بعد مرور أكثر من أربعة أشهر، شهدت فيها الخرطوم حملة تخريب لم تعرف مثلها في تاريخها، واستبيحت عدة مدن أخرى، وارتُكبت جرائم حرب عديدة تجاه المدنيين، قدّمت قوات الدعم السريع يوم الأحد 27 أغسطس/ آب مقترحاً عنونته بـ "رؤية للحل الشامل وتأسيس الدولة السودانية الجديدة". وهي رؤية تأتي منقطعة السياق، لا تتلاءم مع تاريخ "الدعم السريع"، ولا مع واقع الحرب الدائرة.
قدّمت "رؤية الحل الشامل" تحليلها لحرب 15 أبريل أنها "امتداد لحروب السودان التي حاولت فيها فئات أو جماعات من أطراف السودان تغيير السودان إلى الأفضل سلماً، لكن قادة الدولة، الذين ظلوا باقين ومستمرّين في الحكم بالقوة، واجهوهم بالعنف، ظنّاً منهم بأن القضايا يمكن أن تنتهي بهزيمة المتمسّكين بها". وهو تحليل قد يبدو، للوهلة الأولى، سليماً، لكن الرؤية تجاهلت أن قوات الدعم السريع أنشئت لمواجهة محاولات التغيير إلى الأفضل بالعنف، ومن أجل استمرار السلطة بالقوة. لم تكن هذه المليشيا، في أي وقت منذ أسسها نظام الرئيس السابق عمر البشير، إلا سلاح السلطة الموجّه ضد المدنيين والمعارضين. وتلقت مقابل ذلك تمويلاتٍ وتسهيلاتٍ مكّنت قيادتها من احتكار عديدٍ من موارد البلاد وثرواتها. وهو ما تجاوزته رؤية "الدعم السريع"، وهي تتحدّث عن احتكار السلطة والثروة، مطالبة بـ "تصفية النزعات الاحتكارية غير المشروعة للسلطة والنفوذ، سواء كانت أيديولوجية راديكالية، أو حزبية أو أسرية أو عشائرية". تجاهلت "الرؤية" أن طبيعة مقدّمها تتعارض مع هذا المطلب، وأن قوات الدعم السريع ذاتها يجب أن تكون أحد المستهدفين بتصفية نزعاتها الاحتكارية غير المشروعة، والقضاء على وضعها المشوّه الذي يجعلها مليشيات شبه رسمية، وملكية خاصة لشخص، في الوقت نفسه.
تحاول رؤية "الدعم السريع" للحل أن تتجاوز حقيقة نزعات المليشيا ومالكها الحصري الفريق أول محمد حمدان دقلو حميدتي إلى السلطة، من أجل إعادة تقديمها فصيلاً سياسياً سودانياً يسعى إلى حل سلمي ديمقراطي، حتى إنها تحذر من إغراق العملية السياسية بـ "القوى المعادية للديمقراطية"، من دون أن تحسب نفسها ضمن هذه القوى، كأنها لم تعمل على إعاقة التحوّل الديمقراطي لمّا كانت تحمي نظام البشير، ولا عملت على إعاقته، عندما شاركت الجيش في السلطة الانتقالية منذ إبريل/ نيسان 2019، وصولاً إلى انقلاب 25 أكتوبر 2021.
أتت رؤية "الحل الشامل" بعد انتهاكات وجرائم ارتُكبت، وما زالت تُرتكب، ضد المدنيين، من قتل وتهجير واعتداء جنسي وسرقات. لذلك تجاهلت الحديث عن المحاسبة، لكنها اهتمت بعملية "إعادة تسويق" المليشيا للمجتمع الدولي أحد مؤسّسي السودان الجديد والجيش الجديد. وهي معضلة لا يمكن تجاوزها مهما اجتهدت المليشيا، إذ لا يمكن بناء سودانٍ جديدٍ بلا محاسبة على الجرائم. ولا يمكن الحديث عن المحاسبة من دون توجيه أصابع الاتهام إلى قوات الدعم السريع، سواء في ماضيها في حرب دارفور التي خاضتها تحت ظل تحالفها مع الجيش ضد قوات الحركات المسلحة، أو حاضرها في حرب الخرطوم، مروراً بدورها، مع الجيش السوداني، في إجهاض التجربة الديمقراطية، وقتل المعتصمين والمتظاهرين، في اعتصام إبريل وبعد انقلاب أكتوبر.
تقول "رؤية" قوات الدعم السريع للحل الشامل إن "المدخل الصحيح لتحقيق السلام المستدام في السودان هو إنهاء وإيقاف العنف البنيوي الذي تمارسه الدولة ضد قطاعات واسعة من السودانيين، لا سيما في أطراف السودان"، من دون إشارة إلى إنها إحدى أدوات هذا العنف، وأنها ما زالت تمارسه لحسابها هذه المرّة لا لحساب الدولة، ضد السودانيين في الأطراف وفي العاصمة.
