سودانايل:
2025-03-26@07:16:44 GMT

جيش خراب السودان !

تاريخ النشر: 31st, August 2023 GMT

فتحنا أعيننا بعد استقلال بلادنا عن بريطانيا بسنوات قليلة. كنّا نردد في طابور الصباح - ونحن صبية في المدارس - نشيد العلم (السلام الجمهوري). تصدح حناجرنا البريئة : (نحن جند الله .. جند الوطن) ونختم بحماس: (هذه الأرض لنا)! وتمضي سنوات العمر، لنعرف ونحن على عتبة الشيخوخة أنّ وطننا ظل في حرب مع نفسه منذ العام 1955م - قبيل رفع العلم بشهور قلائل- حتى لحظة كتابة هذه السطور.

ثمان وستون سنة لم تتوقف حيالها الحرب سوى عشر سنوات (إتفاقية أديس أبابا -1972-1982). أي إنّ هناك ثمانية وخمسين عاماً أمضاها جيش البلاد في حرب على مواطنيه. جيش لم يخض طيلة الثمانية والستين عاماً حرباً واحدة ضد عدو أجنبي. ليس لأن جيراننا مسالمين وليس لديهم مطامع في حدودنا كما هو شأن كل بلاد العالم. لكن لأنّ المؤسسة التي تولت بناء جيش البلاد ، بقيت أبعد ما تكون عن روح الوطن الواحد. لذا فإن الكلية الحربية عندنا تفرخ ضباطاً ليس في ثقافتهم العسكرية غير اثنتين: أولاهما حمل البندقية التي تقتل المواطن دون النظر لما يجهر به من مظالم (يسمونه متمرداً). والثانية: متى يحل دور هذا الضابط في الإنقلاب القادم والإستيلاء على السلطة؟

لذا فقد فاز السودان بالرقم القياسي في الإنقلابات العسكرية بين أمم أفريقيا. فكانت محصلة هذه الحروب والإنقلابات العسكرية ميلاد دولة فاشلة بكل ما تحمل الكلمة من معنى. فقد بقيت خوذات العسكر وغابت التنمية والإدارة الناجحة للدولة.

من الغريب أن يقوم البعض هذه الأيام بتقسيم الناس لصفين : الذين مع الحرب - مع ما تبقى من جيش بقيادة ضباط الأخوان المسلمين - أو أنك مع الدعم السريع - صنيعتهم التي انقلبت عليهم! وأنت إذن عميل ومرتزق!

فلنعد قليلاً إلى الوراء لنرى بعض ما قام به جيش السودان منذ إنشائه وما قدمه لدافع الضرائب الذي يدفع رواتب جنوده وضباطه ويدفع الملايين بالعملة الصعبة لجلب سلاحه. نقوم بجرد الحساب فالحساب ولد !!

لم تسأل حكومة المركز الوليدة بعد الإستقلال نفسها لماذا طالب مواطنو الجنوب بالإنصاف - حكم فيدرالي - تقديراً لخصوصية الجنوب الإثنية والثقافية ! حينها قامت حرب أنيانيا الأولى 1955م بتمرد كتيبة توريت ، والتي لم تتوقف إلا باتفاقية أديس أبابا 1972، لتنقلب عليها حكومة المركز العسكرية وتمزق الإتفاقية بعد عشر سنوات على إنجازها.. فتندلع الحرب في الجنوب من جديد، فتؤدي لفصله عند استيلاء الأخوان المسلمين على الحكم من على ظهر دبابة وتحويل الحرب الأهلية إلى حرب دينية جهادية في جنوب السودان.. والباقي تاريخ لا نحتاج لتكراره.

(في أول خطوة قام بها رئيس وزراء حكومة انتفاضة أكتوبر 1964 المنتخبة محمد أحمد محجوب أن أعطى إنذاراً لتمرد الجنوبيين مهلة أسبوعين ليخضعوا حيالها للسلطة المركزية في الخرطوم. ثم أمر الجيش بعدها بالتصرف بحزم ضد المتمردين ومناصريهم. وقد تم تنفيذ تلك الأوامر حرفياً: حيث قام الجيش السوداني بمجازر لم يسبق لها مثيل ضد المدنيين والمتعلمين على السواء في مدينتي واو وجوبا." وفي ليلة 8 يوليو 1965 قام الجيش بإحراق 3000 (ثلاثة آلاف كوخ) في جوبا وقتل فوق الألف مواطن. وفي يوم 11 أغسطس 1965 قام الجيش بغارة على حفل زواج مشترك بمدينة واو في منزل السلطان ريان - أحد المشاركين في مؤتمر جوبا التاريخي عام 1947م. وتأتي أهمية ذلك الهجوم بأن الدعوة إلى حفل الزواج قد شملت نخبة من المتعلمين من أبناء الجنوب بالمدينة. وقد أفاد تقرير قاضي بالمحكمة العليا بالخرطوم فيما بعد أن هناك أدلة كثيرة على تورط الحكومة بصورة سافرة وغير إنسانية في الحادث.)- Mohammed Omer Basheer: Southern Sudan, Background to Conflict, p.27

