رغم أن المفكر الفلسطيني-الأميركي إدوارد سعيد (1935-2003) كان من أوائل المؤيدين لحل الدولتين وصوّت سنة 1988 لصالح إقامة دولة فلسطين -في جلسة المجلس الوطني الفلسطيني بالجزائر الذي كان عضوا فيه بين 1977 و1991-، وشارك بنفسه مع الشاعر الراحل محمود درويش في صياغة "وثيقة إعلان دولة فلسطين" لكنه استقال من المجلس 1991 احتجاجا على اتفاقية أوسلو وشروطها التي رآها غير مقبولة.

ندد سعيد باتفاقية أوسلو 1993 في كتابه "سلام بلا أرض" متنبئا بأنها "لن تقود إلى إقامة دولة فلسطينية حقيقية"، واعتبر أن منظمة التحرير الفلسطينية "حولت نفسها من حركة تحرر وطني إلى ما يشبه حكومة بلدية صغيرة، مع بقاء ذات الحفنة من الأشخاص في القيادة"، وفي المقابل حظرت السلطة بيع كتبه في أراضيها عام 1995 لكن العلاقات تحسنت بعد سنوات قليلة خاصة بعد إشادة سعيد برفض عرفات توقيع أي اتفاقية في كامب ديفيد عام 2000، وانتهاء القمة دون اتفاق.

كتاب "أوسلو 2.. سلام بلا أرض" جاء تكملة لكتابه "غزة -أريحا: سلام أميركي" الصادر عن دار المستقبل العربي وعبر فيه أستاذ النقد الأدبي والأدب المقارن في جامعة كولومبيا عن مجمل انتقاداته لاتفاق أوسلو، ملقيا باللائمة على من سماهم "الفلسطينيين المتعقلين" ومزاج اليأس والاستسلام السائد في أوساطهم وشعورهم بالعجز التام كما تلخص ذلك مقولات مثل "ليس ثمة بديل آخر".

وكان سعيد -المولود في القدس والمتوفي في نيويورك- ناشطا وباحثا ومؤلفا وناقدا أدبيا وموسيقيا، وتعامل جل طلاب العلوم الإنسانية في الولايات المتحدة مع إرثه، ومهد كتابه "الاستشراق" الطريق لثورة في دراسة الأدب والتاريخ والسياسة.

مشروعية النقد

ويقول الباحث في الأدب الاستعماري ودارس ميشيل فوكو وجاك دريدا إنه من غير المنطقي القول بأنه ليس هناك بديل لأشياء مثل انعدام الكفاءة والدكتاتورية، فالبدائل معروفة، لكن شعور "أنصار الوضع القائم والسلطة الفلسطينية بالحاجة إلى الرد على مقالات أمثالي من الجالسين في لندن ونيويورك، بل واعترافهم في ردودهم بتفشي ظواهر انعدام الكفاءة والتسلط، لهو برهان أكيد على أن عملية النقد تشكل مساهمة فعلية".

ويرى في مقدمة كتاب "أوسلو 2.. سلام بلا أرض" أنه عندما ينشأ وضع ما يسمح لشخص واحد بالإمساك بكافة مقاليد الأمور وتسييرها على هواه، فهناك دوما مجال للجهر بأن هذه دكتاتورية سافرة، مضيفا أن الاعتراف العلني بذلك من قبل عدد متزايد من الناس الآن يبرهن على صحة الانتقاد والحاجة إليه، فلا معنى -بحسب سعيد- لتضامن مع القضية الفلسطينية قبل أن يسبقه النقد ويصاحبه "أن الكل معرض للخطأ حتى ياسر عرفات".

وتزداد أهمية الدور الذي يلعبه النقد والتذكير بالنواقص في غياب نظام قانوني أو دستوري متكامل، ولا يصح هذا الأمر في حالة غزة والضفة الغربية فحسب، بل ينطبق أيضا على أي مكان في العالم العربي، كما يقول المفكر الفلسطيني-الأميركي الذي يرى نقد السلطة واجبا أخلاقيا بينما الصمت والانصياع أو اللامبالاة أمور تنم عن انعدام الحس الأخلاقي.

