المسلة:
2025-02-16@23:28:16 GMT

الحركية الإسلامية المعاصرة والمساران الشيعي والسني

تاريخ النشر: 31st, August 2023 GMT

الحركية الإسلامية المعاصرة والمساران الشيعي والسني

31 أغسطس، 2023

بغداد/المسلة الحدث:

د. علي المؤمن

عند النظر في التجارب الحركية والتنظيمية الإسلاميو المعاصرة، في مساريها الشيعي والسني، وكذا الفكر والفقه السياسي لكلا المسارين؛ سنجد أنّ الوسط الإسلامي الشيعي كان المبادر والفاعل دائماً، ويعود ذلك الى الميول التقليدية للواقع الشيعي الى الأساليب المنظمة والحركية، والسرية أحياناً، في العمل النهضوي والاجتماعي المذهبي، وفي المواجهة الدائمة مع الأنظمة الطائفية وأنظمة الاستبداد والتبعية، تبعاً لحالة القمع والتهيش التراكمية التي ظل الواقع الشيعي يعيشها، بينما ظل النهضويون الحركيون السنة، جزءاً من المؤسسات الدينية والتعليمية والثقافية الرسمية للدول التي ينتمون اليها بالجنسية أو التبعية السياسية، ولاسيما الدولة العثمانية والدولة المصرية.

وكانت بدايات العمل الحركي الإسلامي السني، مع ظهور جماعة النور في تركيا في عشرينات القرن الماضي، ثم جماعة الإخوان المسلمين في مصر في العام 1928، ثم الجماعة الإسلامية في الهند في العام 1941، وفي باكستان في العام 1948، ثم حزب التحرير في فلسطين والأردن في العام 1952.

في حين أن العمل الحركي والتنظيمي الإسلامي الشيعي، بدأ في العقد الأول من القرن الماضي، وتحديداً مع الجماعات والحركات الإسلامية التي تأسست في ايران بالتزامن مع حراك المشروطة والمستبدة والمشروعة بعد العام 1906، ثم حركة الغابة في الفترة نفسها، ثم جمعية النهضة الإسلامية في العراق في العام 1916، وحزب النجف السري في العام 1917 والجمعية الوطنية الإسلامية في العراق في العام 1920، ثم جماعة فدائيان إسلام في ايران في العام 1946، ثم حركة الشباب المسلم في العراق في العام 1949، ثم منظمة المسلمين العقائديين في العراق في العام ١٩٥٣، والحركة الدستورية في البحرين في العام 1956 وبعدها حزب الدعوة الإسلامية في العراق في العام 1957.

كما أنّ بوادر الفكر السياسي الإسلامي التغييري الشيعي الحديث، ولا سيما ما يتعلق بفكر الدولة وولاية الفقيه والحاكمية والدستور، وفكر النهضة ضد الاستبداد والتبعية، ظهرت قبل الفكر السياسي الإسلامي السني الحديث بعقود، ومن الاجحاف والخطأ التاريخي الكبير أن ننسب الفكر السياسي الإسلامي الشيعي الحديث الى الفكر السياسي الإسلامي السني، فبزيارة قصيرة الى تاريخ أفكار السيد جمال الدين الأفغاني (مجلة العروة الوثقى= 1884) والشيخ فضل الله النوري (تذكرة الغافل وإرشاد الجاهل= 1907) والشيخ الأخوند الخراساني والميرزا محمد حسين النائيني (تنبيه الأمة وتنزيه الملّة= 1909) والشيخ محمد تقي الشيرازي والشيخ مهدي الخالصي والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والسيد محسن الأمين العاملي وغيرهم من مصلحي الشيعة وفقهاؤهم؛ سنرى أنها سبقت ظهور الشيخ بديع الزمان النورسي والشيخ محمد عبدة والشيخ رشيد رضا والشيخ حسن البنا والشيخ أبو الأعلى المودودي والشيخ تقي الدين النبهاني، بسنين طوال.

