الحكمة والمعرفة.. التأمل والتفكر والتدبر
تاريخ النشر: 1st, September 2023 GMT
عندما نتأمل في كتاب الله نجد أن هنالك دعوة للتفكّر وعقل ما يقال حتى في آيات الله وكتابه، وعندما نتدبر نجد أن عاملا مهما يبرز بذاته وهو المنظومة العقلية ذات الأهلية. فلم ينزل القرآن بافعل ولا تفعل، أو قل ولا تقل أو هذا حسن وذاك قبيح، وإنما وضعت تعاليمه قيما، ولا بد من يقرأ القرآن على مكث أن يتفاعل معه بالتفكير فأسلوبه ليس إملائيا بل مثيرا للتساؤل ومتفاعلا مع السؤال، ويبين أن الإنسان حر وكامل الأهلية في خياراته.
السلالة التي أراد الله جل وعلا أن تكون في الأرض هي سلالة آدمية، ويبدو من التأمل في الآيات أن هنالك نسخا سابقة وسلالات سابقة في الأرض كانت تفسد فيها، لكن علم الله أوسع من المشاهدة، ففي هذا المخلوق البشري ميزة مختلفة من التصوير الحسن إلى ميزة التفكير والحفظ والتذكر وفيه مع الغرائز منظومة العقل هذه التي تدير المعلومة. هل أدار آدم المعلومة؟ وهنا الدرس الأول للآدمية بآدم نفسه، فقد أعطاه الله المعرفة وعلمه كل شيء، لكنه لم يتفكّر بالمعلومة وهذا درس للبشرية بأبيهم أن المعرفة وحدها ليست نافعة بلا تدويرها في الذهن والتدبر والاستفادة منها في الأحداث، فنسي التحذير من مخلوق اتضحت كراهيته له كمخلوق وليس كراهية السلوك وهنا نقف وقفة قصيرة.
منطق الكراهية يجعلك مؤمنا أو شيطانا
عندما نظر إبليس إلى آدم نظر إلى مخلوق مكرم، لم يفعل آدم شيئا ولم يرتكب هفوة، ولم يبدُ على ملامحه السوء، ارتفعت الأنا عند إبليس وأثارت الحسد فالحقد لأن هذا المخلوق آدم نال تكريم خالقه. إذن الكراهية الإبليسية هي كراهية الذات للذات وكراهية الإنسان للإنسان والتي تأتي من حسد وحقد، كذلك كان قابيل عندما قتل هابيل. وأما كراهية المؤمن فهي كراهية الفعل من الإنسان وليس كراهية الإنسان، كذلك كانت كراهية هابيل لفعل قابيل، كراهية أي إنسان سوي لفعل في إنسان آخر فان أصلح أفعاله فلا كراهية ولا سوء. قال ﷺ: "الإسلام يجبّ ما قبله"، أي إن اعتدال الأفكار يجعل الإنسان نقيا تخلى عن ماضيه بما فيها ذنوبه وهو أمام منهج جديد، فالكراهية لفعل الإنسان هي رغبة بالخير له بصلاح فعله وإيجابية تعامله ونقاء فكره ورقي إنسانيته.
عندما يندمج الإنسان بفعله، ويصبح بالأنا الإبليسية متوحدا مع أفعاله فهو يخرج عن منهج الآدمية وسجيتها. عندما أخطأ آدم كان فعلا تبرأ منه بالتوبة والاستغفار الذي احتاج كلماته ليعلمه خالقه الأمر الذي يظهر مدى تكريم الله لهذا المخلوق وهو الأعلم بخفايا نفسه. لكن الأنا الإبليسية أصرت على التكبر والعصيان، كذلك يكون الإنسان المصر على العصيان فيكون "إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ"، ومع هذا رأف الله بنوح فلم يجعله يرى غرق ابنه، لأن الإنسان له من العواطف ما تجعله أضعف ما يكون أمامها، لكنه ينيب.
السلوك دال على مدى فاعلية المنظومة العقلية ومدى الفهم للقيم، وليس من ملائكة على الأرض، فالإنسان يخطئ ويصيب وإنابته باعتذاره وحسن إصلاحه للأمور، والأولى أن يفكر ولا يصر فالإصرار هو غياب للحكمة وغياب الحكمة هو الفشل للآدمية، والتصالح مع الذات بتصويبها وليس بالإصرار على الخطأ، اللهم إلا من كان مريضا فذاك إنابته بعلاج ذاته ليعود نافعا لأهله وبيئته. ومن هنا نرى الحيز الضيق لكره الإنسان لاندماجه وسلوكه المتشبع بالشر.
