سلام أميركي بلا أرض.. عندما فتح إدوارد سعيد النار على أوسلو والسلطة الفلسطينية
تاريخ النشر: 31st, August 2023 GMT
رغم أن المفكر الفلسطيني-الأميركي إدوارد سعيد (1935-2003) كان من أوائل المؤيدين لحل الدولتين وصوّت سنة 1988 لصالح إقامة دولة فلسطين -في جلسة المجلس الوطني الفلسطيني بالجزائر الذي كان عضوا فيه بين 1977 و1991-، وشارك بنفسه مع الشاعر الراحل محمود درويش في صياغة "وثيقة إعلان دولة فلسطين" لكنه استقال من المجلس 1991 احتجاجا على اتفاقية أوسلو وشروطها التي رآها غير مقبولة.
ندد سعيد باتفاقية أوسلو 1993 في كتابه "سلام بلا أرض" متنبئا بأنها "لن تقود إلى إقامة دولة فلسطينية حقيقية"، واعتبر أن منظمة التحرير الفلسطينية "حولت نفسها من حركة تحرر وطني إلى ما يشبه حكومة بلدية صغيرة، مع بقاء ذات الحفنة من الأشخاص في القيادة"، وفي المقابل حظرت السلطة بيع كتبه في أراضيها عام 1995 لكن العلاقات تحسنت بعد سنوات قليلة خاصة بعد إشادة سعيد برفض عرفات توقيع أي اتفاقية في كامب ديفيد عام 2000، وانتهاء القمة دون اتفاق.
كتاب "أوسلو 2.. سلام بلا أرض" جاء تكملة لكتابه "غزة -أريحا: سلام أميركي" الصادر عن دار المستقبل العربي وعبر فيه أستاذ النقد الأدبي والأدب المقارن في جامعة كولومبيا عن مجمل انتقاداته لاتفاق أوسلو، ملقيا باللائمة على من سماهم "الفلسطينيين المتعقلين" ومزاج اليأس والاستسلام السائد في أوساطهم وشعورهم بالعجز التام كما تلخص ذلك مقولات مثل "ليس ثمة بديل آخر".
وكان سعيد -المولود في القدس والمتوفي في نيويورك- ناشطا وباحثا ومؤلفا وناقدا أدبيا وموسيقيا، وتعامل جل طلاب العلوم الإنسانية في الولايات المتحدة مع إرثه، ومهد كتابه "الاستشراق" الطريق لثورة في دراسة الأدب والتاريخ والسياسة.
مشروعية النقدويقول الباحث في الأدب الاستعماري ودارس ميشيل فوكو وجاك دريدا إنه من غير المنطقي القول بأنه ليس هناك بديل لأشياء مثل انعدام الكفاءة والدكتاتورية، فالبدائل معروفة، لكن شعور "أنصار الوضع القائم والسلطة الفلسطينية بالحاجة إلى الرد على مقالات أمثالي من الجالسين في لندن ونيويورك، بل واعترافهم في ردودهم بتفشي ظواهر انعدام الكفاءة والتسلط، لهو برهان أكيد على أن عملية النقد تشكل مساهمة فعلية".
ويرى في مقدمة كتاب "أوسلو 2.. سلام بلا أرض" أنه عندما ينشأ وضع ما يسمح لشخص واحد بالإمساك بكافة مقاليد الأمور وتسييرها على هواه، فهناك دوما مجال للجهر بأن هذه دكتاتورية سافرة، مضيفا أن الاعتراف العلني بذلك من قبل عدد متزايد من الناس الآن يبرهن على صحة الانتقاد والحاجة إليه، فلا معنى -بحسب سعيد- لتضامن مع القضية الفلسطينية قبل أن يسبقه النقد ويصاحبه "أن الكل معرض للخطأ حتى ياسر عرفات".
وتزداد أهمية الدور الذي يلعبه النقد والتذكير بالنواقص في غياب نظام قانوني أو دستوري متكامل، ولا يصح هذا الأمر في حالة غزة والضفة الغربية فحسب، بل ينطبق أيضا على أي مكان في العالم العربي، كما يقول المفكر الفلسطيني-الأميركي الذي يرى نقد السلطة واجبا أخلاقيا بينما الصمت والانصياع أو اللامبالاة أمور تنم عن انعدام الحس الأخلاقي.
