الجزيرة:
2025-04-10@08:09:59 GMT

الإمام الشافعي بين أهل الرأي وأهل الحديث (1)

تاريخ النشر: 1st, September 2023 GMT

الإمام الشافعي بين أهل الرأي وأهل الحديث (1)

من الشائع بين دارسي تاريخ التشريع الإسلامي أن الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت. 204هـ) "جمع" بين مدرستي أهل الحديث وأهل الرأي، وهي مقولة تحتاج -في رأيي- إلى تأمل نقدي؛ على الرغم من وجود بعض الشواهد التي قد تدعمها أو تحمل عليها؛ إذا ما غضضنا الطرف عن معطيات أخرى أوسع وأشمل، وهذا يثير مسألة منهجية هنا تتصل بكيفية التأريخ لفكرة ما، وتكوين تصور أدق عن الواقع التاريخي.

ما أراه هنا أن الشافعي كان من أهل الحديث، ولهذا فإن إطلاق أهل مكة لقب "ناصر الحديث" على الشافعي يصلح ليكون مقولة تفسيرية، في حين أن مقولة "التوفيق" بين أهل الحديث وأهل الرأي تبدو كما لو أنها مقولة صيغت لمحاولة جَسْر الهوة التي تعمقت -في فترة مبكرة- بين الفريقين؛ بدءًا من القرن الثاني الهجري.

ولكن كيف نبرهن على ذلك؟ يتلخص المنهج هنا وفي المقال القادم -بمشيئة الله تعالى- في 3 مسائل رئيسة:

المسألة الأولى: دراسة السياق. والسياق هنا يحمل معنيين: الأول: سياق تأليف كتاب الرسالة للشافعي الذي هو نص مركزي هنا، ومن ثم سماه الشافعي "الكتاب". فتأليف الكتاب -بوصفه حدثًا- لا بد من وضعه في سياق حتى يكون له معنى؛ لأننا نفترض أن مثل هذا الحدث المتميز -في بنيته وتأثيره التاريخي والتشريعي- لا بد له من سياق أوسع من مجرد تأليف كتاب. والمعنى الثاني هو السياق التاريخي الأوسع الذي جاء فيه الكتاب أو وقع فيه الحدث.

المسألة الثانية: تلقي كتاب "الرسالة" (أو "الكتاب") بعد تأليفه وفي زمن الشافعي أو قريبًا منه، كما تزودنا به كتب التراجم التي هي مصدر مهم من مصادر التاريخ قد يهمله بعض الباحثين في التاريخ؛ خصوصًا أنها سميت "تاريخ" -على الاصطلاح- في لغة الأئمة السابقين، كما أن فتاوى النوازل مصدر آخر مهم في التأريخ قد يغفل عنه بعض المؤرخين.

المسألة الثالثة: تحليل مضمون كتاب الرسالة؛ لأن المضمون هو المعبر الأصرح عن مراد أو غايات مؤلفه، ويظهر ذلك من خلال المسائل التي ناقشها الشافعي، ومن الاعتراضات التي يفترضها ويرد عليها في الكتاب. في هذا المقال سأكتفي بمناقشة المسألتين الأوليين فقط، على أن أفرد للمسألة الثالثة مقالاً مستقلا بمشيئة الله تعالى.

سياق تأليف كتاب الرسالة

ثمة خبر مركزي يوضح لنا حيثيات تأليف كتاب "الرسالة"، فقد وردت أخبارٌ عديدة -بألفاظ مختلفة- توضح أن الكتاب جاء ثمرة تواصل بين الإمام المحدث المعروف عبد الرحمن بن مهدي (ت. 198هـ) وبين الإمام الشافعي. وكتب ابن مهدي إلى الشافعي يسأله أن يضع له كتابًا يوضح فيه معاني القرآن (أي طرق البيان)، ويجمع فيه قبول الأخبار (أي معايير قبولها والاحتجاج بها)، وحجة الإجماع (أي حجيته)، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، فوضع له الشافعي كتاب "الرسالة".

