لجريدة عمان:
2024-11-17@23:27:24 GMT

معتز قطينة: الشاعر يجب أن يظل خائفا!

تاريخ النشر: 1st, September 2023 GMT

معتز قطينة: الشاعر يجب أن يظل خائفا!

إن كانت هناك صفة يمكنها التعبير عن الشاعر الفلسطيني الأردني معتز قطينة فهي «الصدق»، وربما «الصراحة». يعترف بأن هناك تجرُّؤا على قصيدة النثر، فكونها قصيدة التفاصيل البسيطة، فتح الباب على مصراعيه لكل من هبَّ ودبَّ، بتعبيره، لأن يزعم كتابتها.

بدأ معتز بكتابة التفعيلة. احتاج إلى وقت طويل من القراءة حتى قرر أخيرا أن يكتب قصيدة النثر، وقد شعر بالصدمة في البدايات، واحتاج إلى وقت آخر ليصل إلى جوهرها وليمسك بنغمته الخاصة.

أصدر أول أعماله وهو ديوان «خلفي الريح مجدولة» في 2002، وفي 2004 أصدر مجموعته الشعرية الثانية «أوجاع الذئب الأشقر» في نسخة محدودة، وفي 2007 أصدر ديوانه الثالث «عصيان»، وهذا العنوان يؤشر على الانقلاب الذي حدث لقصيدته منذ ذلك الوقت كأنه يرفع راية العصيان للشعرية الكلاسيكية.

ثم أصدر روايته «الجنسية» في 2010، وتوقف بعدها سنوات، قبل أن ينفجر بركان الشعر لديه مرة أخرى فيصدر «أخاف أن تفشل الموسيقى»، «كان غريبا أنني صدّقت»، و«تفسير السنين». في هذا الحوار يتحدث معتز قطينة عن أوجه الشبه بينه وبين بطل روايته «الجنسية»، الذي لم يتردد في مغادرة القدس إلى السعودية، وعلاقته بالمدن العربية، خاصة مدينتي جدّة ودبي، وعمله في النشر، ولماذا تأخر في معرفة جيله، والأهم ما خطواته المقبلة في الشعر والرواية.

لنبدأ من روايتك «الجنسية».. لماذا لجأت إلى النوع الروائي؟ هل لأنه كان الأكثر تعبيرا من الشعر عن قضية الهوية المزدوجة أو الاغتراب بين مدينتين، هما القدس وجدّة؟

كنت أود لو بدأنا من الشعر، حيث ملامح هويتي الأولى التي تنطلق منها الكتابة وبقية مكوناتي على المستوى الشخصي، وهو ذاته القادر على استيعاب هويَّات متعددة أخرى، ذلك أنني أؤمن بأنه ليس ثمة هوية واحدة نحملها.. لكن، أما وأن السؤال قد حلَّ، فإنني أصرُّ على عدم تصنيف «الجنسية» بالرواية، وإن ارتأت دور النشر ذلك، ذلك أنني اقتحمت السرد دون الاشتراط بشرط الرواية بالكيفية التي أراها. العمل الروائي كما أراه معقد التركيب، يحتاج إلى فضاء مُتقن، وشخوص مدروسة، وتقنيات للحبكة والحكاية، وهو ما لا أجزم أنني اشتغلت عليه في الكتاب. لا شك أن الشعر قادر على التعبير عن مختلف القضايا، السرد شكل آخر للتجربة أردت أن أخوضه لاختبار قدراتي الكتابية، وربما يستطيع السرد أن يقول ما لا يقوله الشعر.. ربما.