والذي يزيد الطين بلة، كما يرى الأكاديمي الراحل، هو نجاح السلطة الفلسطينية في إخضاع أو إجبار غالبية منتقديها على التخلي عن الشكوى أو التنظيم، إذ تشير تركيبة السلطة إلى أن "عرفات تمكن من شراء أو إخافة غالبية معارضيه. فهاهي الشخصيات التي كانت تبدو مستقلة قبل بضعة أشهر، تأتي إلى مكتبه حاملة العرائض، أو تجلس في الصفوف الأمامية لتصفق له عاليا. وعرفات بالطبع عبقري في توظيف المصالح الشخصية والقوة التي توفرها له أجهزته الأمنية لكي يعطي الانطباع أن الجميع يسانده" كما قال.

ويستطرد سعيد -الذي صدرت حديثا سيرته بعنوان "أمكنة العقل"- فيقول إنه لا أحد يجرؤ على الجهر بالقول بأن "السلطة الفلسطينية في عمقها تتسم ببعض سمات المافيا، حيث يقوم عديد من رجال السلطة بعقد مختلف أنواع الصفقات التي تعود بالنفع على الحلقة الضيقة من رجال عرفات وخبرائه وهو أمر يستبعد بالضرورة أصحاب الكفاءة والشرفاء".

"جوهر القضية"

تتسق كتابات المفكر الفلسطيني مع مفهومه عن الصراع في فلسطين، فهو برأيه "حرب تصورات وأفكار" بقدر ما هو مسألة تتعلق بالسياسة والسياسات.

ويرى سعيد -الذي عاش طفولته بين القدس والقاهرة قبل مصادرة أملاك عائلته وتحولهم للاجئين- أن مصير اللاجئين الذين أجبرتهم إسرائيل على المغادرة في عام 1948 هو "جوهر القضية الفلسطينية، فقد قامت الحركة الصهيونية منذ بداية القرن إلى الآن، بكل ما في وسعها لضمان بقاء غالبية الفلسطينيين خارج وطنهم. أما أولئك الذين تمكنو من البقاء في الداخل، فقد سعت لتقليص وجودهم السياسي للحد الأدنى".

ويرى المفكر -الذي توفي بعد عشرة أعوام من الصراع مع مرض اللوكيميا (سرطان الدم) سنة 2003- أن المضي في أسلوب التفاوض الفلسطيني الذي يتسم بسوء التنظيم والافتقار إلى خبراء حقيقيين ومعلومات دقيقة (من بينها خرائط موثوقة وإحصاءات ومعرفة دقيقة بالتغييرات التي قامت بها إسرائيل على الأرض منذ 1948 و1967) يعني تكرار نفس الأخطاء، مؤكدا عدم قدرة عرفات ومن سماهم "الحلقة الضيقة من الموالين له" على التعامل مع التعقيدات الشديدة للوضع الفلسطيني في شموله.

ويعتبر سعيد -الذي عمل أستاذا زائرا للأدب المقارن في جامعة هارفرد- قبول الفلسطينيين بنصيحة من سماهم "إستراتيجيي الأمر الواقع" بمثابة خسارة مفاوضات الوضع النهائي قبل دخولها، ويردف "نحن فلسطينيو الشتات نحتاج للنهوض من سباتنا لأن السلطة المنشغلة بإدارة الحكم الذاتي والاحتلال الإسرائيلي لا تستطيع الاهتمام بمصالحنا" كما أنها لا تمثل الفلسطينيين في بيروت وعمان ودمشق وأوروبا وأميركا الشمالية رغم النفوذ الفكري والسياسي والاقتصادي والأخلاقي لدى أهل الشتات، كما أشار سعيد.

ويضع المؤلف الراحل خطة للحل مشيرا لضرورة إحصاء عدد الفلسطينين في الخارج وما خسروه من الممتلكات وإصلاح المجلس الوطني الفلسطيني وممارسة نشاطه عبر معايير الكفاءة والتمثيل الديمغرافي، وبناء مؤسسة تجمع أفضل العقول العملية والتقنية تضم خبرات حقيقية، وتكون المهمة من وراء ذلك كله وضع منظومة من المبادئ لا تراجع عنها ولا مساومة حولها.

ويتعرض سعيد -الذي خدم والده في الحرب العالمية الأولى في فرنسا ضمن القوات الأميركية- لموقف العديد من المثقفين الذين يضمنون بقاء السلطة بعيدة عن أية مساءلة رافعين شعار "دع القيادة تفعل ما يحلو لها" منتقدا ما سماه "الأفكار الرنانة عن البراغماتية والواقعية التي يطلقها دفاعا عن عملية السلام كبار المفكرين والإستراتيجيين العرب في عمان أو القاهرة، لأنها لا تعدو أن تكون ترديدا معيبا لأيديولوجية سائدة، يقوم بصياغتها وترويجها العديد من مثقفي الطبقة الوسطى، الذين يستخدمهم الطغاة في كافة أنحاء العالم كخبراء لتبرير استمرارهم في تخريب بلادهم عن طريق العنف والفساد".