ويلخص هذا الخبر -في الواقع- محاور كتاب "الرسالة" أو أصول التشريع التي ترجع إلى القرآن والحديث والإجماع، ولكن الأهم هو أن الطلب جاء من أحد كبار أئمة الحديث في زمنه وهو ابن مهدي. وإذا ما ضممنا هذا إلى أخبار أخرى -سأذكرها لاحقًا- أمكن لنا أن نخلص إلى أن الحاجة إلى مثل ذلك الكتاب لم تكن -فقط- حاجة فردية وُجدت عند ابن مهدي. فهذا الإمام المحدث يحيى بن سعيد القطان (ت. 198هـ) كان من المستفيدين من كتاب "الرسالة" والمتباهين به أيضًا، ونقف -في بعض الأخبار- على أنه جرت بين الإمام المحدث المعروف إسحاق بن راهويه (ت. 238هـ) والإمام أحمد بن حنبل (ت. 241هـ) مراسلاتٌ بخصوص كتب الشافعي، وخاصة كتاب "الرسالة" الذي انتفعا به انتفاعًا كبيرًا. فهذه الأخبار تجعل -في الواقع- من رسالة الشافعي نصرًا لأهل الحديث على أهل الرأي، من منظور أهل الحديث على الأقل.

طرائق التفكير الفقهي زمن الشافعي

لخص فخر الدين الرازي الشافعي (ت. 606هـ) طرائق التفكير الفقهي زمن الشافعي بالقول: "إن الناس -كانوا قبل الشافعي- فريقان: أصحاب الحديث، وأصحاب الرأي (..) وأصحاب الرأي أظهروا مذاهبهم وكانت الدنيا مملوءة من المحدثين ورواة الأخبار، ولم يَقدر أحد منهم على الطعن في أقاويل أصحاب الرأي". في القرن الثاني الهجري كان أصحاب الحديث قد برزوا وصاروا طائفة أو جماعة، وصار ذلك الاسم عَلَمًا على صنعة الاشتغال بالحديث، وخاصة بعد الجمع الرسمي لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم الذي بدأه محمد بن شهاب الزهري (ت. 124هـ) بأمر من الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز (ت. 101هـ). وقد تحولت الأحاديث مع القرآن -أو كادت- إلى مصدر حصري للتشريع في مقابل أصحاب الرأي الذين توسعوا في استعمال الرأي في مسائل التشريع حتى شمل الرأي -عندهم- 3 أصناف من الحجج:

الأول القياس على وقائع عرف حكمها بالنص بجامع التشابه بينهما أو وجود علة مشتركة بين الأمرين. الثاني الاجتهاد بمعناه الواسع الذي يحيل إلى إعمال العقل وتحكيم الخبرات. الثالث الاستحسان الذي شكل خروجًا عن الانضباط الذي فرضه القياس على واقعة أو حكم سابق، لدواعي المصلحة، الأمر الذي قد يخلف ثغرات أو عدم اتساق في التسويغ النظري.

ويوحي نص الرازي السابق ببروز أهل الرأي على أهل الحديث؛ رغم كثرتهم، ويرجع ذلك في تقديري إلى اختلاف طبيعة منهج الفريقين؛ سلطة النقل وسلطة الحِجاج بأدواته المختلفة، أي أنه لم يكن ثم أرضية مشتركة بين الطرفين من ناحية المنهج.

ولكن النقطة التي تستوقفنا هنا في القرن الثاني الهجري، أنه بالرغم من كون الأرض مملوءة بالمحدثين والصنعة الحديثية، فإن الحديث لم يتحول -فيما يبدو من مصادر عديدة- إلى اتجاه عامّ أو حصريّ في التفكير الفقهي؛ مع ظهور أهل الرأي وتوسعهم في استعماله، بل إن الأمر لم يكن قاصرًا على الفقهاء، بل شمل القضاة كذلك؛ فالقاضي لا بد له من الحكم في المسألة، فماذا يفعل إن أعوزه النص مع كثرة الوقائع وقبل تبلور المذاهب الفقهية!