وحين كان الوسط الإسلامي السني يدافع عن الخلافة العثمانية، ويسوِّغ للسلطنة الوراثية ولاستبدادها في تركيا ومصر؛ فإنّ فقهاء الشيعة ومفكروهم في ايران والنجف، كانوا ينظِّرون للفكر السياسي الإسلامي النهضوي والدولة الدستورية المشروعة، ويثورون ضد الاستبداد السلطاني الشيعي في ايران، في حين لم يظهر الفكر السياسي الإسلامي الدستوري إلّا مع أبي الأعلى المودودي في العام 1947، وإذا كان المودودي قد تحدث عن مفهوم الحاكمية عند طرح موضوع الدستور في باكستان، فإن الشيخ فضل الله النوري سبقه بأربعة عقود، وبعمق فقهي وقانوني أكبر. ويكفي أن نعرف أنّ العالم المصلح النهضوي الشيعي الإيراني السيد جمال الدين الأفغاني (الأسد آبادي) هو أستاذ الشيخ محمد عبدة زعيم الفكر الإسلامي السني النهضوي الحديث. أما الشيخ حسن البنا فقد اقتبس كثيراً من أفكاره من السيد جمال الدين والشيخ محمد عبده.

ولكن الذي كان يمنع انتشار أفكار المفكرين والفقهاء الشيعة ورؤاهم السياسية والحركية، هو العامل الطائفي الضاغط، أو الحصار الطائفي بكلمة أدق، والذي يحول دون السماح بانتشار مؤلفات ودراسات وخطب وأفكار هؤلاء المفكرين والفقهاء الشيعة في الأوساط النخبوية والمتعلمة والشعبية السنية، فتبقى حبيسة الأوساط الشيعية في العراق ولبنان وايران والبحرين. وهكذا الأمر بالنسبة للتجارب الحركية الإسلامية الشيعية التي سبقت حزب الدعوة الإسلامية، والتي بقيت هي الأخرى حبيسة المجتمعات الشيعية، ولم يسمع بها السنة.

وعامل الحصار الطائفي هذا، حمل السيد جمال الدين الأفغاني (الأسد آبادي) لاخفاء مذهبه وجنسيته، وهو الشيعي الإيراني، لكي يتخلص من الحصار الطائفي والعنصري، وقد نجح في ذلك، حتى عدّه المفكرون والمؤرخون السنة مؤسساً للنهضة الإسلامية التحررية المعاصرة. وربما كان هذا هو السبب نفسه الذي دعا السيد محمد باقر الصدر ورفاقه من مؤسسي حزب الدعوة الإسلامية ورواده الى عدم التركيز على مذهبية حزب الدعوة الإسلامية خلال المرحلة الأولى، أي حتى العام 1979، وكذا المرونة المذهبية في خطاب الثورة الذي طرحه السيد محمد باقر الصدر خلال العامين 1979 و1980، لأن السيد محمد باقر الصدر وغيره من مفكري النهضة الإسلامية الشيعية وفقهائها، كانوا يعلمون أنهم يعيشون غرباء في بلدانهم، تحت رحمة أمواج متلاطمة من السلوك الطائفي المقيت، الرسمي وغير الرسمي، الذي تغذيه الأنظمة ومؤسساتها الدينية، لتغلق أي ثغرة ــ كما تسميها ــ في المجتمعات السنية، قد ينفذ من خلالها الخطاب الشيعي. ولم يقتصر هذا الحصار على الأنظمة الطائفية والمؤسسات الدينية والثقافية الحكومية السنية، بل ظل يتسع للحركات الإسلامية السنية والمجتمعات الدينية السنية، وصولاً الى دور النشر والصحف والمجلات والمؤسسات الإعلامية والمراكز الثقافية والدينية الأهلية أيضاً.