ويأتي هذا التجاوز والتجاهل في سياق محاولة "الدعم السريع" البحث عن قضية ومشروعية للحرب السلطوية التي يخوضها الفريق أول حميدتي في مواجهة حليفه وشريكه القديم الفريق أول عبد الفتاح البرهان قائد الجيش. وهي محاولة لم تنجح، وفي الغالب لن تنجح في المستقبل.
نقلا عن العربي الجديد
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: قوات الدعم السریع
إقرأ أيضاً:
هل تنجح مساعي البرهان في تطويق الدعم السريع بمنطقة الساحل؟
في سابقة هي الأولى من نوعها، قام رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان بجولة دبلوماسية في غرب أفريقيا شملت مالي، وغينيا بيساو، وسيراليون، واختتمت بكل من موريتانيا والسنغال.
تأتي هذه الجولة، التي انتهت في 14 يناير/كانون الثاني 2025، في خضم العديد من التطورات التي شهدتها الساحة السودانية على المستوى السياسي والميداني، حيث سبقها إعلان واشنطن فرض عقوبات على قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) بتهم ارتكاب "إبادة جماعية" في إقليم دارفور.
كما تزامنت الزيارة مع انتصارات متتابعة للجيش السوداني توجت باستعادة السيطرة على ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة الإستراتيجية.
وخلال لقائه بالجالية السودانية في محطته قبل الأخيرة بنواكشوط، أوضح البرهان أنه قدّم شرحا للقادة في دول غرب أفريقيا، وأبلغهم أن السودان "يواجه غزوا واستعمارا جديدين"، وأن "قوى استعمارية جديدة تقف خلف الدعم السريع، وتدعمها بالمال والسلاح والمرتزقة"، وأكد أن الشعب السوداني سيقاتل هذه المليشيات مهما بلغ الدعم المقدم لها من هذه القوى.
وبينما يذهب بعض المراقبين إلى أن هذه الزيارة تمثل انفتاحا سودانيا على العمق الأفريقي بعد عقود من التركيز على العلاقات مع العالم العربي، يرى آخرون أن هذه الجولة تندرج في إطار رغبة البرهان في إقامة نوع من التوازن في العلاقات الأفريقية، من خلال تطوير الروابط مع غرب القارة في ضوء العلاقات التي تربط الدعم السريع مع عدد من دول الشرق الأفريقي كإثيوبيا وكينيا وغيرهما.
إعلان 3 عصافير بحجر واحدتأتي هذه الجولة امتدادا لزيارة سابقة قام بها الفريق شمس الدين الكباشي نائب رئيس مجلس السيادة السوداني إلى كل من مالي والنيجر في يونيو/حزيران الماضي، حيث تركزت جهوده على شرح أبعاد الحرب و"انعكاساتها على دول المنطقة" وبحث سبل التعاون مع دول الساحل الأفريقي في "مكافحة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود".
ويرى الكاتب السوداني والباحث في الشؤون السياسية محمد المبروك أن البرهان يحاول اصطياد عدة عصافير بحجر واحد، في إطار ما سمته الدولة بتصفير العداد مع الدول ذات الصلة بالحرب في السودان.
ويقول المبروك في تصريحه للجزيرة نت إن أول أهداف البرهان من هذه الزيارة يتمثل في "تجفيف منابع المرتزقة الأفارقة القادمين للقتال في السودان، حيث إن العديد من التقارير الموثوقة وذات المصداقية تتحدث عن قدوم هؤلاء المقاتلين من بعض الدول التي شملتها الزيارة".
ويعتقد العديد من المتابعين أن الجانب الأمني والعسكري هيمن على الجولة، بالنظر إلى الوفد المرافق للبرهان، والذي شمل مدير جهاز المخابرات العامة الفريق أول أحمد إبراهيم مفضل، ومدير منظومة الصناعات الدفاعية الفريق أول ميرغني إدريس، ووكيل وزارة الخارجية حسين الأمين.
بيان مجلس السيادة بقيادة البرهان (يسار) أكد دعم رئيس مالي للسودان في مواجهة ما يتعرض له (الأناضول)كما أن هذه الزيارة تعد فرصة لتطوير السودان شراكات أمنية من خلال عرض رؤيته فيما يتعلق بالدعم السريع كمشروع لا يهدد السيادة الوطنية للسودان فقط، وإنما هو قابل للتحول إلى مهدد أمني لدول الجوار والساحل التي تضم امتدادات للمكونات الاجتماعية الفاعلة في تلك المليشيا، وهو ما قد يشجع على توظيفها من قبل القوى التي عانت من هزائم جيوسياسية في منطقة الساحل لضرب التحالف الثلاثي (مالي، بوركينا فاسو، النيجر) الذي يرتكز في خطابه على أولوية السيادة الوطنية في مواجهة القوى الاستعمارية.