ثم عندما كثرت رواية الحديث برز إشكال الثقة بالمروي؛ فقد أسفر الجمع الواسع وكثرة المرويات عن نتائج وآثار جانبية تتصل بالوضع من جهة، وبالنسخ من جهة ثانية، وبالوقوف على أحاديث متعارضة من جهة ثالثة، خصوصًا أن هذه الأحاديث قد تتعارض مع ما رسخ في العمل (التقليد الحي) الذي عرفه المسلمون الأوائل وجروا عليه، ومن هنا ذهب أهل المدينة النبوية إلى أن ما عرفوه من ممارسة حية (عمل أهل المدينة) هو جزء من السنة النبوية، ولا يقبلون من الأحاديث القولية ما يخالفه، وبذلك أصبح عمل أهل المدينة أحد المعايير في تحديد قبول الأخبار وتحديد ما هو سنة تُحتذى.

ونحو ذلك فعل أهل العراق حين أَوْلَوا "السنة المشتهرة" أو "العمل المتوارَث" أهمية كبيرة، وأضفوا بعدًا عقلانيًّا على فهم الحديث، وخاصة من خلال اعتمادهم على الصحابة الذين غادر كثير منهم الحجاز ليستقر في العراق، ولذلك اعتمد فقهاء العراق على أقوال الصحابة واحتجوا بها؛ ما لم تتعارض فيما بينها؛ لأن اتفاقهم يورث الثقة بما لديهم من السنة. وكذلك اهتم الإمام الأوزاعي في الشام بالسنة النبوية التي تشبه عنده مفهوم أهل المدينة، بمعنى العمل المتوارث. أي أن الرأي بمعناه الواسع، والعمل المتوارَث الذي شكّل معيارًا يُرتكن إليه لتحديد ما هو سنة؛ خصوصًا إذا وقع التعارض بينه وبين الأحاديث القولية، هما سمتان أساسيتان من سمات تاريخ التشريع الإسلامي خلال القرن الثاني الهجري، كما نقف عليه من خلال المصادر المبكرة.

وظهر الشافعي في هذا السياق، وقد رحل وتتلمذ على أعلام من كلتا المدرستين؛ أهل الحديث (وخاصة الإمام مالك بن أنس) وأهل الرأي (وخاصة محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة). ومن النصوص بالغة الدلالة التي توضح لنا طرفًا من تفكير الشافعي ورؤيته لخارطة التفكير الفقهي في زمنه، نصٌّ يُفيد أن الشافعي سأل تلميذه الربيعَ بن سليمان عن أهل مصر، فقال له الربيع: "هم فرقتان: فرقة مالت إلى قول مالك وناضلت عليه، وفرقة مالت إلى قول أبي حنيفة وناضلت عليه. فقال الشافعي: أرجو أن أَقدُم مصر -إن شاء الله- فآتيهم بشيء أشغلهم به عن القولين جميعًا. قال الربيع: ففعل ذلك والله حين دخل مصر!". أي أنه ابتكر طريقًا ثالثًا يُقيّد استعمال الرأي في أضيق الحدود من جهة، ويتجاوز مشكلة عدم الاتساق في اتباع الحديث التي ظهرت عند مخالفيه من جهة أخرى؛ ومن ثم انتقد ترك الحديث بحجة معارضته للعمل المتوارث في المدينة النبوية، وبهذا وسع حجية الحديث النبوي الذي هو -عنده- أصل بنفسه.