التعويضات

ويقول سعيد -صاحب كتب "القضية الفلسطينية" (1979) و"سياسة التجريد" (1994) و"نهاية عملية السلام" (2000)- إن عرفات بدا لا مباليا بمبدأ المساءلة من قبل الشعب الفلسطيني واستند "لسيطرة شعور السلبية والهزيمة على أبناء شعبه، وهو الشعور الذي أسهم هو إلى حد بعيد في خلقه" مشيرا لاستحالة أن يستطيع شخص واحد استيعاب كل تفاصيل 400 صفحة من التعقيدات القانونية.

ويعتبر سعيد -الذي شارك في تأسيس "المبادرة الوطنية الفلسطينية" لتكون قوة ثالثة منافسة لفتح وحماس- أن قضية التعويضات لم يهتم الفريق الفلسطيني المفاوض بإثارتها.

ونوه إلى ضرورة قيام هيئة فلسطينية بجمع المعلومات والإحصاءات عما تم خلال أعوام 1948 و1967 وصولا إلى منتصف التسعينيات "حيث لم تكتف إسرائيل خلال هذه الأعوام بسرقة وتدمير الممتلكات بل وخططت عمدا للتخلف التنموي للفلسطينيين وليس من تعامل فاعل مع النزف الذي يبدو بلا نهاية لمواردنا (وهي عملية لم توقفها السلطة بل فاقمت منها) إلا عن طريق علماء في الاقتصاد السياسي، يخضعون للمساءلة، من مجلس تمثيلي منتخب".

إن الفريق المفاوض، كما كتب سعيد، ينبغي أن يمثل المصالح الوطنية لكافة الفلسطينيين (وليس المصالح البلدية أو المحلية) في مفاوضات تلتزم بوقف أي تنازلات حول قضايا المستوطنات والسيادة والموارد المائية والطبيعية وحق الدخول والخروج والقدس مع ضمانات ضد تصرفات إسرائيل الخارقة عن القانون، مشددا "اللاتفاوض أفضل من تقديم تنازلات لا نهاية لها، الأمر الذي ينتهي بإدامة الاحتلال الإسرائيلي".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: السلطة الفلسطینیة

إقرأ أيضاً:

قصة إسلام إنجيلي أميركي.. كيف أصبح تديّن الغزيين نموذج هداية؟

ليلة الأول من رمضان الفائت، عقب صلاة العشاء مباشرة، وبينما ينتظر المصلّون القيام لصلاة التراويح، وقف رجلان كانا يصليان بجوار بعضهما، واتجه كل واحد منهما باتجاه معاكس للآخر. الأول هو الدكتور محمد عودة، فلسطيني الأصل أميركي الجنسية، الذي توجّه ناحية المحراب، بينما  مالَ الآخر لتجهيز الكاميرا التي كان قد أوقفها على حاملها قبل بدء الصلاة.

يمسك عودة بمكبر الصوت (المايكروفون)، ويقول: هذه أيام صعبة، وبينما يستمر القتل لأهل غزة، تحدث بعض المبشّرات من تأثير ما يجري هناك. فهذا هو داني الذي يُمسك بكاميرته ويجهزها كي يوثق لحظة نطقه للشهادة، بعدما كان يشارك معنا في المظاهرات الداعمة لغزة".

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2عين على غزة وصوت في باريس .. هل تحسم المقاومة انتخابات فرنسا؟list 2 of 2دعم غربي غير محدود لنتنياهو.. هل نعيش عصر حروب صليبية جديد؟end of list

يتقدّم داني ببطئ بين جموع المصلين الذين يتمايلون جلوسا كي يفسحوا له الطريق وهو يسير ناحية المحراب. رجل أبيض في منتصف الثلاثينيات، يتوسط وجهه شارب أشقر اللون، جسده ممتلئ قليلا، وتلفُ رقبته كوفية ممتزجة باللونين الأحمر والأبيض. يمسك مكبر الصوت، وينطق الشهادتين.

جرت أحداث القصة في ولاية كانساس -التي تقع في غرب الوسط من الولايات المتحدة الأميركية-، أو ولاية "شعب الريح الجنوبية" (كانزا) كما تُنطق في لغة سكان أميركا الأصليين، وهي الولاية التي يكثر فيها المزارعون والأميركيون ذوي الأصول الأوروبية، والانتماء المسيحيّ الصرف.

