خلال فصول كتابه "أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي"، الصادر عن دار تنمية للنشر، والحائز على جائزة الدولة التشجيعية في مجال العلوم الاجتماعية في مصر، فرع التاريخ والآثار وحفظ التراث، عام 2023؛ يتناول الباحث المصري "كريم جمال" الحملة التي دشنتها السيدة أم كلثوم في أعقاب هزيمة يونيو/ حزيران 1967.

يتتبع الكتاب رحلات "كوكب الشرق" ما بين المشرق والمغرب، والحفلات التي أقامتها بغرض جمع التبرعات لإعادة بناء الجيش المصري، ما بين عامي 1967 و1972، ورغم ذلك، فإن أهمية الكتاب الحقيقية تكمن في تقديمه سردية عن صمود الإنسان العربي خلال فترة حرجة من عمر الشعوب العربية، مثلما تتيح المادة التاريخية قراءة العلاقة ما بين السلطة والفنان المتمثل في أم كلثوم، والنظر إلى تلك العلاقة من خلال سياق نقدي.

وقد اعتمد الباحث في كتابه على عدة مصادر، أبرزها أرشيف الصحف والمجلات المصرية والعربية، بداية من عام 1967 وحتى عام 1973.

"أبَيت أن أستسلم لليأس بعد النكسة، لم يكن أمامي إلا أحد أمرين: فإما أن ألتزم الصمت وأقبع في ركن من الانهيار النفسي، وإما أن أمضي بسلاحي، وهو صوتي، أبذل ما أستطيع من جهد من أجل المعركة، واخترت الأمر الثاني".

(أم كلثوم، مجلة الهلال، أكتوبر/ تشرين الأول 1971)

ما قبل يونيو 67 والثقة المفرطة (مواقع التواصل)

في الفصل الأول من كتابه، يقدم الكاتب لمحة عن الأوضاع في مصر قبل حرب يونيو/ حزيران 1967 مباشرة، حيث يصوّر مدى إيمان الجماهير العربية بـ"المشروع الناصري"، خاصة مع سيل القرارات الجريئة والواثقة التي اتخذتها القيادة المصرية خلال شهر مايو/ أيار من العام ذاته، مثل إعلان نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، المشير عبد الحكيم عامر، حالة التعبئة العامة ورفع درجة الاستعداد داخل المؤسسة العسكرية، بالتزامن مع إرسال الفريق محمد فوزي، رئيس هيئة أركان القوات المسلحة، خطابا إلى قائد قوات الطوارئ الدولية الموجودة على خط المواجهة بين طابا ورفح، يطلب فيه سحب قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، والمسؤولة منذ عام 1956 عن منع الاحتكاك بين القوات المصرية والإسرائيلية، وأخيرا والأهم قرار إغلاق مضيق العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية.

انعكست هذه القرارات، التي تزامنت مع نبرة خطابية قوية للنظام الناصري، على الشعوب العربية، التي تأهبت لـ"إلقاء دولة الاحتلال الإسرائيلي في البحر"، ولم يكن غريبا أن يتمحور شعار الإذاعة المصرية وقت ذلك حول كوكب الشرق، كي يصبح "أم كلثوم معكم في المعركة"، بنبرة تفيض بالحماس والتفاؤل، إذ إن أم كلثوم التي ظن البعض أن أسطورتها انتهت مع قيام دولة يوليو 1952، بوصفها مطربة العهد الملكي البائد، ما لبثت أن نهضت مثل عنقاء، وأصبحت أحد أعمدة دولة يوليو، ولعبت ذات الدور الذي لم يبلغه أي فنان من قبل.

تسابق الفنانون في إطلاق أعمال فنيّة تدعم حالة التعبئة تلك، خاصة قطاع الموسيقى والغناء، وكان نصيب السيدة أم كلثوم تقديم أغنية "راجعين بقوة السلاح"، كلمات الشاعر "صلاح جاهين"، وتلحين ملحنها الأثير "رياض السنباطي"، فيما طلبت إذاعة الشرق الأوسط من السيدة توجيه بعض النداءات الحماسية للجنود، وقد رحبت السيدة بالفكرة وسجّلت بصوتها 7 نداءات كانت تُبَثّ على مدار اليوم بحسب مجلة الكواكب المصرية، التي ذكرت أيضا أن السيدة صرّحت لمحرر المجلة أن حفلتها القادمة سوف تكون في تل أبيب! كذلك أرسلت أم كلثوم خطابا إلى القيادة العسكرية تطلب فيه السفر إلى الجبهة المصرية ومخاطبة الجنود في أرض المعركة، إلا أن طلبها قوبل بالرفض نظرا لخطورة الموقف.

