الإمام الشافعي بين أهل الرأي وأهل الحديث (1)
تاريخ النشر: 1st, September 2023 GMT
من الشائع بين دارسي تاريخ التشريع الإسلامي أن الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت. 204هـ) "جمع" بين مدرستي أهل الحديث وأهل الرأي، وهي مقولة تحتاج -في رأيي- إلى تأمل نقدي؛ على الرغم من وجود بعض الشواهد التي قد تدعمها أو تحمل عليها؛ إذا ما غضضنا الطرف عن معطيات أخرى أوسع وأشمل، وهذا يثير مسألة منهجية هنا تتصل بكيفية التأريخ لفكرة ما، وتكوين تصور أدق عن الواقع التاريخي.
ولكن كيف نبرهن على ذلك؟ يتلخص المنهج هنا وفي المقال القادم -بمشيئة الله تعالى- في 3 مسائل رئيسة:
المسألة الأولى: دراسة السياق. والسياق هنا يحمل معنيين: الأول: سياق تأليف كتاب الرسالة للشافعي الذي هو نص مركزي هنا، ومن ثم سماه الشافعي "الكتاب". فتأليف الكتاب -بوصفه حدثًا- لا بد من وضعه في سياق حتى يكون له معنى؛ لأننا نفترض أن مثل هذا الحدث المتميز -في بنيته وتأثيره التاريخي والتشريعي- لا بد له من سياق أوسع من مجرد تأليف كتاب. والمعنى الثاني هو السياق التاريخي الأوسع الذي جاء فيه الكتاب أو وقع فيه الحدث.
المسألة الثانية: تلقي كتاب "الرسالة" (أو "الكتاب") بعد تأليفه وفي زمن الشافعي أو قريبًا منه، كما تزودنا به كتب التراجم التي هي مصدر مهم من مصادر التاريخ قد يهمله بعض الباحثين في التاريخ؛ خصوصًا أنها سميت "تاريخ" -على الاصطلاح- في لغة الأئمة السابقين، كما أن فتاوى النوازل مصدر آخر مهم في التأريخ قد يغفل عنه بعض المؤرخين.
المسألة الثالثة: تحليل مضمون كتاب الرسالة؛ لأن المضمون هو المعبر الأصرح عن مراد أو غايات مؤلفه، ويظهر ذلك من خلال المسائل التي ناقشها الشافعي، ومن الاعتراضات التي يفترضها ويرد عليها في الكتاب. في هذا المقال سأكتفي بمناقشة المسألتين الأوليين فقط، على أن أفرد للمسألة الثالثة مقالاً مستقلا بمشيئة الله تعالى.
سياق تأليف كتاب الرسالةثمة خبر مركزي يوضح لنا حيثيات تأليف كتاب "الرسالة"، فقد وردت أخبارٌ عديدة -بألفاظ مختلفة- توضح أن الكتاب جاء ثمرة تواصل بين الإمام المحدث المعروف عبد الرحمن بن مهدي (ت. 198هـ) وبين الإمام الشافعي. وكتب ابن مهدي إلى الشافعي يسأله أن يضع له كتابًا يوضح فيه معاني القرآن (أي طرق البيان)، ويجمع فيه قبول الأخبار (أي معايير قبولها والاحتجاج بها)، وحجة الإجماع (أي حجيته)، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، فوضع له الشافعي كتاب "الرسالة".
ويلخص هذا الخبر -في الواقع- محاور كتاب "الرسالة" أو أصول التشريع التي ترجع إلى القرآن والحديث والإجماع، ولكن الأهم هو أن الطلب جاء من أحد كبار أئمة الحديث في زمنه وهو ابن مهدي. وإذا ما ضممنا هذا إلى أخبار أخرى -سأذكرها لاحقًا- أمكن لنا أن نخلص إلى أن الحاجة إلى مثل ذلك الكتاب لم تكن -فقط- حاجة فردية وُجدت عند ابن مهدي. فهذا الإمام المحدث يحيى بن سعيد القطان (ت. 198هـ) كان من المستفيدين من كتاب "الرسالة" والمتباهين به أيضًا، ونقف -في بعض الأخبار- على أنه جرت بين الإمام المحدث المعروف إسحاق بن راهويه (ت. 238هـ) والإمام أحمد بن حنبل (ت. 241هـ) مراسلاتٌ بخصوص كتب الشافعي، وخاصة كتاب "الرسالة" الذي انتفعا به انتفاعًا كبيرًا. فهذه الأخبار تجعل -في الواقع- من رسالة الشافعي نصرًا لأهل الحديث على أهل الرأي، من منظور أهل الحديث على الأقل.