عودٌ على بدء..

 

"في أن المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده".

هذه المقولة ذات القدرة التفسيرية العالية لعبد الرحمن بن خلدون، والتي عنون بها الفصل الثالث والعشرين من مقدمة كتابه "العِبَر وديوان المبتدأ والخبر" كثيرًا ما استُدعيت في واقعنا المعاش. هيمنة ثقافية واقتصادية وسياسية غربية يقابلها ما يسمونه "دول عالم ثالث" نعيش فيها. أُعليت بذلك الثقافة الأوروبية-الأميركية على العالمين. طبَقيا في البدء، ثم ما انعكس على إثر ذلك في عوالم الفكر، والممارسة. فالولع يبدأ فكرا وشعورا، ثم يظهر في الزي والنحلة وسائر الأحوال.

لكن دورات التاريخ، حسب ابن خلدون ذاته، لا تسير خطيًّا كمن يصعد درجات السلّم، بل هي دورة، تتبادل الصعود والهبوط على التوالي. وإن كانت الصيغة الدائرية هي مُنطلق الفكر، فذاك يعني أن لا غالبَ مُطلق ولا مغلوب مطلق، إنما تكون المدافعة هي الحال.

مقدمة ابن خلدون (الجزيرة)

وكعادة الأحداث الكبرى في التاريخ، لا تنحصر تبعات الفعل في نطاق الزمان، ولا الجغرافيا، بل هي تموجّات لا يُحصر صداها في الغرفة التي سُمع منها الصوت. شيءٌ شبيه جرى في أميركا يوم الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، يوم اصطدام الطائرة ببرج التجارة العالمي، وتبنّي تنظيم القاعدة لهذا الهجوم، ثم ما تلاه من حرب أطلقها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن تحت عنوان "الحرب على الإرهاب".

تخيل المشهد كما يلي: اصطدام الطائرة في البرج، ثم انظر إلى أحجار الدومينو تتساقط تباعا.

ورغم انتفاء أي صلة مثبتة بين الهجوم وبين أحد المسلمين القاطنين في أميركا، فقد تبنت أميركا قوانين لتقييد حريات سكانها من المسلمين وانتهاك خصوصياتهم، وتم إصدار قانون الوطنية "باتريوت أكت" (PATRIOT Act) الذي استهدف بطريقة غير مباشرة آلاف المسلمين المقيمين بالولايات المتحدة. تلك الحرب كانت فرصة لصناعة عدو متخيل، الإسلام والمسلمون هم عنوانه، فيما عُرف لاحقا بـ"الإسلاموفوبيا" أو الخوف غير المبرر من الإسلام. وهو قانون ما زالت آثاره قائمة إلى اليوم.

لكن النظر للتاريخ، لا يجدر أن يقتصر على دائرة التحولات الكبرى التي تتعاقب على أجيال عدة، بل بوصفه دوائر صغيرة تتشكل في الجيل الواحد، لتصنع ثقوبًا صغيرة في الجدار الأوسع. فتحت "الحرب على الإرهاب" الباب أمام بعض الأميركيين الذين استطاعوا الفكاك من السردية السائدة، للنظر إلى هذا "الدين المحظور"، جوهره، فكره، تعاليمه. وقادت هذه الموجة غير واحد من الأميركيين غير المسلمين إلى الإسلام، كما جاء في دراسة للدكتور خالد إيسيسيه، من جامعة ويسكونسون.

ولا تبدو مقارنة أحداث سبتمبر مع أحداث السابع من أكتوبر منطقية -في كثير من المعطيات التي شكلت الحدثين-، سوى استدعاء ما تقوده الأحداث الكبرى على اختلافها الشاسع في تفاصيلها، من تغيرات تطال البنى الاجتماعية، سواء في أميركا، أو في العالم.

هذان الحدثان، أي الطوفان وأحداث سبتمبر، كانا حدثين فارقين في الوعي السياسي الأميركي، خاصة لجيل الشباب الذي لم يشهد إلقاء القنبلة النووية على اليابان، أو حرب فيتنام، أو الحرب الباردة.

لذا، حينما التقينا بداني، كانت أحداث سبتمبر حاضرة في حديثه، وكيف انعكس هذا الحدث على علاقته بأحد أصدقائه المسلمين في المدرسة. هذا الطفل المسلم ذاته الذي توترت علاقة داني معه بالأمس القريب، أصبح اليوم يقف كتفًا بكتف مع داني في صف الصلاة.

