صحيفة الأيام البحرينية:
2025-01-09@00:58:33 GMT

قراءة في رواية «عندما بكى نيتشه»

تاريخ النشر: 2nd, September 2023 GMT

قراءة في رواية «عندما بكى نيتشه»

«عندما بكى نيتشة» رواية من تأليف الطبيب النفسي إرفين يالوم، أستاذ التحليل النفسي في جامعة ستانفورد، والذي تعمد إيصال أفكاره النفسية لتلاميذه بالأسلوب الروائي الفلسفي. إذ تعد هذه الرواية إحدى رواياته الخيالية العميقة، والتي تجمع بين الرؤية النفسية والفلسفية، وقد اختارلها شخصيات مهمة في تاريخ الفلسفة وعلم النفس، كالفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، والدكتور جوسيف بروير، المشهور بأبحاثه في موضوع الهستيريا، ومطور العلاج بالمحادثة «طريقة التفريغ»، وإقامة أساسيات التحليل النفسي الذي طوره ربيبه سيغموند فرويد، أحد أهم شخصيات الرواية، بالإضافة لشخصية لوسالومي، الكاتبة والمحللة النفسية التي عشقها نيتشه.

وبلا شك فإن اختيار الكاتب للعنوان أيضا قد كان شيقًا جدًا وذكيًا بالفعل! فكيف لشخص بكل هذه القوة كنيتشه أن يبكي! هذا العنوان ما جذبني للكتاب ودفعني لاختياره بسبب فضولي لمعرفة الجانب الآخر من شخصية نيتشه، باعتبار أنّي مهتمة لقراءته ومشغوفة بأفكاره ومعجبه بفلسفته القوية جدًا، فلم أكن أتوقع بأن شخص عدمي هكذا، يبكي يومًا ما! أما ما تضمنته الرواية من حوارات فبغض النظر عن أنها كانت خيالية، إلا أن الكاتب استطاع أن يستنبط شخصية كل منهما من خلال سيرتهم وأساليبهم وفلسفاتهم. تدور الرواية حول رحلة العلاج المتبادلة والملحمة النفسية الفلسفية بين نيتشه بروير، وبين بروير وتلميذه فرويد. تغلغلت الرواية في أعماق النفس البشرية حيث كانت مليئة بالأحداث والأفكار العمق الفلسفي والنفسي. والكثير من التحليل النفسي لنوازع النفس وخباياها وانغماسات الفكر، والغرائز الإنسانية والرغبة والفضيلة والحق والواجب والخير والقوة... وقد تحولت الرواية إلى فيلم رائع جدًا في عام 2007. بدأت أحداث الرواية في ثمانينات القرن الماضي في مدينة سان سالفتور. وتتمثل بدايتها برسالة وقحة على حد تعبير الطبيب بريوير من الفتاة الروسية لوسالومي تتمحور حول مستقبل الفلسفة الألمانية والتي باتت في خطر بعد اكتئاب نيتشه الفيلسوف الأعظم، بعد ذلك يتقابل بريوير مع لوسالومي وتطلب منه معالجة نيتشه من اليأس وداء الشقيقة، ليعدل عن رغبته في الانتحار، كونها طرفًا أساسيًا في اكتئابه. رفض الطبيب في البداية علاجه ولكنه لم يقاوم جمال الفتاة، وقال إن فتاة كهذه لا يجب أن يرد عليها بكلمة لا، لذلك يوافق على معالجة نيتشه لشدة افتتانه بجمال لوسالومي، لكن بقي عليها أن تقنع نيتشه بذلك عن طريق صديقه؛ لأن لنيتشه آراء قوية عن الضعف والقوة ساهمت في صعوبة اقناعه بالعلاج. بعد فترة يبدأ علاج نيتشه مع الطبيب، تتخلله مناقشة مواضيع عديدة كالموت والإله والشيخوخة والخوف من سن الأربعين والزواج والفضائل كالإخلاص والواجب والأخلاق وفكرة التكرار الأبدي