حلب في قلب المشهد السوري من جديد
تاريخ النشر: 1st, September 2023 GMT
يبدو المشهد السوري اليوم على عتبة تصعيدٍ جديد لكسر حالة الجمود وعدم اليقين الذي تعيشه البلاد منذ انحسار الأعمال القتالية في نهاية 2018، خصوصاً بعد فشل محاولات الانفتاح على نظام الأسد من قبل تركيا ثم السعودية والجامعة العربية.
تتزايد القناعات بكون الأسد ليس شريكاً ممكناً في الحل السياسي السوري، إذ يرفض النظام حتى الآن معظم المطالب الدولية والإقليمية من أجل تحقيق انسياب سياسي يساهم في تجاوز عتبة اللا يقين.
فالنظام يتطلع لعلاقات ذات طابع عصابي تعمل بنظام الأتاوة، كتلك التي نسجها مع الإمارات العربية المتحدة، حيث قدمت أبو ظبي دفعات من العملة الصعبة للنظام السوري في ضوء تطور العلاقة بين الطرفين، والتي كانت في إطار مقايضة الكبتاغون. ويبدو أن النظام وحلفاءه على الأرض يفضلون هذا الشكل العلائقي في ظل وجود 5 قوى خارجية على الأرض السورية، وعقوبات دولية على النظام وحليفه الإيراني، قد تجعل من أي علاقات في إطار تقليدي غير ذات جدوى في المدى القريب؛ لغياب الإجماع الدولي حولها.
تتزايد القناعات بكون الأسد ليس شريكاً ممكناً في الحل السياسي السوري، إذ يرفض النظام حتى الآن معظم المطالب الدولية والإقليمية من أجل تحقيق انسياب سياسي يساهم في تجاوز عتبة اللا يقين. خمس سنوات منذ العام 2018 قد تكون أكثر من كافية لاختبار الإرادات السياسية، وهو ما يبدو أن نظام الأسد قد فشل فيه
لو قمنا بتحليل مشهد القوى الخارجية في سوريا، فسنجد أنها قوى لا تمارس وضعاً مستداماً، ويخضع سلوكها للقلق منذ2018. فتركيا التي أنشأت 3 مناطق سيطرة في الشمال، لم تُنهِ التهديد الكردي لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تمارس ما يشبه إدارة ذاتية في مناطقها. كما أن هذه المناطق ليست كافية لعودة اللاجئين السوريين، رغم الاستثمار التركي الكبير في تلك المناطق في تأهيل بناها التحتية. فقد فشلت محاولات أنقرة المستمرة لما تسميه "العودة الآمنة والطوعية" للاجئين بسبب عدم وجود مكان مؤهل اقتصادياً وخدمياً، فضلاً عن كونه آمناً. فقد دأب النظام وحليفه الروسي على قصف هدف مدني عشوائي في سوق تجاري أو ما شابهه في مناطق المعارضة مع تصاعد الحديث التركي عن العودة الآمنة، بهدف إحراج أنقرة.
من جانب آخر، نجد الولايات المتحدة وإسرائيل لا تزالان في جهود حثيثة لإدارة النشاط الإيراني في سوريا، حيث باتت الغارات الإسرائيلية على أهداف إيرانية، خاصة في محيط مطاري دمشق وحلب، الانعكاس الأوضح لحالة القلق من تعاظم دور إيران في سوريا إلى حدود مخلة بالمعادلة الأمنية لإسرائيل.
أما علاقة روسيا والولايات المتحدة في سوريا فتبدو الأشد حذراً، إذ لم يتقدم الغرب حتى الآن باتجاه شيطنة روسيا في سوريا كظلال للحرب الأوكرانية، رغم امتلاكه أدوات ذلك. إذ يحسب الغرب حساباً لردة فعل روسية مشابهة في البلقان، حيث يتأهب حلفاء موسكو الصرب لفرص مواتية لتعديل خريطة البلقان التي فرضها المجتمع الدولي في أعقاب تدخل الناتو في كوسوفو عام 1999. ومعروف أن أولى تداعيات اضطراب البلقان هو تدفق موجات من اللاجئين باتجاه وسط وغرب أوروبا.