وإذا كان الباحث والمؤرخ السني يتذرع بصعوبة وصوله الى المعلومة المتصلة بالمسارات والمناخات الفكرية والحركية الشيعية، بسبب الحصار المفروض على الفكر السياسي الحركي الشيعي؛ فإن المثقف والباحث الشيعي هو ابن هذه المسارات والمناخات، ولا عذر له حين يتجاهل كل ذلك التراكم الحركي والتنظيمي والفكري والفقهي السياسي الشيعي؛ فيزعم بأن الفقهاء والإسلاميين الحركيين الشيعة، عندما أسسوا التنظيمات والأحزاب الإسلامية الشيعية؛ فإنهم تأثروا بفكر الحركات والتنظيمات السنية. هذا الباحث الشيعي، إما أنه لم يطّلع فعلاً على تاريخ الفكر السياسي والنهضوي والحزبي الشيعي المعاصر، وهذا نقص أساس في ثقافته السياسية والتاريخية، أو أنه يتحدث بدافع النكاية بالفكر السياسي الإسلامي وبالعمل الحزبي الإسلامي الشيعي، يسبب موقفه الفكري السلبي المسبق منهما، أو أنه يعيش حالة عدم الثقة بالنفس، لأنه اعتاد أن يصنِّف النهضة الشيعية في خانة الانفعال والتأثر، وليس الفعل والتأثير، وبأنها متأثرة دائماً بالفعل السني، وهو ما يتعارض مع أبجديات التاريخ الشيعي المعاصر. بيد أن عدم الإطلاع وعدم الثقة بالنفس والموقف الفكري السلبي؛ لن يعذره من شطحة العبور على التاريخ وتزييف الحقائق، وإن انطلق من نية حسنة ولم يكن عامداً.

وبالتالي؛ فمن الغريب افتراض أن الإسلاميين الشيعة، وتحديداً السيد محمد باقر الصدر ورفاقه المؤسسين لحزب الدعوة الإسلامية ورواده؛ قد تأثروا بالفكر الحركي الحزبي السني المتأخر زمنياً، ولم يتأثروا بالفكر الحركي الحزبي الشيعي المتقدم زمنياً، والحال أن القول بتأثرهم بالفكر الحركي والنهضوي والسياسي الشيعي الذين سبقهم، هو الأَولى والأصح، ليس لأن العمل الحركي التنظيمي الإسلامي ظهر في الوسط الإسلامي الشيعي قبل الوسط السني؛ بل لأن الفكر والفقه الشيعيين، هما اجتهاديان وتفاعليان، وغير مقيدين بفقه المؤسسة الدينية الرسمية التابعة للدولة، ولا سيما في الموضوعات العامة، فضلاً عن أن الواقع الشيعي هو واقع معارِض وحركي وتنظيمي بالأساس.

 

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

المصدر: المسلة

كلمات دلالية: حزب الدعوة الإسلامیة فی العراق فی العام الإسلامی الشیعی الإسلامیة فی والشیخ محمد الشیخ محمد فی ایران

إقرأ أيضاً:

علوم العرب القديمة وقضاياهم المعاصرة بعيون أبرز العقول العربية المهاجرة

الكتاب: محادثة مع رشدي راشد في الرياضيات، في تاريخ العلوم وفي العالم العربي الإسلامي
الكاتب:  ديديي غازانيادو، ترجمة وتقديم د. يوسف بن عثمان مراجعة رشدي راشد
الناشر: منظمة المجتمع العلمي العربي، إنجلترا ويلز ومؤسسة الربان للدراسات والبحوث، الدوحة- الطبعة الأولى،  2025.
عدد الصفحات: 190 صفحة

ـ 1 ـ

هذا الكتاب حوار مطوّل أجراه أستاذ الأنثروبولوجيا ديدبي غازانيادو، مع الأستاذ الباحث في فلسفة العلوم رشدي راشد، سلّط فيه الضوء على  حياته الخاصة وعلى مسيرته العلمية والفكرية. وفضله يتمثّل في كونه قدّم لنا قامة علمية عربية لا نكاد نعرف عنها الكثير من جهة نشأتها في القاهرة أو من جهة طلبها للمعرفة في الجامعات الأوروبية ثم أسهامها في إنتاجها هناك.