كان كل شيء حتى ذلك الوقت ينبئ بالثقة والنصر، قبل أن تنكسر الأحلام في مساء التاسع من يونيو/ حزيران، حين طالع عبد الناصر الجماهير، مُقرّا بالهزيمة ومعلنا تنحّيه عن المسؤولية. يسرد الكتاب تفاصيل تلك الليلة في حياة أم كلثوم، ففي اللحظة التي أنهى فيها عبد الناصر خطابه، انسحبت السيدة باكية إلى بدروم فيلتها، الذي كان مجهزا من أجل تجارب أغنياتها، وقضت هناك عدة أيام وحيدة منعزلة، قبل أن تنهض مجددا من الرماد، وبإرادة السيدة الريفية الصلبة تقرر أن ثمة واجبا أخيرا لا بد أن تؤديه.

من دمنهور إلى باريس.. معكم أم كلثوم

ينطلق الكتاب في توثيق أحداث الحملة التي دشنتها السيدة أم كلثوم من أجل دعم المجهود الحربي، والملاحظ أن أولى المبادرات جاءت سريعا يوم 20 يونيو/ حزيران، ولم يكن مرّ أكثر من أسبوعين على الهزيمة، وكانت على هيئة تبرّع بمبلغ 20 ألف جنيه إسترليني، وهو الأجر الذي تلقته السيدة من إذاعة دولة الكويت مقابل بث أغنياتها، ولم يعلم أحد بذلك التبرع إلا بعدما سرّب أحد العاملين في وزارة المالية ذلك الخبر إلى الصحفي موسى صبري في جريدة الأخبار، الذي كتب مقالا تحت عنوان: خذوا القدوة من أم كلثوم.

كان ذلك التبرع هو النقطة التي انطلقت منها أم كلثوم في تقديم الدعم لإعادة بناء الجيش المصري، حيث بادرت بتكوين هيئة التجمع الوطني للمرأة المصرية، وهي الهيئة التي تراوح نشاطها ما بين زيارة الجنود المصابين في المستشفيات والترفيه عنهم، وجمع التبرعات والدعوة إلى ترشيد الاستهلاك ومحاربة الإسراف و"الشائعات"، وأخيرا التواصل على المستوى العربي والدولي بغرض شرح القضية المصرية، وتوضيح خطورة إسرائيل على الأمن والسلام الدوليين.

أما على مستوى حفلات دعم المجهود الحربي، فقد جاءت أولى الليالي في مدينة دمنهور المصرية، وكانت حصيلة الحفل 76 ألف جنيه مصري، ثم تتابعت الحفلات على مدار 5 أعوام بين محافظات مصر، وفي أوروبا، أحيت أم كلثوم حفلتين فوق مسرح الأولمبيا الشهير في باريس، وحفلا في موسكو، كذلك في العديد من الدول العربية، وقد أحيت السيدة الحفلات في 7 دول عربية خلال تلك الفترة، وهي المغرب والكويت والسودان وتونس ولبنان والإمارات وليبيا، وبلغت حصيلة تلك الحفلات نحو 3 ملايين جنيه مصري، ونصف مليون جنيه بالعملة الصعبة، بالإضافة إلى مصوغات ذهبية ومجوهرات.

يسلط الكتاب أيضا الضوء على دور السيدة أم كلثوم الذي تخطى فكرة جمع التبرعات أو التعريف بالقضية المصرية، إلى تحسين العلاقات بين الدولة المصرية ودول أخرى شقيقة. وعلى سبيل المثال، يتطرق إلى توتر العلاقة المصرية-التونسية في تلك السنوات، بعد استقبال مصر الزعيم التونسي "صالح بن يوسف" لاجئا في القاهرة عام 1955. ورغم زيارة عبد الناصر تونس في عام 1963 للمشاركة في احتفالات عيد الجلاء، وزيارة بورقيبة القاهرة عام 1965 وحضوره حفلا أقيم على شرفه أحيته أم كلثوم في دار الأوبرا المصرية، إلا أن ذهاب أم كلثوم إلى تونس في مايو/ أيار 1968 في إطار حفلات دعم المجهود الحربي كان نقطة التحول في مسار العلاقة بين البلدين.