طرائق التفكير الفقهي زمن الشافعيلخص فخر الدين الرازي الشافعي (ت. 606هـ) طرائق التفكير الفقهي زمن الشافعي بالقول: "إن الناس -كانوا قبل الشافعي- فريقان: أصحاب الحديث، وأصحاب الرأي (..) وأصحاب الرأي أظهروا مذاهبهم وكانت الدنيا مملوءة من المحدثين ورواة الأخبار، ولم يَقدر أحد منهم على الطعن في أقاويل أصحاب الرأي". في القرن الثاني الهجري كان أصحاب الحديث قد برزوا وصاروا طائفة أو جماعة، وصار ذلك الاسم عَلَمًا على صنعة الاشتغال بالحديث، وخاصة بعد الجمع الرسمي لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم الذي بدأه محمد بن شهاب الزهري (ت. 124هـ) بأمر من الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز (ت. 101هـ). وقد تحولت الأحاديث مع القرآن -أو كادت- إلى مصدر حصري للتشريع في مقابل أصحاب الرأي الذين توسعوا في استعمال الرأي في مسائل التشريع حتى شمل الرأي -عندهم- 3 أصناف من الحجج:
الأول القياس على وقائع عرف حكمها بالنص بجامع التشابه بينهما أو وجود علة مشتركة بين الأمرين. الثاني الاجتهاد بمعناه الواسع الذي يحيل إلى إعمال العقل وتحكيم الخبرات. الثالث الاستحسان الذي شكل خروجًا عن الانضباط الذي فرضه القياس على واقعة أو حكم سابق، لدواعي المصلحة، الأمر الذي قد يخلف ثغرات أو عدم اتساق في التسويغ النظري.ويوحي نص الرازي السابق ببروز أهل الرأي على أهل الحديث؛ رغم كثرتهم، ويرجع ذلك في تقديري إلى اختلاف طبيعة منهج الفريقين؛ سلطة النقل وسلطة الحِجاج بأدواته المختلفة، أي أنه لم يكن ثم أرضية مشتركة بين الطرفين من ناحية المنهج.
ولكن النقطة التي تستوقفنا هنا في القرن الثاني الهجري، أنه بالرغم من كون الأرض مملوءة بالمحدثين والصنعة الحديثية، فإن الحديث لم يتحول -فيما يبدو من مصادر عديدة- إلى اتجاه عامّ أو حصريّ في التفكير الفقهي؛ مع ظهور أهل الرأي وتوسعهم في استعماله، بل إن الأمر لم يكن قاصرًا على الفقهاء، بل شمل القضاة كذلك؛ فالقاضي لا بد له من الحكم في المسألة، فماذا يفعل إن أعوزه النص مع كثرة الوقائع وقبل تبلور المذاهب الفقهية!
ثم عندما كثرت رواية الحديث برز إشكال الثقة بالمروي؛ فقد أسفر الجمع الواسع وكثرة المرويات عن نتائج وآثار جانبية تتصل بالوضع من جهة، وبالنسخ من جهة ثانية، وبالوقوف على أحاديث متعارضة من جهة ثالثة، خصوصًا أن هذه الأحاديث قد تتعارض مع ما رسخ في العمل (التقليد الحي) الذي عرفه المسلمون الأوائل وجروا عليه، ومن هنا ذهب أهل المدينة النبوية إلى أن ما عرفوه من ممارسة حية (عمل أهل المدينة) هو جزء من السنة النبوية، ولا يقبلون من الأحاديث القولية ما يخالفه، وبذلك أصبح عمل أهل المدينة أحد المعايير في تحديد قبول الأخبار وتحديد ما هو سنة تُحتذى.
ونحو ذلك فعل أهل العراق حين أَوْلَوا "السنة المشتهرة" أو "العمل المتوارَث" أهمية كبيرة، وأضفوا بعدًا عقلانيًّا على فهم الحديث، وخاصة من خلال اعتمادهم على الصحابة الذين غادر كثير منهم الحجاز ليستقر في العراق، ولذلك اعتمد فقهاء العراق على أقوال الصحابة واحتجوا بها؛ ما لم تتعارض فيما بينها؛ لأن اتفاقهم يورث الثقة بما لديهم من السنة. وكذلك اهتم الإمام الأوزاعي في الشام بالسنة النبوية التي تشبه عنده مفهوم أهل المدينة، بمعنى العمل المتوارث. أي أن الرأي بمعناه الواسع، والعمل المتوارَث الذي شكّل معيارًا يُرتكن إليه لتحديد ما هو سنة؛ خصوصًا إذا وقع التعارض بينه وبين الأحاديث القولية، هما سمتان أساسيتان من سمات تاريخ التشريع الإسلامي خلال القرن الثاني الهجري، كما نقف عليه من خلال المصادر المبكرة.