بنظرة بسيطة إلى سيرتك الذاتية يمكن أن نفهم - بشكل بديهي - أن الرواية هي أقرب إلى سيرة ذاتية قصيرة عن هذا الجزء من حياتك، أقصد القرار النهائي بالاستقرار في السعودية وترك فلسطين.. ما تعليقك؟هل ثمة عمل يكتبه الكاتب دون أن يكون كله أو بعضه انعكاساً لسيرته الذاتية؟! في «الجنسية» ما يتقاطع مع سيرتي الذاتية، وإن كان لا يمثلها بشكل كامل ولا يحكي حكايتي الشخصية، لا تزال فكرة السيرة الذاتية بعيدة، وينقصها الكثير من تراكم التجربة، لكن كل كتاب من الكتب الثمانية التي خرجت من يدي يحمل جانبا من هذه السيرة. لكنني بشكل شخصي لم أتخذ قرارا نهائيا حول الاستقرار في مكان ما أو الخروج من آخر، لم أعِش في فلسطين أبدا، هي بالنسبة لي جذري الأول، وامتدادي القريب البعيد، والمصيف الذي كانت عائلتي حريصة عليه بسبب ارتباطاتهم الأسرية من جهة، وللاطمئنان من جهة أخرى على أن جذورهم باقية في الجيل الثاني من الأسرة، الذي يمثله إخوتي وأنا، وكانت هذه - على الأقل أراها الآن كذلك - مراهنة غير صائبة، فحين تقدّم لأبنائك حياة بديلة في مكان آخر منذ طفولتهم، فإن انتماءك العاطفي الذي تحاول غرسه في أرواحهم سيظل موضع مقارنة لا تميل كفّته ضد حياتهم المُبتَكرة.

أول كلمة في عنوان ديوانك «أخاف أن تفشل الموسيقى» تضع يدنا على (الخوف) بوضوح، وهو ما ينسحب على كثير من قصائد الديوان.. كيف يمكن خلق الشعر من الخوف؟

أخاف أن أفتح قلبي وأجيب باستفاضة على هذا السؤال.. الخوف دافعٌ، ومحرّك، محفّز أحيانا، ومثبط في أحايين كثيرة، لكنّه أيضا صمام أمان، ثقافتنا العربية مشحونة بالأضداد في معنى الخوف، وثقافات العالم باختلافها كذلك.. قرأتُ قولا منسوبا لنيلسون مانديلا عن كون الشجاعة لا تعني غياب الخوف إنما تجاوزه، ولا أرى الخوف ضدا للشجاعة، ربما الركون إلى الطمأنينة والشعور بالأمان هو الضد الفعلي للخوف، وهذا من مسببات الدعة والكساد الذهني، أن يأمن العقل وتطمئن الروح، ذلك عدوٌ بيّن للشعر، والأجدر بالروح الشاعرة أن تظلّ خائفة، يحرّكها البحث عن إجابة آمنة دون أن تبلغها.

الديوان كذلك فيه خلطة - إن جاز التعبير - من الحزن والحب والغضب والأرق ومحاولة تلمس الدفء أو النار.. هل هذه الخلطة تعبر عن ذلك الرجل الوحيد الذي ظهر بامتداد الديوان؟بلى، هي كذلك. أذكر أنني كتبتُ «أخاف أن تفشل الموسيقى» بعد انقطاع طويل عن الكتابة، جفّ قلمي أو انقطع الوحي عني، لا أعلم تحديدا، لكنّ ذلك الجفاف حدث في فترة صاخبة من حياتي، واستمرّ وقتا لا بأس به. بمعيار النشر، ثمة فاصل شعريّ مقداره 8 سنوات بين هذا الكتاب وسابقه «عصيان»، الذي صدر في عام 2007، وخلال هذه الفترة الفاصلة عشتُ ما أظنه صاخبا ومحموما من التفاصيل التي تولّدت عنها لاحقا هذه الخلطة من الهلع والتخبّط الذهني والعاطفي، إن شئت أن تسميها كذلك، وهي التي تخلّق عنها في النهاية هذا الكتاب.

تقول في قصيدة: «وأهرب مثل نورس هائم في شواطئ جدّة».. وتقول في قصيدة أخرى وأنت تصف (الحزن): «لو كان مدينةً سيكون جدّة في أرذل العمر»، ما المختلف بين جدة ودبي حيث تعيش؟جغرافيا، لم ألمس فرقا جليا، بل ربما كان خيار الانتقال إلى دبي تحديدا بسبب قربها من أجواء جدّة، مدنٌ ساحلية صاخبة تقدح الشمس زنادها في نهاراتها، وتُطبق الرطوبة على لياليها، وهذا النمط الذي اعتدته في المدن، والمحبّب إليّ.