تلقي كتاب "الرسالة" أيام الشافعي

في التأريخ لفكرة محددة (أو كتاب) لا غنى عن الوقوف على الشكل الذي تُلُقِّي به ذلك الكتاب في زمن مؤلفه أو قريبًا منه على الأقل؛ لأن التلقي -مضمومًا إلى العنصرين السابقين- يقربنا من الواقعة التاريخية ويعطينا رؤية أدق للحدث. لنتأمل -مثلاً- هذا النص الذي يقول فيه أحمد بن حنبل: "كانت أَقْفِيَتُنَا -يعني أصحابَ الحديث- في أيدي أصحاب أبي حنيفة ما تُنْزَعُ، حتى رَأَيْنَا الشافعي رضي الله عنه، وكان أَفْقَهَ الناس في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ما كان يكفيه قليل الطلب في الحديث". ونحو ذلك جاء عن الإمام المحدث أبي بكر الحُمَيْديّ (ت. 219هـ): الذي قال: "كنا نريد أن نَرُدَّ على أصحاب الرأي، فلم نُحْسِنْ كيف نرد عليهم؛ حتى جاءنا الشافعي، فَفَتَحَ لنا". هذه الأخبار شديدة الأهمية؛ لأنها واردة عن الطبقة الأولى المحيطة بالشافعي من أهل الحديث؛ فأحمد تتلمذ على الشافعي، والحميدي صحب الشافعي، وكلاهما من أصحاب المسانيد، وقد جاءت هذه الأقوال عنهما بسند عال. وهي أخبارٌ غنية الدلالة في وصف صنيع الشافعي؛ الذي نصر أهل الحديث ونفعهم بأمرين:

أولهما: أنه زودهم بحجج نظرية يجادلون بها أهل الرأي بعد أن عجزوا عن ذلك قبل كتابه؛ لعدم استعمالهم للرأي وقلة خبرتهم به، وبهذا فتح الشافعي الطريق لأهل الحديث في الحجاج النظري. ومن هنا وصف حسين الكَرابيسيّ الشافعي بقوله: "ورد رجل من أصحاب الحديث يتفقه"، وهذا الوصف من رجل كان يختلف إلى أهل الرأي شديد الأهمية؛ لأنه يصنف الشافعي ضمن أهل الحديث؛ منهجًا، ومن ثم قال الفقيه موسى بن أبي الجارود عن الشافعي: "اجتمع له علمُ أهل الرأي وعلم أهل الحديث، فتصرف في ذلك حتى أصَّل الأصول وقعَّد القواعد، وأذعن له الموافق والمخالف، واشتهر أمره"، أي أنه تسلح بأدوات أهل الرأي لنصرة الحديث كما هو واضح جدًّا في عمله وفي تلقي أهل الحديث لكتابه، لا بمعنى أنه وفق بين الفريقين؛ لأنه إنما قعد وتصرف بناء على طريقة أصحاب الحديث، ونُصرة لمنهجهم.

ثانيهما: أن الشافعي كان يستكثر من الحديث ويضيّق حدود الرأي؛ لأنه يعد الحديث أصلا بنفسه وحجة بنفسه، وهو القائل: "إذا صح الحديث فهو مذهبي". وهذا معنى قول أحمد: إن الشافعي "ما كان يكفيه قليل الطلب في الحديث"، وقد عبر الإمام إسحاق بن راهويه عن هذا المعنى حين قال: "ما تكلم أحدٌ بالرأي -وذكر الثوري والأوزاعي ومالكًا وأبا حنيفة- إِلا الشَّافِعِيَّ أكثرَ اتِّبَاعًا وأَقَلّ خطأ منه"؛ لأن الشافعي ضيّق مساحة الرأي لصالح حجية الحديث واعتباره أصلاً بنفسه، الأمر الذي حمل آخرين على انتهاج نهجه والانضباط في استعمال الرأي، وهو ما عبر عنه الإمام الفقيه أبو ثَوْر (ت. 240هـ) الذي قال: "كنت أنا وإسحاقُ بن راهويه وحسين الْكَرَابِيسِيُّ -وذكر جماعة من العراقيين- ما تركنا بدعتَنا حتى رأينا الشافعي". وأبو ثور ممن صحب الشافعي ونقل عنه. ولقد أوجز فخر الدين الرازي، وجمع فأوفى؛ حين قال: "إن الشافعي جاء وأظهر ما كان معه من الدلائل والبينات، فرجع عن قبول قول أصحاب الرأي أكثرُ أنصارهم وأتباعهم".