وقد استمر عنف الجيش ومجازره في الجنوب بعد أن تولى الصادق المهدي رئاسة الوزراء خلفاً لمحمد احمد محجوب. حيث زار الصادق مدينة بور وهناك وقف على مقابر الجنود الذين ماتوا في الحرب ليذرف الدمع على قبر ملازم شاب. يقول د. منصور خالد في كتابه (الحكومة التي يستحقون The Government They Deserve) : " ما إن غادر الصادق المدينة ، حتى بدأ الجيش الذي هزّته دموع رئيس الوزراء أمام قبر الضابط الشاب – حتى بدأ غاراته والتنكيل بزعماء الدينكا ومن بينهم 24 سلطاناً، كان البعض منهم في حراسة الشرطة." وحين تناولت الصحيفة الوحيدة الحادث في السودان - وهي صحيفة "اليقظة The Vigilant " التي يحررها آنذاك بونا ملوال، أمر رئيس الوزراء الصادق المهدي بمقاضاتها. (منصور خالد - نفس المصدر ، ص 231-232).

على كل حال، فقد قام وزير الداخلية آنذاك عبدالله عبد الرحمن نقد الله - وهو شخص مستقيم السلوك ويرفض سياسة العبث - بزيارة الموقع. ورأى آثار المجازر بنفسه.) - (المصدر نفسه).

ظلت يد الجيش مطلقة في البطش بمواطني الجنوب في ظل حكم نميري العسكري. لكنها توقفت لفترة السلام الوحيدة وهي العشر سنوات تنفيذاً لبنود اتفاقية جوبا (1972- 1982) كما أسلفنا.

ولعل أسوأ فترات تنكيل الجيش بمواطني الجنوب تلك الفترة التي أجهز فيها الإسلامويون على السلطة الديموقراطية بانقلاب عسكري في30 يونيو 1989، حيث شهد مواطنو الجنوب إبان حكم الأخوان المسلمين من التنكيل والبطش والإغتصاب ما لم تشهده أقاليم الجنوب قاطبة منذ اندلاع الحرب الأهلية في توريت عام 1955م ؛ إذ تحوّلت الحرب الأهلية بين الجيش السوداني والمتمردين في الجنوب إلى حربٍ جهادية حشد لها الإسلامويون كتائب ومليشيات تحارب جنباً إلى جنب مع الجيش. حرب خلعت عليها حكومة الخرطوم الإنقلابية صبغة الحرب الدينية الجهادية. وحدث في هذه الحرب مجازر مهولة وحوادث اغتصاب..لتنتهي بفصل الجنوب من جسد الوطن الأم !

أما فظائع الجيش في جبال النوبة وفي جنوب النيل الأزرق وفي الشرق وفي دارفور إبان حكم الأخوان المسلمين فحدّث ولا حرج. "ففي جبال النوبة في الفترة بين أواخر 1991 و1993م ، عاش مواطنو الجبال أقسى مجاعة في السودان . وخلال السنوات التالية ، ظلت المجاعة عاملاً جوهرياً في استراتيجية الحكومة لإجبار النوبة على الإستسلام." - (رقية عمر وأليكس دوفال: African Rights, Food And Power in Sudan, p177)

ليس هذا فحسب ، بل أقيم ما يعرف بقرى السلام في جبال النوبة والتي (تحشد فيها الحكومة كل عناصر الجبهة القومية الإسلامية للتحول الإجتماعي : هيمنة نموذج الإسلام السياسي، واستخدام المواد الغذائية للأغراض العسكرية، إضافة إلى استخدام المواطنين كعمالة رخيصة.) - نفس المصدر- ص 181.