والذي يزيد الطين بلة، كما يرى الأكاديمي الراحل، هو نجاح السلطة الفلسطينية في إخضاع أو إجبار غالبية منتقديها على التخلي عن الشكوى أو التنظيم، إذ تشير تركيبة السلطة إلى أن "عرفات تمكن من شراء أو إخافة غالبية معارضيه. فهاهي الشخصيات التي كانت تبدو مستقلة قبل بضعة أشهر، تأتي إلى مكتبه حاملة العرائض، أو تجلس في الصفوف الأمامية لتصفق له عاليا. وعرفات بالطبع عبقري في توظيف المصالح الشخصية والقوة التي توفرها له أجهزته الأمنية لكي يعطي الانطباع أن الجميع يسانده" كما قال.
ويستطرد سعيد -الذي صدرت حديثا سيرته بعنوان "أمكنة العقل"- فيقول إنه لا أحد يجرؤ على الجهر بالقول بأن "السلطة الفلسطينية في عمقها تتسم ببعض سمات المافيا، حيث يقوم عديد من رجال السلطة بعقد مختلف أنواع الصفقات التي تعود بالنفع على الحلقة الضيقة من رجال عرفات وخبرائه وهو أمر يستبعد بالضرورة أصحاب الكفاءة والشرفاء".
"جوهر القضية"تتسق كتابات المفكر الفلسطيني مع مفهومه عن الصراع في فلسطين، فهو برأيه "حرب تصورات وأفكار" بقدر ما هو مسألة تتعلق بالسياسة والسياسات.
ويرى سعيد -الذي عاش طفولته بين القدس والقاهرة قبل مصادرة أملاك عائلته وتحولهم للاجئين- أن مصير اللاجئين الذين أجبرتهم إسرائيل على المغادرة في عام 1948 هو "جوهر القضية الفلسطينية، فقد قامت الحركة الصهيونية منذ بداية القرن إلى الآن، بكل ما في وسعها لضمان بقاء غالبية الفلسطينيين خارج وطنهم. أما أولئك الذين تمكنو من البقاء في الداخل، فقد سعت لتقليص وجودهم السياسي للحد الأدنى".
ويرى المفكر -الذي توفي بعد عشرة أعوام من الصراع مع مرض اللوكيميا (سرطان الدم) سنة 2003- أن المضي في أسلوب التفاوض الفلسطيني الذي يتسم بسوء التنظيم والافتقار إلى خبراء حقيقيين ومعلومات دقيقة (من بينها خرائط موثوقة وإحصاءات ومعرفة دقيقة بالتغييرات التي قامت بها إسرائيل على الأرض منذ 1948 و1967) يعني تكرار نفس الأخطاء، مؤكدا عدم قدرة عرفات ومن سماهم "الحلقة الضيقة من الموالين له" على التعامل مع التعقيدات الشديدة للوضع الفلسطيني في شموله.
ويعتبر سعيد -الذي عمل أستاذا زائرا للأدب المقارن في جامعة هارفرد- قبول الفلسطينيين بنصيحة من سماهم "إستراتيجيي الأمر الواقع" بمثابة خسارة مفاوضات الوضع النهائي قبل دخولها، ويردف "نحن فلسطينيو الشتات نحتاج للنهوض من سباتنا لأن السلطة المنشغلة بإدارة الحكم الذاتي والاحتلال الإسرائيلي لا تستطيع الاهتمام بمصالحنا" كما أنها لا تمثل الفلسطينيين في بيروت وعمان ودمشق وأوروبا وأميركا الشمالية رغم النفوذ الفكري والسياسي والاقتصادي والأخلاقي لدى أهل الشتات، كما أشار سعيد.
ويضع المؤلف الراحل خطة للحل مشيرا لضرورة إحصاء عدد الفلسطينين في الخارج وما خسروه من الممتلكات وإصلاح المجلس الوطني الفلسطيني وممارسة نشاطه عبر معايير الكفاءة والتمثيل الديمغرافي، وبناء مؤسسة تجمع أفضل العقول العملية والتقنية تضم خبرات حقيقية، وتكون المهمة من وراء ذلك كله وضع منظومة من المبادئ لا تراجع عنها ولا مساومة حولها.
