عن ثورة المعرفة وسبل الارتقاء بالكتاب العربي والثقافة
تاريخ النشر: 2nd, September 2023 GMT
لم تعد لعملية طباعة ونشر الكتاب وقراءته في غالبية الدول العربية أهمية تذكر، ولم يعد الكتاب خير جليس، فثمة عوامل عديدة أدت إلى تدني مستوى نشاط دور النشر العربية وكذلك انخفاض طباعة الكتب بشكل ماثل، ناهيك عن تراجع نشاط الترجمة التي يعتبر وسيلة التواصل مع الدول والحضارات والشعوب والاطلاع على ثقافاتها .
معطيات وحقائق مثيرة
هناك عوامل كثيرة أدت بمجملها إلى تراجع دور الكتاب العربي وتالياً ارتفاع منسوب الجهل بالثقافة بمفهومها الواسع، ولا أقصد هنا مستوى التعليم، ومن العوامل التي دفعت بهذا الاتجاه خلال العقود الثلاثة الأخيرة الثورة المعرفية المتسارعة والانتشار الكبير والواسع لوسائل التواصل الحديثة من الهاتف المحمول وفيسبوك وتيوتر ويوتيوب وتيكتوك وغيرها، وقد استأثرت بنسبة كبيرة من الوقت للتواصل والتعلم أحياناً، لكن عملية الترفيه (حسب متابعاتنا اليومية) كانت الحاضر الاكبر عند غالبية الشرائح الاجتماعية في الوطن بغض النظر عن مستويات التعليم .
من المؤكد تحسن معدلات ونسب السكان العرب الذين يستخدمون أجهزة الحاسوب وشبكة الأنترنت العالمية ووسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك أجهزة الاتصالات الحديثة؛ وتشير الحقائق والدراسات إلى أن الكتاب العربي بات يواجه أزمات حقيقية في مستويات النشر والقراءة والترجمة على حد سواء، وكل الدلائل تؤكد أنه على الرغم من الارتفاع الكبير في مجموع سكان الوطن العربي الذي وصل إلى (423) مليون نسمة خلال العام الحالي 2023، إلا أن بلداً مثل هولندا أو البرتغال، يطبع في كل منها كتباً أكاديمية وأدبية وعلمية أكثر من ما يطبع في الدول العربية مجتمعة، وبذلك يعتبر الوطن العربي من أقل الأقاليم في العالم المنتجة للكتب بصنوفها المختلفة مقارنة بعدد السكان. وتكون الصورة أكثر سوداوية عند الإشارة إلى مجموع الكتب المترجمة إلى لغات عديدة على مدار العام مقارنة ببعض الدول الأوروبية، ودول أمريكا اللاتينية أيضاً.
لم تعد لعملية طباعة ونشر الكتاب وقراءته في غالبية الدول العربية أهمية تذكر، ولم يعد الكتاب خير جليس، فثمة عوامل عديدة أدت إلى تدني مستوى نشاط دور النشر العربية وكذلك انخفاض طباعة الكتب بشكل ماثلأشارت دراسات متخصصة إلى أن الدول العربية مجتمعةً أنتجت خمسين ألف كتاب خلال العقد الأخير، بواقع خمسة آلاف كتاب سنويا؛ أي بمعدل (11،5) كتاب لكل مليون مواطن عربي خلال العام. في مقابل ذلك استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية التي يصل مجموع سكانها إلى (300) مليون نسمة إصدار أكثر من (300) ألف كتاب؛ أي أن كل مليون مواطن أمريكي يصدرون (1017) كتاباً، إضافة إلى ذلك يعتبر الطفل العربي أقل مستوى من نظرائه في العالم في مجال القراءة، حيث أكدت دراسات أن الطفل العربي يقرأ لمدة سبع دقائق خلال العام، في حين يقرأ الطفل الأمريكي لمدة ست دقائق يومياً، وقد تكون المستويات أعلى من ذلك في دول العالم التي تبوأت مراتب متقدمة في تقارير التنمية البشرية الصادر خلال العقد الاخير ، مثل اليابان وكندا والدول الاسكندنافية .
سبل الارتقاء بالكتاب العربي
من خلال المعطيات السابقة، تعتبر الدول العربية من أقل الدول انتاجاً للكتب؛ إذ يشكل العرب حوالي خمسة في المائة من مجموع سكان العالم؛ في حين لا تتجاوز نسبة إنتاجهم من الكتب واحد في المائة من مجموع الإنتاج العالمي للكتب، وتشير معطيات إلى أن النسبة تختلف مع الكتب الدينية والتراثية، حيث تبلغ نسبتها 17 في المائة من مجموع الإنتاج العربي. وتعتبر نسبة الكتب في ميادين العلوم الاجتماعية والأدب والفن ضئيلة جداً.