صورة لداني غودنر (الجزيرة)

سياق آخر وجد المتابعون فيه وجها لمقارنة ما جرى يوم أحداث سبتمبر، وما يجري اليوم في غزة. وهي رسالة قديمة كان قد وجهها زعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن للشعب الأميركي، لكن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة أعاد التذكير بها.

ومن أعاد التذكير بهذه الرسالة هي ناشطة أميركية تُدعى "لينيت أدكينز" على منصة تيك توك. حيث قالت في مقطع مصور "أريد من الجميع أن يتوقفوا عما يفعلونه الآن وأن يذهبوا لقراءتها (رسالة بن لادن). إنها صفحتان. اذهبوا واقرؤُوا رسالة إلى أميركا".

هذه الرسالة، كان قد كتبها "بن لادن" في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2002، ردًا على تساؤل عدد من الأميركيين  حول أسباب كراهية المسلمين الولايات المتحدة. في تلك الرسالة، أسهب "بن لادن" في الحديث عن فلسطين، حيث عدها السبب الأول لعداء الولايات المتحدة، معتبرًا إياها العامل الرئيسي في استمرار جرائم الاحتلال الإسرائيلي بالقتل والتهجير والدمار.

فوارق عدة تكمن في طبيعة كل عملية، بدءا من اختلاف المنطقة الجغرافية للأحداث والتباين الجليّ في سياقات الأحداث وتاريخها. فانهيار برج التجارة العالمّي كان في قلب العاصمة التجارية الأميركية، نيويورك، في حين جاء "طوفان الأقصى" في جغرافيا أخرى، لكنها دولة حليفة لأميركا، ومن جماعة مسلحة تصنّفها واشنطن بأنها إرهابية.

ورغم أن هجوم "حماس" لم يطل أرضًا أميركية ولا سفارة واشنطن في إسرائيل، إلا أن الموقف الرسمي للولايات المتحدة الذي تبنّى الرواية الإسرائيلية كاملة، مسنودا بترسانة ضخمة من وسائل الإعلام التقليدية التي أشهرت كافة أسلحتها على السردية الفلسطينية، هذا الموقف، جعل من هذه القضية شأنا أميركا داخليا يتحدث فيه الصغير والكبير، وتمتلئ لأجله شوارع المدن، وتُرفع فيه اللوحات وترتفع معها الشعارات والهتافات.

قصة داني.. من الكنيسة إلى القرآن

داني ليس الأول، ولا خاتمة من أسلموا على إثر ما يجري في غزة. لذا، كان يُفترض للقاء الأول أن يكون سريعا، مجموعة من الأسئلة المباشرة، تتبعها ردود مباشرة، ثم تُرفق قصته إلى جانب مجموعة لقاءات أخرى في تقرير إخباريّ يستعرض قصصا لأشخاص كان حدث طوفان الأقصى العامل الرئيسيّ في إسلامهم.

بدأت الجلسة بعد صلاة العصر مباشرة، وما كان يُفترض أن يكون لقاءً سريعا، امتد لأكثر من ساعتين ونصف، وفي نهاية الجلسة، قررت أن أكتب القصة الكاملة. أما مكان اللقاء، فكان غرفة الإمام، الملاصقة لذات المسجد الذي أعلن فيه داني إسلامه قبل أيام من عقد اللقاء.

متحمّسًا، جلستُ إليه. بدأ حديثه بصيغة يصبغها تحذير لطيف "أنا قرأت الكثير، وأستطيع الحديث لساعات، أُفضِّل أن تسألني أسئلة محددة، حتى لا أجلس هنا لساعات"، أجبته بأنني متفرغ حتى وقت الإفطار. وبدأ الحديث.

داني رجل أبيض بكل ما تحمله كلمة الرجل الأبيض من حمولات ثقافية واجتماعية داخل أميركا. هو في منتصف الثلاثينيات من عمره، وخصلات شعره التي تنبت على رأسه ووجهه يميلان للون الأشقر، ويعيش في ولاية ريفية منذ ولادته، ومضافا لكل ذلك تبعيّته للكنيسة البروتستانتية الإيفانجيليكية، وهي الطائفة المسيحية الأكثر دعما وتمويلا وتأييدا لإقامة دولة إسرائيل.

ويُقصد ب "إيفانجيليكل" (Evangelical) في الولايات المتحدة كل الطوائف المسيحية البروتستانتية التي تميزت عن البروتستانت التقليديين بعدد من المعتقدات، ويُقدر عددهم بأكثر من 80 مليون شخصا داخل أميركا.