ويتعرض سعيد -الذي خدم والده في الحرب العالمية الأولى في فرنسا ضمن القوات الأميركية- لموقف العديد من المثقفين الذين يضمنون بقاء السلطة بعيدة عن أية مساءلة رافعين شعار "دع القيادة تفعل ما يحلو لها" منتقدا ما سماه "الأفكار الرنانة عن البراغماتية والواقعية التي يطلقها دفاعا عن عملية السلام كبار المفكرين والإستراتيجيين العرب في عمان أو القاهرة، لأنها لا تعدو أن تكون ترديدا معيبا لأيديولوجية سائدة، يقوم بصياغتها وترويجها العديد من مثقفي الطبقة الوسطى، الذين يستخدمهم الطغاة في كافة أنحاء العالم كخبراء لتبرير استمرارهم في تخريب بلادهم عن طريق العنف والفساد".
التعويضاتويقول سعيد -صاحب كتب "القضية الفلسطينية" (1979) و"سياسة التجريد" (1994) و"نهاية عملية السلام" (2000)- إن عرفات بدا لا مباليا بمبدأ المساءلة من قبل الشعب الفلسطيني واستند "لسيطرة شعور السلبية والهزيمة على أبناء شعبه، وهو الشعور الذي أسهم هو إلى حد بعيد في خلقه" مشيرا لاستحالة أن يستطيع شخص واحد استيعاب كل تفاصيل 400 صفحة من التعقيدات القانونية.
ويعتبر سعيد -الذي شارك في تأسيس "المبادرة الوطنية الفلسطينية" لتكون قوة ثالثة منافسة لفتح وحماس- أن قضية التعويضات لم يهتم الفريق الفلسطيني المفاوض بإثارتها.
ونوه إلى ضرورة قيام هيئة فلسطينية بجمع المعلومات والإحصاءات عما تم خلال أعوام 1948 و1967 وصولا إلى منتصف التسعينيات "حيث لم تكتف إسرائيل خلال هذه الأعوام بسرقة وتدمير الممتلكات بل وخططت عمدا للتخلف التنموي للفلسطينيين وليس من تعامل فاعل مع النزف الذي يبدو بلا نهاية لمواردنا (وهي عملية لم توقفها السلطة بل فاقمت منها) إلا عن طريق علماء في الاقتصاد السياسي، يخضعون للمساءلة، من مجلس تمثيلي منتخب".
إن الفريق المفاوض، كما كتب سعيد، ينبغي أن يمثل المصالح الوطنية لكافة الفلسطينيين (وليس المصالح البلدية أو المحلية) في مفاوضات تلتزم بوقف أي تنازلات حول قضايا المستوطنات والسيادة والموارد المائية والطبيعية وحق الدخول والخروج والقدس مع ضمانات ضد تصرفات إسرائيل الخارقة عن القانون، مشددا "اللاتفاوض أفضل من تقديم تنازلات لا نهاية لها، الأمر الذي ينتهي بإدامة الاحتلال الإسرائيلي".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: السلطة الفلسطینیة
إقرأ أيضاً:
القضية الفلسطينية أمام مخاطرالتصفية.. قراءة في كتاب
الكتاب: التقرير الاستراتيجي الفلسطيني 2022-2023الكاتب:مجموعة من المؤلفين،المحرر: أ. د. محسن محمد صالح.
الناشر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، أغسطس 2024.
548 صفحة من القطع المتوسط.
يُعدّ التقرير الاستراتيجي الفلسطيني من أهم الدراسات العلمية الشاملة حول القضية الفلسطينية، والتي تصدر بشكل دوري عن مركز الزيتونة؛ حيث أصبح مرجعاً أساسياً للمتخصصين والمهتمين بالشأن الفلسطيني، نظراً لشمولية تغطيته لتطور...فقد جاء إصدارهذا التقرير الاستراتيجي الفلسطيني 2022 ـ 2023، وهو المجلد الثالث عشر الذي يصدر من السلسلة، في ضوء استمرار معركة طوفان الأقصى والعدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزة منذ 7/10/2023.
ويتألف هذا التقرير من ثمانية فصول وفهرست، في 548 صفحة من القطع المتوسط. وشارك في إعداده إثنا عشر أستاذاً وباحثاً متخصصاً في الشأن الفلسطيني، وراجعه ثلاثة مستشارين، وأشرف على إعداده وقام بتحريره علمياً أ. د. محسن محمد صالح.