واللافت أنه في نهاية عقد التسعينيات من القرن الماضي لم تنشر الدول العربية مجتمعة ً إلا (1945) كتاباً أدبياً وفنياً؛ كما أن الناشرين يعتمدون سياسة التنويع في إصداراتهم، وقلما توجد دور نشر متخصصة في مجال معين، كما تصل نسبة النشر الموزعة على أنواع الكتب: أدب (20) في المائة، إسلاميات (15) في المائة، كتب أطفال (3)في المائة، ثقافة عامة (8) في المائة، سياسة (6) في المائة شعر (8) في المائة، علوم اجتماعية (5) في المائة.
تعتبر الدول العربية من أقل الدول انتاجاً للكتب؛ إذ يشكل العرب حوالي خمسة في المائة من مجموع سكان العالم؛ في حين لا تتجاوز نسبة إنتاجهم من الكتب واحد في المائة من مجموع الإنتاج العالمي للكتب،وجميع النسب لا يمكن الاعتماد عليها كثيرا؛ حيث يجب أن ترصد مؤسسات الجامعة العربية ذات الصلة بالبحث والدراسة اتجاهات تطور صناعة الكتاب في الدول العربية وتوصيف معوقاته ، وفي ظل شلل دور الجامعة العربية ؛يمكن أن يقوم بهذا الدور مراكز بحث عربية أخرى وصولاً الى تسجيل توصيات من شأنها الارتقاء بانتاج الكتب العربية والترجمة أيضاً.
ثمة معوقات يمكن أن يلمسها أي متابع تحول دون عدم تطور طباعة الكتب والنشر والترجمة في الدول العربية، من أهمها، عدم إيلاء النظم العربية أهمية خاصة لدور الكتاب في نشر الوعي بين أفراد المجتمع والقدرة على رفع الأداء في المستوى الاجتماعي والاقتصادي للمساهمة في بناء الحضارة الإنسانية؛ واللافت أن هناك تراجعاً حقيقياً قد حصل في أداء دور النشر في الدول العربية منذ مطلع التسعينيات من القرن العشرين، بسبب انخفاض الطلب على الكتاب من قبل أفراد المجتمع، حيث بات الاعتماد الكبير على شبكة الانترنت ومحركات البحث للحصول على أية معلومة في الأدب والسياسة والاقتصاد والعلوم والتاريخ والثقافة ، وذلك على الرغم من صدقية الكتاب الذي يصدر عن دار نشر أو مراكز بحث علمية وفق أصول ومنهجية معينة، في حين تشير الحقائق إلى وجود قرصنة كبيرة في المواقع الإلكترونية دون الرجوع إلى صاحب الدراسة أو البحث أو الكتاب أو المقالة.
كما إنه مع تزايد انتشار الفضائيات وتطور أدائها وتنوعها، ازداد اهتمام المواطن العربي بالشاشة الصغيرة، وباتت مصدره الملهم في الثقافة والسياسة والاقتصاد والعلوم والرياضة والفن والتاريخ وحتى الفكر. ولهذا أصبحت الشاشة الصغيرة بمثابة مصدر المصادر للمواطنين العرب في شرائحهم الاجتماعية والاقتصادية المختلفة، الأمر الذي أدى إلى تراجع دور المكتبات وريادة التجمعات والأندية الثقافية التي كانت سائدة في الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم في دول عربية عديدة، وبات الشح في اقتناء الكتب سيد الموقف، بيد أن ذلك لم يمنع من ظهور مثقفين كبار وعلماء في مجالات الكيمياء والطب والهندسة والأدب ايضاً، واستطاعوا الحصول على جوائز دولية قيمة ولها مكانة استثنائية.
يمكن الجزم بأن أزمات مستعصية باتت تواجه الكتاب العربي في ظل ثورة المعلومات والبث الفضائي وانسيابهما بشكل سريع، وقد تركزت تلك الأزمات في النشر بفعل غياب برامج الدول والموازنات الخاصة للثقافة ونشرها من خلال المساعدة في نشر الكتاب وتوزيعه بأقل الأسعار حتى يصل إلى كل مواطن عربي للإفادة منه.
