوي. لكن قراءته في الواقع حسب عدد من الكتّاب والخبراء الفرنسيين أنفسهم كانت متهورة، ولم تكن تعبر عن معرفة باتجاهات الرأي السياسي في فرنسا، وهو ما عجّل بخلق أزمة سيشهدها النظام السياسي كانت مؤجلة، وقد يسهل ذلك في الآن نفسه طريق اليمين المتطرف إلى السلطة، مما يذكي الاصطفافات المجتمعية الحادة ليس في فرنسا وحدها بل وفي عموم أوروبا.

2) مخاوف القوى التقليدية وترحيب روسيا وقوى اليمين الأخرى

صرح المستشار الألماني أولاف شولتس في مهرجان للجناح اليساري لحزبه ببرلين في اليوم الثاني من يوليو/تموز بأنه على تواصل يومي مع الرئيس الفرنسي من خلال الرسائل النصية بخصوص الوضع الصعب، معبرًا عن رغبته في الحيلولة دون تشكيل حكومة يقودها حزب يميني شعبوي. كما عبرت وزيرة الخارجية الألمانية عن قلقها من تصدر حزب ينظر إلى أوروبا باعتبارها مشكلة وليست حلًا، في سياق الحديث عن المسؤوليات المشتركة بين ألمانيا وفرنسا حيال وحدة أوروبا.

وبشكل أكثر حدة، جاءت جملة من آراء لفيف من النخبة السياسية والإعلامية على السواء في عدد من الدول الأوروبية حول اختيارات الناخبين الفرنسيين بين اليمين المتطرف واليسار، محذرة من الضرر البالغ للقيم السياسية التقليدية والأضرار التي قد تلحق بوحدة أوروبا.

وبقدر انتشار المخاوف التي يتم التعبير عنها في وضع غير مألوف بخصوص إبداء الرأي بشأن الانتخابات داخل الدول الأوروبية، نجد ترحيبًا لدى قوى اليمين الشعبوي. وقد دعت رئيسة إيطاليا في هذا السياق إلى تجنب شيطنة اليمين، فيما رحب الإعلام الروسي بنتائج الجولة الأولى، مما يجلي حالة الترقب لما ستسفر عنه الانتخابات الفرنسية، فهي في واقع الأمر ستؤثر بشكل مباشر في رسم الخريطة السياسية لمستقبل أوروبا.

يؤشر مناخ التوتر السائد لدى الطبقة السياسية الأوروبية ذات الميول اليسارية أو اليمينية المعتدلة من الانسياق المجتمعي خلف اليمين الشعبوي، وتصدر التجمع الوطني للانتخابات الفرنسية، وإمكانية حصوله على الأغلبية في الجولة الثانية المقررة يوم الأحد 7 يوليو/تموز، إلى إمكانية أن تشكل هذه الحالة السياسية حافزًا لحزب البديل من أجل ألمانيا وغيره من القوى اليمينية في أوروبا.

كما أنه يدفع الشعور الجماعي في سياقات أضحى الوعي السياسي فيها يتشكل بخطابات عابرة للحدود، من خلال الاستثمار في وسائط التواصل، ونمط الخطاب البسيط والمباشر، إلى الإقبال على الاتجاهات الشعبوية. وينبغي التأكيد سواء في فرنسا أو ألمانيا على أن شبكات الإعلام الجديد شكلت الوسيلة الفعالة لليمين الشعبوي في الوصول إلى شرائح واسعة بخطاب وشعارات اجتماعية وسياسية وثقافية اختزالية وتبسيطية من حيث العمق، لكنها فعالة في حشد الجمهور.

3) ما بعد التوافق الضمني بين تكتل اليسار

وصفت الجريدة الفرنسية "Le Figaro" (لو فيغارو) في إحدى افتتاحياتها عقب إعلان نتائج الجولة الأولى، الانتخابات الحالية بالمأساة أو التراجيديا الفرنسية، إذ تجد فرنسا نفسها في مواجهة منظور مزدوج: المغامرة السياسية أو الانسداد المؤسسي، وهما معًا وجهان لأزمة النظام حسب الافتتاحية. وفي المقارنة بين اليمين المتطرف واليسار، تنتصر الافتتاحية التي تمثل توجهًا ونموذجًا لمخاوف الإعلام ولفيف من النخبة الليبرالية الفرنسية إلى التجمع الوطني (RN) اليمين المتطرف. ويعلل مدير تحرير الجريدة ذلك في افتتاحيته قائلًا: "إن برنامج الجبهة الوطنية مثير للقلق بالتأكيد، ولكن من ناحية أخرى: معاداة السامية، واليسار الإسلامي، والكراهية الطبقية، والهستيريا المالية، الجبهة الشعبية الجديدة هي ناقلة للأيديولوجية التي من شأنها أن تجلب العار والخراب للبلاد".

