هل يتغيّر مفهوم أتباع الأحزاب السودانية لصالح مفهوم الدولة الحديثة؟
تاريخ النشر: 2nd, September 2023 GMT
الشعب السوداني من أكثر شعوب المنطقة حديثا عن التحول الديمقراطي إلا أن جبار الصدف يقف له بالمرصاد و يغيّب على الدوام الشخصية التاريخية القادرة على مفارقة العقل الجمعي الكاسد و فتح خط فكري جديد يجسر ما بيننا و مفهوم الدولة الحديثة و ممارسة السلطة بالمعنى الحديث.
مثلا في المجتمعات الحية نجد أن الفلاسفة و الاقتصاديين و السياسيين لهم القدرة و التأثير على السياسيين و خلق علاقة المتغير المستقل فيها الفلسفة السياسية و الاقتصاد مع جعل علم الاجتماع بعد معرفي جديد في صميم الديالكتيك لمجابهة هموم مجتمع حديث تمسك مشاكله بتلابيب بعضها البعض كما يقول ريموند أرون و لكن تسوقها معادلة الحرية و العدالة.
لهذا نجد السياسي في المجتمعات الحية متغير تابع لمتغير مستقل و هم علماء الاجتماع و الاقتصاديين و المؤرخيين غير التقليديين في مجابهتهم للظواهر الاجتماعية. نضرب مثلا على تغير السياسيين لنشاطهم المتعلق بتأسيس دولة حديثة و ممارسة سلطة في مجتمع حديث بسبب جهود علماء الاجتماع و الاقتصاديين و الفلاسفة.
منذ منتصف ثلاثنيات القرن المنصرم أو ما يقارب قرن من الزمن وصلت الأحزاب الشيوعية في الغرب الأوروبي و بفضل تقدم الفكر الذي يقدمه علماء الاجتماع و الاقتصاديين و الفلاسفة الى أن نمط الانتاج الرأسمالي لا يمكن المغالطة فيه كما يفعل الشيوعي السوداني الآن بنسخته الشيوعية السودانية المتحجرة و نؤكده بتطور الفكر في الاحزاب الشيوعية في الغرب و كذلك الأحزاب الاشتراكية في تيقينها من نمط الانتاج الرأسمالي مثلا في فرنسا لم يتردد فرانسوا ميتران في تطبيق فكرة الحد الادنى للدخل و هي فكرة كينزية من صميم أفكار جون ماينرد كينز.
لكن لابد من توضيح أن أغلب المفكريين في الغرب و هم على قدرة على التأثير على السياسيين نجد مثلا ريموند أرون فيلسوف و مؤرخ و عالم اجتماع و اقتصادي و لهذا السبب نجدهم لهم القدرة على إقناع السياسي بتغير مفهومه فيما يتعلق بالفكرة عن الدولة الحديثة و السلطة في المجتمع الحديث و هذا هو البعد الغائب في مجتمعنا السوداني.
أغلب الأحيان نجد من يهتم بالدراسات الاجتماعية يجهل النظريات الاقتصادية و تاريخ الفكر الاقتصادي و تجد المؤرخ السوداني تقليدي للغاية يجهل الفلسفة و الاقتصاد و علم الاجتماع و تجد أحسن اقتصادي سوداني يتبع لأحزاب الطائفية لأنه يجهل علم الاجتماع و أفكار فلاسفته بأن الايمان التقليدي كما هو سائد في احزاب الطائفية و أتباع المرشد لا يمكن أن يسمح بظهور فكر عقلاني يفارق الفكر الديني السائد في أحزاب الطائفية و هو ذو علاقة عكسية في ظهور نظم سياسية عقلانية تستطيع ترسيخ نمط الانتاج الرأسمالي.
لأن الرأسمالية عقلانية و دليل ماكس فيبر على عقلانيتها لأنها لم تظهر و تترسخ في المجتمعات التقليدية حتى اللحظة و لهذا يتضح لنا عدم عقلانية كل اقتصادي يصر على تبعية فكر أحزاب الطائفية.
و مسألة أن يكون اقتصادي سوداني يصر على أن يكون من أتباع الطائفية سببها تاريخنا الاجتماعي و الاقتصادي الذي لم يستطع الفكاك من ثقافة الاسرة الجذعية و هي ثقافة تجعل اكبر مفكر سوداني و أكبر اقتصادي سوداني لا يلاحظ أن إتّباعه و خضوعه للمرشد أو الامام أو الختم هو دليل على غياب الفكر العقلاني الذي يدلنا على الرأسمالية و نمط إنتاجها.