حملت سنتا 2022 ـ 2023 مزيداً من التحديات والمخاطر على الصعيد الفلسطيني، خصوصاً مع وجود حكومة صهيونية تمثل أقصى أشكال التطرف اليميني والديني، وتسعى إلى شطب وتصفية الملف الفلسطيني، ومع وجود قيادة فلسطينية ضعيفة لمنظمة التحرير والسلطة في رام الله، تتعاون مع الاحتلال وتطارد المقاومة، وتغلق الأبواب في وجه إصلاح البيت الداخلي الفلسطيني، كما شهدت هاتان السنتان تصاعد موجة التطبيع العربي مع «إسرائيل»، وضمور الموقف الفلسطيني في البيئة الدولية.
جاءت معركة طوفان الأقصى لتعيد الاعتبار العربي والعالمي لقضية فلسطين، وتؤكد استحالة تجاوز الملف الفلسطيني، وتعزّز التفاف الشعب الفلسطيني حول خيار المقاومة، وتعمق فشل مسار التسوية السلمية، كما جاءت لتسقط نظرية الأمن والردع الصهيوني، وتهافت فكرة "الملاذ الآمن" للصهاينة، ولتضع تساؤلات حقيقية حول الدور الوظيفي للكيان الصهيوني ودوره كشرطي للمنطقة وكعصا غليظة للنفوذ الإمبريالي الأمريكي فيها؛ ولتقدّم حالة إلهام غير مسبوقة للأمة وأحرار العالم بإمكانية هزيمة المشروع الصهيوني؛ ولتضع "إسرائيل" في أسوأ وضع عالمي منذ نشأتها، ولتتحوّل إلى كيان منبوذٍ في البيئة الدولية، لقد كانت التضحيات هائلة على المستوى الفلسطيني خصوصاً في قطاع غزة، وظهرت الوحشية والدموية الصهيونية في أقبح صورها؛ غير أن التفاف الحاضنة الشعبية خلف المقاومة كان من أبرز تجليات هذه الحرب.
الوضع الفلسطيني قبل عملية طوفان الأقصى
يعالج الكاتب والباحث في القضايا العربية والإسلامية ساري عرابي في الفصل الأول مجمل مسارات الوضع الفلسطيني الداخلي، من حيث السلطة ومؤسساتها، ومنظمة التحرير الفلسطينية، والفعالية الوطنية في المجال العام، والعلاقات الوطنية البيئية، وأوضاع القوى الحزبية الداخلية، انتهاء بالتنسيق الأمني، في إطار من التحليل لهذه الملفات وسواها مما يندرج في هذا الفصل.
ويرى الكاتب ساري عرابي أنَّ هناك تداخلاً غير مسبوق بين نهاية سنة 2023 مع سنة 2024 ، من جراء اندلاع عملية طوفان الأقصى في 23 أكتوبر 2023، وتداعياتها التي فجرت الحرب بين الكيان الصهيوني وحركة حماس وباقي فصائل محور المقاومة، وجعلت "إسرائيل" أمام امتحان عسير من حيث أمنها وقدرات جيشها وأفق استمرارها في المنطقة، وهو ما انعكس في حرب طاحنة، وُصفت بحرب الإبادة الجماعية المدعومة من قبل الإمبريالية الأمريكية، واتَّسمت بتعمُّد التجويع، ونقلت الموقف من "طوفان الأقصى" إلى الحرب الإسرائيلية على غزة، ومن ثم بات النقاش مع نهايات سنة 2023 ومطالع سنة 2024، حول قضايا كبرى، من قبيل احتمالات تهجير الفلسطينيين من غزة، ومستقبل حركة حماس، ودور السلطة الفلسطينية، مع عودة أطروحة الدولة الفلسطينية لتصعد في الخطاب السياسي الإقليمي والدولي.
هناك تداخلاً غير مسبوق بين نهاية سنة 2023 مع سنة 2024 ، من جراء اندلاع عملية طوفان الأقصى في 23 أكتوبر 2023، وتداعياتها التي فجرت الحرب بين الكيان الصهيوني وحركة حماس وباقي فصائل محور المقاومة، وجعلت "إسرائيل" أمام امتحان عسير من حيث أمنها وقدرات جيشها وأفق استمرارها في المنطقةينقسم الفصل إلى عدد من المحاور، تبدأ بالمحور الذي يناقش السلطة مؤسسات وأداء، مع التركيز على حكومة محمد اشتية من حيث سياقها السياسي وأداؤها العام، بعدما أضحت المؤسسة الفلسطينية بسلطاتها كلها مركزة في مؤسسة الرئاسة، ومن ثمّ سوف يحضر الرئيس الفلسطيني في كلّ الملفات الفلسطينية، بلا استثناء، في الحكومة ومنظمة التحرير وحركة فتح والعلاقات الوطنية الداخلية والتنسيق الأمني.
