قاسم مشترك واحد بانقلابات إفريقيا.. ما علاقة فرنسا؟
تاريخ النشر: 2nd, September 2023 GMT
في غرب إفريقيا، تستمر قطع الدومينو في التساقط.
فلم يمر أكثر من شهر تقريباً منذ أطاح الحرس الرئاسي في النيجر بحكومة البلاد المنتخبة ديمقراطياً، الأمر الذي أدى إلى اندلاع مواجهة متوترة بين المجلس العسكري الغاصب والمجتمع الدولي، حتى أطاح كبار الضباط في الغابون بالرئيس علي بونغو الذي يحكم البلاد منذ فترة طويلة في أعقاب انتخابات مثيرة للجدل.
ويعدّ هذا الانقلاب السابع في المنطقة في غضون 3 سنوات، بما في ذلك الانقلابات في مالي وبوركينا فاسو وغينيا.
كما أدت موجة الانقلابات العسكرية إلى شعور واسع النطاق بالقلق من أن شكلاً من أشكال العدوى السياسية يهدد بزعزعة استقرار منطقة كاملة من القارة الإفريقية.
وبينما هناك العديد من الاختلافات بين الانقلابات المتعددة، إلا أنها تشترك جميعها في قاسم مشترك واضح لا مفر منه، وهو انتشار المشاعر المعادية لفرنسا والتي أدت إلى رفض الوضع السياسي الراهن.
سفير فرنسا في النيجر بلا حصانة.. واجتماع أفريقي مرتقب بشأن الغابونففي قسم كبير من غرب أفريقيا، تمثل فرنسا القوة الاستعمارية القديمة، خصوصاً في بوركينا فاسو ومالي، حيث اضطرت قوات حفظ السلام الفرنسية إلى الانسحاب بعد أن أوضح المجلس العسكري أن وجودها بات غير مرغوب فيه، وفقا لصحيفة "واشنطن بوست".
وفي النيجر أيضاً، التي كانت لفترة طويلة محور جهود فرنسا لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل المضطربة، كثرت الخطابات المناهضة لفرنسا، إلى أن أمر المجلس العسكري في البلاد الشرطة بطرد السفير الفرنسي، وهي خطوة قال مسؤولون في باريس، التي تعترف فقط بسلطة الرئيس محمد بازوم، إنهم لا يعتبرونها شرعية.
أما بالنسبة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فلا بد أن الوضع محير بشكل خاص.
فخلال زياراته المتعددة إلى إفريقيا خلال فترة وجوده في منصبه، ألقى خطابا تلو الآخر مشيدا بقدوم علاقة جديدة مع القارة، علاقة من شأنها أن تبدد أعباء الماضي الثقيلة. وفي عام 2017، دعا ماكرون في عاصمة بوركينا فاسو إلى تجديد "الشراكات" مع المنطقة، معربا عن آماله في الاستثمار في تعليم وتطلعات شباب القارة.
وقبل نصف عام، خلال رحلة شملت التوقف في الغابون، أعلن ماكرون أن "أيام فرنسا الأفريقية قد انتهت حقا"، في إشارة ضمنية إلى تاريخ طويل من إعطاء فرنسا الأولوية لمصالحها التجارية ودعم الأنظمة البغيضة في بلادها.
ومع استمرار تصاعد التوترات بشأن ما يجب فعله بشأن المجلس العسكري في النيجر، تحدث ماكرون أمام تجمع من الدبلوماسيين الفرنسيين وأعرب عن أسفه لـ "وباء" الانقلابات الذي يعصف بالمنطقة.
النساء يتقدمن المطالبات بخروج فرنسا من النيجرلهذا السبب، على حد قوله، كان على حكومته أن تدافع عن الديمقراطية الوليدة في النيجر.
وبعد أقل من 48 ساعة، وقع الانقلاب في الغابون، وبرر الانقلابيون تحركهم بأنه رد على الانتخابات المتنازع عليها التي جرت نهاية الأسبوع الماضي والتي شهدت مطالبة بونجو، الذي تتولى عائلته السلطة منذ أكثر من نصف قرن، بولاية جديدة.
المصالح أولاًووفقاً لتقرير فرنسي، فإن الانقلاب في الغابون أدى إلى إضعاف موقف فرنسا في موطنها الإفريقي القديم، حتى لو كان الوضع مختلفاً في هذا البلد الواقع وسط القارة، والذي حكمته عائلة بونجو لأكثر من 5 عقود، موضحا أن باريس تريد أن تصدق أن الجنود الذين يقفون وراء الانقلاب لا يشاركون الخطاب المناهض لفرنسا مع نظرائهم في النيجر، بحسب صحيفة "اللوموند".