نشأ رشدي راشد صاحب الأصول القروية واليتيم الأب، ضمن عائلة تقليدية يرعاها جدّ مثقف، حاصل على الدكتوراه من جامعة الأزهر. وخوّل له تميّزه بين أقرانه أن يختتم دراسته الجامعية في مصر بالحصول على شهادة البكالوريوس في الفلسفة من جامعة القاهرة بتفوّق والحصول على منحة للدراسة في فرنسا. وهناك أحرز على البكالوريوس في الرياضيات من جامعة باريس ثم على درجة الدكتوراه في تاريخ الرياضيات وتطبيقاتها.

ولأنه يرفض العيش في بلاد لا تحترم معنى المواطنة ويتبنى مواقف فكرية وسياسية لا ينظر إليها النظام بعين الرضا عاش مغتربا. فانخرط بصفته باحثا، في أهم مراكزها البحثية كالمركز القومي الفرنسي للبحث العلمي ثم تولى إدارة بعضها كمركز الأبحاث في معهد تاريخ العلوم والفلسفة في باريس أو أبحاث الابستمولوجيا وتاريخ العلوم في جامعة دنيس ديدرو ـ باريس أو مركز الفلسفة والعلوم والفلسفة العربية للعصور الوسطى وأسّس فريق بحوث الابستمولوجيا وتاريخ العلوم والمعاهد العلمية. وأشرف على موسوعة تاريخ العلوم العربية التي صدرت في لندن ونيويورك طبعتها الأولى في 1996م وحرّر بنفسه بعض مداخلها. وبديهي أن يكون الحصاد العلمي وفيرا. فقد نشر أكثر من ثلاثين كتابًا في مجالات تخصصه الدقيق ووجد الاعتراف العالمي فنال الجوائز الكبيرة والأوسمة التقديرية.

ـ 2 ـ

مثلت دراسته للهندسة الكروية وعلم الفلك وبحوثه في الرياضيات التحليلية وفي فلسفتها وتطبيقاتها في العلوم الاجتماعية أُسس مشروعه العلمي. ومثّلت نظرية الاحتمالات قطب الرحى منه.  ولعلّه تأثر بهاجس الفلسفة الوضعية التي كان لها وقع على مختلف مناحي الحياة المعاصرة وبسليلتها، البنيوية من بعد. فاشتغل على موضوع ترييض النظريات غير المهيأة، ويقصد بالمصطلح شكلنة العلوم الإنسانية رياضيا ضمن نظريات وقواعد.

لا يجد رشدي راشد في هزيمة 1967 هزيمة عسكرية بقدر ما يفهمها باعتبارها هزيمة وثقافية وحضارية. فمن الجانب العربي يُرجِع سببها إلى خلل في التعاطي مع العلم والحرية السياسية والديمقراطية. وبالمقابل فمن خلقوا إسرائيل، هم في معظمهم يهود أوروبيون بل وأمريكيون وهم بالأساس أشخاص من ذوي الثقافة والعلم. أضف إلى ذلك أنّ إسرائيل قد احتضنت عددا مهولا من العلماء السوفييت. والتوازن الذي يحفظ الحقوق يقتضي وجود دول عربية تقدمية، واعية ثقافيا، تستثمر في العلم وما ينتج عن العلم. وهذا غير موجود في زمننا الحالي.وعمل على تطبيق الرياضيات في العلوم الاجتماعية. وكانت غايته أن يفهم طبيعة عمل العلوم الاجتماعية ودرجة موضوعيتها وأن يجيب عن بعض الأسئلة الحارقة حينها. فقد كان الاختلاف قائما حول طبيعة هذه العلوم، هل هي علوم حقيقية أم إيديولوجيا خالصة وبسيطة، وحول مدى قابلية تلك العلوم للشكلنة الرياضية. ومن هنا نشأةُ ما اصطلح عليه بعلم الاحتمال. والمراد به حساب الاحتمالات بما هي حسابات مطبقو في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية.

