منذ ما يربو على المائة عام وضعونى هاهنا، حملتنى يدان غليظتان وأودعتنى ركنًا قصيًّا فى تلك الظلمة، لأفترش أرضًا تكسوها الحناء، ما لبثت بكرور الأيام أن اختلطت بالثرى، لتصبح جزءا منه، ولطالما تساءلت: لِمَ أنا هنا؟ عندما أخذتنى ذات نهار يدان بضتان، احتضنتنى بحرص، وربتت على انتفاخى كأم حنون، وهمست لى بصوتها المتهدج: «سترافقين أغلى الناس، كونى له أنيسا حتى ألحق به ذات يوم».
اليوم يفتح باب تلك الغرفة المظلمة، شخصت ببصرى علهم أتوا لإنقاذى، لكن لعجبى، لقد وضعوا أحدهم بجانبى، يغطيه رداء أبيض، ولا يحرك ساكنا، تمتموا كثيرا ثم تركوه وذهبوا، ليصبح هناك من يقتسم معى الظلمة والصمت..
ومنذها ما عاد الصمت صمتا، يتسلل إليّ كل فترة صوت حنون، هو ذاته الصوت المتهدج الذى همس لى ذات يوم، لكنه الآن يبدو مختلطا بنشيج، وبعض التمتمات التى لا أميزها، فلماذا لا تنزل إلينا صاحبة هذا الصوت، كم أشتاق لتربيتة يدها!
لم يمر طويل وقت حتى فتح الباب وأرقدوا جسدا آخر، يغطيه الرداء الأبيض ذاته، أنهوا تمتماتهم ونشيجهم، ثم قرعوا بنعالهم سقف حجرتنا ولم أعد أسمع لأحدهم صوتا.. انتظرت أن يصلنى صوتها المتهدج، لكنه لم يصل، وفجأة سمعته قريبا قريبا.. إنها هى من أرقدوها معنا، أهلا ذات التربيتة الحنون، أخيرا نزلت إلينا..
انتظرت أن تحملنى يداها، لكنها لم تفعل، كانت يداها مشغولتين بمعانقة يديه، كان لقاؤهما عظيما، انزويت على إثره أرقبهما فى تأثر، وما انقطعت حكاياتهما لحظة، صار للغرفة أنيس حقيقى، وذهب الصمت إلى غير رجعة.
توالت تلك الأجساد المتدثرة فى بياضها، يسجدى الواحد تلو الآخر، وظللت أنا هنا، أشهد لقاءات عدة، وحكايات عدة، بعضها يغلب عليه الحب والاشتياق، والآخر يغزوه البرود أو الندم، لكنهم على كل حال عائلة واحدة، هكذا أدركت.
كم من السنين مرت؟ ربما مائة، اليوم أسمع جلبة غير عادية تأتينا من أعلى، فتح الباب عن رجال كثيرين، نزل بعضهم، و.. وشرعوا فى حمل الأجساد واحدا واحدا، إلى أين تذهبون بأصدقائى؟ انتظروا..
أخذوهم جميعا، وتركونى وحيدة، عاد الصمت والظلمة لغرفتى ثانية، وزاد انزوائى، لم تمر دقائق حتى اختطفتنى يد أكثر غلظة، صعدت بى لأعلى، إنه النهار، لكنه هنا أكثر ظلمة من غرفتنا التى كان ينيرها لقاءات الأحبة، تلقفتنى أياد عدة، ودارت حولى تساؤلات كثيرة: «ما هذه؟ وماذا كانت تفعل فى مقبرتنا؟»، ليجيب أحدهم: «كانت تؤنس الموتى.. هكذا اعتقد الأقدمون»، فجأة طوحتنى اليد الغليظة على امتدادها، لتلقى بى بقسوة بعيدا وصاحبها يغمغم: «إنها مجرد قُلة، لا حاجة لنا ولا لموتانا بها»..
نزلت بقسوة بين أشواكها، إنها شجرة الصبار، التى جىء بها يوم جىء بى، لم أرها منذ نزلت، لكنها اليوم تبدو منهكة، ذابلة صفراء، غير قادرة حتى على البكاء، حاولت أن تربت على انتفاخى، لكن ضعفًا منعها، سألتها بفزع: «ما الذى يحدث، وأين أصدقائى، ولماذا أنت مريضة هكذا، أين ماؤك؟»، أجابتنى بانكسار وكأنها تصارع الموت: «لا شىء سيبقى، أصدقاؤك ذهبوا إلى بيت آخر، أما نحن وبيتنا هذا فسوف يهدمه هذا الشىء»، قالتها وأشارت نحو بلدوزر ضخم يقترب منا دون رحمة، مصدرا صوتا متوحشا، شخصت ببصرى بعيدا فى نظرة أخيرة نحو ما تبقى من ظل أصدقائى، قبل أن تواريه ظلال البنايات الشاهقة، وأنا أتذكر لقاءاتهم وعناقهم وحكاياتهم، ثم حانت منى دمعة مقهورة.
المصدر: بوابة الوفد
إقرأ أيضاً:
بريطانيا تتطلع إلى شراكة مع السعودية في مجال المعادن الحيوية
قالت الحكومة البريطانية اليوم الثلاثاء، إنها ستوقع شراكة مع السعودية للتعاون في مجال المعادن من شأنها أن تساعد في تعزيز سلاسل التوريد وخلق فرص للشركات البريطانية وجذب الاستثمارات إلى البلاد.
وتحتاج بريطانيا إلى إمدادات آمنة وطويلة الأجل من المعادن الحيوية، مثل النحاس والليثيوم والنيكل، التي تدخل في صناعة الهواتف الذكية والسيارات الكهربائية، كما أنها ضرورية لبناء مراكز البيانات التي تساعد في تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي.
السعودية تعتزم تخصيب وبيع اليورانيوم - موقع 24قال وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان اليوم الإثنين، إن المملكة تعتزم تحقيق أرباح مالية من جميع المعادن بما في ذلك اليورانيوم.أما السعودية، التي تقدر قيمة مواردها المعدنية غير المستغلة بنحو 2.5 تريليون دولار، فتسعى إلى أن تصبح مركزاً عالمياً رئيسياً لتجارة المعادن الحيوية.
بالنسبة لبريطانيا، سيشكل الاتفاق جزءاً من استراتيجية صناعية أوسع نطاقاً تقول إنها ستكون أساسية للأمن القومي وتحقيق هدفها لتعزيز النمو الاقتصادي وتوفير فرص العمل.
تأتي هذه الشراكة أيضاً في الوقت الذي يواصل فيه المفاوضون من بريطانيا ومجلس التعاون الخليجي محادثاتهم هذا الأسبوع بشأن اتفاقية التجارة الحرة.
ستقود وزيرة الصناعة البريطانية سارة جونز مهمة تجارية إلى المملكة برفقة ممثلين عن 16 من شركات المعادن البريطانية الراغبة في ممارسة أنشطة تجارية في الشرق الأوسط.
وسيتم توقيع الشراكة الجديدة في منتدى معادن المستقبل في الرياض، حيث ستعرض الشركات خبراتها للعملاء المحتملين.