فرنسا تنتقل من خانة الحليف إلى موقع العدو بعد انقلاب النيجرختاماً، يتساءل بعض المحللين عما إذا كان الأمر يستحق أن تحافظ فرنسا على بصمتها، رغم أنها لم تعد اللاعب الاقتصادي المهيمن في المنطقة، ففي الغابون مثلا، حلت الصين محلها كأكبر شريك تجاري، وهي تعمل في مجال جيوسياسي مزدحم يضم قوى عالمية مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين وتركيا. و آخرين.
ليكون بإمكان الانسحاب من أفريقيا وفق الآراء، أن يقلل من مكانة فرنسا العالمية، حتى لو أن باريس حقيقة تملك الكثير من نقاط القوة لديها أولويات أخرى من شأنها الحفاظ على مصالحها عبرها.
مادة إعلانية تابعوا آخر أخبار العربية عبر Google News فرنسا إفريقياالمصدر: العربية
كلمات دلالية: فرنسا إفريقيا المجلس العسکری فی الغابون فی النیجر
إقرأ أيضاً:
الشمس والظلام وبينهما أفريقيا
تأخذ رواية “اللقالق لا تموت” للكاتب الكونجولي ألان مابانكو القارئ في رحلة عبر التاريخ الإفريقي المثقل بالمآسي والمؤامرات، حيث تتشابك الأحداث السياسية والقصص الشخصية لتعكس واقع القارة الذي لا يزال يعاني من إرث الاستعمار والاستغلال. منذ البداية، تهيمن رمزية الطيور البيضاء المحلقة، المستوحاة من قصيدة “اللقالق المحلقة” لرسول حمزاتوف، التي كتبها أثناء زيارته لساحة السلام في هيروشيما، أمام تمثال الطفلة ساداكو ساساكي، التي صنعت طيور الكركي الورقية قبل وفاتها بسبب آثار القنبلة النووية. تتحول هذه الصورة إلى استعارة تمتد على صفحات الرواية، حيث يعتقد الكاتب أن أرواح القادة المغتالين والمجاهدين الذين سقطوا دفاعًا عن أوطانهم لا تفنى، بل تظل تحلق في سماء إفريقيا كما تحلق اللقالق فوق روسيا تخليدًا لجنودها.
لكن الرواية لا تكتفي بهذه الرمزية، بل تغوص في عمق التاريخ الإفريقي، مستعرضة سلسلة طويلة من الاغتيالات السياسية التي نفذها الاستعمار الغربي أو دُبرت بأيادٍ إفريقية مأجورة، بدايةً من عام 1947 حين أطلق المجاهد عبد الكريم الخطابي عبارته الشهيرة “ليس في قضية الحرية حل وسط”. في هذا السياق، يظهر القائد الكونجولي ماتسوا الذي خدم في الجيش الفرنسي وتم تكريمه بالسجن والأشغال الشاقة حتى وفاته، في مفارقة تعكس كيف تعامل المستعمر مع من خدمه. عام 1958، اغتيل روبين أم نيوبي في قريته بواسطة جندي أسود يدعى بول أبدولاي، الذي كافأته فرنسا بوسام، ليكون ذلك نموذجًا للأسلوب الذي اعتمدته القوى الاستعمارية في تصفية خصومها. وفي عام 1960، اغتيل فليكس موممبي مسمومًا في سويسرا على يد المخابرات الفرنسية، بينما كان من أبرز دعاة التحرر والاستقلال. في العام نفسه، وقعت واحدة من أكثر الاغتيالات شهرة ووحشية، حين قُتل باتريس لومومبا بأيدٍ إفريقية وبإشراف مباشر من الاستخبارات الأمريكية والبلجيكية، حيث أطلق عليه الرصاص بغزارة حتى لم تُترك منه جثة يمكن التعرف عليها. أما في 1963، فقد شهدت توجو اغتيال أول رئيس منتخب للبلاد، سيلفانوس أولمبيو، ليكون ذلك بمثابة بداية لسلسلة من الاضطرابات التي لم تتوقف. عام 1965، اغتيل المناضل المغربي المهدي بن بركة في عملية تعاونت فيها أجهزة المخابرات الفرنسية والإسرائيلية والمغربية، ولم يُعثر على جثته حتى اليوم، فيما كان أحد المتهمين في قضيته، الجنرال أوفقير، يحاول لاحقًا تبرئة نفسه عبر انقلاب فاشل. ثم في 1973، تم اغتيال أميلكار كابرال، الأب الروحي لاستقلال غينيا بيساو والرأس الأخضر، على يد أعضاء من حزبه بتواطؤ من البرتغال وغينيا كوناكري، حيث أخفى الرئيس أحمد سيكو توري آثار الجريمة. في العام نفسه، اغتيل المعارض التشادي آوتل بونو في باريس، وفي 1977، اغتيل الرئيس الكونجولي ماريان نجوابي، وهو الحدث الذي تشكل حوله الرواية محورًا رئيسيًا لاستكشاف العنف السياسي في القارة.