و بالتالي يفتح لنا الطريق لضخ فكر ليبرالي يخدم الصعد السياسية و الاقتصادية في زمن أصبح فيه خطاب الدين الطائفي لم يعد ذو بعد بنيوي في السياسة و الاقتصاد و الاجتماع و لكنها ثقافة الأسرة الجذعية و هي ثقافة تجر أكبر اقتصادي سوداني و أكبر مفكر سوداني أن يخدم سلطة الأب و ميراث التسلط و هي تتجسد في الامام و المرشد و الختم أو الأستاذ الشيوعي.
و بالتالي يصبح طموح الاقتصادي السوداني في أحزاب الطائفية بعد فوز حزبه الطائفي أن يكون وزير اقتصاد أما منصب رئيس الوزراء قطعا سيكون للامام و كأن الاقتصادي السوداني التابع لأحزاب الطائفية يردد سخرية الحيران أي طلاب المسيد دجاجة سمينة تغدي فكينا و خروف جربان للحيران. و هذا هو اقتصاد المسيد و عقل الخلوة و قد رسخته الحركة الاسلامية في أفقار الشعب السوداني خلال ثلاثة عقود بائسة تمثل عقل رجال الدين في السودان حيث كانت في زمن الكيزان الدجاجة السمينة للفكي أي الكوز و الخروف الجبران للحيران أي الشعب السوداني في ظل حكم الكيزان.
من هنا نقول مسألة تحول المفاهيم تحتاج لزمن طويل اذا لم نقل أن استقرارا سياسيا في السودان سيطول إنتظاره في ظل نخب سودانية ما زالت تخدم بإخلاص أسرة المرشد و الامام و الختم و قولنا أن الانتظار سيطول لأن تغيير الأفكار و التحول الهائل في المفاهيم يحتاج على أقل شئ ثلاثة عقود و في ظل نخب تشعر أن هناك لحظة إنحطاط و محاولة مفارقتها و الدخول لموعد مع التاريخ و موعد مع الحضارات و مثلهم غير موجود وسط النخب السودانية الفاشلة اليوم.
لهذا يمكننا القول سيكون حال النخب و لكلكتهم على ما هم عليه أفق المنشاط الفكرية الى حين ظهور أجيال جديدة تنعتق من ثقافة سلطة الأب و ميراث التسلط التي رسخت لفكر يجعل النخب السودانية لا يتحرجوا من أن يكونوا أتباع أحزاب الطائفية و المرشد و أتباع الشيوعية السودانية و بالتالي يندر بينهم وجود الأقلية الخلاقة القادرة على مفارقة العقل الجمعي الكاسد.
مثلا مدرسة الحوليات ظهرت مع ظهور الكساد الاقتصادي العظيم و لكن حتى تستقر أفكارها و تصبح أفق السياسيين في فرنسا إحتاجت لثلاثة عقود و خلالها قد أصبح السياسي الفرنسي متغير تابع لمتغير مستقل اي الفيلسوف و عالم اجتماع و الاقتصادي والمؤرخ غير تقليدي.
بدأت مدرسة مدرسة الحوليات بشعار لا لماركس و لا لماو و لا لأرنولد توينبي و لا للمسيح. ريموند أرون قال عندما تخرخ من الدراسة متفوق على سارتر أحس بأنه يجهل الكثير أو أن هناك الكثير الذي يغيب عن فكره و في حقيقة الأمر إحساسه بأنه يشك في معرفته لأن زمانه كان مفصل زماني إنتهت عنده فلسفة التاريخ التقليدية و بدأت فيه فلسفة التاريخ الحديثة.
و لهذا كان معذب بإحساس أنه لا يمتلك أي قدر من المعرفة و كان هذا نفس زمن ظهور مدرسة الحوليات و رفضها للمنهجية التاريجية و الوضعية و بالتالي لم يعد علم اجتماع دوركهايم و أفكار أوجست كونت ذات أهمية و من هنا كانت بداية ريموند أرون مع علم اجتماع ماكس فيبر.
