عبد الله علي إبراهيم

كتاب الدكتور جون قاي نوت يوه “ثورة في جبال الاستوائية: تمرد توريت وتأثيره في السياسة السودانية: 1955-1972” الصادر عن دار عزة بالخرطوم في 2009 كتاب سمح الخاطرة. سعى الكتاب إلى تجديد النظر إلى “تمرد” الفرقة الجنوبية من قوة دفاع السودان في 1955 بما يتجاوز تقرير القاضي قطران والسلطان لادو لوليك والسيد خليفة محجوب.

وهو تقرير كلفتهم به حكومة الزعيم الأزهري لبحث أسباب التمرد. وصدر في أكتوبر 1956 بعد إزاحة الأزهري عن الحكم. فقد أخذ جون يوه على التقرير أن صلاحيات لجنته اقتصرت على النظر في الأسباب الإدارية للتمرد لا بواعثه الاقتصادية والاجتماعية. كما أنها لم تتطرق إلى أدوار قد تكون للمصريين والبريطانيين في اندلاع التمرد. ولم يتجاوز المؤلف التقرير ك”طق حنك ساكت” بل جاء إلى دائرة النظر بأرشيف لم يسبقه إليه أحد. فقد مكنته معرفته باللغة العربية من الرجوع إلى ما كتبته صحف ومجلات مصرية (الأهرام والمصور ورز اليوسف) وعربية (الحياة والنهار) عن التمرد. كما استفاد من مذكرات أعضاء بمجلس قيادة الثورة المصرية عن صدى التمرد في مركز السلطة المصرية. واعتنى المؤلف أيضاً بروايات بعض من شاركوا في التمرد التي أدلوا بها لكتاب سبقوه..

من رأي المؤلف بعد النظر في الأرشيف المصري أنه كان لمصر ضلعاً كبيراً في التمرد بفضل الصاغ صلاح سالم وزير الثورة المصرية لشئون السودان. وكان هذا رأي حكومة الأزهري الذي صرحت به خلال توالي أحداث التمرد. وربما دل على تورط مصر فيه اضطرار الصاغ للاستقالة بعد ما تبين فساد خطته في الضغط على الأزهري ليهجر نزعته الاستقلالية المستجدة والعودة لعقيدته الأولى في الوحدة مع مصر. وكانت هذه الوحدة إحدى احتمالات اتفاقية فبراير 1953 لتقرير المصير للسودان: إما استقلال أو وحدة مع مصر بعد استفتاء..

وبدا من عرض المؤلف أن حيلة الصاغ تكونت من جانبين. الأول أن يحرك الجنوب في وجهة معاداة حكومة الأزهري تحريكاً خطراً. وما أن ينجح في ذلك حتى يتقدم لبريطانيا بمشروع لتدخل عسكري مصري إنجليزي يحرج الأزهري ويضعفه ويشفيه من علل الاستقلال. في الجانب الأول من الحيلة نجد الصاغ قد عقد تحالفات مع حزب الأحرار الجنوبي وصار قادته من أمثال السادة ستانسلاوس بياساما وسرسيو إيرو وبنجامن لوكي وبولين ألير تهش لهم مصر بالضيافة بينما يدعون هم إلى وحدة مصرية جنوبية. ولا يملك المرء من عرض المؤلف إلا الاستنتاج بغير صعوبة وجود يد للصاغ وراء التمرد. فالمؤلف على قناعة من أن حزب الأحرار، إن لم يدبر التمرد، فهو لم يكن برئ منه بالكلية. فالعريف ساترلينو أوبويا من قادة التمرد كان عضواً بالحزب وكان من بين زعامة الحزب من علم على أقل تقدير بخططه للتمرد. وكان الملازم رينالدو لويولا مسئولاً عن الاتصال بحزب الأحرار الجنوبي في جوبا. وفي سيرة الرجلين مواقف درامية شديدة. فقد بلغ اليأس بساترلينو من نجاح التمرد حداً دفعه لمحاولة اغتيال مسؤول شمالي. وهي المحاولة التي أدت إلى كشف التمرد للسلطات. وكان أكثر ما أحزن ساترلينو تقاعس حزب الأحرار. أما رينالدو فقد سلم نفسه للقوة التي جاءت لكسر التمرد وحيداً بين 27 شخصاً هم كل من بقي في توريت (مركز دائرة التمرد) من حرسه وبقايا الشماليين. ووقف كالسيف وحده لم يلذ بالغابة من فرط تبعة القيادة ولخذلان حزب الأحرار له أيضاً. وتطرق الكاتب في أكثر موضع للمفاسد التي جلبها “التمرد-الانقلاب” على حزب الأحرار حتى تفرق أيدي سبأ. وهذا جانب في السياسة الجنوبية لم يكن معلوماً لنا: حزب سوداني آخر تضعضع جداً حين أعمل في السياسة بيض الصحائف (السيوف) لا بيضها (الكتاب)..

