ترجمة: قاسم مكي
بَسَطَ الدولار الأمريكي سيطرته على الأسواق المالية العالمية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؛ فهو يشكّل ما يقرب من 60% من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية، يليه اليورو بنسبة 20%. إلى ذلك 90% من المعاملات في أسواق النقد الأجنبي تتم فَوْتَرَتها بالدولارات وكذلك نصف التجارة الدولية. ما يعزز مكانةَ الدولار وضعُه كعُملة ملاذ أخير في أوقات الأزمة.
امتياز مُغالَى فيه
تجني حكومة الولايات المتحدة ومواطنوها منافع جمَّة من "الامتياز الفاحش" أو المغالَى فيه للدولار في الأسواق المالية العالمية، حسب وصف وزير مالية فرنسي سابق. فبسبب الطلب العالمي القوي على الدولار والأوراق المالية المدعومة به مثل سندات الخزانة الأمريكية يمكن للولايات المتحدة الاقتراض بأسعار فائدة منخفضة جدا مقارنة بالبلدان الأخرى. كما يمكن للحكومة والشركات الأمريكية الاقتراض من دائنين أجانب بالدولار وليس بالعملات الأجنبية بحيث لا تتغيّر قيمة الدَّين مع التقلبات في أسعار الصرف. أيضا الطلب العالي على الدولار يعزز قيمته مقابل العملات الأخرى مما يجعل المنتجات أرخص للزبائن الأمريكيين على الرغم من أن ذلك على الجانب الآخر، يجعل الصادرات الأمريكية أقل تنافسية. إضافة لذلك، الهيمنة العالمية للدولار تمنح حكومة الولايات المتحدة القدرة على فرض عقوبات بعيدة الأثر وفعالة على خصومها. وهي بهذا المعنى أداة قوية للسياسة الخارجية. لكن على الرغم من هيمنته المستمرة فإن التحديات الداخلية والخارجية للدولار الأمريكي تتزايد.
التحديات الداخلية
للمفارقة ولأسباب من بينها تكاليف اقتراضها بالغة الانخفاض راكمت الولايات المتحدة ديونا مهولة بلغت 32.11 تريليون دولار. وهذه مديونية غير قابلة للاستدامة في الأجل الطويل ويمكنها تقويض الثقة في الدولار الأمريكي. سياسيا من الصعب للقادة معالجة قضية الدَّين المتصاعد. وعلى الرغم من أن الشعب الأمريكي يؤيد خفض الدَّين والإنفاق فإن الخطوات المحددة للقيام بذلك مثل زيادة الضرائب وإصلاح برامج الاستحقاقات مثل الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية غير مرغوبة خصوصا وسط الأمريكيين الكبار في السن. السقف المفروض على حجم الدَّين الذي يمكن أن تحتفظ به الولايات المتحدة قانونيا يشكّل تهديدا أكثر آنية. فهذه الآلية غير المعهودة (أي السقف القانوني للدَّين العام الأمريكي) تُحِدّ ليس الإنفاقَ الفعلي ولكن قدرةَ وزارة الخزانة على الاقتراض لسداد الدَّين المستحق عليها سلفا والذي لا يمكن زيادته (الاقتراض عليه) دون تصديق الكونجرس. الولايات المتحدة إحدى البلدان القليلة في العالم التي لديها مثل هذا السقف على الدَّين. انتهاك سقف الدَّين سيقود إلى العجز عن السداد. وهذا هو السبب في أن هذا السقف منذ فرضه لأول مرة في الحرب العالمية الأولى رُفِع عشرات المرات بواسطة الكونجرس. لكن وكما اتّضح مرة أخرى مؤخرا جعل تصاعد الاستقطاب السياسي العجزَ عن سداد الدَّين احتمالا حقيقيا. فكلما حان وقت رفع سقف الدَّين بعد أعوام قليلة يشرع أحد الحزبين (الديمقراطي والجمهوري) أو كلاهما في لعبة "حافة هاوية" سياسية لانتزاع تنازلات من الحزب الآخر. ومن شأن العجز عن السداد أن يكون كارثيا ويمكن أن يقوض بشدة الثقة في الدولار الأمريكي وفي وضعه كملاذ آمن. وسيتعرض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة إلى خفض حاد مما ينهي الامتياز المغالى فيه للدولار. بل حتى الاقتراب من ذلك يمكن أن تكون له عواقب. ففي عام 2011 خفضت وكالة "ستاندارد آند بورز" درجة التصنيف الائتماني للولايات المتحدة عندما تبقّى لها يومان لبلوغ سقف الدَّين. ومؤخرا فعلت وكالة التصنيف الائتماني "فيتش" الشيء نفسه على الرغم من أن اتفاقا في آخر لحظة بين الرئيس جو بايدن ورئيس مجلس النواب (الجمهوري) كيفن مكارثي أدّى إلى تجنب حالة عجز عن سداد الدَّين الأمريكي. واقع الحال، وضعُ حدٍّ للدَّين لا يساعد حتى في معالجة قضية تصاعده كما اتّضح بالنمو المستمر للدَّين الوطني الأمريكي على الرغم من الانسدادات الكثيرة حول سقف الدَّين في السنوات الأخيرة.