الحكمة والمعرفة
لقد كان آدم مزودا بالمعرفة، ولم يفعّلها في تفكيره فكان ما كان، فالمعرفة التي لا تستفيد منها الأمم بخاصتها وعامتها هي كمثل بني إسرائيل عندما لم يفهموا التوراة لا تكفي المعرفة وحدها بلا حكمة وشفافية وإخلاص، مثل الحمار يحمل أسفارا، ينقلها للاستخدام من غيره بيد أنه لا يفيد منها وما أكثرهم بل ما أشدهم قسوة في محاسبة الناس ونسيان أنفسهم، لذا لم يقل الله من يؤت المعرفة، بل قال ومن يؤت الحكمة فالحكمة هي التي تجعل منك آدميا بما لديك من معرفة وليس مكتبة متنقلة بلا سلوك متفق مع القيم التي تتحدث بها.
الحرص على عوامل الحكمة تنعكس على السلوك، لأن من فقد حكمته شوه ما يحمل من علم بمخالفته أو بسوء سلوكه: "يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ" (الصف: 2)، إنهم مؤمنون بما يقولون ولكن ضعفت النفسية فأمروا الناس بالبر ولم يفعلوه وعلموا الصواب وخالفوه، فيكون بعضهم للناس أذى ومنفرا في القول والفعل وسوء السلوك والمعاملة وقدوة سيئة.. إن مقت الله آت لفقدان التوازن في المنظومة العقلية والسلوك.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مدونات مدونات المعرفة السلوك الحكمة الانسان المعرفة الحكمة السلوك مدونات مدونات مدونات مدونات مدونات مدونات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
الحياة لمن عاشها بعقل.. خمس يطمسن خمس
سلطان بن ناصر القاسمي
الحياة تمضي بخطوات سريعة، وتغدو أجمل وأبهى لمن عاشها بعقل واعٍ وقلب متزن. فنحن نعيش في عالم مليء بالتحديات والتغيرات المستمرة، وكل لحظة تمر تحمل في طياتها فرصة للنمو والتطور أو السقوط والتراجع.
وحين ندرك أن كل ثانية تمضي هي بمثابة لبنة في بناء شخصيتنا ومستقبلنا، نصبح أكثر حرصًا على اتخاذ قراراتنا بعقل وحكمة. إن التعامل مع مواقف الحياة المختلفة يتطلب من الإنسان أن يتحلى بالخلق الرفيع، وأن يبني مسيرته على أسس قوية من المبادئ والقيم. فالعقل الراشد يُميّز بين الحق والباطل، وبين النافع والضار، ليهتدي إلى طريق السعادة والنجاح. ومن هذا المنطلق، نجد أن هناك أمورًا قد تطمس أخرى؛ أمورًا لو تغلّبت علينا لأضاعت علينا درب الصواب. دعونا نغوص في هذه المفاهيم ونتأمل في خمس طمسات تُخفي معالم خمس أخرى.
أولاً: الزور يطمس الحق
لا شك أن قول الحق من أعظم الفضائل التي تُعلي شأن الإنسان وتبني مجتمعًا متماسكًا وعادلًا. فعندما ينتشر الزور، يطمس الحق، ويختفي نور العدل، فتبدأ الأحقاد والضغائن في التسلل إلى القلوب. فالزور ليس مجرد كذبة عابرة، بل هو بذرة خبيثة تزرع الظلم وتغتال الحقيقة. وكم من حقوق ضاعت بسبب شهادة زور، وكم من أبرياء ظُلموا لأن الحقيقة أُخفيت عمدًا.
وإن في قول الحق شجاعةً ونبلًا، وفي الزور جبنًا وخسة. وقد حثنا الله تعالى على قول الحق في كل موطن، فقال في كتابه العزيز: "وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ" (البقرة: 283). لذا علينا أن نتحلى بالصدق، مهما كانت الظروف، لأن الحق يعلو ولا يُعلى عليه.