قراءة لما بين السطور

ورغم أهمية الدعم الفوري الذي قدمته السيدة أم كلثوم، فإن النظر بعقلانية وبعيدا عن مشاعر الحماسة الوطنية تدفعنا إلى التفكير في عدم ارتباط هذه المبادرة بأي رؤية نقدية أو مساءلة للسلطة عن أسباب الهزيمة. لقد قدمت أم كلثوم الدعم غير المشروط الذي ترغب فيه أي سلطة، وبالإمكان أن يرى محبو السيدة ذلك التصرف في إطار الظروف والمخاطر المحيطة بقارب الوطن بعد النكسة، بينما في المقابل يطرح الكاتب المصري "حسين الحاج" تساؤلا مهما حول هذا الدعم، وهو: "أم كلثوم معكم في المعركة أم معكم في السلطة؟"، التساؤل الذي ينظر إلى أم كلثوم باعتبارها سلطة تدافع عن ذاتها، قبل كونها مواطنة تسهم في إعادة بناء الوطن!

يشير "الحاج" أيضا إلى لقب "سيدة مصر الأولى" الذي حظيت به أم كلثوم خلال فترة حكم جمال عبد الناصر، ومن المعروف أن هذا اللقب تحظى به عادة زوجات الرؤساء، لكن تواري السيدة "تحية كاظم"، زوجة الرئيس المصري، عن الأضواء مكّن أم كلثوم من الحصول على لقب سيدة مصر، وهو الأمر الذي لم تنله خلال العهد الملكي. وفي السياق ذاته، يشير كريم جمال في الفصل الختامي من كتابه إلى أن أم كلثوم فقدت الكثير من مكانتها الاجتماعية بعد وفاة عبد الناصر وتولي السادات مقاليد الحكم، خاصة مع وجود السيدة جيهان السادات، فيما سرت شائعات في تلك الآونة عن تنافس بين السيدتين حول الأحقية بالدور الاجتماعي ولقب سيدة مصر، التنافس الذي وصل إلى استهداف بعض المبادرات التي أطلقتها أم كلثوم وتجميد مشروعها الخيري الشهير "دار أم كلثوم".

ويرى الكاتب أن رجال العهد الجديد نظروا إلى أم كلثوم باعتبارها المعادل الأنثوي لعبد الناصر، بشعبيته العربية الطاغية وحضوره الكاريزمي، في الوقت الذي استهدفت فيه ثورة التصحيح رموز دولة عبد الناصر. ويرصد الباحث تراجعا واضحا في عدد حفلات المجهود الحربي منذ عام 1971، الأمر الذي لا يمكن وضعه فقط في سياق تدهور الحالة الصحية لأم كلثوم، حيث اقترن ذلك باختفاء تدريجي لأخبار السيدة من الجرائد المصرية منذ عام 1972، إضافة إلى تجاهل مشاركاتها في المجهود الحربي خلال تلك الفترة، رغم وجود بعض الوثائق التي تؤكد استمرار حملة أم كلثوم لما بعد حرب أكتوبر 1973، إلا أن دورها في تلك السنوات مثل المجهود الخفي الذي لا يمكن تحديد حجمه ومقداره مع ندرة المعلومات عنه.

وفي السياق ذاته، يذكر الباحث الحفل الوحيد الذي أحيته السيدة أم كلثوم خلال عام 1972، وهو الحفل الأخير في سلسلة حفلات دعم المجهود الحربي، حيث أقيم بعد رحلة علاجية وفترة نقاهة طويلة قضتها السيدة في منتجع "باد جاشتاين (Bad Gastein)" النمساوي، ورغم أن صحيفة الأهرام المصرية دعت إلى الحفل بوصفه سهرة العروبة الكبرى المرتقبة، مثلما أشرف محافظ القاهرة "إبراهيم بغدادي" شخصيّا على الأمور التنظيمية، فإن الجرائد المصرية لم تقدم أي تحقيق صحفي عن تلك الليلة، ولا يعرف أحد مقدار ما أضافه ذلك الحفل إلى المجهود الحربي.