أما تاريخهم، فيعود إلى القرن الثامن عشر حينما كانت أميركا مجموعة من المستعمرات، لكن هذه الطائفة مرت بعدة تحولات، حتى باتت شهرتها في يومنا هذا مرتبطة بانخراط الكثير من أتباعها في صفوف "اليمين المسيحي"، وتقاطعها فكريا وسياسيا مع إسرائيل والحركة الصهيونية.

يؤمن الإنجيليون أن إسرائيل هي العامل المسرّع لأحداث نهاية الزمان فيما يُعرف بمعركة "هرمجدون".

وفقا لهذه النبوءة فإن نزول المسيح لتخليص العالم في نهاية الزمان لن يحدث إلا في ظل هذه المعركة، والتي لن تحدث إلا عقب عودة اليهود إلى فلسطين وإنشاء دولتهم القومية، وستكون شرارتها بناء الهيكل على أطلال المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة، على اعتبار أن المسلمين لن يقفوا صامتين أمام هذه الأحداث.

أما انعكاس تأثير الإيفانجيليكية على الواقع السياسي والاجتماعي الأميركي، فهو واسع، وليس مجال حصره هنا.

أما كمعطيات عامة تعكس التأثير، فهم يمثلون اليوم شريحة أساسية من المصوتين للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، كما أن مايك بنس، نائب ترامب السابق، ينحدر منهم، وهو المعروف بدعمه المطلق لإسرائيل، إضافة لمايك بومبيو، وزير الخارجية السابق في عهد ترامب، ومدير السي آي إيه قبلها.

بالإضافة للنائب الجمهوري ورئيس مجلس النواب الحالي مايك جونسون الذي قال في تصريح صحفي في إبريل/نيسان الماضي 2024م "إسرائيل حليف حيوي لنا، أعتقد أن معظم الناس يتفهمون ضرورة هذا التمويل (26 مليار دولار لإسرائيل) إنهم يقاتلون من أجل وجودهم.. بالنسبة لنا نحن المؤمنين هناك توجيه في الإنجيل بأن نقف إلى جانب إسرائيل، وسنفعل ذلك بلا ريب وسينتصرون طالما كنا معهم". وغيرهم الكثير.

بالعودة للقاء، كان السؤال البدَهيّ الذي طرحته ابتداءً، ما سبب إسلامك، ما الحدث الذي جعلك تتجه لهذا التحول الجذريّ؟. استدعى السؤال تعديلا في جلسة داني، وقال: مشهدان. الأول، هو هدم مسجد الهدى وصلاة الناس على أنقاضه، شعرتُ بشيء غريب، فهذا ليس فعلا فرديا، بل أشخاص يتجمعون بعد هدم منازلهم ومسجدهم ليُصلُّوا على أنقاضه.

أقام مئات آلاف الفلسطينيين في محافظات غزة، الأربعاء، صلاة عيد الفطر المبارك فوق أنقاض مساجد دمرتها إسرائيل ضمن حرب متواصلة على القطاع منذ 6 أشهر.  ( وكالة الأناضول )

والثاني رؤيتي لمقطع مرئي لأحدهم وهو يتوضأ من المياه المتساقطة على خيمته، حيث يضم كفيه ليجمع الماء الذي يتقاطر من الخيمة، حتى يتوضأ للصلاة.

لقد أذهلني المنظر. كنت أعتقد قبل هذا الفيديو أنني أعيش حياة مليئة بالمصاعب، وهو ما أثر على سير حياتي اليومية، لكن ما شاهدته جعلني أدرك حقيقة مؤلمة: لا شيء من المصاعب التي أواجهها يمكن أن تُقارن بما يحدث له، لكنه يهتم رغم كل ما يجري معه، وفي هذا الوقت بالتحديد، بالصلاة.

استأنف وقد بدأت عيناه باللاتماع: في هذه اللحظة شعرت أن ثمة شيء مختلف عليّ أن أبحث عنه.

 سألته، هل القصة بدأت من هنا، أم أنها كانت لحظة الفصل.

أجاب: لم تبدأ القصة هنا لكنها كانت منعطفا مهما في مسار التحول الذي أخذته، والحقيقة أنها قصة توالت أحداثها منذ السابع من أكتوبر، ومررتُ معها بأطوار عدة. اليوم الجميع يرى القتل وهو في منزله، هذا الهاتف لم يترك لأحد مجالا للإنكار، ولم يترك مجالا لأحد كي يسلّم عقله لوسائل الإعلام التقليدية، ولا للمجتمع من حوله.