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معناوظائف شاغرةترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: أهل الحدیث تألیف کتاب ا الشافعی کتاب ا من جهة فی زمن

إقرأ أيضاً:

المواطنة العادلة في الإسلام.. تشريع إلهي يسبق مواثيق العصر الحديث

يمثل موضوع المواطنة جزءاً من مشكلة الهوية والمفاهيم المختلف فيها، والتي برزت منذ بدء الاحتكاك الفكري والثقافي والسياسي والعسكري للأمة الإسلامية مع الحضارة الغربية في القرن الماضي، وإذا كانت المسألة قد حُسمت على صعيد الواقع منذ أن تمزقت الدولة العثمانية وتحولت أشلاؤها العربية وغيرها إلى دول وحكومات قومية وإقليمية، فإن المسألة لم تنته على المستوى الفكري والثقافي، بل ظلت سؤالاً كبيراً يُطرح بشكل أو آخر.

جاءت شريعة الإسلام شاملة لجميع أبعاد الحياة البشرية بكل دقائقها وتفصيلاتها، ابتداءً من سلوك الإنسان كفرد مع غيره من الأفراد وضمن مجتمعه، حتى تنظيم علاقات الدول، بما في ذلك الفهم الإسلامي للمضمون السياسي، الذي يعني إصلاح شؤون الناس الدينية والدنيوية، وإبعادهم عن الفساد، وتوجيههم نحو الحق والعدالة وجميع وجوه الخير.

إن خطاب الإسلام خطاب عام لبني الإنسان، وفيه تأكيد واضح للحقوق والقيم التي تنظم الحياة البشرية، ومنها المساواة التي تعد منطلقاً أساسياً وقاعدة شرطة لممارسة الحقوق واستقامتها، والالتزام بكل الواجبات.

أولاً ـ المواطنة في الخطاب الإسلامي

المواطنة هي تمتع الشخص بالحقوق المقررة، والتزامه بالواجبات المفروضة، وممارستها في بقعة جغرافية معينة.

لقد عبر النبي ﷺ عن حب الوطن والارتباط به، في قوله لمّا همّ بالخروج من مكة: “والله إنك أحب البلاد إليّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ماخرجت” [أخرجه الترمذي برقم (3925)]، وفي ذلك دلالة نبوية على جواز الارتباط الشعوري بالوطن، وأهميته بالنسبة للإنسان، بل إن الإسلام اعتبر إخراج الإنسان من دياره معادلاً للقتل، قال تعالى: {ولو أَنَّا كتَبْنا عليهم أنِ اقتُلوا أنفسكم أو اخرجوا من ديَٰركم ما فعلوه إلَّا قليلٌ منهم ۖ ولو أنَّهم فعلوا ما يوعظون بهۦ لَكان خيرًا لهم وأشدَّ تثبيتًا}.

إن خطاب الإسلام خطاب عام لبني الإنسان، وفيه تأكيد واضح للحقوق والقيم التي تنظم الحياة البشرية، ومنها المساواة التي تعد منطلقاً أساسياً وقاعدة شرطة لممارسة الحقوق واستقامتها، والالتزام بكل الواجبات.المواطنة في القرآن الكريم:

من خلال دراسة القرآن الكريم نجد أن مصدر الحقوق والواجبات في الإسلام هو الله وحده، وليس بشراً أيّاً كان هذا البشر، نبياً أو غير نبي، وهذا ما يظهر بشكل واضح من خلال قول الله تعالى: {لقد أرسَلْنا رسُلَنا بالبَيِّنَٰت وأنزلْنا معهم الكِتَٰبَ والميزان لِيقومَ النَّاس بالقِسط}، وبذلك يقوم الإسلام في مجال الحقوق والواجبات على أساس وحدة المشرِّع وأبدية التشريع، إذ إن من المسلَّم به أن حق التشريع لله عز وجل وحده، بينما تتعدد وتتباين منابع التشريع عند أصحاب الأديان والعقائد الأخرى، ومن ذلك التشريع الغربي المعاصر.