لا تهاون في حق أم كلثوم

أحد الأمور التي تستحق الثناء في كتاب سنوات المجهود الحربي هو اقترابه من أم كلثوم على المستوى الإنساني، كي نراها ترقص مع فتيات مراكش على نقر الدفوف، أو تندفع وتتشارك الغناء مع منشدي تونس، مثلما تتبادل المزاح مع أحد المعجبين بسرعة البديهة وخفة الظل المعروفين عنها، رغم أن السردية الأساسية للكتاب تنطلق مما تمثله أم كلثوم بوصفها رمزا وأسطورة مهيبة استطاعت بمفردها تقديم العون للدولة المصرية، بل وللأمة العربية أيضا. وعلى سبيل المثال، ما يذكره الباحث عن حفلتي ليبيا اللتين أقامتهما السيدة في طرابلس وبنغازي، بدعوة من عبد الله السنوسي في مارس 1969، فيما وجهت أم كلثوم حصيلة الحفل لصالح الفدائيين الفلسطينيين ومنظمة فتح. وقد غنت السيدة في طرابلس في خيمة جهزتها منظمة فتح، وكان أفرادها يستقبلون رواد الحفل في مدخل السرادق ويُشرفون على تنظيمه، كما ظهر شعار المنظمة خلف السيدة طوال فترة الحفل، وحملت تذاكره عبارة: "لدعم المجهود الحربي وحركة فتح".

هذه الهيئة الأسطورية للسيدة التي تجمّع صف العرب بطريقة لم يبلغها سياسي ولا قائد، لا تنفي كونها إنسانة تثور وتغضب، وتقطع الغناء في حفل بنغازي وتصرخ في وجه أحد الحاضرين: "اخرس، قليل الأدب"، بعد أن تناهى إلى مسامعها كلمة بذيئة من أحد الحاضرين.

أمر مشابه يذكره الباحث على لسان الصحفي المصري "علي السمان" حول رحلة باريس، فقد أقامت السيدة "تحية كاظم" مأدبة عشاء احتفاء بنجاح حفلتي أم كلثوم في العاصمة الفرنسية، وخلال جلسة جمعتها والرئيس جمال عبد الناصر في تلك الليلة، أخبرته أم كلثوم أن السفير المصري، عبد المنعم النجار، لم يكن ضمن مستقبليها في مطار لو بورجيه، ووفقا لرواية علي السمان، فقد نُقِل السفير المصري بعد ذلك بأسابيع قليلة إلى الإدارة الثقافية في الخارجية، عقابا له على تقصيره في استقبال أم كلثوم.

ويُكمل السمان روايته، مؤكدا أن عبد الناصر لم يغضب من السفير حينما أهمل إرسال برقية له، مثل غيره من السفراء، يطلب منه عدم التنحي بعد الهزيمة، لكنه غضب لعدم تقديره للسيدة أم كلثوم، خصوصا أن الرحلة كانت بدافع وطني.

____________________________________________

المصادر:

(1) أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي – كريم جمال – دار تنمية للنشر

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: أم کلثوم فی عبد الناصر فی تلک لم یکن ما بین

إقرأ أيضاً:

السياسة في زمن الرمادة والعته

في زمن الرمادة يصيب القحط كل شيء حتى العقول والألسنة، فتستبدل اللغة الدبلوماسية بلغة جديدة تخرج الكلمات فيها من غير مخرجها الطبيعي. هذه اللغة الجديدة وصفها العرب قديما بأنها "بعرة خرجت من غير مخرجها"، فأحدثت دخانا يحجب الرؤية، ورائحة تزكم الأنوف، فإن كنت جادا في التعرف على هذه اللغة الجديدة فمن فضلك "سد أنفك" واستعد:

اللغة الجديدة اسمها لغة "أولاد الكلب"، والمصطلح الجديد: "أولاد الكلب" هو مفردة من مفردات ثقافة العبث والعته السائدة في مجتمعاتنا، ولكن نظرا لصدوره من مستوى سياسي كبير يحتل "مسمى رئيس" في نظر البعض فإنه قطعا سيسجل في موسوعة "أدب الكلاب" كبراعة اختراع، وسيدون أيضا كمبادرة حرة تدعو إلى السلام ونبذ العنف لدى بعض الأطراف المتصارعة.