ويبدو نظام الأسد أكثر القلقين، حيث يتكشف مع الوقت أن لحظة "انتصاره" في الصراع الدموي على المعارضة قد تكون أخطر تحدياته. فمنذ 2018 انهارت العملة السورية، حيث وصل سعر صرف الدولار بالليرة السورية إلى 15000 ليرة في آب/ أغسطس 2023، بينما كان بقيمة 450 ليرة للدولار الواحد في 2018. واكتشفت الحواضن الاجتماعية لأطراف الصراع داخل سوريا أن اقتصاد الحرب، بكل ما في الحرب من مآسٍ، كان كفيلاً باستمرار تدفق الدعم الخارجي لأطراف الصراع الذي كان ينعكس بشكل أو بآخر على دورة الاقتصاد. كما أن حلفاء حرب النظام اليوم ينتظرون مكافأتهم التي يعجز النظام عن تقديمها سوى من قراره السياسي. فإيران تسجل ديوناً بعشرات المليارات على النظام، وتستمر بابتزازه من أجل انتزاع تنازلات سيادية في البلاد، حيث يُشار لدور إيران في إفشال استجابة النظام لمبادرات الانفتاح السياسي الإقليمية.
مشروع تركيا في حلب ليس بالتعقيد الذي قد نتخيله، ففي حال اختارت أنقرة مسارات خشنة لذلك، فهي مسألة قد تحتاج تفاهماً مع روسيا فقط، التي ترغب بدورها في تقليم أظفار التوسع الإيراني في سوريا. وقد يكون هذا في إطار مقايضات ما تبحث موسكو اليوم عن الكثير منها في ضوء أزمتها مع الغرب في أوكرانيا. وما قد يدعم هذا المشروع هو مقايضة في جانب آخر يبدو أن تركيا اليوم تقدمها للولايات المتحدة عبر تعاون في المهمة المحتملة ضد الوجود الإيراني عند الحدود العراقية السورية
أمام هذا المشهد، فإن التفكير في دفع الجمود ولو عسكرياً، لا يبدو أمراً مستبعداً. وهذا ما بدأت بعض ملامحه في التحرك الأمريكي في قاعدة التنف الحدودية مع العراق، حيث بدأت الولايات المتحدة بالتعاون مع تركيا في نقل مئات من مقاتلي المعارضة السورية وتدريبهم على أعمال قتالية في مهمة لم يُفصح عنها، لكن يُرجّح أنها بهدف السيطرة على الحدود العراقية السورية، وقطع طريق التزود البري لمليشيات إيران في سوريا.
أما في الشمال السوري، فإن مدينة حلب مرشحة لأن تكون في قلب المشهد من جديد. فتركيا تتطلع إلى حلب كحل شبه وحيد لمشكلة اللاجئين السوريين، وقد كانت المدينة الاقتصادية الأكبر في سوريا محور المقترحات التركية مع الجانب السوري. فتركيا تأمل بإعادة تأهيل البنى التحتية للمدينة، وتطويرها كمركز جذب اقتصادي، وتوظيفها كمركز أعمال سوري قادر على استيعاب وجذب اللاجئين السوريين في تركيا. إلا أن النظام أفشل هذه المقترحات رغم فائدتها على اقتصاده المنهار، والسبب، فيما يبدو، معارضة إيران. إذ أن وظيفة حلب الجديدة ستقلص من سيطرة القوى المدعومة إيرانياً على المدينة، كما أن نظام الأسد يرغب بتعميق أزمات تركيا الداخلية، ويعتبر اللاجئين مشكلة تركية بحتة.
لا يبدو أن تركيا ستتوقف عن التطلع باتجاه حلب، بالجزرة أو بالعصا، إذ تُطرح أفكار تركية من قبيل إدارة أممية للمدينة، ولكن هذه الأفكار لا تستبعد خيار القوة العسكرية والسيطرة المباشرة، وفق ما عبر عنه السياسي التركي ياسين أقطاي في مقاله في الجزيرة نت يوم 31 آب/ أغسطس 2023. وأقطاي، كما هو معروف، شخصية تعمل قريباً من دوائر صنع القرار التركي. وكلامه قد يعكس بالضرورة ما يدور من أفكار داخلها. كما أن تحرك مجموعات قتالية لحزب الله من دمشق وريف حمص إلى حلب مؤشر هو الآخر على جديةً التصعيد المحتمل.