ـ 3 ـ

انتهى البحث برشدي راشد إلى أنّ النظرية الاجتماعية ذاتها لم تتبلور بشكل كاف. فهي ليست محكمة الترابط كفاية لتقبل تشكّلا رياضيا. وقدّر أننا لا نتوفر بعدُ على نظرية في العلوم الاجتماعية تقبل أن تُلبس، بالمعنى الصارم للكلمة، الرياضيات، وإنما توجد إيديولوجيات ليبرالية خاصّة تهيمن على كل الدراسات وتوجه نتائجها العلمية لفائدتها، وتعيق بالنتيجة كل محاولات ترييض العلوم الاجتماعية. وهذا ما جعله يتفق مع كلود لفي شتراوس في رأيه القائل بكونه "لا يشعر بأي ضيق في الاعتراف بأنه ليس بوسعنا أن نزعم وجود تكافؤ حقيقي بين هذه العلوم والعلوم الدقيقة والطبيعية".

ومثلت دراسته للعلوم الرياضيات العربية ولتطبيقاتها في مجال البصريات مجال اهتمامه الثاني. فبحث في فكر كبار العلماء العرب واعتنى بتحليل أعمالهم ونزّلها في سياقاتها الحضارية. وسعى من خلال البحث في تاريخ العلوم العربية وفي فلسفتها إلى أن يمنح للتراث العلمي العربي المكانة التي هو جدير بها ضمن العقلانيات والتقاليد العلمية التاريخية. وظلّ مدافعا عن أطروحته القائلة بفكرة وجود عقلانيات متعددة ممكنة. وللبرهنة على صواب فكره عرّف مختلف أشكال العقلانية وبلورها. وبيّن علاقة العلوم العربية التطورية بالعلم اليوناني السابق عليه والعلم الغربي الحديث اللاحق به. و"أمكن له بواسطة هذا المنهج، وفق محرر الكتاب، أن يكشف عن الطبيعة الخاصة للعلم العربي/الإسلامي وللمجتمعات العربية / الإسلامية التي أنتجته وكيفية تميزه عن العلوم السابقة واللاحقة عليه".

ـ 4 ـ

على مستوى علاقته بهموم المجتمع العربي وانخراطه في قضاياه يذكر رشدي راشد أنه حضر في العام 1958 حفلا في سفارة مصر بباريس احتفاء بالوحدة مع سوريا. وكان طالبا بعد يعوّل على منحة الدولة المصرية لمواصلة دراسته. فإذا به يأخذ الكلمة، وخلافا لخطابات الاحتفاء والتمجيد عبّر عن تشاؤمه بشأن مستقبل هذه الخطوة السياسية لأنّ  "الوحدة لا يمكن أن تقوم في ظل الدكتاتورية". وكان لهذا الرأي تبعات. فقد تم إيقاف صرف منحته ممّا جعله مضطرا للعمل بصفة مساعد في فلسفة العلوم والمنطق في برلين، في ظل جمهورية ألمانيا الديمقراطية.

ورغم عودته للوطن الأم في العام 1965 بعد أن وصلته دعوة للحضور إلى مصر وبعد أن منحه عبد الناصر الأمان، اختار الهجرة من جديد. فالخطاب السياسي حينها جعله يشعر أنه لا وجود لمفهوم المواطن أو لفكرة المواطنة في أذهان السّاسة، سواء كان مثقفاً أو غير مثقف. ويبدو أنه ظل قريبا من الهموم السياسية العربية فكريا، بعيدا عنها جغرافيا، على الأقل. وهذا ما منحه القدرة على التفكير في القضية الفلسطينية وفي أثر هزيمة 1967  ومعاهده كامب دافيد  ونزعات التدين التي اجتاحت العالم العربي وما صحبها من ظهور للإسلام السياسي بروية بعيدا عن الحماسة والانفعال.