وسط هذا المشهد الدموي، تأخذ الرواية بُعدًا إنسانيًا عبر شخصية ميشيل، الصبي ذو الثلاثة عشر عامًا، الذي يعيش مع والديه في قرية فونجو، حيث يرصد تفاصيل الحياة اليومية لأبناء القرى الإفريقية البسيطة، بين مسكنهم الفقير، ومأكلهم المتواضع، والعلاقات الاجتماعية التي تعكس تكافلًا يمتزج بالمعاناة. لكن حياة القرية هنا ليست مجرد خلفية للأحداث، بل إسقاط على واقع الكونجو، التي بدورها تصبح مرآة لما تعانيه إفريقيا بأسرها من فقر، وجوع، ومرض، وأمية، وكلها ظواهر لم تأتِ من فراغ، بل كانت نتيجة مباشرة للسياسات الاستعمارية التي استنزفت القارة لعقود طويلة.
على امتداد الرواية، تبرز إشكالية العلاقة بين المستعمر والمستَعمَر، حيث لم يكن الاحتلال مجرد نهب للثروات، بل كان أيضًا غرسًا عميقًا للمهانة والعبودية في نفوس الشعوب الإفريقية، كما زرعوا أشجار التوليب الإفريقي في أرضهم. يتجلى هذا بوضوح في اقتباس من الشاعر فيليس ويتلي، الذي يصور كيف ادعى المستعمرون أنهم أخذوا الأفارقة من الظلام إلى النور، مدعين أنهم علموهم الرحمة والمسيحية، بينما في الحقيقة لم يكن ذلك سوى غطاء لاستعبادهم ونهب خيراتهم. هذه الجدلية بين الظاهر والمضمر، بين ادعاء التحضر وممارسة القمع، تتكرر في أكثر من موضع بالرواية، وكأن الكاتب يؤكد أن تاريخ إفريقيا لم يكن سوى سلسلة من الخيانات، ليس فقط من القوى الاستعمارية، ولكن أيضًا من بعض أبناء القارة الذين تعاونوا معهم ضد بني جلدتهم.
الرواية، رغم أنها تغوص في التاريخ، لا تقدم سردًا تأريخيًا جافًا، بل تطرح رؤية نقدية بأسلوب روائي مشحون بالرمزية والعاطفة، يعكس براعة ألان مابانكو في تحويل الأحداث السياسية إلى مادة أدبية آسرة. بأسلوبه الساخر واللاذع، يعيد طرح الأسئلة الكبرى حول المصير الإفريقي، والتدخلات الخارجية، ودور الأفارقة أنفسهم في واقعهم المؤلم، حيث لم يكن المستعمر دائمًا هو من يطلق الرصاصة، بل كثيرًا ما كانت الأيادي الإفريقية هي التي ضغطت على الزناد. الرواية، بهذا الشكل، لا تكتفي بتقديم مأساة تاريخية، بل تحرض القارئ على التفكير في الحاضر، وربما في المستقبل، حيث لا تزال إفريقيا تئن تحت وطأة ماضٍ لم يُطوَ بعد.
الكاتب ألان مابانكو، المولود عام 1966 في جمهورية الكونجو، يعد من أبرز الأسماء الأدبية الإفريقية المعاصرة، إذ تمكن من تقديم صورة عميقة لإفريقيا، ليس فقط من خلال التاريخ، بل عبر تصوير الواقع الاجتماعي والسياسي بأبعاده المختلفة. بعد أن درس الحقوق في فرنسا، اتجه إلى الأدب ليصبح من أكثر الأصوات الروائية تأثيرًا، حيث تتميز أعماله بأسلوب يجمع بين السخرية اللاذعة والنقد العميق للمجتمعات الإفريقية، سواء في ظل الاستعمار أو بعد الاستقلال. حصل على العديد من الجوائز الأدبية، منها جائزة رينودو المرموقة عن روايته “ذكريات تمساح سيئ الحظ”. ومن أبرز أعماله الأخرى “الأزرق والأبيض والأحمر” و“الليل لا يُفضي إلى النهار”، حيث يتناول في معظم كتاباته قضايا الهوية، والصراعات السياسية، والإرث الاستعماري، مستعينًا بلغة أدبية تمزج بين الواقعية والرمزية، ليعكس من خلالها تجربة القارة الإفريقية بعيون أبنائها.