إن مشروع تركيا في حلب ليس بالتعقيد الذي قد نتخيله، ففي حال اختارت أنقرة مسارات خشنة لذلك، فهي مسألة قد تحتاج تفاهماً مع روسيا فقط، التي ترغب بدورها في تقليم أظفار التوسع الإيراني في سوريا. وقد يكون هذا في إطار مقايضات ما تبحث موسكو اليوم عن الكثير منها في ضوء أزمتها مع الغرب في أوكرانيا. وما قد يدعم هذا المشروع هو مقايضة في جانب آخر يبدو أن تركيا اليوم تقدمها للولايات المتحدة عبر تعاون في المهمة المحتملة ضد الوجود الإيراني عند الحدود العراقية السورية. فتركيا تريد من واشنطن إضافة لضوئها الأخضر على المشروع، أن تغض الطرف عن إنهاء الكانتون الكردي شمال حلب الذي سيكون استحقاقاً طبيعياً لمثل هذه العملية.
يبدو المشهد السوري ماضياً إلى مرحلة جديدة بعد خمس سنوات خاوية من أي تطورات غير ازدياد الفقر وتعمق التفتت الاجتماعي بين معظم شرائح الشعب على امتداد مناطق سيطرة الأسد وحلفائه. وقد تدفع هذه الأجواء الساخنة إلى انفراجات سلمية ملموسة بالقدر الذي قد تدفع فيه تصعيداً عسكرياً، إذ سيرغب النظام وحليفه الإيراني بإبداء مرونة من أجل تجنب الأسوأ
بالتزامن مع هذه التطورات، فإن حركة الاحتجاج في السويداء ودرعا واستمرارها قد ترتبط هي الأخرى، إضافة إلى محفزاتها الموضوعية اجتماعياً واقتصادياً، بإعادة تشكل إرادات إقليمية ترغب بالضغط على نظام الأسد، خاصة مع برود مسار الانفتاح العربي الأخير على نظام الأسد بسبب فشل مبادرة "خطوة مقابل خطوة" في تحقيق تقدم، خاصة ما يتعلق بتجارة الكبتاغون.
والسؤال الأهم، ما هي إمكانية مثل هذا السيناريو، الذي يستهدف إيران في الشرق والشمال والجنوب في وقت واحد؟ الجواب هو في سؤال آخر: من هم خصوم مثل هذا التصعيد ضد إيران؟ الجواب: لا أحد، وربما بمن فيهم النظام نفسه، الذي يرى أنه فاقد للسيطرة على قراره السياسي، وسيرغب بالتحرر من الابتزاز الإيراني على ما تبقى من سيادته، خاصةً أن إيران لا تبدو أنها تمتلك بديلاً أفضل للنظام.
تحت هذه الغيوم الملبدة، يبدو المشهد السوري ماضياً إلى مرحلة جديدة بعد خمس سنوات خاوية من أي تطورات غير ازدياد الفقر وتعمق التفتت الاجتماعي بين معظم شرائح الشعب على امتداد مناطق سيطرة الأسد وحلفائه. وقد تدفع هذه الأجواء الساخنة إلى انفراجات سلمية ملموسة بالقدر الذي قد تدفع فيه تصعيداً عسكرياً، إذ سيرغب النظام وحليفه الإيراني بإبداء مرونة من أجل تجنب الأسوأ.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الأسد تركيا سوريا حلب سوريا الأسد تركيا حلب مقالات مقالات مقالات سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة نظام الأسد خمس سنوات فی سوریا إیران فی قد تدفع الذی قد یبدو أن فی إطار من أجل کما أن
إقرأ أيضاً:
ماذا وراء إفراج دمشق عن مسؤولين بنظام الأسد؟
في الوقت الذي يطالب فيه السوريون بتحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة المتورطين بجرائم الحرب والانتهاكات بحق أبناء الشعب السوري، لا تزال الإدارة السورية الجديدة تتبع نهجا حذرا في إقرار آليات واضحة للعدالة الانتقالية.
وفي حين تتوالى إعلانات الأمن العام القبض على عدد من المسؤولين الأمنيين والعسكريين المتهمين بارتكاب جرائم في عهد نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، أطلقت خلال الأشهر الماضية سراح عددٍ منهم أو أبرمت تسويات معهم.
ويشير المنتقدون إلى أن هذه الإفراجات لم تُسبق بأي خطوات قضائية معلنة، ولم تتبعها تبريرات رسمية.