ـ 5 ـ

لا يجد رشدي راشد في هزيمة 1967 هزيمة عسكرية بقدر ما يفهمها باعتبارها هزيمة وثقافية وحضارية. فمن الجانب العربي يُرجِع سببها إلى خلل في التعاطي مع العلم والحرية السياسية والديمقراطية. وبالمقابل فمن خلقوا إسرائيل، هم في معظمهم يهود أوروبيون بل وأمريكيون وهم بالأساس أشخاص من ذوي الثقافة والعلم. أضف إلى ذلك أنّ إسرائيل قد احتضنت عددا مهولا من العلماء السوفييت. والتوازن الذي يحفظ الحقوق يقتضي وجود دول عربية تقدمية، واعية ثقافيا، تستثمر في العلم وما ينتج عن العلم. وهذا غير موجود في زمننا الحالي.

من هنا يجد في معاهدة كامب دافيد أكبر الأخطاء السياسية. فهذه الخطوة التي لجأ إليها نظام أنور السادات المهدّد بالمحافظة على بقائه بشكل رسمي، تسبّبت في تفتيت وحدة العالم العربي، وسمحت بصرف النظر عن القضية الفلسطينية. ورغم ما فيها من بنود تخص الفلسطينيين، شأن مسألة حق العودة وإنشاء دولة فلسطينية، فإن إسرائيل لقي بها عرض الحائط ولا يمكن لمصر أن تفرض تفعيلها. وما البنود الأخرى التي لم يفصح عنها بشكل علني كمنع مصر من الاستثمار في بعض حقول البحث، لا سيما في مجال الفيزياء النووية فتنفذ بدقة. وعليه وبشكل، ما يجد أنّ ما يجري اليوم في غزة من بين تبعاتها الثقيلة.

ـ 6 ـ

يصدر رشدي راشد في آرائه من قناعته بأنّ القضية الفلسطينية هي القضية الأساسية في العالم اليوم. ويجد في الطريقة التي يعامل بها فلسطينيو 48 إحدى أكبر فضائح القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين. ذلك أنّ دولة إسرائيل دولة يهودية وأن الأقلية العربية مسلوبة لحقوق. فيطرد الناس من ديارهم وتغتصب أراضيهم. وقانون الجنسية الذي تم التصويت عليه حديثا في البرلمان الإسرائيلي، على سبيل المثال، لا يسمح، للفلسطيني المتزوج بعربية إسرائيلية الحصول على الجنسية الإسرائيلية. وبالمقابل لا تحرك المجموعة الدولية بأسرها ساكنا إزاء التمييز العرقي وحروب التطهير والإبادة الجماعية. وتدع الأشياء تحدث. والأدهى أنّ الأمم المتحدة، التي تمثل المجموعة الدولية، تدعم دولة إسرائيل بشكل ممنهج.

يمكننا أن نكون شيوعيين ملحدين. ولكن لا يمكننا أن ننكر أنّ الدين الإسلامي قد أسهم في خلق حضارة عظيمة توجب علينا أن نقدرها حق قدرها أولا وقد لعب دورا بخصوص قيمة اللغة العربية ومباحثها اللغوية ثانيا.أما عن السلطة الفلسطينية فيقدّر أننا لا نستطيع فهم تصرف مسؤوليها دون تحليل اجتماعي. فمن يكون هؤلاء الأشخاص من الناحية الاجتماعية، مقارنة بالشعب الفلسطيني؟ وفي أسئلته ما ينزع عنها التزامها بالخط الوطني. وهذا السؤال لا يطرح بشأن السلطة في غزة. ومع ذلك يجد أن رجالها يفتقرون إلى النضج السياسي الذي يخول لهم تحليل الوضع السابق، والعلاقة مع الوضع الدولي للتصرّف بحكمة.

هل هم يتصرفون من منطلق اليأس أكثر من التحليل العميق للوضع الراّهن؟ تدفعنا مجريات الأمور إلى التسليم بذلك. فالولايات المتحدة تبارك بشكل ممنهج ما تقوم به إسرائيل. ومن مصلحتها أن تحافظ على هذه الوضعية أي أن يكون لها رجل مسلح على عين المكان طالما مثّلت المنطقة مصدر رئيسيا للطاقة. وكل الفاعلين الآخرين ليسوا سوى شركاء عاجزين. والإسرائيليون الذين يريدون التوصل إلى حلّ حقيقي وسلام دائم يمثلون أقلية تتناقص بشكل مطرد. ولا سلام يلوح الآن في الأفق.