تجري مراجعة سياسات حكومة اشتية في الإطار العام، بالنظر إلى سياقها السياسي وأدائها الاقتصادي، واتجاهاتها الإدارية، وخططها لمواجهة التحديات ذات الصلة، سواء بمعالجة الأزمات الاقتصادية المتصلة، والمرتبطة بنحو ما بالحالة السياسية لتحكّم الاحتلال بأموال المقاصة الفلسطينية، أم بطرق معالجة انعكاسات ذلك في المجال العام، كحراكات النقابات التي يمكن القول إنها كانت أبرز مظاهر الحركة في المجال العام، في ظلّ غلق للمجال العام وَسَمَ حالة السلطة الفلسطينية منذ ما يسمى بالانقسام الفلسطيني.
لقد ظلّ الوضع الفلسطيني في سنتي 2022 و2023 كما السنوات الساقة: متَّسماً بالجمود المطبق، لا سيما في العلاقات الوطنية الداخلية، وفي سياسات السلطة الفلسطينية، مع انسداد الآفاق في الصراع مع الاحتلال، باستثناء تصاعد المقاومة في الضفة الغربية مطالع سنة 2022، ثم عدوانين إسرائيليين على قطاع غزة في آب/ أغسطس 2022، وأيار/ مايو 2023، إلى أن جاءت عملية "طوفان الأقصى" في 7/10/2023، والتي من شأنها بما تبعها من حرب إبادة جماعية إسرائيلية على الفلسطينيين في قطاع غزة أن تُوجِد تحوّلاً جوهرياً في الوضع الفلسطيني الداخلي، إن لم يظهر في المدى القريب، فقد يظهر في المستويين المتوسط والبعيد.
ويناقش الكاتب أزمة السلطة الفلسطينية سياسات السلطة الفلسطينية تزداد ارتباطاً بسياسة الاستسلام العربية، لتصبح عنوان هذه السياسة الاستسلامية، وطليعة الدفاع عنها. فهذه السلطة التي استمدت شرعيتها من اتفاقيات أوسلو، وماترتب عليها من مصادروجود واستمرار، ومن أعطيات سلطوية وأجنبية، مالية ومؤسساتية، ظلت طيلة هذه المرحلة معادية للمقاومة الفلسطينية.
وكانت حكومة محمد اشتية التي أدَّتْ اليمين القانونية أمام الرئيس الفلسطيني محمود عباس في 13/4/2019، وظلت قائمة حتى قمت استقالتها في 26/2/2024، تعبيرًا جليًا عن الانقسام الفلسطيني، لكون رئيسها أولاً عضواً في اللجنة المركزية لحركة فتح، مما يعني أنها حكومة حركة فتح، وليست حكومة فوق حزبية، وثانياً مثّلت إعلاناً رسمياً لنقض سلسلة اتفاقات بين حركتي حماس وفتح، أوّلها "اتفاق الشاطئ" في 23/4/2023، الذي انبثقت عنه حكومة "الوفاق الوطني"، وهي الحكومة التي ترأسها رامي الحمدالله، ثمّ اتفاق القاهرة التالي في 25/9/2014، الذي حدّد مهام حكومة "الوفاق الوطني"، وأنهى الخلاف حول الملفات العالقة، ونظّم آليات حلّ تلك الملفات، ثمّ أخيراً اتفاق القاهرة في 12/10/2017، والذي يفترض أنّه نظم آليات عمل حكومة "الوفاق الوطني" في قطاع غزة، ثم ومنذ "الانقسام الفلسطيني"، وتعطيل المجلس التشريعي في حينه، ثمّ حلّه في 23/12/2018، والحكومة لا تُعرض على المجلس التشريعي للتصويت على الثقة بالحكومة.
