ثلاثون عامًا من الثقافة.. الأمومة.. والرحيل

أقنع نفسى أنها المرة العاشرة وليست المائة التى أعيد فيها ترتيب البدايات ووجوه البشر وروائح الأمكنة، أجد صعوبة شديدة فى أن أكتب سيرة نصف عمرى فى بضع كلمات لا تزيد على الأربعمائة.

أريد أن أبوح للقارئ بأسرار كل موضوع كتبته أو حوار أجريته أو ندوة حضرتها، لعلى بذلك أحتفى بعودة الصفحة الثقافية للإصدار من جديد، بعد توقف دام عدة سنوات.

أكتب للقارئ الذى كان ينتظرنى كل ثلاثاء من كل أسبوع، عن أول مرة دخلت فيها مبنى جريدة الوفد فى حى المنيرة - قبل أن تنتقل إلى مقرها الحالى بحى الدقى- كان عمرى خمسة وعشرين عامًا، أعشق الألوان المبهجة، السينما، والأدب. مبنى الجريدة قديم، تشى جدرانه المتشققة بألف حكاية عن من عاش فيه ومن أهمله.. شيخوخة المبنى المعمارية لم تفقد الجريدة سحرها وتميزها المهنى ووصولها إلى نبض الشارع، بكم هائل من الخبطات الصحفية التى كانت تحصد كل عام نصيب الأسد فى جوائز نقابة الصحفيين.

أركض كل صباح إلى الجريدة، فهناك أقابل أستاذى ومعلمى الحاضر الغائب حازم هاشم.. أشعر طوال الوقت بأبوته وفضله فى تكوينى، أحاديثنا تطول لبضع ساعات، كان يتحدث معى فى كتب قرأها، ذكرياته فى دار الهلال، إعجابه بشقيقه الممثل الكبير الدكتور عادل هاشم، حبه الشجى لابنه الوحيد يوسف وزوجته الفاضلة سميرة، كان مكتفيًا بصدق، لا يزاحم على المناصب، فهو يعلم أنه كبير فى المقام والقيمة. 

هناك فى المنيرة رأيت لأول مرة زوجى الراحل يسرى شبانة، أتذكر جيداً أنه كان يرتدى قميصًا سماويًا وبنطالًا أزرق، شعره ناعم وعيناه عسليتان، كانت هيئته كطلاب المدارس الأجنبية، هادئ لا يتحدث كثيراً على الرغم من عمله فى قسم الحوادث، ستة وعشرون عاماً هى عمر قصتنا، انتهت برحيله تاركاً لى عكازى الإنسانى متمثلاً فى أولادنا أحمد ودينا.

الرحلة طويلة قاربت الواحد والثلاثين عاماً، جاورت فيها روائيين وشعراء وأصحاب مناصب وناشرين، كتبت عنهم وحدثتهم. 

سأروى قبل أن تهزمنى الذاكرة عن الحضور النادر للدكتور ثروت عكاشة، وزير الثقافة الأشهر فى السيتينات، صاحب إنقاذ معبد فيلة من الغرق، وكيف تسمرت فى مقعدى فى قاعة الاحتفالات بجامعة القاهرة لمدة ساعتين، أسجل مبهورة محاضرته عن الفن والحياة، يوم الأربعاء 6 مارس 1996م خلال الموسم الثقافى والفنى للجامعة، بدعوة من الأستاذ الدكتور مفيد شهاب رئيس الجامعة وقتذاك، فحتى الآن لازلت مصدقة أن عينه كانت تلمع كالصقر كلما تحدث أو ابتسم.

الأربعمائة كلمة قاربت على الانتهاء، ولم أحكِ بعد عن إنسانية الجميلة رضوى عاشور وثلاثيتها «غرناطة»، وقبر الشاعر التونسى أبو القاسم الشابى حينما زرت تونس الخضراء، وصوت الشاعر الفلسطينى الكبير محمود درويش وهو يصلنى وأنا أقف فى نهاية قاعة آيوارت بالجامعة الأمريكية من شدة الزحام وتدافع الحضور نحو المنصة التى يعتليها، ينثر الشعر والحلم بالعودة للوطن، حوارى مع الكاتب الجزائرى الكبير واسينى الأعرج المقيم فى فرنسا عبر الأثير من القاهرة، و.......، و......، و......

المصدر: بوابة الوفد