ويعد فادي صقر أحد قادة مليشيا الدفاع الوطني من أبرز الأسماء التي أفرج عنها النظام، إضافة إلى محمد حمشو الذي يعد الذراع الاقتصادية للرئيس المخلوع، واللواء طلال مخلوف القائد السابق في الحرس الجمهوري، الذي ظهر في أحد مراكز التسويات.
كما تفاجأ السوريون بظهور وزير الداخلية الأسبق محمد الشعار على شاشة إحدى القنوات التلفزيونية بعد أيام من تسليم نفسه للأمن العام، دون معرفة ما إذا كان قد أطلق سراحه.
وترى شريحة واسعة من السوريين أن إطلاق سراح هذه الشخصيات يمثل نكسة للعدالة، ويعيد إنتاج ثقافة الإفلات من العقاب التي اتهم بها النظام المخلوع.
إعلانويتساءل آخرون هل هذه المصالحات ضرورة أمنية أم تسوية سياسية على حساب دماء الضحايا؟ وما الذي يدفع الحكومة الجديدة لتجاوز المحاسبة في مرحلة يفترض أنها تأسيس لدولة العدالة والقانون؟
رغم تأكيد الرئيس السوري أحمد الشرع خلال مؤتمر النصر أنه منذ إطلاق العمليات العسكرية، لم يصدر عفواً عمن ارتكب جرائم منظمة، وأن الحكومة مستمرة بملاحقة "الرؤوس الكبيرة المجرمة"، فإن غياب المحاكمات العادلة لرموز النظام، وعدم وجود مسار واضح لتطبيق "العدالة الانتقالية" لحد الآن رغم النص عليه في الإعلان الدستوري، أدى إلى تعاظم مشاعر النقمة بين السوريين الذين فقدوا أحباءهم وتعرضوا لانتهاكات جسيمة، مما يفتح الباب واسعا لعمليات الثأر الفردي.
ويحذر مراقبون من أن سياسات العفو إن لم تقترن بمحاسبة ومكاشفة قد تتحول إلى شرارة جديدة لصراعات داخل المجتمع، مما يسهم في تقويض جهود المصالحة الوطنية، خصوصاً في مناطق لا تزال تعاني من انقسامات عميقة نتيجة لسنوات من العنف والانتهاكات.
وفي هذا السياق، كشف معهد دراسة الحرب في واشنطن، عن تصاعد لافت في وتيرة العمليات التي تنفذها مجموعات معارضة سابقة ضد عناصر من نظام بشار الأسد، في ما وصفه المعهد بـ"العدالة الانتقامية"، وذلك رداً على فشل الحكومة الانتقالية السورية في محاكمة ومحاسبة المتورطين في جرائم بحق السوريين.
ووفق التقرير الصادر في 21 أبريل/نيسان الجاري، شكّل مقاتلون معارضون سابقون في مدينة حلب "قوة مهام خاصة" هدفها اغتيال عناصر من النظام السابق، وبدأت هذه القوة بتعقبهم في أنحاء من المحافظة.
ويذكر التقرير عدداً من عمليات الانتقام منها ما وقع في محافظة حمص، عندما أقدم مقاتل (معارض سابق) في 20 أبريل/ نيسان الجاري على قتل قناص من جيش النظام، قال إنه تسبب بمقتل أفراد من عائلته خلال سنوات الحرب، حيث ذكر المقاتل أنه قدّم سابقاً شكوى رسمية ضد القناص، لكن تجاهل السلطات لقضيته دفعه لـ"أخذ العدالة" بيده.
إعلانويشير المعهد إلى أن هذه العمليات -مهما كانت دوافعها- تعكس غياب آليات العدالة الانتقالية، وتؤكد أن تجاهل ملفات المحاسبة يعيد إنتاج دائرة العنف.
وفي 11 يناير/كانون الثاني الماضي تداول ناشطون صوراً لإعدام ميداني بحق مختار حي دمر بدمشق مازن كنينة، المتهم بالتعاون مع سرية المداهمة 215 المسؤولة عن اعتقال وقتل العشرات، إلا أن وكالة الصحافة الفرنسية ذكرت أنها لم تتمكن من التحقق من صحة الصورة والمقطع بشكل منفصل.
أولويات داخلية
يبدو واضحا من خلال مراقبة تعامل الحكومة السورية مع ملف أتباع النظام المخلوع أنها تعمل على تحقيق توازن دقيق بين ضرورات العدالة من جهة، ومتطلبات الاستقرار الأمني والاجتماعي في المرحلة الانتقالية التي تمر بها سوريا من جهة أخرى.