ثانيًا: المال يطمس العيوب
المال سلاح ذو حدين، فهو نعمة لمن يحسن استغلاله، ونقمة لمن يُسيء استخدامه. فقد يطمس المال عيوب بعض الأشخاص ويمنحهم مكانة مجتمعية لا يستحقونها. وهنا تكمن خطورة المال عندما يُستخدم في التكبر والغرور. إن المال ليس مقياسًا حقيقيًا لقيمة الإنسان، بل أخلاقه وسلوكه هي التي تُحدد مكانته.
كما قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: "نِعْمَ المالُ الصالحُ للمرءِ الصالح" (رواه أحمد). عليه فإن المال يُصبح فضيلة عندما يُنفق في الخير، ويدًا تمتد للمعروف، ولكنه يُصبح نقمة إذا أغوى صاحبه وجعله يتعالى على الآخرين. فالمال لا يُغني عن مكارم الأخلاق، ولا يُخفي عيوب الروح.
ثالثًا: التقوى تطمس هوى النفس
التقوى هي منارة القلوب ووقاية الأرواح. إنها تجعل الإنسان يُخضع أهواءه لرغبات الله، فيعيش في كنف الطاعة والهدى. متى ما غلبت التقوى على القلب، تلاشت أهواء النفس الزائفة، وتحرر الإنسان من عبودية الشهوات.
إن النفس البشرية تواقة لكل ما يُرضيها، ولكن التقوى تُهذّب هذه الرغبات وتُوجّهها نحو الخير. قال الله تعالى: "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" (الحجرات: 13). فالمتقي هو الذي يجتاز هذا الصراع الداخلي، ويُثبت أن خوفه من الله أقوى من شهواته.
رابعًا: المن يطمس الصدقة
الصدقة عمل عظيم يُطهر النفس ويُزيد البركة، لكن حين يتبعها المنّ، يفسد أثرها ويضيع أجرها. إن المنّ يُشعر المتصدق بالعُجب، ويُشعر المتصدق عليه بالمهانة. وقد حذرنا الله تعالى من هذا الخلق الذميم، فقال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى" (البقرة: 264).
والصدقة الحقيقية هي تلك التي تُقدم بإخلاص، لا ينتظر صاحبها شكرًا ولا مدحًا. علينا أن نتذكر أننا وكلاء في المال الذي بين أيدينا، وأن الرزاق هو الله. فحين نعطي، لنكن كالغيث يهطل دون أن يُذكّر الأرض بفضله.
خامسًا: الحاجة تطمس المبادئ
إن الحاجة هي شعور قاهر قد يدفع الإنسان أحيانًا إلى تجاوز مبادئه وقيمه؛ فحين يشعر الإنسان بالحرمان، قد يُغريه هذا الشعور بالسير في طرق غير سوية. لكن الإنسان النبيل هو الذي يظل متمسكًا بمبادئه، مهما اشتدت به الحاجة.
كذلك، إن المبادئ هي القلعة التي تحمي الإنسان من الانزلاق في متاهات الحياة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "احفظ الله يحفظك" (رواه الترمذي). فحين نُحافظ على قيمنا، نجد أن الله يُعيننا ويكفينا شر الحاجة.
وفي الختام.. إنَّ الحياة معركة دائمة بين الفضائل والرذائل، بين العقل والهوى، بين القيم والأهواء. وكل يوم يمر هو اختبار جديد يُظهر معدن الإنسان الحقيقي. وعلى قدر إيماننا بقيمنا ومبادئنا يكون صمودنا في هذه المعركة. فكلما تمسكنا بالحق، والتزمنا بالتقوى، وابتعدنا عن المنّ، وأحسنّا استخدام المال، تمكّنا من التغلب على الطمس الذي قد يُشوّه حياتنا. كما إن السعادة الحقيقية تكمن في تحقيق التوازن بين متطلبات الحياة المادية والروحية.
لنجعل من عقولنا قادة تُرشدنا نحو الخير، ومن قلوبنا موطنًا للمحبة والإخلاص، ومن مبادئنا حصنًا نحتمي به، لنحقق العيش بنعم الله تعالى بحكمة وسعادة، ولنسير في درب الحياة بثقة وثبات، مستمدين قوتنا من إيماننا وقيمنا الراسخة.