لهذا نقول أن حال السودان و نخبه يشبه حال فرنسا في عام 1930 حيث ظهرت مدرسة الحوليات و ظهرت فلسفة التاريخ الحديثة في فكر ريموند أرون و لهذا قلت أننا نحتاج لثلاثة عقود لظهور أجيال جديدة يجتاحها إحساس ريموند أرون و صدقه في أن للزمن مفاصل و بالتالي أن فلسفة التاريخ التقليدية قد طوت أوراقها و غابت في سجل النسيان.
و لكن إنتبه أيها القارئ هذه الثلاثة عقود القادمة ستكشف ضعف و عجز النخب السودانية التي أفشلت ثورة ديسمبر كثورة شعب متقدم على نخبه و كثير منهم ستكون نهايتهم مأساوية و على أقل تقدير سيكتشفوا خواءهم أي كل فرد من بينهم و علاقته بحيز الفكر حيث أضاعوا ثورة ديسمبر بعقلهم عقل الحيرة و الإستحالة لأنهم جميعا أبناء ثقافة عربية إسلامية تقليدية قد أصبحت حضارة بلا لسان في زمن الحداثة.
بعد ثلاثة عقود سيرتفع مستوى الوعي و حينها سيصبح في حيز الفكر تحول في المفاهيم يسمح بإدراك أن الديمقراطية تعني البديل للفكر الديني و أن الديمقراطية تعني المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد و عندما نقول الديمقراطية نعني الديمقراطية الليبرالية بشقيها السياسي و الإقتصادي و ستأتي أجيال بأحزاب جديدة تغير مفهوم أتباعها لصالح معنى و مفهوم الدولة الحديثة و تفارق مفهوم النخب السودانية الفاشلة التي لم تستطيع تجاوز مفهوم البوتقة الصاهرة و قد إختنقوا داخلها كدورق تجربة فاشلة لم تقدم غير نخب فاشلة و أفشلهم الهووي الصاخب و هو يقدس الهوية و يجهل أدبيات الحرية.
عندما نقول على مدى الثلاثة عقود القادمة ستأتي أجيال على بالنا تغير مستوى الوعي بسبب التقدم التكنولوجي لجيل ثورة ديسمبر و قد فاجاء الكيزان بثورة ديسمبر المجيدة كذلك تطور العالم من حولنا سينقل مستوى الوعي لمستوى أعلى و حينها لا تجد المدافعين عن ثقافة عربية إسلامية تقليدية كحال نخب اليوم الفاشلة غير القادرة على إستيعاب أهمية عقلنة الفكر و علمنة المجتمع و كله بسبب غياب الأقلية الخلاقة.
عندما يظهر في ساحتنا السودانية بعد ثلاثة عقود من يكون مثل ريموند أرون فهو فيلسوف و عالم إجتماع و مؤرخ و إقتصادي حينها يستطيع المفكر التأثير في السياسي السوداني و يجبره على تبني فكره كما قبل فرانسوا ميتران كإشتراكي بنمط الإنتاج الرأسمالي بل قد أدخل المقطع الرأسي أي الحد الادنى للدخل و هي روح فكر الديناميكية الكينزية في وقت نجد نخبنا السودانية الى اللحظة منخدعة بفكر المفكر المنخدع بماركسية ماركس و لهذا تجد في السودان حتى غير الشيوعي يعتقد بأن الإشتراكية هي القادرة على تحقيق العدالة و هيهات و نقول أن الفكر الليبرالي وفقا لمعادلة الحرية و العدالة هو أقرب الطرق لتحقيق العدالة و معلوم في الفكر الليبرالي أن الحرية يتم توازنها على أساس ألا تفتح المبالغة في العدالة إلا فتح الباب لنظم شمولية كماركسية ماركس التي لا تجذب غير المثقف المنخدع.