وبناء على ذلك، يرى مراقبون أن إطلاق سراح بعض الشخصيات، لا يعكس تجاهلاً لجرائم المرحلة السابقة بقدر ما يعبر عن محاولة لاحتواء التوترات الداخلية.
وتعليقاً على ما سبق، يوضح الباحث في مركز الحوار السوري نورس العبد الله، أن النهج العام للسلطة حالياً يتوجه نحو تحقيق الاستقرار، وتقديم أولويات القضايا الحالية على معالجة انتهاكات النظام المخلوع.
وتتمثل دوافع الحكومة السورية لاتباع هذه السياسة -بحسب حديث العبد الله للجزيرة نت- في معالجة المناطق الملتهبة والشرائح الاجتماعية التي كانت حاضنة للنظام، مما يشجع مسلحي نظام الأسد، كتلاً وأفراداً، على ترك السلاح وتسليمه، ويساعد على حقن الدماء مقابل عدم الملاحقة.
ويستدرك العبد الله أن هذا النهج قد يكون مفهوماً ومقدراً من قبل السوريين بشرط أن يستثني المسؤولين عن الجرائم الكبيرة والانتهاكات الجسيمة، وأن يكون مؤقتاً لحين البدء بمسار العدالة الانتقالية.
من ناحيته، أفاد مصدر سياسي خاص في دمشق للجزيرة نت بأن غاية الحكومة من كل هذه الإجراءات هو تثبيت أركان الحكم في هذه المرحلة، وبحسب المصدر فإن الشرع شدد في لقاءته على أهمية إعطاء الأمان لرؤوس الأموال الكبيرة التي كانت مؤيدة للنظام في سبيل تشجيعها لمتابعة عملها مقابل دعم الدولة بنسبة معينة.
إعلانوأضاف المصدر أن العفو عن بعض الشخصيات الكبيرة جاء في سياق سعي الحكومة لاستقطاب الحاضنة الشعبية التي تنتمي إليها هذه الشخصيات، لترسيخ دعائم السلم الأهلي.
وكان الرئيس الشرع أوضح في تصريحات سابقة أن هناك خيطًا رفيعًا مهمًا جدًا بين العدالة الانتقالية والسلم الأهلي، مضيفاً "إن فرطنا في حقوق الناس، فهذا سيؤثر على السلم الأهلي، وإن تشددنا بالمطالبة في حقوق الناس، أيضًا سيؤثر على السلم الأهلي، وستحصل حالة من الفزع".
لا تقتصر حسابات العفو عن بعض رموز النظام المخلوع على التوازنات الداخلية فقط، إذ يرى مراقبون أنها تحمل رسائل خارجية أيضاً، تسعى من خلالها الحكومة إلى تقديم نفسها للعالم كدولة تتجنب سياسات الانتقام وتحترم مبادئ العدالة الانتقالية من جهة، وتعكس صورة سوريا الجديدة البعيدة عن أن تكون نسخة عن ممارسات النظام السابق من جهة أخرى.
وبعد سقوط النظام، أعلنت الإدارة السورية الجديدة عفواً عاما عن جميع العسكريين المجندين في صفوف قوات النظام، إلى جانب إنشاء "مراكز تسوية" في جميع المحافظات لتسليم الأسلحة وتسوية أوضاعهم، بشرط عدم تورطهم في مجازر أو جرائم حرب.
وفي هذا السياق، يرى عميد كلية الحقوق في جامعة حلب، إسماعيل الخلفان، أنه بالإضافة إلى سعي الحكومة لكسب كل أطياف الشعب السوري من خلال حالات العفو عن بعض رموز النظام، فإن هذه الإجراءات تحمل رسائل سياسية خارجية، تخاطب من خلالها المجتمع الدولي.
وتستخدم سياسة العفو هذه، بحسب حديث الخلفان للجزيرة نت، كأداة دبلوماسية لتقديم الحكومة الجديدة كسلطة مسؤولة ومتسامحة مع كل فئات وطوائف المجتمع السوري، مما يعزز جهودها في الحصول على الدعم وتوسيع الاعتراف الدولي بها.