وقد رافق ذلك تردي واضح في عملية الترجمة والتواصل مع دول العالم لإيصال صورة العرب الحقيقية ودورهم في بناء الحضارة الإنسانية على كافة الصعد. ولايمكن تعزيز انطلاقة جادة للكتاب العربي وتعميمه في ظل قبضة النظم العربية الشمولية، ولهذا فإن هدف الثورات العربية لم ينحصر فقط في تحقيق العدالة والكرامة للمواطن العربي، بل تعدى ذلك لتحقيق مساهمة نوعية في بناء الأوطان ولعب دور جوهري في صناعة الحضارة البشرية وتطورها؛ وهنا نستحضر أهمية تنشيط دور النشر في صناعة الكتب وترجمة البعض منها بهدف التواصل الحضاري.
*كاتب فلسطيني مقيم في هولندا
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الكتاب العربية تراجع كتاب تراجع عرب أسباب رياضة سياسة سياسة صحافة صحافة سياسة مقالات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی الدول العربیة الکتاب العربی دور النشر فی حین
إقرأ أيضاً:
بين أحلام ترامب والإرادة الفلسطينية والموقف العربي
ما زال صدى أحلام ترامب وطموحاته في احتلال غزة وتحويلها إلى «ريفييرا» الشرق الأوسط محل جدل عالمي واسع؛ فأجمع كل العالم بما فيهم ساسة أمريكيون على عدم منطقية هذه التصريحات التي تخرج من لسان رئيس الولايات المتحدة الأمريكية التي تعكس عزيمة على تنفيذ أكبر تطهير عرقي - بعد نكبة 1948- عبر إجبار أصحاب الأرض على النزوح، وتتوجه الأنظار - في هذه القضية - إلى دول عربية مجاورة أدخلها الرئيس الأمريكي في حسابات هذا المشروع الاحتلالي الجديد الذي يأتي هذه المرة بلباس أمريكي خالص بعد فشل تنفيذه بواجهة إسرائيلية، فيعد إقحام دول عربية مثل جمهورية مصر العربية والمملكة الأردنية الهاشمية في هذه المعادلة لتوفّر مساحات جغرافية بديلة تحوي النازحين الغزيين بمثابة تهديدات وجودية تطال دولا عربية كبيرة، وكذلك اقتراح رئيس وزراء الكيان الصهيوني في مقابلة معه تخصيص مساحة من أراضي المملكة العربية السعودية لتكون وطنا بديلا للفلسطينيين؛ لتضاف مع المحاولات الصهيونية الخطيرة التي تخفي في كواليسها مخططات أكبر تعقيدا من المسألة الفلسطينية، ولهذا؛ فإن موقف الدول العربية - حتى اللحظة - كان واضحا وصارما رافضا لكل هذه المقترحات الاستيطانية الرامية إلى صناعة نكبة جديدة كبرى تمسح الوجود الفلسطيني الجغرافي.
حتى اللحظة، لم تتجاوز رغبات ترامب وأحلامه الرامية إلى احتلال غزة وطرد أهلها حدود لسانه التي لم تسلم من تهديداتها دول كبرى أخرى مثل كندا ودول أمريكا اللاتينية التي يمكن أن نراها من زاوية أخرى - غير سياسية - تعكس شخصية ترامب التجارية المرتبطة بنفوذه السياسي الكبير عبر فلسفة التفاوض الابتزازي برفع مستوى الطلبات إلى درجات غير معقولة لإجبار الطرف الآخر للرضوخ إلى مستويات أقل تحقق أهدافا منشودة للطرف الأول، وكأن الرجل يبحث عن وسيلة - وإن غاب عنها المنطق والعقل - في ترجمة طموحه السابق بجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى عبر سياسة العصا، ولكن المؤشرات تجزم أن مساره الحالي وتهديداته بمعاقبة المختلف معه بجانب الكيان المحتل وتهديداته باحتلال الدول الأخرى لن تجلب للولايات المتحدة المجد المنشود، وإنما ستجلب سخط دول العالم الحر وشعوبه الواعية، وتأتي غزة وكل فلسطين في مقدمة هذه الدول والشعوب الرافضة لنقص السيادة والمتمسكة بالأرض والوطن، فتأتي رسائل المقاومة الفلسطينية واضحة بأنها لن ترضخ لأي تهديد أو إغراء يحاول أن يمس من حريتها وأرضها، ويضاف مع هذا الصمود الفلسطيني الموقف العربي المشرّف الذي خرج من خارجيات معظم الدول العربية بما فيها سلطنة عُمان التي أكدت على موقفها الثابت غير المتزعزع بحق الشعب الفلسطيني في تحقيق وجود أرضه ودولته المستقلة ورفضه لكل أنواع الاحتلال والقهر الذي يمارسه الكيان، ويأتي الموقف المصري - بجانب المناورات الأردنية المناوئة لخطة التهجير رغم الضغوط الأمريكية - سادًّا كل هذه الأحلام برفضه القاطع لأي محاولة لإخراج الشعب الفلسطيني من أرضه، وكذلك أظهر بيان الخارجية السعودية موقفه القوي الرافض لهذه الطموحات ليعبّر عن توافق عربي مطلوب يمكن أن يسد الطريق على الأحلام الصهيونية، ولا غرو أن الدول العربية - حكومات وشعوبا - مدركة أيما إدراك مخاطر هذا المشروع الذي - إن نُفّذ - لن يقف عند أهداف محو القضية الفلسطينية، ولكنه سيمتد إلى دول عربية أخرى داخلة في حسابات المعادلة الصهيونية.