أما على المستوى الإنساني، فإن لكل منهما مزاياها التي تجعلني لصيقا بها، جدّة جذرٌ ضخمٌ عالقٌ في روحي، بكل ما لهذه الكلمة من تجسيد، أحفظُ شوارعها وحاراتها وبحرها شبرا شبرا، وأميّز وجوه أهلها قبل أن تنطق أفواههم، وهي نموذج للمدينة التي تجد فيها كل ما تريده، بالشكل الذي تسعى إليه، وفيها من الجمال ما لم تضمّه أرض، ولا بلّله ماء.. دبي حكاية أخرى، تجسيد واقعي للحداثة والإرادة البشرية وقدرة الإنسان على تحويل الأحلام إلى واقع يومي معاش، لك أن تتخيل أن هذه البقعة التي يؤمها العالم من شتى أصقاع الأرض كانت قبل 30 سنة شبه خاوية، كيف استحالت خلال هذا الوقت معجزة تنموية وحداثية تحمل فوق أرضها سكانا من 200 جنسية يعيشون فيها بهذا الانضباط والتناغم؟ لو قُدِّر لي يوما أن أكتب عملا عن دبي فإنني سأكتب عن روح هذه المدينة تحديدا، وكيف يستطيع الإنسان إعادة تعريف الصلات بين الماضي والمستقبل ببناء أسطورة مثلها.

وما الذي تفتقده من القدس بخلاف ما استدعاه بطل «الجنسية» عنها؟هذا السؤال أشعرني أنه فخ، رغم أنه ليس كذلك، قد لا أكون سألتُ نفسي عن ذلك من قبل، ولا أجد الآن أنني أفتقد شيئا يشعرني بالألم.. الأماكن بساكنيها، بعض الذين أحبهم رحلوا، والباقون منهم قيد التواصل، لم يترك العالم المفتوح على الإنترنت مساحة للفقد أبعد مما نستطيع الوصول إليه بضغطة زر.

«أخاف أن تفشل الموسيقى» هل هو «ديوان عن الفوضى تتعارك في رأسي كالنحل» بتعبير المتكلم في الديوان؟النصوص ذاتها، بلى.. كانت كذلك، رغم أن المرحلة التي كتبته فيها ثم نشرته لم تكن تحمل هذه الفوضى، وهذا لاحظته لاحقا، أنني لا أجيد الكتابة بانفعال، ولا تقودني الأحداث أيا كان صخبها أو تأثيرها إلى الكلمات، لا بد أن أحظى بوقت وافر حتى تهدأ الفوضى وأتمكن من كتابتها، أمور كثيرة تتبدل أثناء ذلك، ويصبح باستطاعتي النظر إلى الفكرة من خارجها بعد أن أوسعتني لكماً وخضخضة، ودفعتني إلى الحد الأقصى من تطرّف السؤال والعاطفة.

رغم التفصيلات الصغيرة التي تعكسها دواوينك ومنها مثلا (العلاقة مع المرأة) إلا أن الهاجس الأساسي على ما يبدو هو الاغتراب، كأنه الخيط الذي يلضمُ أعمالك في خيط. تقول في ديوانك «كان غريبا أنني صدقت»: «مكمم بالسواد، مسجون بالحدود والأختام» فما تعليقك؟ائذن لي بالقول إنه استدلال مجحف، واجتزاء خالفه الصواب، حتى وإن كان الاغتراب حالة ذهنية بالدرجة الأولى، وهو قطعا ضمن الهواجس التي أطرحها ببعده الوجودي، أكثر من كونه حالة شخصية. لا يمكنني القطع بهاجس مفرد أحمله، وإن كانت الكتابة بحد ذاتها هاجسا كبيرا، وأعرف أنني أتيه أحيانا في مساحات عدة دون أن أستقر وأضع يدي على موضع محدد أتوقف عنده. ما آمله، أن يستمر لديَّ الجلَد على الخوض في مساحات جديدة دون وجل، وأن يكون لديَّ الفضول والبصيرة الكافية للمثابرة على التمدد واكتشاف ما أجهله.