- في عالم السياسة دائما يختفي الصدق ويحل محله الكذب.

- وتختفي الصداقات لتحل محلها المصالح.

- وتختفي البراءة وحسن النية ليحل محلها الخبث واللؤم المنمق.

"أولاد الكلب" هو مفردة من مفردات ثقافة العبث والعته السائدة في مجتمعاتنا، ولكن نظرا لصدوره من مستوى سياسي كبير يحتل "مسمى رئيس" في نظر البعض فإنه قطعا سيسجل في موسوعة "أدب الكلاب" كبراعة اختراع، وسيدون أيضا كمبادرة حرة تدعو إلى السلام ونبذ العنف لدى بعض الأطراف المتصارعة
- وتختفي الأحقاد والضغائن لتحل محلها الابتسامات البلاستيكية المصطنعة.

- وتختفي أخوّة الوطن أو أخوة الدين ليحل محلها العناق المتكلف.

- وفي تقاليد وأعراف أولاد الكلب ليس من العار ولا من الجريمة أن تنتقل الإنسانية من صف البشر المكرم إلى صف الوحوش، فهذا تدوير عكسي مستحب ولا بأس به.

يقول خبراء الخيانة والخنوع والذل: إن نظرية "أولاد الكلب" تشكل خلاصة لخبرة أصحابها في عالم السياسة وحنكتهم في عالم الحيوانات المستأنسة والمتوحشة معا.

من أطلق المصطلح وصرح به لم يكن يعبر عن نفسه فقط، وإنما كان مجرد متحدث جريء عن رموز ضالة استطاعوا أن يعقدوا صفقات مع الوحوش وكل حيوانات الغابة؛ يتولون هم بمقتضى تلك الاتفاقيات تدريب الفريسة على استسلام الشجعان حتى تؤكل في سكون وأمان. وضمن مهام أصحاب هذه النظرية الكشف عن كل حر أبي شريف من "أولاد الكلب"، والتحريض عليهم والتعريض بهم وإغراء الأطراف الأخرى بالقضاء عليهم كلما هب هؤلاء بالدفاع عن أهليهم وأرضهم، وكرامة شعوبهم، وحماية أطفالهم، وأعراضهم، ونسائهم.. ليس في غزة وحدها وإنما في عموم الوطن الكبير وربوعه كلها.

يقول الخبراء أيضا: إن نظرية "أولاد الكلب" قناعة جيل جديد من الرموز شديد المكر إلى حد الخبث، لديه حساسية الاستشعار عن بعد ضد كل رجولة وبطولة، فيحدث ضجيجا كلما استشعر في الأمة وعيا أو يقظة، ويطلق مصطلحاته وفق خبرته العبقرية في التحذير عند اكتشاف الرجولة، فيحذر فورا من "أولاد الكلب" الذين يدافعون عن أرضهم وكرامتهم وحياة شعوبهم المسلوبة. ومن ثم يجب أن تكون مواطنا شريفا ومسالما، ولا تقاوم الاحتلال واغتصاب الأرض وحرق البيت والحقل الذي يلغي الوجود ويجلب الجنون والإحباط واليأس، حتى لا تحسب ضمن "أولاد الكلب".

بعض البشر تكاليف الحرية ثقيلة عليهم حتى ليخيل إليك أنهم ولدوا ليكونوا عبيدا، حتى لو وصلوا لقمّة الهرم الاجتماعي مالا وسلطة، فهم دائما يبحثون عن سيد. وهؤلاء عند أصحاب نظرية" أولاد الكلب" هم الأدباء والعقلاء والنبلاء وأهل الذوق الرفيع والمناضلون.

تعبير عن السياسة والعته في زمن الرمادة، وهي تنكيس للفطرة، وتزييف للتاريخ وقلب لكل الحقائق، وذلك كله لا يحرر الأرض، ولا يعلم الجاهل، ولا يطعم الجائع، ولا يفك الحصار عن شعب. والرضا بقلب الحقائق لن يردع الطامع، ولن يحيل سمسار عقارات أو مختل بائع لدينه وأمته إلى حكيم الزمان ولو كان رئيسا لسلطة بائسة أو حتى رئيسا لدولة
وبعض الناس ولدوا أحرارا، فالحرية بالنسبة لهم هي نسيم الوجود وإكسير الحياة، حتى لو بدلوا من سعة الأرض قضبان السجن، فهم يعيشون دائما أحرارا ولو كانت القيود والأغلال في أيديهم وأعناقهم. وهؤلاء هم "أولاد الكلب" عند أصحاب هذه النظرية.