إعلانوينفي الخلفان وجود أي ضغوط دولية في هذا المجال بشكل رسمي، لأن هؤلاء الأشخاص ارتكبوا جرائم ومسؤولون عن انتهاكات، "لكن ربما يكون هناك مطالبات بشكل غير مباشر من بعض الأطراف لتقصي الحقائق وتهدئة الوضع، والتريث بالمحاسبة ليس إلا".
ومنذ سقوط النظام، تكررت مطالبات المنظمات الحقوقية الدولية لتحقيق العدالة، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، إذ أكد رئيس لجنة التحقيق الأممية بشأن سوريا باولو بينيرو أن اللجنة مستعدة للتعاون مع الإدارة السورية الجديدة لملاحقة مرتكبي الجرائم في عهد نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد ومحاكمتهم أمام القضاء الدولي.
وأضاف، في مقابلة صحفية في 11 يناير/كانون الثاني، أن هناك آلافا من مرتكبي الجرائم في عهد الأسد يجب محاسبتهم.
من ناحيته، قال المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون، في إحاطة له أمام مجلس الأمن، في 12 فبراير/ شباط الماضي، إنه أوضح للسلطات المؤقتة في دمشق أن بعثته مستعدة لتقديم المشورة والدعم في مختلف المجالات، وأشار المبعوث الأممي إلى أن من مسؤولية السلطات العمل على إطار شامل لإحقاق عدالة انتقالية في سوريا.
معوقات في طريق العدالةرغم المطالبات الشعبية بمحاكمة رموز النظام المخلوع وأتباعه من المتورطين في الانتهاكات والجرائم، فإن خبراء قانونيين يشيرون إلى وجود عقبات تواجه سوريا الجديدة في طريق تحقيق العدالة خلال هذه المرحلة، وتتمثل هذه العقبات بغياب المؤسسات القضائية المستقلة، وافتقار المنظومة القانونية إلى بنية متماسكة وموثوقة.
وفي حديثه للجزيرة نت يلخص المحامي والباحث في القانون الدولي، محمد الحربلية، هذه التحديات بالنقاط التالية:
فساد المنظومة القضائية، إذ لا يخفى على السوريين أن المحاكم الوطنية كانت أدوات في يد أجهزة الأمن لشرعنة جرائمها بحق السوريين، ولذلك فإن هذه المنظومة لا يمكن أن تؤتمن على ملف العدالة ولا تحظى أصلا بثقة السوريين. ويتمثل التحدي الثاني بإنشاء محكمة جنائية خاصة، لأن الجرائم التي ارتكبها رموز النظام تصنف جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية. ويحتاج النظر في هذه الجرائم -يضيف الحربلية- إلى قانون إنشاء محكمة جنائية خاصة لمحاكمة كبار المسؤولين، وهو ما يتعذر حصوله في الوقت الراهن في ظل عدم وجود سلطة تشريعية لسن هذا القانون. إعلانبدورها، أنشأت الشبكة السورية لحقوق الإنسان قاعدة بيانات شاملة تتضمن تفاصيل الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد ومسؤولوه طيلة 14 عاما، وتضمنت القوائم أسماء 16 ألفا و200 شخص ثبتت مسؤوليتهم عن الجرائم أو ارتباطهم بها.
وفي سياق متصل، يوضح عميد كلية الحقوق في جامعة حلب، المحامي الخلفان، أن الحكومة الحالية غير قادرة على إصدار قوانين؛ لأن رئيس الجمهورية بموجب الإعلان الدستوري لا يملك صلاحية تشريعية، كما لا يوجد حالياَ مجلس شعب من أجل سن التشريعات.
لكن الخلفان شدد في هذه الحالة على ضرورة أن تطمئن الحكومة الشعب بعزمها على المحاسبة والمحاكمة لكل المجرمين، خاصة وأن الإعلان الدستوري نص على العدالة الانتقالية وعلى آلياتها، إذ كلما تأخرت معالجة هذا الملف، تزعزعت الثقة بهذه الحكومة.
وكان وزير الدفاع، مرهف أبو قصرة أكد في لقاء مع تلفزيون "العربي"، على أن التسويات لا تلغي عملية المحاسبة القانونية اللاحقة، وهي لضبط الأوضاع وعدم السماح بالفوضى، وتثبيت الوضع الحالي ريثما يتم التعاطي مع هؤلاء الأشخاص عن طريق السلطات المختصة، مؤكدا أن "من عليه قضايا جنائية أو تعذيب يجب محاسبتهم عن طريق المؤسسات القضائية".