وليس من شك أن وحدة المصدر الإلهي التشريعي هو السر وراء خلود الأحكام التشريعية، وصلاحيتها المطلقة للتطبيق قي كل زمان ومكان، حيث يعد التبديل والتغيير آفة التشريعات والقوانين الوضعية المتغيرة دائماً، والتي تتبدل فيها أوضاع ومراكز وحقوق المخاطبين بها دونما استقرار أو ثبات.

المواطنة في السنة النبوية:

تشكل السنة مصدراً ثانياً للمواطنة في الإسلام، وهي تُعدّ مصدراً مفسراً وموضحاً لما جاء في القرآن الكريم من أحكام، وقد بينت السنة النبوية الشريفة مجموعة من الحقوق والواجبات للإنسان بشكل عام، والتي تتعلق بشكل مباشر أو غير مباشر بحقوق المواطنة، ومنها:

أ ـ الحق في الحياة:

إن النبي ﷺ أكد في تطبيقاته وأحاديثه على وجوب الحفاظ على حياة الإنسان، كونها أمانة وهبها الله له وأنعم عليه بها، وعليه فليس للإنسان أيّاً كان حق التنازل عنها، وليس حراً في هدر حياته أو إلغائها، ولهذا حذر النبي ﷺ تحذيراً بالغ الشدة، وأنذر ببيان بالغ القسوة الذين تبلغ بهم هموم الحياة مبلغ اليأس منها، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه"، وفي رواية أخرى: "لا يتمنى أحدكم الموت، إما محسناً فلعله يزداد، وإما مسيئاً فلعله يستعتب" [البخاري: 7235].

بـ ـ التقدير القيمي والأخلاقي للإنسان: من أجل حماية قدسية حياة الإنسان، دعا الإسلام وضمن العديد من القيم والأخلاق التي تصون حياته وتحفظ حقوقه، وتهدف هذه القيم إلى الحفاظ على التوازن بين الحقوق والواجبات، لأن لكل فرد حقوقاً من زاوية، وتترتب عليه من زاوية أخرى واجبات تجاه أخيه الإنسان، ولذا وجه النبي ﷺ المسلم إلى منع لسانه ويده من الاعتداء على الآخرين، فقال: “المسلم هو من سلم المسلمون من لسانه ويده” [البخاري: 10].

ثانياً ـ المواطنة في وثيقة المدينة:

تمثل صحيفة المدينة أو دستور المدينة، الذي جاء مقنناً على شكل مواد قابلة للتطبيق، ولها قابلية المرجعية القانونية، كونها مثلت عقداً سياسياً واجتماعياً، صيغ بروح المبادئ الكلية النصية في القرآن الكريم، وتوافقت عليها معظم أطراف القوى الفاعلة داخل المجتمع المدني المتعدد قبلياً ودينياً، ولقد حددت وثيقة المدينة المعالم الرئيسية لـ"كيفية التعامل والتعاقد والشراكة والتكافل والتعارف والتوافق مع الآخر".

وتكمن أهمية الوثيقة في محاولة تحويل الناس القاطنين في المدينة ـ بشكل قانوني ـ، من رعايا إلى مواطنين، ونقلهم من إطار القبيلة والقبلية إلى رحاب الدولة والأمة، ولم يلغِ الرسول ﷺ دور القبيلة، بل عدّل دورها وسحب بساط التحكم من يديها، فـ”بعد أن كانت القبيلة هي الأمة والدولة، غدتْ لبنة في كيان الدولة الجديدة والأمة الوليدة ".