ـ 7 ـ

يمثل الإسلام السياسي وعلاقته بتديّن الشعوب ركنا رئيسيا اليوم في كلّ تفكير حضاري. ويرى رشدي راشد الذي نشأ في شبابه قريبا من الفكر الإخواني ثم وجد نفسه يتبنى أطروحات اشتراكية لاحقا، ضرورةَ التمييز بين ما هو أصيل وما هو غير أصيل. فيمكننا ألا نؤمن بدين معين، ولكن لا يمكننا إلاّ أن نؤمن بحضارة لعب فيها الدين دورًا رياديا. وعليه يمكننا أن نكون شيوعيين ملحدين. ولكن لا يمكننا أن ننكر أنّ الدين الإسلامي قد أسهم في خلق حضارة عظيمة توجب علينا أن نقدرها حق قدرها أولا وقد لعب دورا بخصوص قيمة اللغة العربية ومباحثها اللغوية ثانيا. فقد حفز الهمم. فظهر نحاة كبار كانت دوافعهم دينية في بواكير الحضارة الإسلامية، ثم أصبحت هذه العلوم مقصودة بذاتها لاحقا.

ومن هنا يرى الباحث أنّ الإسلام ليس مجرد دين، إنه ثقافة عريقة تمتد إلى خمسة عشر قرنا تحققت فيها الكثير من الاكتشافات. وعليه أيضا فأغلبنا مسلم دينيا ولكنّ جميعنا مسلم ثقافياً وحضارياً. ومنه يخلص إلى أنّ ["الإسلام قد خلق حضارة عظيمة، أما أن يوجد اليوم استعمال آخر للإسلام أو أن أشخاصا آخرين يحوّلون وجهته، فتلك مسألة أخرى. ذلك هو التاريخ فأولئك الذين يسمون جهاديين أو إرهابيين ليسوا متدينين البتة. أنا أنتمي إلى جيل أو إلى تكوين ينظر إلى الدين كما هو علاقة بالمقدس وعنصر مؤسس الحضارة". وبأسف حول تراجع حريّة التفكير، يذكّرنا بأنّ ابن حزم مفكر قرطبة الكبير، في القرن الحادي عشر، قال : " إن القرآن ليس معجزة"، وأنه لو قالها اليوم، لقتل. لكنه قال ذلك ولم يُحدث صدمة. ووجه الانحراف في العالم العربي الحديث وجود حكم جاهز يؤخذ دون دراسة معمقة للنصوص"]. ولئن عدّ كل الأطروحات ممكنة، فإنّه يحترز على الدفاع عن بعضها دون عمل العقل في بنائها مسبقا.

مقالات مشابهة

  • المؤسسة الإسلامية لتأمين الاستثمار تُنظّم برنامجًا لبناء قدرات مستخدمي مركز منظمة التعاون الإسلامي لذكاء الأعمال في جاكرتا
  • جلالة السلطان يتلقى شكر الملك سلمان والشيخ مشعل
  • «الشؤون الإسلامية» يطلق برنامج «شموس أزهرية» بمسجد مصر الكبير اليوم
  • د. محمد بشاري يكتب: المنامة على موعد مع الوحدةومؤتمر الحوار الإسلامي يبشر بعهد جديد
  • أمين «البحوث الإسلامية» يبحث التعاون الدعوي والثقافي مع الدنمارك
  • علوم العرب القديمة وقضاياهم المعاصرة بعيون أبرز العقول العربية المهاجرة
  • ما الواجب المباشر تجاه الفكر الحر في ظل استمرار السردية التكفيرية؟
  • أمين البحوث الإسلامية في الدنمارك: المسلمون لا يخشون الحوار والتواصل مع الآخر
  • الحريري رجع... وهؤلاء أبرز المتأثرين بعودته السياسيّة
  • الأحد.. مناقشة كتاب "في مواجهة الإسلام السياسي" للباحث عمرو فاروق