وظهر الشافعي في هذا السياق، وقد رحل وتتلمذ على أعلام من كلتا المدرستين؛ أهل الحديث (وخاصة الإمام مالك بن أنس) وأهل الرأي (وخاصة محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة). ومن النصوص بالغة الدلالة التي توضح لنا طرفًا من تفكير الشافعي ورؤيته لخارطة التفكير الفقهي في زمنه، نصٌّ يُفيد أن الشافعي سأل تلميذه الربيعَ بن سليمان عن أهل مصر، فقال له الربيع: "هم فرقتان: فرقة مالت إلى قول مالك وناضلت عليه، وفرقة مالت إلى قول أبي حنيفة وناضلت عليه. فقال الشافعي: أرجو أن أَقدُم مصر -إن شاء الله- فآتيهم بشيء أشغلهم به عن القولين جميعًا. قال الربيع: ففعل ذلك والله حين دخل مصر!". أي أنه ابتكر طريقًا ثالثًا يُقيّد استعمال الرأي في أضيق الحدود من جهة، ويتجاوز مشكلة عدم الاتساق في اتباع الحديث التي ظهرت عند مخالفيه من جهة أخرى؛ ومن ثم انتقد ترك الحديث بحجة معارضته للعمل المتوارث في المدينة النبوية، وبهذا وسع حجية الحديث النبوي الذي هو -عنده- أصل بنفسه.
تلقي كتاب "الرسالة" أيام الشافعيفي التأريخ لفكرة محددة (أو كتاب) لا غنى عن الوقوف على الشكل الذي تُلُقِّي به ذلك الكتاب في زمن مؤلفه أو قريبًا منه على الأقل؛ لأن التلقي -مضمومًا إلى العنصرين السابقين- يقربنا من الواقعة التاريخية ويعطينا رؤية أدق للحدث. لنتأمل -مثلاً- هذا النص الذي يقول فيه أحمد بن حنبل: "كانت أَقْفِيَتُنَا -يعني أصحابَ الحديث- في أيدي أصحاب أبي حنيفة ما تُنْزَعُ، حتى رَأَيْنَا الشافعي رضي الله عنه، وكان أَفْقَهَ الناس في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ما كان يكفيه قليل الطلب في الحديث". ونحو ذلك جاء عن الإمام المحدث أبي بكر الحُمَيْديّ (ت. 219هـ): الذي قال: "كنا نريد أن نَرُدَّ على أصحاب الرأي، فلم نُحْسِنْ كيف نرد عليهم؛ حتى جاءنا الشافعي، فَفَتَحَ لنا". هذه الأخبار شديدة الأهمية؛ لأنها واردة عن الطبقة الأولى المحيطة بالشافعي من أهل الحديث؛ فأحمد تتلمذ على الشافعي، والحميدي صحب الشافعي، وكلاهما من أصحاب المسانيد، وقد جاءت هذه الأقوال عنهما بسند عال. وهي أخبارٌ غنية الدلالة في وصف صنيع الشافعي؛ الذي نصر أهل الحديث ونفعهم بأمرين:
أولهما: أنه زودهم بحجج نظرية يجادلون بها أهل الرأي بعد أن عجزوا عن ذلك قبل كتابه؛ لعدم استعمالهم للرأي وقلة خبرتهم به، وبهذا فتح الشافعي الطريق لأهل الحديث في الحجاج النظري. ومن هنا وصف حسين الكَرابيسيّ الشافعي بقوله: "ورد رجل من أصحاب الحديث يتفقه"، وهذا الوصف من رجل كان يختلف إلى أهل الرأي شديد الأهمية؛ لأنه يصنف الشافعي ضمن أهل الحديث؛ منهجًا، ومن ثم قال الفقيه موسى بن أبي الجارود عن الشافعي: "اجتمع له علمُ أهل الرأي وعلم أهل الحديث، فتصرف في ذلك حتى أصَّل الأصول وقعَّد القواعد، وأذعن له الموافق والمخالف، واشتهر أمره"، أي أنه تسلح بأدوات أهل الرأي لنصرة الحديث كما هو واضح جدًّا في عمله وفي تلقي أهل الحديث لكتابه، لا بمعنى أنه وفق بين الفريقين؛ لأنه إنما قعد وتصرف بناء على طريقة أصحاب الحديث، ونُصرة لمنهجهم.