يمثل هذا الموقف الذي أسفر عن اعتراض لفيف واسع من طاقم تحرير الجريدة نموذجًا للمحددات التي تصاغ على منوالها تمثلات ومواقف النخب والمجتمع على السواء، وتشكل أرضية السجال السياسي والثقافي في فرنسا. وهي في عمومها لها صلة وثيقة بالسياسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

وإن كان اليمين المتطرف وكتلة اليسار أو الجبهة الشعبية لا يختلف أحدهما عن الآخر كثيرًا في عدد من النقاط ذات الصلة بالبعد الاجتماعي في مسألة الضرائب وسن التقاعد وغيره، فهي أمور تخص عموم الطبقة السياسية في فرنسا وتشكل مدخلًا للفاعلين السياسيين في خلق تفاعلات جديدة في المشهد السياسي ولا تخرج كليًا عن نسق السوق إلا في بعض الجوانب ذات الصبغة الاجتماعية في البرامج والمقترحات.

لكن الجبهة الشعبية الجديدة التي تتشكل من حزب فرنسا الأبية والحزب الشيوعي الفرنسي، والتجمع الوطني (RN) بقيادة مارين لوبان، يختلفان بشكل جوهري في الجدل الثقافي وقضايا الحريات والتعددية. في صلب ذلك ما سمي في فرنسا باليسار الإسلامي، وهي سمة أطلقتها حكومة ماكرون سابقًا على لفيف من النخبة الأكاديمية والثقافية التي تمثل الحسّ النقدي المضاد للنزعة التي تلبّست الخطاب السياسي الفرنسي في التخويف من الإسلام، واختلاق الأزمات الاجتماعية والثقافية والهوياتية تحت عنوان الهجرة والمهاجرين وقيم الجمهورية الفرنسية.

تلك النخبة في واقع الأمر تعبّر عن انتصار أمين لقيم الأنوار في الحرية والمساواة والنقد، لكن فرنسا بفعل تراكم مشكلة الهوية المزمنة، وعدم النجاح في إنتاج سياسات اجتماعية تستوعب التعدد المجتمعي والتنوع، أفرزت مظاهر مختلفة أصبح ينظر إليها باعتبارها سبب الأزمات والإخفاقات، بينما الأزمة كامنة في السياسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي نهجتها فرنسا.

ومن ثم فجملة من القضايا ذات الصلة بالهجرة والمهاجرين، والآخر تمثل في الإسلام أو في غيره، والعلاقة مع الشعوب والمجتمعات الأفريقية والشرق أوسطية، إنما هو إفراز لديناميات الإقصاء والاستبعاد الاجتماعي والثقافي والسياسي، تخص فرنسا والنموذج الفرنسي ذا الصبغة الشمولية، ولا تخص هذه المكونات التي وجدت نفسها مستبعدة أو مهمشة.

إن الأزمة الراهنة في الاستقطاب الحاد بين اليمين المتطرف وتكتل اليسار، والمخاوف الناجمة عن إمكانية هيمنة اليمين الشعبوي على السلطة، إنما هو إفراز لحالة القلق التي سادت في فرنسا خلال العقد الماضي. وبدلًا من معالجة الجذور السياسية والثقافية والاقتصادية للمشكلات المعقدة، تم التضييق على أعراضها وتمظهراتها أو نتائجها، بل كان التنافس حادًا في إنتاج خطاب يعمم حالة الخوف المتبادل بين مكونات المجتمع، وقدم قراءة سطحية لجملة من القضايا تستمد أصولها من الأدبيات الثقافية والهوياتية التي يركز عليها اليمين المتطرف.

فالحالة الراهنة هي تجلٍّ للبعد اللاعقلاني في الحياة السياسية بالحالة الفرنسية، ومن ثم فإن أهم الجوانب التي يمكن من خلالها تجاوز تمدد اليمين وسيطرته على السلطة في الانتخابات الراهنة أو المقبلة، إنما يقتضي ضرورة الانزياح إلى الأبعاد العقلانية في الخطاب السياسي داخل فرنسا، والبحث في الجذور السياسية والاقتصادية للأزمات، وليس في التركيز على الجوانب والأبعاد الثقافية والهوياتية.