والحرية ومواضيع فلسفية مختلفة كان لها النصيب الأكبر في الرواية. تسير أحداث الرواية ببطء وخاصة الجزء المتعلق بعلاج نيتشه وتحديدًا العلاج بالتنويم المغناطيسي لأنه على حد تعبيره الهدف منه السيطرة علی الآخرين، وخلال الأحداث يكتشف الطبيب أنه هو الآخر يعاني من ألم نفسي، فيأخذنا الكاتب في رحلة لتحليل النفس البشرية ومكنوناتها مع عدم فقدانها لعنصر التشويق في بعض فصولها، ويصاحبنا في هذه الرحلة فرويد ففي كل مرحلة من مراحل العلاج يلجأ الطبيب إلى استشارته كخبير في التحليل النفسي، ومستفيداً من تجاربه في تفسير أحلام المرضى. وتغيب لوسالومي في بداية الرواية ثم تظهر فجأة وتحاول من الطبيب معرفة صحة نيتشه فيرفض طلبها، متعللاً بواجبه الطبي في حفظ أسرار مرضاه. فدافعه الحقيقي هذه المرة إعجابه بأسلوب نيتشه في ربط الأفكار مع أحلامه، فقد كانت طريقة نيتشه والطبيب في العلاج هي التبادل المهني في الأدوار. هدف هذا التبادل العدول عن قرار نيتشه بإنهاء العلاج عند الطبيب. مع العلم أن نيتشه ذهب إلى أكثر من طبيب لتلقي العلاج لكن دون فائدة. على الرغم من ان الاضطرابات والعقد كانت واضحة على شخصية بروير في الفيلم، ألا أنها كانت من وجهة نظري اضطرابات عادية تواجه الكثير من الاشخاص، فأكثر شيء جذبني في بروير هو تعلقه بمريضته المسماة بيرثا، المصابة بحالة شديدة من الهستيريا، وكان بروير مهتم جدًا بحالتها على نحوٍ غريب، لدرجة أنه جعل من زوجته ماتيلد أن تغار منها. ولكن في نهاية الفلم اكتشف نيتشه أن والدة بروير كانت تحمل نفس الاسم، وفارقت الحياة عندما كان في سنته الخامسة، حيث أمضى حياته من دونها، مما جعله يتعلق بشكل لا واع في مريضته ومطاردتها له في احلامه وواقعه ويقظته، وتعلقه بها بسبب عقدته الأوديبيه تجاه فقد والدته، إلى أن وصل لحالة من الاكتئاب واختلال حياته الأسرية وتفكيره بالهروب منها. أما شخصية نيتشه وهي مستهدفي في التحليل، والتي سأحاول أن أدخل في تفاصيلها بشكل أكبر، فقد اشتهر بشخصيته القوية وأفكاره الفلسفية حول إرادة القوة، وكرهه للنساء على وجه الخصوص، كل تلك القوة الظاهرة، كيف تغيرت عندما اقتربنا من جانبه الإنساني وجانبه اللاواعي! حاول الكاتب جاهدًا أن يبين لنا الضعف الإنساني والمكبوتات التي عانى منها نيتشه، والتي أوصلته للانتحار. فلو بدأنا من طفولته، فسنرى عقدة أوديبية لديه، حيث عاش علاقة سيئة جدًا مع والدته، وامتد ذلك السوء لعلاقته مع أخته حتى الكبر، فقد كونت ظروفه وجهة نظره السلبية والعدائية تجاه النساء وافقدته الثقة فيهم حتى قال: «إن كنت ذاهب لامرأة فاحمل سوطك معك». بات نيتشه على هذا الحال إلى أن غدا في علاقة جديدة ارتبط فيها بفتاة شديدة الجمال والفطنة، ذكية جدًا وذات شخصية قوية تعكس فلسفته في القوة، وكأنها الشخصية التي يحتاجها فعلا لتكمله. أعجب نيتشه بلو سالومي، وقضى معها مرحلة حب رومانسية بعد لقائهما في إحدى محاضراته الجامعية. أما هي فأعجبت