التحديات العالمية
الهيمنة العالمية للدولار تمنح حكومة الولايات المتحدة سلطة فرض عقوبات مدمرة وشنِّ أشكال أخرى من الحرب المالية ضد الخصوم. وهي منذ الحادي عشر من سبتمبر (هجمات نيويورك) تستخدم هذه السلطة بوتيرة متزايدة. في عام 2022 كان أكثر من 12 ألف كيان خاضعا لعقوبة بواسطة وزارة الخزانة الأمريكية وذلك بزيادة أكثر من 12 ضعفا منذ بداية القرن. العقوبات الأمريكية ليست الأفضل في تغيير تصرفات الأنظمة. لكنها تفرض حقا ثمنا ليس قليلا على الخصوم المستهدفين الذين يتمسكون بتصرفات تعارضها الولايات المتحدة. وكثيرا ما لا يثير استخدامها إشكالا كما في حالة العقوبات المفروضة على روسيا بسبب الحرب الأوكرانية. لكن الإفراط في استخدام العقوبات يمكن أن يدفع البلدان بما في ذلك الحلفاء إلى التفكير في الابتعاد عن النظام المالي المرتكز على الدولار. مثلا عارضت البلدان الأوروبية انسحاب الولايات المتحدة الأحادي من الاتفاق النووي الإيراني. لكنها اضطرت إلى وقف التجارة مع إيران بسبب العقوبات الثانوية والتي كانت جزءا من حملة "الضغط الأقصى" ضد طهران. هذا جعلها تفكر في تطوير بديل لنظام "سويفت" والأنظمة المرتكزة على الدولار. لم يتم تنفيذ هذا المقترح. لكن إذا كان حلفاء الولايات المتحدة قد فكروا في بدائل للنظام الذي يعتمد على الدولار ليس من الغريب أن خصومها مثل روسيا والصين ظلوا يحاولون تقويض هيمنة الدولار. إضافة لذلك، نظرا إلى مكانة الدولار كعملة احتياط عالمية، لا تقتصر آثار السياسات النقدية لبنك الاحتياط الفدرالي على حدود الولايات المتحدة. مثلا عندما رفع البنك أسعار الفائدة لمحاربة التضخم خلال العام الماضي أدى ذلك إلى انخفاض عرض النقد ونقلِ المستثمرين أموالهم من البلدان النامية إلى "الملاذ الآمن" لسندات الخزانة الأمريكية مما قاد إلى تدفقات رأسمالية خارجية ضخمة. هذا الخروج لرؤوس الأموال يقود أيضا إلى ارتفاع سعر صرف الدولار الأمريكي مقابل العملات الأخرى وارتفاع دَين البلدان النامية المقوّم بالدولار. وليس من المفاجئ أن هذا يؤثر بقدر أكبر على البلدان ذات المديونية المرتفعة. فأزمة ديون أمريكا اللاتينية في الثمانينيات كان أحد أسبابها سلسلة الإجراءات المتشددة التي اتخذها بنك الاحتياط الفدرالي برفع أسعار الفائدة للسيطرة على التضخم. وفي حين أن البنك ربما لا يُتوقَّع منه أن يضع ذلك في اعتباره عندما يحارب التضخم يجب الانتباه إلى أن الأسواق الناشئة يمكنها تنويع موجوداتها من عملات الاحتياط لتحقيق المزيد من الاستقلال الذاتي في تدبير سياساتها النقدية والمالية.