ما الذي تغير في قصيدتك وفي قناعاتك الشعرية من «خلفي الريح مجدولة» وحتى «تفسير السنين»؟لا بد أن 20 عاما تحمل الكثير من التغيير، على المستوى الشخصي ومحاولات الكتابة، في ديواني الأول كنت لا أزال أكتب قصيدة موزونة، تغريني اللغة وإيقاعاتها، والقدرة السحرية على تطويع الكلمة داخل الموسيقى التقليدية للوزن، كذلك حدث في مجموعتي الثانية «أوجاع الذئب الأشقر»، وإن كانت أكثر نضجا على مستوى التساؤل والخروج من بوابة اللغة إلى رحابة الفكرة، لكنها كانت لا تزال مقيَّدة بالشكل، قبل أن أغامر بكتابة قصيدة النثر، وأتعلّم كيف يمكن لذات الأفكار والرؤى أن تولد حرَّة من أغلال العروض، ولن أخفي أنني تعرّضت لصدمة، قراءتي لقصيدة النثر واستمتاعي بجمالياتها استغرق وقتا ليتحول إلى تلك الرغبة بالمجازفة وكتابتها، التحرّر من الشكل حرِّية، لكنه بشكل ما عبء لاحق على النص، لذلك، وعندما نشرتُ مجموعتي الثالثة «عصيان» تراها مجموعة صغيرة الحجم، تشعر أنها مقتطعة من كتاب أكبر، وهي كذلك بالفعل، لكن ذعر السقوط في فخ «الكلام» والحدّ الضئيل بين ما هو شِعريّ وما هو ثرثرة، تمكَّنا مني فأجهزتُ على أغلب نصوص المجموعة، وهنا بدأت مرحلة ثانية حيث توقف سيلُ الشعر، لم تعد القصيدة يسيرة، وافَقَت هذه الصدمة الشعرية مرحلةً من التحولات الشخصية، ورغبتي في إنفاق المزيد من الوقت للتعلُّم والقراءة، انتهيتُ في هذه الفترة من كتابة «الجنسية» ونشرتها قبل أن أتوقف تماما عن كتابة أي شيء، باستثناء ما يتطلبه العمل الصحفي الذي يحرق الكثير من طاقة الكتابة.

انفجر بئر الكتابة بعد سنوات، لعلّي شعرتُ بالنضج، وخفتت حدّة قلقي، وعادت لي المساحة الممكنة من الأمان الكافي للكتابة، فولدت بعد عامين «أخاف أن تفشل الموسيقى» وفي ذكر هذا تصديق لسؤالك حول خلطة الكتاب، التي أعتقد أنها استمرّت بشكل أكثر وضوحا في «كان غريبا أنني صدّقت» حيث السؤال ربما أكبر من الفكرة ذاتها، واللغة أكثر قدرة على احتواء الرؤى وتمثّلها.. قبل أن تبدأ مرحلة جديدة، هي التي خرجت في «تفسير السنين» التي صدرت العام الماضي عن دار رشم للنشر والتوزيع في السعودية، أنظر إليها، وأنظر إلى كتابي الأول، وألمس أن ما تغيّر هو أنا، الحلم أكبر، والعالم صار أوسع مما ظننته، ولا أزال أراه يمتد ويزداد اتساعا.

ما منابع الشعر لديك؟الحياة اليومية.. بودِّي لو أكتفي بهذه الإجابة، فهي تحمل في طيّاتها كل شيء، القراءة والكتابة، والموسيقى، والسينما، وكرة القدم، والأصوات الجميلة والمنفِّرة، ومسير الناس في الشوارع، وروائح العابرين، ووجوه المخذولين في المقاهي، وركض الأطفال في الساحات، حتى هذا البيت الذي أكتب إليك منه الآن، والمحدود بهذه الجدران، يضجُّ بالحياة التي يتفجّر من جنباتها الشعر.