taheromer86@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: اجتماع و الاقتصادی الدولة الحدیثة القادرة على ثلاثة عقود أن یکون
إقرأ أيضاً:
مفهوم الفلسفة.. أفكارٌ واستعمالات
آخر تحديث: 7 نونبر 2024 - 11:30 صحازم رعد حينما يطلق مفهوم الفلسفة من أي مفكر، أو قائل، أو حتى كاتب، فإن هناك على الأقل ثلاثة من الاستعمالات ينضوي عليها هذا المفهوم، بمعنى آخر أنه يمكن توظيف تلك الاستخدامات كمعبر وحكاية عن هذا المصطلح في الواقع من خلال تتبع دلالاته التي يمكن استشفافها منه. فالاستعمال الأول الذي ينضوي على مصطلح الفلسفة هو للتعبير عن تاريخ الفلسفة.وفي تاريخها نبحث عن زمان نشأتها الأول والجغرافيا التي بدأت منها والمحركات “الدوافع” التي حفّزت إلى ظهور هكذا لون من الدراسات والمعرفة، وهل كانت الحاجة إلى خطاب ورؤية عن العالم، ما دفع إلى ذلك أم هو تداول الآراء بشأن النمو الاقتصادي والسياسي أو أن الحوار الإنساني هو الحافز لذلك، ومن ثم فإن محركات فعل التفلسف كثيرة، وكل واحدة منها ترتبط بوقائع معينة وبظروف محددة كانت بمثابة المقدمات التي هيأت هذا الحقل المعرفي الكبير الذي يكاد أن يقال عنه بأنّه يختزل تاريخ البشريّة بأسرها.
فتاريخ العالم هو تاريخ الفلسفة، وتاريخ الفلسفة من دون تفلسف لا يعدو كونه معرفة بماضي جثث الفلاسفة مثل “اسمائهم، بلدانهم، ألقابهم، حياتهم، وسيرتهم، وأفكارهم” غير أننا في تاريخ الفلسفة لن نتمكن من الكشف عن الواقع أو تحليل معطى من معطياته، ولا حتى يمكننا فهم الحاضر والوقوف على حقيقته، ولا نتمكن من أن نكوّن رؤية عامة عن الكون والحياة والعام. إنّنا في تاريخ الفلسفة نقتصر على تقليب سجل أحداث الماضي على الرغم من أهمية هذا التاريخ في تعزيز تجربتنا وخبرتنا المعرفيّة وفهمنا للمنهج الفلسفي العام الذي من خلاله تطال الأشياء، والكيفيّة التي بها نتوثب على تحليل مشكلة، كما أن هذا التاريخ ينمي لدينا الحس النقدي، فمطارحة الأفكار والمقارنة بينها تنمي هذه النزعة، وكذلك لغتنا الفلسفيّة.
أما الاستعمال الثاني، فهو التعبير عن عملية “التفلسف” أو كيفية التفكير التي يمارسها الإنسان، والتي تبرز من خلال احتكاكه بأعراض الواقع وأشيائه وأحداثه، وهذا بطبيعته يفرض على الإنسان مشكلات جديدة، وأوجه عمل مختلفة تدعوه للتفكير فيها والبحث المعمّق عن الأسباب والدوافع وإيجاد حلول لها.
هذا التفكير هو بطبيعته تفلسف، أو خلال نظره بالأشياء وإجراءات التأمل والتحليل والنقد والمراجعات، بمعنى أنّ هذا الاستخدام يجعل منها كيفية في التفكير وطريقة لفهم الواقع في مختلف مستوياته السياسية والاجتماعية والأخلاقية والرؤيوية، فالتفلسف فعل يمارس كلما دعت الحاجة، وكلما حصلت الدهشة، وكلما أثارت العقل حادثة أو واقعة أو حفّزته مشكلة لحلها. هذه الطريقة لها خصوصيات تميزها عن غيرها من حيث طرق التفكير، فهي عقلية ومجردة من المسبقات، ولا تكتفي بجواب واحد عن الاشكالات والتساؤلات، فهي دائمة البحث والفحص والتقصي طلباً للمزيد من الحلول والإجابات.
أما الاستعمال الثالث، فيعنى بقيم الفلسفة أو بمفاهيم ناتجة عنها، إن الفلسفة لا تقتصر على تاريخها “الذي هو مجموعة الأفكار والنظريات والتساؤلات التي طرأت في ظروفها الخاصة ووقتها في التاريخ الذي جاءت فيه، واستلزم من الفلاسفة ابتكار وإبداع تلك الأفكار والنظريات”. وهنا ينبغي القول إنّ لكل زمان فلسفته، وهي بالتأكيد ناتجة عن وعي ومشكلات وتساؤلات ذلك الزمن في راهنيته. فهذه الفلسفة في جانب كبير منها قيم ومبادئ وطرق تفكير وممارسة، لا سيما أن هناك قيماً كلية للفلسفة تشمل كل زمان ومكان. فهي مجاوزة للتاريخ من قبيل العقلانيّة والكيفيّة في التفكير “الاستقلالية والتجرّد” والاعتراف وقبول الآخر والتسامح وغيرها من مفاهيم تعبر عن نواتج وثمار للفلسفة، وهي قيم ومبادئ تسود في كل التاريخ من دون استثناء، لأنّها قوام التفكير الفلسفي الذي لا يخلو منها على الاطلاق.