لعلّ مثل هذه الأحداث وما تحويه من تهديدات أمريكية لمنطقة الشرق الأوسط بأجمعها مدعاة إلى توجيه العرب إلى مسار أكثر حزما في التعامل مع مجموعة من المسائل أولها قضية فلسطين وأرضها المحتلة وشعبها المظلوم، ومسألة اعتبار الكيان المحتل عدوا لا يمكن قبول أيّ طريق للسلام والتطبيع معه، ومسألة تصحيح الوحدة العربية وتوحيد كلمتها فيما يخدم مصالحها لا مصالح غيرها الذي يقود إلى إعادة النظر في مستويات علاقات الدول العربية مع الدول المعادية لمبادئ سيادتها ومصالحها وأولها الولايات المتحدة الأمريكية التي آثرت أن تكون في صف الكيان المحتل بكل عنجهية وغرور دون أيّ مبالاة لمصالحها مع الدول العربية ومستقبل علاقاتها معهم؛ ليفتح هذا المشهد تساؤلات كثيرة عن التوجّه العربي في علاقاته مع الولايات المتحدة في ظل تنامي هذا العداء ولغة التهديد، والبدائل المحتملة الممكنة للتحالفات الاستراتيجية الأكثر أمانا واستقرارا مع دول أكثر قدرة على ممارسة الاحترام المتبادل وفق سياسة المصالح المتبادلة التي تحفظ للدول وشعوبها حقوقها وسيادتها. لا أستبعد أن مثل هذه التساؤلات وحلوها المقترحة محل طرح متزايد في أروقة مؤسسات صناعة القرار العربية، فلم تعد تحتمل المنطقة المزيد من الاحتقانات السياسية والصراعات العسكرية وتصاعد وتيرة التهديدات التي باتت تطال معظم دول الشرق الأوسط.
علينا أن نعي مغزى المقولة التاريخية: «أُكِلت يوم أُكِل الثور الأبيض»، فتعكس رمزية هذه السردية واقعا يمكن أن تعيشه كل أمم الأرض بما فيها الحيوانات والبشر؛ لتجسّد معنى أن يتخلى العرب عن قضايا داخلية مهمة - مثل قضية فلسطين - وأن نبحث عن قوتنا خارج سربنا - العربي - الذي يحتوينا حتى وإن تطلب ثمنه أن تكون التضحية بقضية من أهم قضايا أمتنا ظنا من بعضنا أننا سنحقق بعض المصالح والمنافع، ولكن في واقع الأمر - كما يؤكد التاريخ وتجاربه - سيكون مثل الذي يحفر قبره بيده، ليكتشف أنه بدأ بحفر قبره منذ أول خطوة يخطوها خارج سربه الذي ينتمي إليه. يهمني أمن وطني واستقراره، وكذلك يهمني أمن إخوتي العرب - دولا وشعوبا - واستقرارهم؛ فما سيضرهم سيمتد ضرره إليّ بشكل مباشر أو غير مباشر، ولا سبيل لتجنّب مثل هذا الضرر إلا عن طريق الوحدة وتوحيد الجهود التي نضمن بها القوة، وتأتي الجهود في وجوه كثيرة بعضها عاجل مثل مواجهة التهديدات التي تطال ما تبقى من الأراضي الفلسطينية وسيادة دول شقيقة مثل المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية اللتان بذلتا وما تزالان تبذلان جهودا لا يمكن إنكارها لأجل القضية الفلسطينية، وهناك وجه آخر للجهود التي نحتاج أن نعمل عليها - وسبق طرحها مرارا وتكرارا - تتمثل في التنمية التعليمية وتطويرها والاقتصادية والصناعية عبر آلية التعاون المشترك اللامحدود لبناء القدرات العلمية والصناعية التي ستضمن استقلالا عربيا صناعيا واقتصاديا وعسكريا.