عملك في عالم النشر هل جعلك ترى الحياة الثقافية بشكل آخر؟لم أكن من روَّاد الحياة الثقافية قبل دخول عالم النشر، سجَّلت دخولا محدودا لهذه الحياة بأصدقاء قلّة محفوفين بالجمال والفن، وحضوري في المحافل والإعلام الثقافي كان باهتا، وربما لم يكن موجودا أصلا، وليس من سبب في ذلك سوى محدودية الحياة الثقافية في السعودية آنذاك، وتكالب القيود عليها، الآن، اختلفت المسألة، وأصبح الحراك الثقافي في السعودية هائلا ويركض بدرجة تستعصي على اللحاق به. ومنذ انتقالي للعيش في الإمارات أنفقتُ أغلب الوقت في الصحافة، ثم جاءت «رواشن»، المتخصصة في نشر الشعر، والشعر فقط، وفتحت لي عيونا على هذه الحياة، لم تدُم طويلا للأسف، ذلك أن المحافل جميعها والأنشطة والمهرجانات توقفت بحلول جائحة كوفيد- 19، وتراجعت من بعدها أهمية الفعل الثقافي قياسا بما هو أولوية في حينه، وإن عادت الآن، لكنها عودة الحضور والتواجد، لا الإبهار والدهشة، لكنني أدركت أن معادلة الفعل الثقافي ليست محصورة في المنتج الثقافي النهائي، وأن ترسانة الثقافة مرتبطة بشكل وثيق بعمليات أكثر تعقيدا مما يبدو للعيان.

متى يمكنك تكرار كتابة الرواية وما المختلف بينها وبين الشعر؟أكتب رواية الآن، بلغتُ مراحلها النهائية، وقد أدفع بها للنشر مطلع العام المقبل إن حالفني التوفيق والتزمتُ بالصرامة ذاتها التي أنجزتُ فيها الأجزاء الأكبر من العمل.

الرواية مختلفة عن الشعر كليا، أحاول قدر الإمكان وأنا أكتب السرد ألا أكون شاعرا، الإفراط في شعرنة السرد فقرٌ في القدرات أحاول اجتنابه، وأبحث أثناء كتابة الرواية عن الميزان الذي يجعل حضور الشاعر -إن حضر- مثريا للسياق لا مثقلا له. الرواية بحاجة إلى الصنعة والمثابرة، وانضباط عال في الكتابة والتتبع، الموهبة لوحدها لا تصنع عملا روائيا، هذا ينطبق على الشعر، لكن الشاعر قد يكون فوضويّ النمط، يجمع كتاباته كما هي ثم ينشرها، وإن كنتُ لا أنعم بهذه الفوضوية ولا أرتاح لها، لقناعتي الشخصية بضرورة العمل على الشعر وتحريره والاشتغال عليه، وهو ما تشترطه الرواية للإمساك بحبكتها، وضبط القصة وتشذيب الزائد المنفلت من شطحات الكاتب.

كثير من الشعراء الجدد يتعاملون مع قصيدة النثر باعتبارها قصيدة التفاصيل البسيطة فكيف تنظر أنت إليها؟قصيدة النثر مربكة، وهي ورطة للدعيّ وكنز للموهوب، تبدو من شدة بساطتها متاحة لكل من يجيد الكتابة، لكنها من واقع محاولاتي في الكتابة والتنويع فيها، أصعب أنواع الكتابة على الإطلاق، وملغومةٌ بشهوة الكلام، والاستطراد في الحديث، قد تجعل الشاعر ثرثارا إذا لم يقبض على مفاتيحها.

المشكلة الأكبر في كتابة قصيدة النثر، وعودة إلى كونها قصيدة التفاصيل البسيطة، أنها في أحد أوجهها كذلك فعلا، وهذا ما فتح الباب على مصراعيه لكل من هبّ ودبّ (حرفيا) أن يزعم كتابتها، افتح مواقع التواصل الاجتماعي، واقرأ آلاف الجرائم التي يزعم مرتكبوها أنهم شعراء نتيجة الاستسهال في كتابتها، وكما سخر صديق: اكتب نصف سطر واضغط Enter، كرّر المسألة بعبارات مختلفة، أصبحت لديك قصيدة نثر.