ووفقا لنظرية أولاد الكلب فإن المفاهيم في نظرهم يجب أن تصحح:

- فالقاتل مثلا لا يجب أبدا أن يحاكم.

- والضحية يجب أن يلام.

- ومن العار أن يفلت المقتول من العقاب لمجرد أنه خسر وجوده في تلك الحياة.

والخلاصة:

إذا كانت السياسة في نظر البعض تعني فن الكذب، وتجيد تغليف الشر بغلاف مزركش بحيث يبدو مغريا ومثيرا، فإنها تطورت في أساليب الخداع والتمويه وتجريف العقول فسوغت وسوقت مفهوم الأضداد، فصورت حالات القتل الجماعي بأنها إفراط في القوة، وأطلقت على الثوار الأحرار وطلاب الحرية وصف المتمردين، وصنفت كل مقاومة وطنية شريفة بأنها إرهاب، ووصفت الملتزم بدينه بأنه متشدد، ومن يحافظ على هويته ويلتزم بالحلال في طعامه وشرابه بأنه انعزالي يجب أن يراقب. وظهرت بوضوح في الأزمة الحالية في غزة صورة الخذلان المخزي من كل شعوب العالم الإسلامي.

وهكذا تستعمل المصطلحات المضللة في عكس معناها. وهذا الخداع ليس جديدا، فقد نبه إليه مفكرون كثر، منهم العالم النابه سعيد النورسي حين قال: "لقد وضع الظلم على رأسه قلنسوة العدالة، ولبست الخيانة رداء الحمية، وأطلق على الجهاد اسم البغي، وعلى الأسر اسم الحرية، وهكذا تبادلت الأضداد صورها".

كما عبر عنها المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي بقوله: "مصطلحات السياسة لها معنيان، أحدهما معناها المعجمي المتعارف عليه، والثاني معناها الذي يخدم استراتيجية الأقوى، ومن ثم فالحرب هي السلام، والحرية هي العبودية، والجهل هو القوة". وهكذا تتبادل الأضداد أدوارها.

إن نظرية "أولاد الكلب" تعبير عن السياسة والعته في زمن الرمادة، وهي تنكيس للفطرة، وتزييف للتاريخ وقلب لكل الحقائق، وذلك كله لا يحرر الأرض، ولا يعلم الجاهل، ولا يطعم الجائع، ولا يفك الحصار عن شعب. والرضا بقلب الحقائق لن يردع الطامع، ولن يحيل سمسار عقارات أو مختل بائع لدينه وأمته إلى حكيم الزمان ولو كان رئيسا لسلطة بائسة أو حتى رئيسا لدولة.

مقالات مشابهة

  • من الست إلى روكي الغلابة.. هيمنة نسائية على بطولات أفلام 2025
  • «أبوظبي الدولي للكتاب» يطلق إصدار «أم كلثوم.. من الميلاد إلى الأسطورة»
  • الكيمياء تفكك شفرة الذهب الأسود الذي حنط المومياوات المصرية
  • السياسة في زمن الرمادة والعته
  • المجد للبندقية التي حرست المواطن ليعود الى بيته الذي كانت قحت تبرر للجنجويد احتلاله
  • ممثل الجامعة العربية بمجلس الأمن: دعم كامل للخطة المصرية والعربية لإعادة إعمار غزة
  • دنابيع السياسة العربية.. من دنبوع اليمن إلى دنبوع فلسطين
  • الماضي الذي يأسرنا والبحار التي فرقتنا تجربة مُزنة المسافر السينمائية
  • هل يجوز صيام الست من شوال في ذي القعدة؟.. الإفتاء: بحالة واحدة
  • وزير الخارجية والمغتربين السيد أسعد حسن الشيباني يلتقي في مدينة نيويورك السيدة كارلا كينتانا رئيسة المؤسسة المستقلة المعنية بالأشخاص المفقودين في الجمهورية العربية السورية.