ابتعاد عن الدولار؟
بسبب العوامل المحلية والعالمية التي سلطنا عليها الضوء هنالك رغبة قوية للتنويع وعدم الاقتصار على نظام عملة الاحتياط العالمية المرتكز على الدولار. هل قادت هذه العوامل إلى تدهور في نفوذ الدولار؟ لقد اضطرت روسيا وهذا ليس بغريب إلى التخلي عن الدولار في بحثها عن سبل تجنبها العقوبات الغربية. لكن الصين التي سعت منذ فترة طويلة لعولمة عملتها هي البلد الذي يتصدر جهود إضعاف قوة الدولار. لقد جددت مؤخرا اتفاقية لتبادل العملات مع الأرجنتين. كما توصلت قبل فترة وجيزة أيضا إلى اتفاقية مع البرازيل التي تبلغ قيمة تجارتها السنوية معها 150 بليون دولار لاستخدام عملتيهما في تعاملاتهما التجارية بدلا عن الدولار الأمريكي. قد لا يبدو ذلك أمرا جللا. لكن الصين تسعى إلى عقد اتفاقيات شبيهة مع بلدان أخرى. وإذا نجحت هذه الاتفاقيات ستشكل تحديا للدولار الأمريكي بوصفه العملة المفترضة للتجارة العالمية نظرا إلى الدور المهيمن للصين في التجارة العالمية للسلع. أيضا شهدت الاحتياطيات العالمية ابتعادا تدريجيا عن الدولار الأمريكي. فحصة الدولار في احتياطيات النقد الأجنبي العالمية كانت أقل بقدر طفيف من 60% في الربع الأخير من عام 2022 مقارنة بأكثر من 70% في عام 1999. وخفضت الصين، وهي أكبر حائز على سندات الخزانة الأمريكية في الخارج، موجوداتِها الدولارية مع تدهور علاقاتها مع الولايات المتحدة. وموجوداتها الحالية عند أدنى مستوى لها منذ مايو 2009. على الرغم من كل هذا من المهم الإشارة إلى أن الدولار الأمريكي يظل مهيمنا في الاحتياطيات العالمية للنقد الأجنبي وذلك أساسا لعدم وجود بديل واضح. ورغم جهود الصين لعولمة الرينمينبي فإنه يشكل 2.7% فقط من الاحتياطيات العالمية. ونظرا للقيود الصينية الصارمة على رأس المال ومحدودية تحويل الرينمينبي إلى العملات الأخرى لا يزال من المستبعد أن يتحدى بشكل كامل سيطرة الدولار. لكن على الولايات المتحدة إدراك التحديات المحلية والعالمية التي تواجه الدولار الأمريكي والعمل على إزالة الشكوك عالميا لكي يكون بمقدورها الحفاظ على مكانته حتى إذا ظهر له بديل يتَّصف بالصِّدقية. يمكن أن تشمل خطواتها على هذا الصعيد حل مشكلة الدَّين العام للولايات المتحدة وإنهاء "سقف الدَّين" أو ربطه بمصادقة الكونجرس على الإنفاق لتعزيز حسن النية في نقاش زيادة أو خفض الإنفاق دون المخاطرة بالعجز عن السداد. على الولايات المتحدة أيضا استخدام العقوبات بقدر أكبر من التعقّل والحصافة. العقوبات أداة ضرورية للولايات المتحدة لتوظيف نفوذها الاقتصادي من أجل تحقيق أهداف سياستها الخارجية. واستخدامها غالبا ما يكون مبررا لكن يجب عدم الإفراط فيه. لقد ظل الدولار قويا لأكثر من سبعة عقود. وتدهوره إذا حدث يجب ألَّا يكون، على الأقل، نتيجة لأخطاء أمريكا نفسها.
الكاتب باحث مشارك في الاقتصاد الدولي بمجلس العلاقات الخارجية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الخزانة الأمریکیة الدولار الأمریکی للولایات المتحدة الولایات المتحدة على الرغم من على الدولار عن الدولار یمکن أن على الد فی عام
إقرأ أيضاً:
الحرب بين الولايات المتحدة والصين تتجه نحو التوسع
الولايات المتحدة – تمتلك الولايات المتحدة بوضوح أحدث التقنيات المتعلقة بصناعة الرقائق في سياق “الحرب” الدائرة بين واشنطن وبكين، ولكن ربما تكتسب الصين ميزات قد تؤدي إلى توسعة نطاق الصراع.