ما جيلك عربيا؟ ومن الأقرب إلى ذائقتك من الشعراء العرب؟أستحق أن أُنعت بالقصور في معرفة جيلي، وهذه مسؤوليتي وحدي في عدم اكتشافه والبحث عنه، وربما وعيت لذلك الأمر متأخرا، وأصبحت الآن أركض محاولا التعرف عليهم وعلى إنتاجهم، مع أنني بدأت الكتابة بشكل جاد واتجهت للنشر بالتزامن مع ولادة شبكة الإنترنت في العالم العربي، لكنني انكفأتُ على مشاغلي الشخصية بعيدا عن مواكبة جيلي الذي أجهله.. وحين نتحدث عن الذائقة، فإنني سأفتح ذراعيّ لحصر الشعراء الذين أنصت لما يكتبون، فالأسماء كثيرة، والذين أجهلهم يفوقون من أعرفهم، لكنني سأضع في مقدمة من أستمتع بقراءتهم: محمد أبوزيد، وعماد أبوصالح، وأحمد محجوب، وأسماء حسين، وإسراء النمر، وخلود رضا، وعلية عبدالسلام من مصر، وعبدالله ثابت، ومحمد خضر، وأحمد الملا، وغسان الخنيزي، وروان طلال، وهدى المبارك من السعودية، ولقمان ديركي، وناريمان حسن من سوريا، وخالد الناصري، وأمل إسماعيل، وحسين حرزالله من فلسطين، وهدى أشكناني من الكويت، ووسام علي، وأحمد عدنان نجم من العراق، وزهران القاسمي من سلطنة عمان.

وإذا تحدثنا عن أسماء سبقت بالوقت والتجربة، سأذكر فواز عيد، وأدونيس، ومحمود درويش، ومحمد الماغوط، ومحمد الثبيتي، وحمزة شحاتة، وأمل دنقل، ورياض الصالح الحسين، وأنسي الحاج، وأحمد راشد ثاني، الذي لم يُقرأ بشكل كافٍ حتى اللحظة.

هل الشعر مظلوم بشكل ما بالمقارنة بما يُمنح للرواية والقصة من حيث الجوائز والإعلام والمقروئية؟طبعا! ولهذا أسباب منطقية سواء أعجبتنا أم لم تعجبنا، لا يمكن للشعر أبدا أن يحظى بذات المقروئية التي تحظى بها الرواية، والجيّد منه تحديدا، لا يستطيع أن يصل أبعد من دوائره الضيقة، لم يعد الشعر ذا حظوة لدى القارئ، القراءة ككل تراجعت كثيرا أمام سطوة الفيديو والصورة في مواقع التواصل الاجتماعي، واحتكار التريند وصناعته، وتضاءلت أمام هذه أيضا حصة الأنواع لدى كل قارئ، خصوصا مع سهولة نشر الكتب، وتزايد أعداد دور النشر، وهو أمر صحيّ على كل حال مهما تفاوتت جودة المنشور، فالإبقاء على الكتاب حيا -بأي وسيلة- هو نجاح للكتابة، وضمان لاستمراريتها، أما النوعية فهي مسألة لاحقة يتكفّل بها الوقت، ووعي القارئ، والتراكم المعرفي الذي سيميز من خلاله الغث من الجيد.

الشعر.. كلما اقترب من الجمهور انخفضت جودته، وكلما زاد المعجبون به ارتدّ إلى الرداءة، ولا يمكن للجوائز لوحدها أن تقلّص المسافة بين المتلقّي والشاعر، وأن تفرض ذائقة محدّدة عليه، ليس ثمة مقارنة بين الجوائز الممنوحة للرواية وشبيهاتها الممنوحة للشعر، ونظرة خاطفة على الشاعر الفائز بأي جائزة كبرى مقابل من يصل إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر -مثلا- تُخرج الشاعر فورا من المعادلة.. الناشر، والإعلامي والمتلقي -والكاتب أيضا- كلهم يلتقون في نقطة واحدة: الانتشار، وهو ما يتسنى للروائي ولا يتوفر للشاعر.

وأخيرا.. ما مشروعاتك القادمة؟

انتهيتُ أخيرا من كتاب جديد دفعتُ به إلى الناشر، ومن المتوقع أن يرى النور في الدورة المقبلة من معرض الرياض الدولي للكتاب، وهو تجربة خارج سياق الشعر والسرد، اشتغلتُ فيه على تدوين ذائقتي الفردية في الأدب والفنون، وحاولت من خلاله توثيق رؤيتي لهذه العوالم الإنسانية من منظور شخصي. وأعمل كما أسلفت على رواية، آمل أنها ستكون متوفرة العام المقبل، إلى جانب كتاب شعريّ لا يزال قيد العمل، وقد يتطلّب بعض الوقت حتى تمامه.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی السعودیة من الشعر وإن کان من کتاب قبل أن لکل من وهو ما