ولكن غالباً ما يلاحظ على المهتمين أو المشتغلين في هذا الحقل المعرفي المهم أنّهم يتمسّكون بأولى تلك الجوانب، وهو تاريخ الفلسفة ويمعنون النظر فيها ويطالعونها معتقدين أنّها تفلسف أو أنهم فلاسفة أو متفلسفة أو حتى مشتغلين بالفلسفة، وبذلك يتناسون الجانبين الآخرين المهمين في الفلسفة، وهما “التفلسف – التفكير” وقيم ومفاهيم “نواتج الفلسفة”.
وجاء الاستعمال الرابع تعبيراً عن رؤية المجال العام من “الفعاليات السياسية والأنشطة الاجتماعية المختلفة” بوصفها فلسفة. إذ يتشكل على وفق مساحة حرة من الحوار والنقاش الحر والهادف والبناء الذي تتكافأ فيه فرص طرح الآراء وإبداء وجهات النظر بين الذوات المجتمعة في ذلك الفضاء كفلسفة، بل لعل مشغل الفلسفة الأول في التاريخ اليوناني كان وليد اللحظات النقاشية التي جرت في الساحات العامة “الاغورا”، وكانت تفضي إلى أفكار وآراء بخصوص اهتمامات متنوعة “سياسية واقتصادية وفكرية” قائمة على الاستدلال، حيث كان الأخير نتاج “العقل الحر” الذي يقدم إسهاماً نظرياً لتدبير وتنظيم الواقع.
وأنا ممن يرى إمكانية أن تعرف الفلسفة لا سيما في مرحلتنا الراهنة من التاريخ بأنها “التفكير في المجال العام”، أي النظر العقلي بتلك القيم والاعتبارات التي تمس حياة الذوات وتلتحم مع معيشهم المشترك نظير النشاطات السياسية والاحتجاجات وطلب الحقوق والمساواة فيها والاعتراف وغيرها من مفاهيم أخرى، وكل ذلك يندرج تحت استعمال الفلسفة، فيصح أن يقال إن التفكير داخل المجال العام هو فلسفة، لأنه يولد رؤية عن ذلك المجال، وأنه استعمال فلسفي بامتياز.
وهناك استعمال خامس لمفهوم “فلسفة” وهو استخدام أكاديمي، بمعنى أنه يستخدم كإطار مرجعي منهجي يزين شهادات التخصص التي تمنح لطلبة العلم من الذين اجتازوا مرحلة الدكتوراه، فتعد هذه المرحلة بأنها “فلسفة” في أي تخصص أو حقل معرفي سواء كان اجتماعيا أم تطبيقيا، نظراً لما تقتضيه تلكم المرحلة من تفكير مختلف عن السائد والمألوف، فهو تفكير أكثر عمقاً وبحثاً في جوانب دقيقة في التخصص.
وفي هذا الأمر دلالة على أن التفكير الفلسفي يختلف تمام الاختلاف عما سواه لشموليته وموضوعيته وعقلانيته، ولذا، يمكن اعتبار أن واحدة من أسباب منح “درجة الدكتوراه في هذا الشأن” هي من باب التيمُّن بكون الفلسفة أم العلوم. فالمتعارف عليه أن جميع العلوم والتخصصات العلمية والاجتماعية، خرجت من تحت عباءة الفلسفة، فحتى التاريخ الذي بدأت فيه العلوم بالانفصال عن أمها “الفلسفة” كانت الفلسفة قبل ذلك أماً للعلوم جميعاً. ولعل هناك استعمالات أخرى لهذا المفهوم، لأنه ينفتح على مجالات عديدة، وهذا يدل على تشعب المفهوم وتنوع دلالاته.. الأمر الذي يدفعنا للبحث بشكل أكثر دقة في تشعباته والوقوف على المزيد من فهمه وإدراك معانيه.