وبعد أن كان الفرد مغيباً تماماً في القبيلة، وكانت قبيلته تتحمل مسؤولية خطئه، جاءت الوثيقة لتبرز ذاتية الفرد الذي يتحمل مسؤولية أفعاله خيراً وشراً {ولا تَزِر وازِرةٌ وِزْر أُخْرىٰ}، فأكدت الوثيقة شخصية العقوبة، أي أن المواطن يتحمل الآثار القانونية للجريمة التي يرتكبها، ولا شأن للأبرياء الآخرين من عشيرته أو سلالته، وقد ورد في الوثيقة ما نصه: "إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوقع إلا نفسه ولا ثم امرؤ بحليفه".

العدل سور يحمي المجتمع من التفتت والتشرذم، وينأى به عن العداوة والبغضاء، ويشد من تعاضد الناس وتعاون بعضهم مع بعض، ويستوي في محيطه القوي والضعيف، والغني والفقير، والقريب والبعيد، والمسلم وغير المسلم..أكدت الصحيفة على اعتبار المجتمع اليهودي جزءاً من المجتمع السياسي، أي جزءاً من الجماعة السياسية، تلتزم بحكم رئيس الدولة لا باعتباره نبيّاً، بل باعتبار مشروعيته السياسية المستمدة من الاتفاق نفسه.. إن قبول اليهود بالوثيقة لم يُفضِ إلى اعتقادهم بنبوة محمد ﷺ، بل بقبول مشروعيته السياسية كقائد وكحاكم لتلك الدولة.

لقد كان أساس المواطنة عند الرسول ﷺ، هو الانتماء إلى الوطن (المدينة)، فمن أراد الانتماء وأن يكون مواطناً في مجتمع المدينة فعليه أن يهاجر إليها، وقد وُجدت رابطتان أساسيتان في المدينة، هما رابطة الدين (الإيمان) ورابطة الوطن (الولاء لنظام الدولة).

ثالثاً ـ الأسس العامة للمواطنة في الإسلام

1 ـ العدل والمساواة:

العدل سور يحمي المجتمع من التفتت والتشرذم، وينأى به عن العداوة والبغضاء، ويشد من تعاضد الناس وتعاون بعضهم مع بعض، ويستوي في محيطه القوي والضعيف، والغني والفقير، والقريب والبعيد، والمسلم وغير المسلم، قال تعالى: {يا أيُّها الَّذين ءَامنوا كونوا قَوَّامين بالقِسط شهداء للَّه ولو على أنفسكم أو الوالدَيْن والأَقربين} [النساء: ١٣٥].

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّه يأمر بالعدل والإِحسان} [النحل: ٩٠]؛ وفي الالتزام بهذا الأمر، والعمل به، وتحقيقه على أرض الواقع البشري، عبادةٌ لله تعالى وطاعة لأوامره، جل شأنه، وفي مخالفته معصية كبيرة يعاقب عليها في الدنيا والآخرة. وإقامة العدل بين الناس حق إنساني يشترك فيه الناس جميعاً؛ لأن أصل البشر واحد.

وقد جاء في خطبة الوداع: "أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وإن الله عليم خبير، وليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى".

ومقتضى ذلك: أن يكون جميع المواطنين طائفة واحدة بلا تمييز لأحدهم على الآخر في تطبيق القانون، والقانون في النظام الإسلامي هو الكتاب والسنة، وما بني عليهما من أحكام، والكتاب والسنة ليس فيهما محاباة لطبقة على طبقة، ولا لجنس على جنس، ولا للون على لون، فالأجير والأمير، والأسود والأبيض، والرئيس والمرؤوس، والغني والفقير، كلهم سواسية؛ فقد هدم الإسلام كل تمايز في تلك الصفات، ولم يجعلها سبباً لامتياز وتفوق ما، وأقام التفاضل بين الناس على التقوى ونافع الأعمال، قال تعالى: {إنَّ أَكرمَكم عند اللَّه أتقاكم} [الحجرات: ١٣].