أما الشق الآخر من حيلة الصاغ فقد كان خلق حالة من “الانهيار الدستوري” تضغط على الأزهري لجهة الوحدة. فسرعان ما تمردت الفرقة الجنوبية حتى تقدمت مصر لبريطانيا باقتراح عقد مؤتمر للقوى السودانية المعنية بالنزاع مصحوب بتدخل عسكري بريطاني مصري. وهو ما رفضته بريطانيا. واتهمت بريطانيا مصر بتدبير هذا التدخل لتبقى القوات المصرية متى تم جلاء البريطانيين فتكون سيدة الموقف. بل قال الكاتب إن بريطانيا رفضت أن تبعث بطائرات لنقل جنود قوة دفاع السودان للجنوب حتى لا تكون سابقة يبني عليها الصاغ مطلبه بالتدخل المشترك. واتهم الصاغ من الجهة الأخرى بريطانيا بالرغبة في فصل الجنوب ودعا إلى مؤتمر أحزاب سودانية بالقاهرة. وهذا الرجوع بمصير السودان إلى المربع الأول كيد كبير للأزهري.

من بين أكثر ما أعجبني في جون يوه حماسته للديمقراطية السودانية. وهي خصلة سياسية نادرة في فكرنا السياسي. فهو ذو عقيدة في الديمقراطية. فتلاشيها عن الساحة لم تجعله يوسوس بأننا ربما لم نستحقها كما يبادر إلى ذلك أكثرنا. ولم يمنعه قصر إقامتها بيننا من عرفانه لمزاياها في الاقتراب من مسألة الجنوب. فلم يُحَمّل الممارسة الديمقراطية الموصوفة بالشقاق في أدبنا السياسي “وزر” انقلاب عبود في 1958. فقد رأى لتلك التجربة الديمقراطية سمات غراء. فالنظام البرلماني عنده يساعد في كبح جماح التطرف الشمالي كما أنه يوفر منابر حرة للحوار السلمي بين القيادات الشمالية والجنوبية تصل به إلى تسويات مخلصة وواقعية. ففي رأيه أن تجربتنا البرلمانية في الخمسينات على قصرها شجعت سياسة المساومات حيث تسود تقاليد الحوار والتعاون بدل المواجهة والاقتتال. وبلغ ولاء جون يوه للديمقراطية حداً زكاها حتى وإن لم تسفر عن خطوة إيجابية لتحقيق مطالب الجنوب. فالسياسيون في نظره كانوا قادرين، أقله، على إجراء لقاءات وحوارات حرة حول سبل تحقيق تلك المطالب. وهذا ما فسد متى استبد الحكم بالعسكرية. فهذا الحكم يمثل أبلغ صور التطرف القومي الشمالي. وبه يضطر القوميون الجنوبيون إلى سياسة المنافي لا سياسة الخرطوم.

يستحق الصديق السياسي المخضرم محمد علي جادين عرفاننا جميعاً لتعريب الكتاب وسط مشاغله الحزبية المعروفة. ولكن سياسة جادين تنوير. وله سجل شاهد على ذلك. رحمه الله.

الوسومعبد الله علي إبراهيم

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: عبد الله علي إبراهيم حزب الأحرار

إقرأ أيضاً:

الأزهري يشهد احتفال الأوقاف بذكرى انتصار العاشر من رمضان

احتفت وزارة الأوقاف المصرية بذكرى انتصارات العاشر من رمضان ١٣٩٣هـ، الموافق السادس من أكتوبر ١٩٧٣م، من مسجد المشير محمد حسين طنطاوي بالقاهرة، في أجواء مفعمة بالفخر والاعتزاز، بحضور نخبة من القيادات الدينية والوطنية والعسكرية.

شهد الاحتفال حضور نخبة من القيادات الدينية والوطنية والعسكرية، إذ شارك في الاحتفال كلٌّ من:  الدكتور محمد عبد الرحمن الضويني، وكيل الأزهر الشريف؛ والدكتور إبراهيم صابر، محافظ القاهرة؛  والأستاذ الدكتور عباس شومان، الأمين العام لهيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف؛ والأستاذ الدكتور سلامة داود، رئيس جامعة الأزهر؛ وسماحة الشريف السيد محمود الشريف، نقيب السادة الأشراف؛ والأستاذ الدكتور عبد الهادي القصبي، شيخ مشايخ الطرق الصوفية؛ والأستاذ الدكتور يوسف عامر، رئيس اللجنة الدينية بمجلس الشيوخ.

وزير الأوقاف: الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون ومآثرهم خالدة في تاريخ الوطنعن الألعاب النارية| وزارة الأوقاف تحذر: الهزار مش بالإيذاء.. فكر قبل ما تضحكوزير الأوقاف: الاحتفاء بالمرأة شهادةُ حقٍّ واعتراف بإسهاماتها عبر التاريخوزير الأوقاف في يوم المرأة العالمي: دعمها واجب شرعي وعقلي

كما حضر الاحتفال اللواء الدكتور إسماعيل عبد الغفار، رئيس الأكاديمية البحرية؛ واللواء أسامة الجمال، مستشار أكاديمية ناصر العسكرية العليا، واللواء ياسر وهبة، نائب مدير إدارة الشئون المعنوية، إضافة إلى عدد من قيادات القوات المسلحة والشرطة المصرية.