ثانيهما: أن الشافعي كان يستكثر من الحديث ويضيّق حدود الرأي؛ لأنه يعد الحديث أصلا بنفسه وحجة بنفسه، وهو القائل: "إذا صح الحديث فهو مذهبي". وهذا معنى قول أحمد: إن الشافعي "ما كان يكفيه قليل الطلب في الحديث"، وقد عبر الإمام إسحاق بن راهويه عن هذا المعنى حين قال: "ما تكلم أحدٌ بالرأي -وذكر الثوري والأوزاعي ومالكًا وأبا حنيفة- إِلا الشَّافِعِيَّ أكثرَ اتِّبَاعًا وأَقَلّ خطأ منه"؛ لأن الشافعي ضيّق مساحة الرأي لصالح حجية الحديث واعتباره أصلاً بنفسه، الأمر الذي حمل آخرين على انتهاج نهجه والانضباط في استعمال الرأي، وهو ما عبر عنه الإمام الفقيه أبو ثَوْر (ت. 240هـ) الذي قال: "كنت أنا وإسحاقُ بن راهويه وحسين الْكَرَابِيسِيُّ -وذكر جماعة من العراقيين- ما تركنا بدعتَنا حتى رأينا الشافعي". وأبو ثور ممن صحب الشافعي ونقل عنه. ولقد أوجز فخر الدين الرازي، وجمع فأوفى؛ حين قال: "إن الشافعي جاء وأظهر ما كان معه من الدلائل والبينات، فرجع عن قبول قول أصحاب الرأي أكثرُ أنصارهم وأتباعهم".
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معناوظائف شاغرةترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: أهل الحدیث تألیف کتاب ا الشافعی کتاب ا من جهة فی زمن
إقرأ أيضاً:
الأمم المتحدة: 2024 أكثر الأعوام قسوة بالتاريخ الحديث بالنسبة للمدنيين العالقين في النزاعات
أظهر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن عام 2024 كان من أكثر الأعوام قسوة في التاريخ الحديث بالنسبة للمدنيين العالقين في النزاعات، وقد يكون عام 2025 أسوأ من ذلك إذا لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة، ففي منتصف عام 2024 نزح ما يقرب من 123 مليون شخص بشكل قسري بسبب النزاع والعنف بزيادة سنوية هي الثانية عشرة على التوالي.
الأمم المتحدة: 305 ملايين شخص بالعالم يحتاجون إلى المساعدة الإنسانية في 2025 النائب أيمن محسب: اعتماد الأمم المتحدة قرارًا يؤكد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره ويُزيد من عزلة إسرائيل وحلفائها دوليًاجاء ذلك خلال تسليط مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء الضوء على التقرير الصادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية بعنوان "لمحة عامة عن العمل الإنساني لعام 2025"، حيث قدم التقرير تحليلًا للأزمات والاحتياجات العالمية والخطط الإنسانية اللازمة لمعالجتها، وطالب بتوفير أكثر من 47 مليار دولار أمريكي لمساعدة ما يقرب من 190 مليون شخص يواجهون احتياجات عاجلة تهدد حياتهم.
وأشار التقرير إلى أن هناك نحو 305 ملايين شخص حول العالم سيحتاجون في عام 2025 إلى المساعدة الإنسانية والحماية بشكل عاجل في ظل تصاعد أزمات عديدة تسفر عن عواقب وخيمة يتأثر بها المتضررون من هذ الأزمات، موضحاً أن منطقة جنوب وشرق إفريقيا تستضيف أكبر عدد من المحتاجين إلى المساعدة الإنسانية بإجمالي عدد يُقدر بنحو (85) مليون شخص، حيث تمثل الأزمة الكارثية في السودان 35% من إجمالي عدد المحتاجين إلى المساعدة في المنطقة، وتليها منطقتا الشرق الأوسط، وشمال إفريقيا حيث يحتاج 29 مليون شخص إلى المساعدة والحماية، ونحو 57 مليون شخص في غرب ووسط إفريقيا يحتاجون إلى المساعدة الإنسانية، وفي آسيا والمحيط الهادئ هناك 55 مليون شخص، أما في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي فهناك 34 مليون شخص بما في ذلك 5 ملايين شخص متضرر من أزمة فنزويلا، أما في أوروبا فلا يزال يحتاج 15 مليون شخص إلى المساعد بسبب استمرار الأزمة الروسية الأوكرانية.