المشاهد كانت بشعة، يقول للجزيرة نت. ويكمل: شعرت بانقباض في صدري طيلة تلك الأيام، وبغضب شديد.

في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني، أي بعد أقل من شهر على بدء الحرب على غزة، وبينما كنت خارجا مع زوجتي لحضور إحدى الفعاليات الموسيقية، وجدتُ فقيرا على جانب الطريق. المختلف هذه المرة، أنني لم أكمل السير متجاهلا  كما جرت العادة.

توقفت. وقلت: إلى متى سيبقى هذا النظام المتوحش يجعلنا غير قادرين على رؤية معاناة من يختلف عنا من البشر. لم أحضر تلك الفعالية، وقررت العودة للمنزل. فلا يمكن للحياة أن تسير كما جرت عليه الحال. يجب أن نتوقف، وندرك ما الذي يجري حولنا.

بعيدا عن القصة، وعلى صلة بالموضوع. لا يستل الإنسان ذاته من تأثير بيئته الطاغي إلا بالوعي، وبلحظة الإدراك الفارقة التي يتحول معها ليقف على طرف النهر الجاري ناظرا إليه، وواعيا بتركيبته، عوضا عن الانجراف فيه.

وفي هذا العصر شديد التسارع، وشديد الفردانية بفكره الغربي الليبرالي الذي يؤلّه اللذة والأنا، لا يبدو الفكاك سهلا. وما يبدو حدثا مركزيا عند داني من حيث رؤيته للمشاهد التي بعثت في نفسه لحظة الإدراك، قد لا يكون عند آخر، بل قد لا يستدعي ذات المشهد التوقف عنده من الأساس والنظر والتأمل فيه. لحظات الإدراك لا تأتي جُزافًا، بل تتطلب استعدادا نفسيا مسبقا، أو لحظة إلهام سماوية تتجاوز حسّ الإنسان وتخطيطه.

عنون ابن خلدون في مقدمته أحد الفصول بقوله إن "أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر"، وعلى الرغم مما يبدو ظاهرا من عنوان الفصل بارتباط الأخلاق بنمط العيش حصرا وابتعاده عن موضوع حديثنا، فإن ابن خلدون يعلل نظرته تلك بأن ذلك عائد لكثرة ما يتعرض له أهل الحضر من "فنون الملاذ وعوائد الترف والإقبال على الدنيا، والعكوف على شهواتها"  بينما على الجانب الآخر، فإن "أهل البدو وإن كانوا مقبلين على الدنيا مثلهم إلا أنه في المقدار الضروي". هذا الثنائية ما بين التعرض الشديد لفنون الملاذ، في مقابل التعرض للمقدار الضروري، أمر يطرأ في كل زمان وجغرافيا، حتى داخل المدينة.

يتشابه الواقع لأهل الحاضرة الواحدة إذا، دون أن يستدعي ذلك تشابه الاستجابة بالضرورة.

أكبر سجن على الأرض تاريخ الأرض المحتلة المؤلف: إيلان بابي (الجزيرة)

فمنذ أواخر أكتوبر، بدأ داني بقراءة الكثير من الكتب حول فلسطين، ليتثقف حول هذه القضية التي أدرك أنه يجهل الكثير عنها، ووصف أن هذا الجهل في أميركا ممنهج. يقول: أول ما افتتحت به، هو كتاب لإيلان بابيه، ومع نهاية العام قرأت 60 كتابا، وكرست نفسي للتعلم، كي أصل للحقيقة. وما قرأته كان صادما، كمية التزييف التي تعرضنا لها كانت مخيفة بالنسبة لي. ومع القراءة بدأت الكثير من تفاصيل حياتي تتغير.

يضيف داني: في السابع من نوفمبر، وبينما كنت أسير مع زوجتي في منطقة البلازا المركزية في ولاية كانساس، أشارت لي زوجتي ناحية مظاهرة مؤيدة لفلسطين، لم أشارك في تلك المظاهرة، لكنها كانت البذرة التي بدأت تنمو في ذهني.

بعدها بأسبوع، وتحديدا في الخامس عشر من نوفمبر، حضرتُ فعالية كانت تحت تنظيم منظمة الهدف، وهي منظمة تعمل على التوعية بالقضية الفلسطينية. ثم بدأتُ أتفاعل على منصات التواصل الاجتماعي الخاصة بي مع القضية الفلسطينية، وقادني ذلك لحضور أول فعالية للتضامن مع فلسطين.