يمكن النظر إلى أداء حكومة اشتية بوصفه مركباً من انعدام المؤسسية الذي ركّز السلطة في مؤسسة الرئاسة، في وضع من الانقسام الوطني العميق، وظرف سياسي، يستخدم فيه الاحتلال الصهيوني الورقة المالية أداة تعطيل دائم للفعالية السياسية للسلطة الفلسطينية، ومنها حكومة اشتية، فردّاً على ما صرّحت به السلطة الفلسطينية من تشكيلها فريقين قانونيين محلياً ودولياً، لمتابعة قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة (General Assembly) إحالة ملف الاحتلال الصهيوني إلى محكمة العدل الدولية (International Court of Justice)، لإصدار فتوى قانونية بشأن الاحتلال ووجودة على "الأراضي الفلسطينية"، قرّرت "إسرائيل" سلسلة من الإجراءات العقابية ضدّ السلطة منها خصومات مالية جديدة، وسحب بطاقة "الشخصية المهمة" من وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي و3 قياديين في فتح، وهي السياسات التي كانت ترى فيها السلطة، وعلى لسان رئيس الحكومة محمد اشتية؛ تقويضاً لها ودفعاً نحو انهيارها، لا سيّما فيما يخصّ الخصومات المالية المستمرة من أموال السلطة.
ويتطرق الكاتب إلى العلاقات الوطنية البينية والأوضاع الداخلية للفصائل الفلسطينية، فيقول أنها لا تنفك العلاقات الوطنية البينية بين القوى الفلسطينية، ولا حتى الأوضاع الداخلية لكل فصيل منها منفرداً، عن مجمل ملفات الوضع الفلسطيني الداخلي، فالتداخل كبير بين سياسات السلطة الفلسطينية بمؤسساتها المتعددة، وأدوات استدعاء منظمة التحرير وتوظيفها، كما مر في الملفات السابقة كلها، وكذلك التنسيق الأمني كما سيأتي، وبين العلاقات الوطنية البينية والأوضاع الداخلية للفصائل الفلسطينية. ومن ثم فإنّ الجمود الذي اتسمت به الحالة الوطنية الفلسطينية في تلك الملفات كلها، إذ بقيت على حالها، مع جهود ظاهرة لنخبة مثلث (المنظمة. السلطة، فتح) لحصار أي فعالية عامة تسعى لكسر الجمود وتنشيط النضال الفلسطيني سوف ينعكس بالضرورة جموداً على العلاقات الوطنية الداخلية.
التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والاحتلال
من أهم سمات السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس التنسيق الأمني مع الحكومة الصهيونية من أجل ملاحقة المقاومين الفلسطينيين في الضفة الغربية. فقد استمرت حكومة بينيت لابيد من 2021/6/13 وحتى 2022/12/29، وأولت هذه الحكومة اهتماماً خاصاً من خلال وزير الحرب الصهيوني حينها بني جانتس Benny Gantz بالتواصل والتنسيق المستمر ذي الطابع الأمني والاقتصادي مع السلطة الفلسطينية بلا أي أفق سياسي. يُذكرنا ذلك بسلسلة القرارات التي اتخذتها مؤسسات متعددة في منظمة التحرير بوقف التنسيق الأمني، دون التزام بذلك.
ظلّ الوضع الفلسطيني في سنتي 2022 و2023 كما السنوات الساقة: متَّسماً بالجمود المطبق، لا سيما في العلاقات الوطنية الداخلية، وفي سياسات السلطة الفلسطينية، مع انسداد الآفاق في الصراع مع الاحتلال، باستثناء تصاعد المقاومة في الضفة الغربية مطالع سنة 2022، ثم عدوانين إسرائيليين على قطاع غزة في آب/ أغسطس 2022، وأيار/ مايو 2023، إلى أن جاءت عملية "طوفان الأقصى" في 7/10/2023..ويحسن وصل الأمر بإعلان الرئيس عباس في 2020/5/19 انسحاب منظمة التحرير الفلسطينية ودولة فلسطين من جميع الاتفاقات والتفاهمات مع الحكومتين الأمريكية والإسرائيلية، ومن جميع الالتزامات المترتبة على تلك التفاهمات والاتفاقات، بما فيها الأمنية وهو موقف بدا خطابياً في أثناء توتر العلاقة بين السلطة الفلسطينية وإدارة ترامب، إلا أن قيادة السلطة أعلنت تراجعها عنه في 2020/11/17، على لسان حسين الشيخ رئيس الهيئة العامة للشؤون المدنية في السلطة الفلسطينية، الذي قال إن مسار العلاقة مع "إسرائيل" سيعود كما كان لتدخل السلطة الفلسطينية بهذا المسار من العلاقة مع حكومة بينيت ـ لابيد، وبما يفسره تصريح لوزير الخارجية الإسرائيلي في حينه يائير لابيد Yair Lapid بقوله: "إن 90% من العلاقات مع السلطة الفلسطينية تتعلق بالتنسيق الأمني.