بقوته وجرأته وأفكاره. فعاشا أيامًا جميلة مع بعضهما، ولكن الصدمة جاءت بعد أن طلب نيتشه الارتباط به، فرفضته وقطعت العلاقة بينهما، وهنا عاش نيتشه صدمته الأخرى تجاه النساء، وأصيب باكتئاب شديد. كما أثر فيه هذا الموقف وكأنه نشّط مكنوناته تجاه النساء فكان يصف لو سالومي بالخبيثة المفترسة، وخصوصًا أنه اكتشف بأنها وصديقه المفضل في علاقة، فبدا له أن الاثنان يخونانه، وذلك حفز لديه مشاعره الاكتئابية بشكل كبير، حتى وصل للانتحار، وأيضًا قد مارس السلوك الانتحاري كضرب النفس وعدم اللجوء للعلاج. ففقد نيتشه ثقته الكاملة بالجميع، وصار منعزلًا، وأصبح متسترًا على ذاته ولا يفصح لأي أحد بشيء، وبات يخاف من أي علاقة جديدة. ولهذا لاقى بروير مشكلة كبيرة، فقد كانت فكرة لجوء نيتشه للعلاج صعبة؛ فكيف لشخص مثله أن يقتنع بالعلاج النفسي أو أن يفصح لأحد بأسراره وخباياه! كيف من الممكن أن تتعامل مع شخص عمّم جميع افكاره السوداوية على كل شيء في حياته؟ بيد أن لو سالومي استطاعت اقناعه باللجوء للعلاج كعلاج للحالة الفسيولوجية التي يمر بها. وفي أثناء الملحمة العلاجية، لاحظ بروير أن نيتشه لا يرضى أن يسلم نفسه أو أن يكشف ضعفه لأي أحد؛ يتعامل بعلو وجبروت، وكأنه أصبح يخاف الاقتراب من أي شيء، إلى أن بات يعتقد في فلسفته أن استسلامه للعلاج شبيه بالتعري الذي سيعطي أي شخص الفرصة لضرب ثقته مجددًا. آنذاك أطلق بروير منهجًا جديدًا للعلاج بالكلام أسماه هو وفرويد بـ«كنسِ المدخنة»، والقصد تفريغ كل مكنونات النفس ومخلفاتها التي من الممكن أن توصل الشخص لحالة سوداوية وأمراض سيكوسوماتية كما وصل الحال لدى نيتشه. فداء الشقيقة الذي عانى منه والصداع والتلبكات المعوية والغثيان، كان يزيد بشدة وقت حزنه وأثناء مروره بحالة نفسية سيئة. كان يخاف الوحدة ويخاف التنقيب في نفسه، ربما وصل لمرحلة من كره الذات منذ فشله في علاقته مع والدته، ومن ثم حبيبته، ما يعني أنه كان طوال حياته يشعر بالرفض، إلى أن بات يرفض نفسه أو يخاف منها. إلى أن امتنع عن اكتشاف ذاته ومعرفتها! ظل هكذا يتعالى على العلاج وعلى طبيبه بروير، إلى أن خرج بروير بفكرة العلاج التبادلي؛ طلب بروير من نيتشه أن يعالجه بفلسفته، فيما سيعالجه هو بالتحليل النفسي، ولم يفكر قط في استخدام العلاج بالتنويم المغناطيسي؛ لأنه يعرف تمامًا أن شخصًا كهذا ليس من الممكن أن تخضع للتنويم. استمر الاثنان في علاج بعضهما، إلى أن نجح بروير في كشف بعض من نفسية نيتشه وصدماته. وانتهى العلاج ببكاء نيتشة، تعاطفًا مع طبيبه ومع نفسه، وفي هذا المشهد العميق، والمستهدف في الرواية، تبين لنا كيف أن الاقتراب من النفس يكشف لنا الضعف الإنساني، رغم التعالي والتكبر على النفس، ومحاولة إظهار القوة، إلا أنك لابد وأن تستوعب يومًا المناطق الأشد ظلامًا في نفوس الأقوياء، أو المناطق التي لم يزرها أحد، وتسببت في كل تلك القوة والألم. فكما قال نيتشه في فلسفته «أن النمو هو مكافأة الألم».