كانت نية داني حينما بدأ ببناء علاقته مع المنظمين من منظمة الهدف، هي أن يتضامن مع القضية الفلسطينية. بمرور الفعاليات، يقول بدأتُ أسأل عن الإسلام. حينها أحالوني للدكتور محمد عودة، الذي نطقت الشهادتين معه.

"في ذلك الوقت، كانت حياتي تنهار أمامي، أو هكذا كنت أراها. تراجعت علاقتي بالعمل، مع زوجتي، وكنت أشرب كثيرا. وربما كان هذا الانهيار هو ما جعلني أرى الإيمان لدى من أُصيبوا".

ويواصل "وحينما أمسكتُ القرآن اتضحت كثير من الأمور بالنسبة لي، الكلمات في غاية الوضوح، والمباشرة. كما أن التوضيحات التي جاءت حول قصة عيسى عليه السلام كانت مدهشة بالنسبة لي، لأنها حققت أمرين، أنها أكدت نبوة عيسى عليه السلام، وصححت التصورات حول نبوته وما جرى له".

توقف قليلًا كأنه يرتب ألفاظه للتعبير عن فكرته التالية، ثم استأنف "في القرآن، لا تتعلم كيف تتجاهل الوقائع، بل يكون إيمانك هو الدافع  للانخراط والتفاعل مع الحقائق، وتدافع عن حقك حتى لو لم تكن موازين القوى في صالحك. في السابق، تعلمت في الكنيسة الإيفانجيليكية أن أتجاهل كافة الوقائع والحقائق المحيطة بي، وأن أتحلى بالإيمان فقط".

حينها سترى الأبرياء يقتلون، ثم تنغلق على ذاتك وتكتفي بأن تقول "أنا على حق" دون أن يكون ثمة دليل وبرهان. تعلّمتُ ألا أهتم إن كان لأفعالي المباشرة أثرا سلبيا، وأن لا أشعر بالذنب. هذا بالنسبة لي يُعدّ نظاما مثاليا للسيطرة والتحكم بالعقول. يُكمل داني والانفعال بادٍ على وجهه: "كنّا نقول من قتل المسيح، ونرد: اليهود. بينما نتعامل سياسيا معهم باعتبارهم الخير المطلق، فقط لتحقيق نبوءة.

"القرآن لا يأمر بذلك". يقول داني، "بل لديه توجيه أخلاقي واضح، توجيه أخلاقي للمجموع وللفرد على السواء. جميعنا مسؤولون عمّا نفعل كأفراد. في النهاية، أمسك داني بالقرآن الذي اصطحبه معه، وهي نسخة باللغة الإنجليزية تملؤها ملصقات ملونة يدون داني معها ملاحظاته وتأملاته أثناء قراءته للقرآن. يقول: زوجتي الآن بدأت تقرأ عن الإسلام، وآمل أن يهديها الله!".

مرت الساعاتان بسرعة، ونحن نتهيّأ لإنهاء المقابلة، سألته عمّا إذا كان يريد أن يختم حديثه بملاحظة، قال: "سأبقى مدينا لما جرى في غزة طيلة حياتي رغم كل الآلام والبشائع التي تحدث، هؤلاء أيقظوا أنفسًا كثيرة حول العالم. ومسؤوليتنا جميعا أن نوقف هذه الإبادة التي تجري اليوم".

مقالات مشابهة

  • قصة إسلام إنجيلي أميركي.. كيف أصبح تديّن الغزيين نموذج هداية؟
  • التوسع الاستيطاني الصهيوني في الضفة ينسف اتفاق أوسلو ويقضي على ما يسمى “حل الدولتين”
  • محللون: التوسع الاستيطاني بالضفة الغربية أخطر ما يواجه الشعب الفلسطيني منذ 1948
  • أبو مرزوق : هناك 3 عوامل ستجبر نتنياهو على وقف حرب غزة
  • حماس والسلطة تنددان بقرار توسيع الاستيطان بالضفة والأردن يدين
  • أبو مرزوق للجزيرة نت: دور روسيا سيختلف إذا توسعت الحرب والسلطة تُفشل المصالحة
  • وزير إسرائيلي متطرف يهدد بمعاقبة السلطة الفلسطينية
  • مشعل: الطوفان غيَّر المشهد الإقليمي والدولي
  • لماذا تكتفي السلطة بموقف المتفرج أمام محاولات الاحتلال لتقويضها؟
  • توثيق المأساة والمنفى.. شظايا من غزة