وهو أمر يتفق مع الرؤية الأمنية التي عبر عنها جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) (Israeli Security Agency - ISA (Shabak على لسان رئيسه في حينه نداف أرغمان Nadav Argaman بقوله: "إن استقرار السلطة الفلسطينية، هو مصلحة إسرائيلية لضمان استمرار التنسيق الأمني ولتبقى إسرائيل بعيدة عن إدارة وتمويل احتياجات ملايين الفلسطينيين". ومن ثم استكملت السلطة هذا المسار طوال سنة 2022 الذي أدارته حكومة بينيت ـ لابيد، دون أن يكون لقرار المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية في شباط / فبراير 2022 بوقف التنسيق الأمني مفاعيل واقعية، بل إن الرئيس الفلسطيني محمود عباس صرح مع نهايات 2022 أن الاتفاقيات مع إسرائيل قائمة ولا تراجع عنها.
وبالرغم من أن الاقتحامات الإسرائيلية لمراكز المدن الفلسطينية، كانت تفضي إلى ارتقاء العديد من الشهداء، فإن الاجتماعات ذات الطابع الأمني بين قيادة السلطة ومستويات أمنية صهيونية لم تتوقف، فقد أرجعت كتائب شهداء الأقصى ـ لواء نضال العامودي، قدرة الاحتلال على الوصول إلى مقاتليها في نابلس إلى التنسيق الأمني، وذلك بينما تحدثت المصادر الإعلامية عن لقاء جمع حسين الشيخ برئيسة مكتب وزير الأمن الإسرائيلي، معيان إسرائيلي Maayan Israeli، ومنسق أعمال الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، غسان عليان Ghassan Alyan ولقاء آخر جمعه في تل أبيب بوزير الأمن الداخلي في حكومة الاحتلال عومير بارليف Omer Barley. وتفيد هذه المصادر بأنه كان من ضمن أهداف هذه الاجتماعات منع التصعيد في شهر رمضان في المسجد الأقصى، إلى درجة أن المصادر الإعلامية الإسرائيلية زعمت أن الرئيس عباس أمر نشطاء حركة فتح بالقدس بالوقوف في وجه أي تصعيد في المسجد الأقصى ولو بأجسادهم. وذلك بينما مثل شهر رمضان سنة 2022، تحدياً كبيراً للمخططات الإسرائيلية تجاه المسجد الأقصى، ولا سيما مخططات أحزاب الصهيونية الدينية مع تزامن عيد الفصح اليهودي مع شهر رمضان المبارك، فقد امتدت اقتحامات قوات الاحتلال ومستوطنيه للمسجد الأقصى طوال الشهر، كان بعضها عنيفاً كما في اقتحام يوم 2022/4/15 وأدت إلى أكثر من 160 إصابة واعتقال أكثر من 400 فلسطيني.
تضع هذه المعادلة الإسرائيلية السلطة الفلسطينية في وضع معقد، فالأوساط الأكثر تعاطياً معها، كالمؤسسة الأمنية، تتسم بالتطرف وعدم التسامح في القضايا الأمنية الاستراتيجية أو في معالجة الإلحاح الأمني الذي تعجز السلطة عن معالجته بنحو فوري. وذلك بينما تستمر "إسرائيل" في إطلاق عملية مفتوحة لتصفية حالة المقاومة بالضفة الغربية أسمتها كاسر الأمواج Break water ودفعت بها منذ 2022/3/31، بعد سلسلة العمليات النوعية التي شهدها شهر آذار / مارس وأفضت إلى مقتل 11 إسرائيلياً وإصابة 27 آخرين.
أدت هذه الترتيبات إلى محاولة السلطة الفلسطينية تفكيك التشكيلات المسلحة المقاومة في شمالي الضفة الغربية، وبدت السلطة ناجحة في هذا الجهد إزاء تشكيل "عرين الأسود" الذي تمركز في مدينة نابلس. إذ اتخذ هذا الجهد صوراً ناعمة بإقناع عناصر من التشكيل بتسليم أنفسهم للأجهزة الأمنية للسلطة وصوراً أخرى خشنة كاعتقال بعض أهم قيادات التشكيل لا سيما المحسوبين منهم على حركة حماس وأشهرهم مصعب اشتية الأمر الذي امتد في مصادمات مع الجماهير وعموم الناس في مدينة نابلس: بينما تكفل الاحتلال باغتيال العديد من مقاومي التشكيل.