2 ـ الحرية:

انطلاقاً من مبدأ حرية العقيدة الذي قرره الإسلام، على الدولة الحديثة المسلمة والمسلمين جميعاً واجب التسامح الديني إزاء سائر أهل الملل والنحل، والتسامح الديني ليس معناه بالطبع اتخاذ المواقف المتأرجحة من الأديان أو القول بأن الكل سواء، فهو إما جهل أو نفاق، فللتسامح الديني مقومات من أهمها رسوخ الإيمان، وقوة الاقتناع بأن الإسلام وحده هو الدين الحق، قال تعالى: {إنَّ الدِّين عند الله الإسلام} [آل عمران: ١٩].

وبهذا المنطق الإيماني يحب المسلم الخير لجميع الناس، ويتقدم المسلم بعرض دينه أمام الجميع، ويدعوهم إليه دون فرضه على أحد، بل ولا بد من ترك الناس أحراراً في أن ينظروا في أمرهم، ويختاروا أي دين أو معتقد يميلون إليه.

ويجب على المسلم رعاية شعور غير المسلمين وخاطرهم بعدم إيذائهم بالقول أو الفعل، فمن المنهي عنه سب معتقداتهم، أو الاستهزاء بما يدينون به، سداً للذريعة، كذلك من المحظور التضييق عليهم عند ممارسة دينهم، بل ينبغي تمكينهم من ممارسة شعائر دينهم، وإعطائهم الحرية الكافية في ذلك، مع مراعاة النظام والشعور العام.

وكذلك فإن الله كفل للناس في القرآن الكريم حرية الاعتقاد عامة، وهي تقتضي تقرير حرية الرأي والتعبير، لأن حرية الاعتقاد لن تتم إلا بجعل العقل حراً طليقاً، للتفكُّر والتدبر في الكون والإنسان، وليصل الإنسان “برأيه” وقناعته إلى الإيمان أو الكفر أو حتى الحيادية. وتبرز حرية التعبير من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يقول الله تعالى: {كنتم خير أُمَّةٍ أُخرِجت للنَّاس تأمرون بالمعروف وتنهَون عن المنكر وتؤمنون باللَّه} [آل عمران:110].

ـ الخاتمة:

إن المبادئ العامة للمواطنة الحديثة (الحرية والمساواة والعدالة والمشاركة) موجودة بنسقها العام في الإسلام وحقوق المواطنة الإسلامية، وتكتسب شرعيتها من أن الله تعالى هو مصدر إقرار تلك الحقوق، وهي أيضا واجبة، فالتنازل عنها إثم، فالجهاد ما شرع في الإسلام إلا لأجل حمايتها، وتتعمق هذه الشرعية بكون الإنسان خليفة الله في الأرض، وكون الإنسان غاية والدين وسيلة.

مقالات مشابهة

  • رغم اعتقاله… عمدة إسطنبول يتصدر استطلاعات الرأي
  • منة عرفة: تعلّمت من أخطاء الماضي وأرفض الحديث عن حياتي الشخصية
  • الشيخ لـ مغرد طالبة بعدم الحديث عن الهلال : لا نستطيع القفز على كبير آسيا .. فيديو
  • بعد الحديث عن أسر جنود صينيين يقاتلون ضد أوكرانيا... بكين تنفي اتهامات كييف وتؤكد "لا أساس لها"
  • كتاب: الحب والطب والمعجزات
  • جريمة هزّت الرأي العام .. فتاة تنهي حياة والدتها وتقضي 3 أيام بجوار جثمانها | تفاصيل
  • تركيا.. الحزب الحاكم يواصل التراجع في استطلاعات الرأي
  • الكرملين: لا يمكن تجاهل الترسانات النووية للدول عند الحديث عن الحد من التسلح
  • المواطنة العادلة في الإسلام.. تشريع إلهي يسبق مواثيق العصر الحديث
  • دعوات وجوب الجهاد.. الإفتاء تبعث تحذيرات مهمة وتكشف الرأي الشرعي