إقرأ أيضاً:

للتاريخ وجوه أخرى؟

التاريخ حَمَّال أَوْجُه، فما تراه نصرا يراه الآخر هزيمة، وما يدوّنه مُؤرِّخٌ ما يتغاضى عنه مؤرخٌ آخر لأن المؤرّخ بشرٌ يتأثَّر بموقفه الذاتى تجاه الأحداث وفق رؤاه الذاتية وقناعاته الشخصية وثقافته وانحيازه وما تأثر به سماعا أو مشاهدة، فموضوع حياد المؤرخ مثل حياد الناقد كالغول والعنقاء والخِلّ الوفى كما قالت العرب قديما أى من المستحيلات ولذلك علينا أن نفكر فيما دوّنه المؤرخون ليس من باب الشك والريبة ولكن من باب الحيطة والحذَر وقد حظى التاريخ فى شتى الأمم والعصور بأقوال متناقضة فى حوْج لتفكير المتلقى للوصول إلى الحقيقة أو شِبه الحقيقة، ومن عجب أن جُلَّ المؤرخين ينبهرون بشخصيات القيادة فى المعارك متناسين الجنود الذين يتساقطون فى الميادين بين قتيل وجريح، ويتناسون المدنيين الذين يدفعون ثمنا باهظا فى التهجير وضياع ممتلكاتهم وذويهم، ومن عجب أن القوانين تحمى المدنيين دون الجنود، وكأن الجنود آلات لها أن تموت دون تحريم قانونى ولذا آمل أن تشمل المواثيق الدولية وقوانين الدول تحريم قتل الجنود والمدنيين، فالحروب مدمرة إلا إذا كانت لنصرة الحق ودفع الظلم. أعود إلى المؤرخين وكتبهم التى تحتاج إلى غربلة وإلى البحث عن الحقيقة وما يقترب منها، فالتاريخ لم يهتم بالبشر العاديين وإنما وقع تحت تأثير المنتصِر ونسى مَنْ حقَّق النصر وكالَ الترابَ على المهزومين.

لماذا لا نجد فى أقسام التاريخ مساق تأريخ التاريخ وتمحيص التاريخ أو التاريخ المقارن لنرى الرؤى المغايرة للحقيقة ونكشف ما تناساه المؤرخون نسيانا أو عمدًا. وسنكتشف الحقيقة وزيفها فى آن واحد؛ كما أننا سنعثر على ما غفل عنه المؤرخون؛ وربما كان الأدب شعره ونثره معينا للمؤرخ الحديث فى وصف ما آلت إليه الشعوب وأحوالها وترفها ومآسيها وفقرها فربما كان المؤرخ منبهرا بالحكام متناسيا الشعوب لكن الأديب ولا سيما الشاعر شعر بما لم يشعر به المؤرخون.

قال الشاعر:

إِنِّى جَعَلْتُكَ فِى الفُؤَادِ مُحَدِّثِى /

وَأَبَحْتُ جِسْمِى مَنْ أَرَادَ جُلُوسِي

فَالجِسْمُ مِنِّى لِلجَلِيْسِ مُـؤَانِسٌ/

وَحَـبِيْبُ قَـلْـبِى فِـى الفُؤَادِ أَنِيسِي

[email protected]

 

مقالات مشابهة

  • للتاريخ وجوه أخرى؟
  • «الملاح التائه».. علي محمود طه صاحب قصيدة «الجندول» لـ محمد عبد الوهاب
  • نجيبة الرفاعي: الكتابة بحث دائم عن الذات
  • تراقصت بقدومكم رتب العلا.. طالب صيني يلقي قصيدة أمام وزير الإعلام.. فيديو
  • قصدتُ الأطلال: قصيدة نثر
  • مواقع التواصل الاجتماعي وفوضى الشعر!
  • التدريب على أساليب الكتابة الإبداعية للطلبة الموهوبين بالداخلية
  • أخبار الفن| تصريح صادم من ميسرة تجاه عمرو دياب.. وفاة والد المخرج معتز حسام
  • وفاة والة المخرج معتز حسام
  • وفاة والد المخرج معتز حسام