كان التجسيد الأوضح لاستمرار التنسيق الأمني، والخطط الأمريكية الرامية إلى تطوير هذا التنسيق في قمة العقبة الأمنية، التي جمعت في 2023/2/26 في العقبة بالأردن إلى جانب السلطة كلاً من الاحتلال والولايات المتحدة والأردن ومصر، ثم قمة شرم الشيخ بمصر التي جاءت في الشهر التالي في 2023/3/19 بين الأطراف نفسها ولاستكمال تفاهمات قمة العقبةوهذا جعل من آليات التعامل مع تشكيل عرين الأسود" نموذجاً لاختبار إمكانية استنساخه إزاء عموم حالة المقاومة وتشكيلاتها في شمالي الضفة الغربية، ولا سيما في مخيم جنين. فقد أفادت مصادر عن تجهيز السلطة الفلسطينية لخطة لاحتواء التشكيلات المسلحة في مخيم جنين ، وأنها بالفعل منعت عدداً من العمليات التي كانت تخطط لها حركة الجهاد الإسلامي ضد الاحتلال الإسرائيلي. وهكذا، انتهت سنة 2022 بأكثر من 500 اعتقال واستدعاء سياسي من السلطة الفلسطينية لنشطاء فصائل المقاومة في الضفة الغربية.
وبالرغم من هذا التحوّل الإسرائيلي العملي نحو ضم الضفة الغربية، وتصريحات نتنياهو المستمرة المعادية للسلطة الفلسطينية والتي يتهمها فيها بأنها "لا تقوم بدورها الأمني" وتعهده باستمرار المسؤولية الأمنية الإسرائيلية عن الضفة، فإن المصادر تحدثت عن اتصالات مبكرة، ثمّ مستمرّة، ذات طابع سرّي، بين السلطة الفلسطينية وحكومة نتنياهو، وتشييد قناة اتصال سرية بين مكتب نتنياهو وقيادات في السلطة، بدأت بمبادرة من السلطة برسالة بعثها أمين سرّ اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير حسين الشيخ إلى مكتب نتنياهو عبر الإدارة الأمريكية في الأسابيع التي سبقت تنصيب حكومة نتنياهو السادسة، مفادها أنه "على الرغم من الخلافات العميقة، إلا أن السلطة الفلسطينية مستعدة للعمل مع رئيس الحكومة الجديدة". وقد عيّن نتنياهو مستشارة للأمن القومي تساحي هنغبي (Tzachi Hanegbi)، مسؤولاً عن الملف الفلسطيني، وفوضه بإجراء المحادثات التي تناولت في الأسابيع الأولى من عملية تنصيب الحكومة، عبر اتصالات منتظمة، محاولة منع التصعيد"، وقد أسفرت هذه المحادثات عن لقاءات فعلية جمعت الشيخ بهنغبي، وأثمرت عن تأجيل التصويت في مجلس الأمن الدولي على قرار مناهض للاستيطان في الضفة. 303
لقد كان التجسيد الأوضح لاستمرار التنسيق الأمني، والخطط الأمريكية الرامية إلى تطوير هذا التنسيق في قمة العقبة الأمنية، التي جمعت في 2023/2/26 في العقبة بالأردن إلى جانب السلطة كلاً من الاحتلال والولايات المتحدة والأردن ومصر، ثم قمة شرم الشيخ بمصر التي جاءت في الشهر التالي في 2023/3/19 بين الأطراف نفسها ولاستكمال تفاهمات قمة العقبة، والتي يبدو أنها تركزت في خطة أمنية أمريكية يشرف عليها الجنرال الأمريكي مايكل فينزل وتقترح تدريب القوات الفلسطينية للسيطرة على منطقتي جنين ونابلس. وفي هذا الإطار فإن 5 آلاف عنصر أمني فلسطيني يخدمون في جهاز الأمن الوطني، سيجري تدريبهم في قواعد تدريبية في الأردن. وسيخضعون لبرنامج تدريبي خاص بإشراف أمريكي .