ففيما أعاقت قيود التصدير الأمريكية تقدم الصين في مجال الرقائق المتقدمة، لجأت بكين بقوة إلى توسيع رقعة إنتاجها الرقائق. وهي ليست متطورة مثل رقائق الذكاء الاصطناعي من إنفيديا (Nvidia)، ولكنها ضرورية للسيارات والأجهزة المنزلية، وفق تقرير نشرته “وول ستريت جورنال”. وقد تسبب انقطاع إمدادات هذه الرقائق في حدوث فوضى في سوق السيارات في أثناء الوباء الكوفيدي.
أنفقت الصين 41 مليار دولار على معدات تصنيع الرقائق في عام 2024، أي بزيادة قدرها 29% على أساس سنوي، وفقا لبنك “مورغان ستانلي”، ويمثل هذا ما يقرب من 40% من الإجمالي العالمي، ويقارن بمبلغ 24 مليار دولار المنفق في عام 2021.
وكان جزء من هذا الضخ محاولة من الشركات الصينية لتخزين الأدوات اللازمة التي لا يزال بإمكانها الحصول عليها قبل تشديد القيود بشكل أكبر. لكن الكثير يأتي أيضاً من شركات صينية مثل شركة Semiconductor Manufacturing International، أو SMIC، وHua Hong Semiconductor لصناعة الرقائق القديمة.
ومن جانبها، أنفقت SMIC، أكبرُ مسبك للرقائق في الصين 7.5 مليار دولار على الاستثمار الرأسمالي في عام 2023، مقارنة بحوالي 2 مليار دولار قبل عام من الوباء.
وتعكس الاستراتيجيةَ الشاملة أصداءُ النجاحات الصينية المماثلة في قطاعات مثل الألواح الشمسية التي تتمتع بالدعم الحكومي الهائل، والتسعير، والرغبة في لعب اللعبة الطويلة التي قد لا يرغب اللاعبون الآخرون في القيام بها.
لكن هذه الصناعة لم تصل إلى مستوى الهيمنة على السوق، على الرغم من أن الشركات الصينية تحقق بالتأكيد تقدما. فقد زادت المسابك الصينية حصتها في السوق العالمية في العُقَد الناضجة من 14% في عام 2017 إلى 18% في عام 2023، وفقا لـ “برنشتاين”.
وقد ساعد العملاء الصينيون في هذا على وجه الخصوص، حيث حصلوا على 53% من إمداداتهم من الرقائق الناضجة من المسابك الصينية في عام 2023، وذلك ارتفاعا من 48% في عام 2017. ومن شأن التوترات الجغراسياسية المتزايدة أن تدفع العملاء الصينيين إلى البحث عن مورّدين في الداخل الصيني.
لم تجتح الرقائق الصينية القديمة الطراز العالم بعد، لكن هناك خطر واضح، خاصة بالنسبة للاعبين الأمريكيين، بما في ذلك شركة Texas Instruments وGlobal Foundries، المنافسة في صناعة هذا النوع من الرقائق. وهذا بدوره يمكن أن يشكل صداعا لواشنطن وهدفها المتمثل في الحفاظ على المرونة في سلسلة توريد الرقائق.
قد لا يكون من العملي تمديد القيود لتشمل الرقائق ذات الجودة المنخفضة، لكن الشركات المنتجة لهذه الرقائق قد تحتاج إلى مساعدة الدولة للتنافس مع الصين.
وقد وصفت الولايات المتحدة استراتيجيتها بشأن الضوابط التقنية بأنها نهج يشبه “ساحة صغيرة ذات سياج عال” مع فرض قيود صارمة على عدد محدود من التقنيات المتقدمة، لكن الحَد من حِدة الصراع بهذه الطريقة قد لا يكون بهذه السهولة.
في حرب الرقائق العالمية، كما هو الحال في أي صراع، تميل محاور النزاعات إلى التوسع، ومحاور الاشتباكات ستكون متعددة بين الولايات المتحدة والصين.
المصدر: CNBC