كما حضر من جانب وزارة الأوقاف: الأستاذ الدكتور محمد عبد الرحيم البيومي، الأمين العام للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ومساعدو الوزير، إضافة إلى القيادات الدينية بالوزارة، ونخبة من العلماء والمفكرين.


وفي كلمته، أكد اللواء أسامة الجمال أن انتصار العاشر من رمضان كان لحظة فارقة في تاريخ الأمة، يجب أن تُروى للأجيال القادمة، مشيرًا إلى أن سر الانتصار يكمن في الإنسان المصري، خير أجناد الأرض، الذي أثبت أن الإيمان بالله، والوعي بقضية الوطن، والعمل الجاد، هي مفاتيح النصر.

وأضاف أن العدو، بعد إدراكه لقوة الجندي المصري، غيّر من إستراتيجيته، وانتقل إلى حروب الجيل الرابع، التي تستهدف الوعي، وزعزعة الثقة، وبثّ الشائعات، ونشر الفتن داخل المجتمع، ليجعل أبناء الوطن يعملون ضد أوطانهم دون وعي.

وأشار إلى أن العدو، بعد أكثر من أربعين عامًا من انتصار أكتوبر، حاول تفكيك المجتمع المصري عبر نشر الشائعات والمخدرات لإضعاف إرادة الشباب وإبعادهم عن قضايا الوطن، لكن مصر ظلت ولّادة للأبطال، فكما أنجبت الشهيد أحمد منسي وزملاءه، ستظل تُخرج أبطالًا يحملون راية الدفاع عن الوطن بكل قوة وإيمان.

واختتم كلمته بتأكيد أن الحرب لم تنتهِ، بل مستمرة بأساليب مختلفة، ومعركتنا اليوم هي معركة الوعي، إذ لا تزال مصر في رباط إلى يوم الدين، ولن يستطيع العدو تحقيق أهدافه طالما ظلّ أبناء هذا الوطن أوفياء لترابه، مدركين لحجم التحديات، محافظين على هويتهم الوطنية والدينية.

وفي كلمته، أوضح الدكتور محمد عبد الرحيم البيومي أن الشهادة اصطفاءٌ إلهي، مستشهدًا بقوله تعالى: "وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ"، مؤكدًا أن الشهيد في منزلة رفيعة، فهو يتشبه بالملائكة في طهارته ونقائه، لكنه يتفوق عليهم بكونه اختار طاعة الله بإرادته، بينما الملائكة جبلوا على الطاعة.

وأشار إلى أن الشهيد في العاشر من رمضان ارتقى بروحه في أجواء النور الإلهي، وكان في منزلة تسبق الملائكة، لأنه ضحّى بإرادته الحرة، لا بتقدير مفروض عليه. كما أكد أن نور الله سبحانه وتعالى يتجلى في الشهيد، إذ يمتد هذا النور من نور الله، إلى نور النبي ﷺ، ثم إلى نور القرآن الكريم، ليضيء روح الشهيد، مستشهدًا بقوله تعالى: "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا".

وأضاف أن معركة العاشر من رمضان لم تكن مجرد حرب عسكرية، بل كانت مواجهة بين الحق والباطل، إذ كان الجندي المصري أمام خيارين: النصر أو الشهادة، فاختار التضحية، وارتقى إلى حياة حقيقية، كما قال الله تعالى: "بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ".

يأتي هذا الاحتفال في إطار جهود وزارة الأوقاف المصرية لترسيخ معاني الانتماء الوطني، وتأكيد أن الدفاع عن الوطن واجبٌ شرعي وقومي، وأن حب الوطن من الإيمان، من خلال نشر الوعي الديني الصحيح، والتصدي للأفكار الهدّامة التي تحاول النيل من وحدة المجتمع المصري.

مقالات مشابهة

  • الأزهري يشهد احتفال الأوقاف بذكرى انتصار العاشر من رمضان
  • مكون الحراك الجنوبي يؤيد ويبارك إعلان قائد الثورة بشأن المهلة وإسناد غزة
  • الأمم المتحدة تؤكد تصاعد العنف في شرق الكونغو الديمقراطية
  • في بلدة جنوبية... انفجار جسم صغير بأحد المواطنين!
  • تمرد مؤيدي الأسد| الدفاع السورية: مستمرون بملاحقتهم والأوضاع تحت السيطرة.. تواجد أمني كثيف في منطقة الساحل.. وبيان مشترك يحث على وقف الأعمال العدائية
  • تمرد داخل حكومة بن مبارك وسط تهديدات بإقالته
  • إطلاق سراح الرئيس الكوري الجنوبي المعزول.. فيديو
  • أسامة الأزهري: استعن على قضاء حوائجك باللجوء إلى الله
  • أمر قضائي بالإفراج عن الرئيس الكوري الجنوبي المقال
  • ارتفاع عدد المصابين.. ووقف التدريبات بعد حادثة مقاتلة كورية جنوبية