المصدر: صحيفة الأيام البحرينية

كلمات دلالية: فيروس كورونا فيروس كورونا فيروس كورونا إلى أن

إقرأ أيضاً:

دراسة: التوتر النفسي يزيد من حساسية الجلد

اكتشف باحثون أدلة جديدة تساعد في فهم كيف يمكن للتوتر والضغط النفسي أن يزيداً من حساسية الجلد.

ووجد الباحثون في دراسة منشورة بدورية (جورنال أوف أليرجي آند كلينيكال إيميونولوجي) أن التوتر يعمل على تعطيل الوظائف المناعية والتدخل في استجابة الجسم للالتهاب.
الدراسة التي أجريت على الفئران أظهرت أن التوتر النفسي يحد من قدرة الخلايا المناعية المتخصصة التي تسمى الخلايا البلعمية المضادة للالتهابات على إزالة الخلايا الميتة في موقع الحساسية.
وقال الباحثون إن تراكم الخلايا الميتة في الأنسجة يزيد من تسلل الخلايا المناعية المسماة الخلايا الحمضية، مما يرفع مستوى الاستجابة التحسسية، ومن ثم يؤدي إلى زيادة الشعور بالحساسية. ذاكرة الضغط النفسي وقال الدكتور سويشيرو يوشيكاوا، كبير الباحثين في الدراسة والأستاذ بكلية الطب بجامعة جونتيندو في اليابان، في بيان "هذه أول دراسة في العالم تثبت أن التوتر... يعطل وظيفة الخلايا البلعمية، والتي تساعد عادة في كبح ردود الفعل التحسسية، وبالتالي زيادة الاستجابة التحسسية".
كما وجد الباحثون أن تأثير الضغط النفسي على الخلايا المناعية يبدو طويل الأمد، ويمكن أن يؤثر على الخلايا البلعمية التي ينتجها الجهاز المناعي في وقت لاحق.
وقال يوشيكاوا "هذه الظاهرة، التي يشار إليها باسم ‭'‬ذاكرة الضغط النفسي‭'‬، تعني أن الضغط والتوتر الشديدين يتركان بصمة باقية على الخلايا المناعية، مما يؤثر على وظيفتها ويساهم في تطور المرض".
 ‬وأشار الباحثون إلى أن تجنب الضغط النفسي تماماً سيكون الحل الأمثل، لمنع خلل وظائف الخلايا المناعية. ونظراً لأن هذا ليس ممكناً دائماً، فإن فهم الآليات الجزيئية وراء ‭"‬ذاكرة الضغط النفسي‭"‬ قد يمهد الطريق لسبل علاج لحساسية الجلد.

مقالات مشابهة

  • دراسة .. التوتر النفسي يفاقم حساسية الجلد
  • "الوحدة 93".. رواية جديدة لأحمد عاشور بمعرض القاهرة للكتاب
  • مدبولي: نظام التعليم الجديد يخفف الضغط النفسي على الطلاب
  • التوتر النفسي.. سبب خفي لزيادة حساسية الجلد
  • دراسة: التوتر النفسي يزيد من حساسية الجلد
  • مناقشة رواية «فستق عبيد» في «بحر الثقافة»
  • انطلاق فعاليات اليوم الثاني من الأسبوع الثقافي بأوقاف الفيوم
  • فعاليات اليوم الثاني من الأسبوع الثقافي بالفيوم
  • أميرة غنيم: تعرّفتُ على الرواية العُمانيّة من خلال رائعة سيّدات القمر لجوخة الحارثية
  • »أسئلة الرواية الفلسطينية«