وأشار التقرير إلى أن هناك دافعين رئيسيين وراء هذه الاحتياجات، وكلاهما من صنع الإنسان، وهما: النزاعات المسلحة، وحالة الطوارئ المناخية العالمية، وطبقًا للتقرير، فإن المدنيون يتحملون النصيب الأكبر من العبء الناجم عن النزاعات المسلحة التي تتجاهل بشكل صارخ القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان، بما في ذلك الأعمال الوحشية الجماعية.
وأوضح التقرير أن يعيش طفل واحد من كل خمسة أطفال في العالم - أي ما يقرب من 400 مليون طفل - في مناطق النزاع أو يفرون منها، وتبلغ الانتهاكات الجسيمة ضد الأطفال مستويات غير مسبوقة، حيث شهد السودان وحده ارتفاعًا بنسبة 480% من عام 2022 إلى عام 2023.
كما تُعد أزمة الأمن الغذائي العالمية بمثابة صاعقة، حيث تؤثر على أكثر من 280 مليون شخص يوميًّا مع انتشار الجوع الحاد وتفاقمه، كما يمنع العنف والنزوح إنتاج الغذاء ويعوق إتاحة الوصول إلى الأسواق الحيوية.
وفيما يتعلق بحالة الطوارئ المناخية العالمية، أشار التقرير إلى أن العالم على مشارف أن يشهد تجاوز متوسط درجة الحرارة العالمية مستوى 1.5 درجة مئوية مما ينذر بدق ناقوس الخطر، وتزيد أزمة المناخ من تكرار حدوث الكوارث وشدتها، والتي لها تبعات مدمرة على أرواح ملايين البشر وسبل عيشهم.
وأشار التقرير إلى أنه في عام 2023، تم تسجيل 363 كارثة متعلقة بالطقس، والتي أثرت على ما لا يقل عن 93.1 مليون شخص وتسببت في مقتل الآلاف، وفي العام ذاته، تسببت الكوارث في حدوث نحو 26.4 مليون حالة نزوح / تنقلات، وأكثر من ثلاثة أرباع هذه الحالات ناجمة عن حالات الطقس.
ولفت إلى أن أزمة المناخ تسببت في دمار كبير في أنظمة الغذاء، حيث إن موجات الجفاف مسؤولة عن أكثر من 65% من الأضرار الاقتصادية الزراعية في السنوات الخمس عشرة الماضية، ما أدى إلى تفاقم انعدام الأمن الغذائي، وخاصة في المناطق التي تعتمد على زراعة أصحاب الحيازات الصغيرة.
وأفاد التقرير أن الصراعات يمكن أن تسهم بشكل مباشر في تغير المناخ؛ حيث يقدر الباحثون أن الانبعاثات في أول 120 يومًا من الصراع في غزة تتجاوز الانبعاثات السنوية لـ 26 دولة وإقليمًا منفردًا، وفي الوقت نفسه، سجلت أكبر 30 شركة نفط وغاز باستثناء تلك الموجودة في البلدان الأكثر فقرًا ما مجموعه 400 مليار دولار سنويًّا من التدفقات النقدية الحرة منذ اتفاق باريس في عام 2015.
وأشار التقرير إلى أن الأمم المتحدة والمنظمات الشريكة تحتاج إلى جمع ما يزيد عن 47 مليار دولار لمساعدة ما يقرب من 190 مليون شخص عبر 72 دولة بحلول عام 2025، موضحًا أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تحتاج في الوقت الراهن إلى 15.9 مليار دولار، في ظل الزيادات الكبيرة في التمويل المطلوب للاستجابة للأزمات المتصاعدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة ولبنان.
وأوضح التقرير أن الأزمة المتصاعدة في السودان أدت إلى زيادة متطلبات التمويل في شرق وجنوب إفريقيا والتي تتطلب في الوقت الراهن 12 مليار دولار تقريًبا، أما في غرب ووسط إفريقيا، فثمة حاجة إلى 7.6 مليار دولار، كما تتطلب منطقة آسيا والمحيط الهادئ في الوقت الراهن 5.1 مليار دولار، في حين تحتاج أوروبا إلى 3.3 مليار دولار، وفي مختلف أنحاء أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي، يدعو الشركاء في مجال العمل الإنساني إلى توفير 3.6 مليار دولار.
وأشار التقرير في ختامه إلى أنه في عام 2025 سيواصل الشركاء في مجال العمل الإنساني تحسين الطريقة التي يقدمون بها خدماتهم للمتضررين من الأزمات، من خلال: احترام وتعزيز العمل الإنساني الذي تقوده الجهات المحلية، ومتابعة الاستجابات التي تركز على الأشخاص والخاضعة للمساءلة، بالإضافة إلى توسيع نطاق المساعدات النقدية حيثما كان ذلك ممكنًا ومناسبًا.