إعلانوأكد بيان لمجلس السيادة الانتقالي في السودان دعم رئيس مالي آسيمي غويتا للسودان في مواجهة ما يتعرض له، لافتا إلى أن هناك "جماعات إرهابية ومرتزقة من دول عدة تعمل على زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة"، مشيرا إلى استعداد بلاده للتنسيق مع السودان لمحاربة الجماعات الإرهابية ورغبتها في تبادل الخبرات معه.
أما الهدف الثاني فيتعلق -وفقا للمبروك- بحشد الدعم على المستويين القاري والدولي، من خلال الدعوة لعودة السودان إلى الاتحاد الأفريقي، حيث إن موريتانيا التي ختم بها البرهان جولته تترأس الدورة الحالية للمؤسسة القارية، في حين أن سيراليون تشغل منصب عضو غير دائم في مجلس الأمن وقادرة على دعم الموقف السوداني من هذا المنبر العالمي.
وقرر الاتحاد الأفريقي تجميد عضوية السودان بالتكتل القاري في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2021، بعد يومين من فرض رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان "إجراءات استثنائية" منها حل مجلسي السيادة والوزراء الانتقاليين واعتقال وزراء وسياسيين وإعلان حالة الطوارئ، ورغم تكرار القيادة السودانية تطلعها إلى إنهاء التجميد فإنها جوبهت بالرفض.
تحالف مقرب من روسيااهتمام البرهان بمالي والنيجر وبوركينا فاسو يفسره للجزيرة نت الصحفي المختص بالشأن الأفريقي محفوظ ولد السالك بأنه متعلق بالحضور الروسي القوي في هذه الدول، في ظل التقارب الحاصل بين موسكو والخرطوم.
وشهدت العلاقات الروسية السودانية تطورا ملحوظا مؤخرا، حيث أعلن ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية ومبعوث الرئيس الروسي للشرق الأوسط وأفريقيا، في زيارة إلى بورتسودان في أبريل/نيسان العام الماضي، دعم بلاده لسيادة السودان والشرعية القائمة، ورفض التدخلات الأجنبية في شؤونه ومخططات تمزيقه.
وهو تفسير يوافقه فيه المحلل السياسي السوداني محمد تورشين الذي يرى في مقال له أن جولة البرهان تشير إلى انحياز السودان بشكل واضح للمحور المدعوم من روسيا في أفريقيا، مشيرا إلى أن السودان في سعيه لتعزيز هذه العلاقة يبدو أنه سيصبح جزءا من التحالف الروسي في القارة.
إعلانفي حين أن زيارة مالي تحديدا تحمل رسائل واضحة بأن السودان يدعمها في مواجهة العقوبات الدولية وضغوط الاتحاد الأفريقي، والعمل على دفع المؤسسة القارية إلى إعادة عضوية السودان والدول التي تم تعليق عضويتها مثل مالي. وإذا فشل هذا المسعى -يعتقد تورشين- فإن هذه الدول قد تتجه إلى تشكيل تحالف أفريقي جديد خارج مظلة الاتحاد الأفريقي، كما حدث مع تحالف دول الساحل الثلاثي.
وعقب نهابة الجولة فرضت وزارة الخزانة الأميركية في 16 يناير/كانون الثاني 2025 عقوبات على البرهان متهمة الجيش السوداني تحت قيادته بارتكاب هجمات مميتة بحق المدنيين ومنع وصول المساعدات الإنسانية واستخدام الغذاء سلاحا.
حالات الاغتصاب والعنف الجنسي سجلت ضمن انتهاكات الدعم السريع في شرق الجزيرة وسط السودان (مواقع التواصل) الجولة من الضفة الأخرى للنهرفي النظر إلى ردة فعل الأطراف المستضيفة لهذه الجولة يشير بعض المتخصصين في شؤون غرب أفريقيا إلى وجود مزاج مرحب بالسودان، حيث رفعت بعض القنوات الإعلامية في المنطقة فور إعلان الزيارة عبارة "Accueillir ne suffit pas"، وتعني باللغة العربية "الترحيب لا يكفي"، وهي جملة غالبا ما ترددها بعض النخب السياسية في الغرب الأفريقي كلما قصدتهم قيادة سياسية تحظى بالقبول الشعبي والنفسي، لكن محفوظ ولد السالك يرى أن الدول التي شملتها زيارة البرهان لا تمتلك سوى التعبير عن الاستعداد للعمل من أجل إنهاء الحرب.