فالبعد الهوياتي والثقافي بطبعه حين يخضع للتوظيف السياسي، يؤدي إلى إفراز الشمولية والانقسام المجتمعي، بينما يشكل مناخ الحرية والتعددية حالة ثراء مجتمعي. والنخبة الثقافية والإعلامية والسياسية الفرنسية بحاجة إلى الاستثمار في تراث العقل النقدي، وليس الانسياق خلف خطاب يميني يغذي سيكولوجيا الجمهور. كما أن سيطرة الشعارات والعواطف على الخطاب السياسي قد تنتج مأساة مستقبلية، إن لم يكن في الانتخابات الراهنة، ففي المستقبل، سواء في فرنسا أو أوروبا.

ختامًا

نختتم بهذا السؤال المحوري: أي مؤشرات تحملها الانتخابات الفرنسية، وأي أدوار للمكونات من أصول مهاجرة أو للدول العربية والإسلامية نفسها في محاصرة اليمين المتطرف؟

قد يكون التوافق علاجًا مرحليًا لوقف مد اليمين في فرنسا، حسب عدد من المتتبعين للحالة الفرنسية، لكن فرنسا تتجه بخطى ثابتة نحو احتضان اليمين الشعبوي. بيد أن الانخراط الفعلي في عملية إنتاج خطاب سياسي عقلاني قد يجنب فرنسا في الأمد البعيد الوقوع في المأساة أو حصول التراجيديا. لكن انتهازية الفاعلين السياسيين، والتي يمثلها حزب الرئيس الفرنسي في الاستثمار في اليسار لوقف مدّ اليمين بعد أن أخفق في انقسامه، قد تحجم اليمين مرحليًا، لكن ستصنع أزمة عميقة في المدى المستقبلي.

أما في حال حصول اليمين المتطرف على الأغلبية المطلقة في الجولة الثانية، فإن أوروبا ستكون بالفعل قد دخلت مرحلة هيمنة قوى اليمين الشعبوي. لذلك يعتبر اليسار بالنسبة للمتضررين من اليمين المتطرف أفقًا عقلانيًا وبديلًا فعليًا في الحالة الفرنسية، سواء خلال الجولة الثانية من الانتخابات يوم الأحد المقبل 7 يوليو/تموز 2024، أو في عقلنة الخطاب والممارسة السياسية والثقافية فيما سيعقب الجولة الثانية. هذا من الناحية السياسية.

أما مؤسساتيًا، فإن طبيعة النظام السياسي مع الاستقطاب الحاد ستبقي على حالة الاصطفاف، ذلك أن اليمين الشعبوي إذا لم يحصل على المرتبة الأولى، فإنه سيكون القوة الفعلية كتكتل متجانس ثقافيًا وسياسيًا، وهو ما قد يفتقر إليه التوافق بين كتلة ماكرون وكتلة اليسار. فهو توافق قائم على مصلحة مرحلية، لكنه توافق في سياق نسق ديمقراطي، ولعل هذا ما قد يشكل ضمانة للمستقبل، وإن كانت الشموليات في القرن العشرين من إفراز الديمقراطيات نفسها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • الانتخابات الفرنسية.. مأساة فرنسا وكابوس أوروبا الموحدة
  • «تحرير السودان – قيادة عبد الواحد» تؤكد مشاركتها في مؤتمر القوى السياسية والمدنية بالقاهرة
  • نائب يؤكد صحة كتاب رئاسة البرلمان بشأن قرارات مجلس محافظة نينوى الأخيرة
  • قراءة في كتاب: أطروحات ما بعد التنمية الاقتصادية: التنمية حريّة – محمود محمد طه وأمارتيا كومار سن (مقاربة)، (1- 15)
  • أيُّ أفق للانتخابات الرئاسية التونسية في ظل التأسيس الجديد؟
  • أيُّ أفق للانتخابات الرئاسية في ظل التأسيس الجديد؟
  • «البيئية»: إعادة كتاب «الصحة» بشأن الرقابة على المرادم إلى الجهاز التنفيذي
  • دعم المفكرين والمبدعين وتعزيز دور النخب.. أبرز مطالب اتحاد كتاب إفريقيا وآسيا من وزير الثقافة
  • الصراع الحضاري في تاريخ سورية القديم… محاضرة الدكتور عبد الرحمن البيطار باتحاد كتاب حمص
  • قراءة في كتاب: محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان «5- 5»