أما جيش اليوم بقيادة الإسلامويين - فلم يترك دجاجه الإليكتروني سانحة إلا وملأوا الدنيا عويلاً لإلصاق تهم إغتصاب الفتيات واحتلال البيوت بالدعم السريع - صنيعتهم ! ينطبق عليهم المثل العربي القديم: رمتني بدائها وانسلّت! هل يحسب الكيزان أنّ ذاكرة شعبنا محض غربال؟

قالت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير لها في اكتوبر 2014 :(إن قوات الجيش السوداني قامت باغتصاب ما يزيد على 200 سيدة وفتاة في هجوم منسق على بلدة "تابت" في شمال دارفور في أكتوبر 2014. وعلى الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي اتخاذ خطوات عاجلة لحماية المدنيين في البلدة من أية انتهاكات أخرى...... وقال دانيال بيكيلي: "فعل السودان كل ما بوسعه للتستر على الجرائم المروعة التي ارتكبها جنوده في تابت، لكن الناجين اختاروا التحدث دون خوف. وعلى مجلس الأمن الأممي والاتحاد الأفريقي المطالبة بتوقف السودان عن تلك الهجمات، والعمل العاجل على حماية سكان تابت، وإجراء تحقيق ذي مصداقية.)

إنّ الإغتصاب - لمن يحسبون ذاكرتنا بهذا الضعف - هو أحد أهم أسلحة إذلال المعارضين وإجبارهم على السكوت في الأربع وثلاثين عاماً الماضية لحكم الكيزان. بل إنّ قضية الشهيد احمد الخير كشفت أنّ نظام الحركة الإسلاموية في السودان قد استنّ وظيفة "مغتصب"، تدفع الدولة لصاحبها راتباً مالياً مقابل هذا السلوك المنحط.(راجع حيثيات قضية الشهيد احمد الخير.)

وأخيراً فإنّ من يرمون الرافضين لهذه الحرب العبثية بين فصيلين من الجيش بالخيانة للوطن ما هم إلا أعوان النظام السابق الذي سددت له ثورة ديسمبر 2018 الضربة القاضية ، ليلفظ أنفاسه عبرها بالتدرج. نعرف أن الحرب العبثية الحالية كما أسماها جنرالاتها في الطرفين المتحاربين إنما هي حرب بين ما تبقى من الجيش السوداني الذي أنهكته الحروب ضد مواطنيه منذ استقلال البلاد ، والذي صار مليشيا بقيادة ضباط الأخوان المسلمين، و جناحهم العسكري ، والفصيل الذي أقاموه ليحارب كجيش مشاة بالوكالة عن جيشهم المنهك. وإما تبين لهم أنّ رضيعهم (الدعم السريع) صار غولاً ، حاولوا الإجهاز عليه لكن بعد فوات الأوان. نسوا أنّ أبناء الهامش الذين ضمهم فصيل الدعم السريع قد أتقنوا فن اللعبة طوال بقائهم ذراعاً يمنى لجيش قيادته عقائدية ، وكل هم تلك القيادة الفاسدة أن تبقى في السلطة ولو على جماجم كل شعب السودان !!

نصيحة لأدعياء الثقافة والوعي الزائف:
أود في الختام أنّ أوجّه نصحاً لعدد ضخم من أدعياء الثقافة والسياسة في بلادنا. لقد "صدعتمونا" بادعائكم محاربة الإسلامويين (المؤتمر الوطني). وكتبتم عنهم من قبل ما لم يقله مالك في الخمر. واليوم - ما بالكم تلتزمون الصمت حيال ما قام به جيش المؤتمر الوطني من حرب لم تبق ولم تذر؟ حرب شردت الملايين. وقضت على البنية التحتية البائسة أصلاً في عاصمة البلاد. وراح ضحيتها المئات من شباب بلادنا الغض ومن مواطنين أبرياء لا يد لهم فيما يجري بين جيش الأخوان المسلمين وشريكهم حتى الأمس القريب - الدعم السريع. جيش لا يعرف شبراً من هموم خارطة الوطن إلا حيث تصرف له الأوامر فيغتصب ويقتل!! لماذا لم تقولوا يا أدعياء الثقافة إنّ جيش السودان أصلاً هو سبب دمار هذا البلد؟ لماذا تتحاملون ما لاحت لأحدكم فرصة على الدعم السريع وتتجاهلون المؤسسة التي أفرخت كل هذه الحرب ومن قبلها حروباً ابتليت بها بلادنا قرابة السبعين عاماً؟

أنتم - وأعني أدعياء الوعي الزائف - ثالثة الأثافي لحربٍ ستكون بإذن الله آخر الحروب في بلادنا !

كاتب هذه السطور يقف ضد الحرب- أياً كانت أسبابها.. فالحرب لمن ينادون بها ويذكون لهيبها بالزعيق والنعيق ، وهم بعيدون كل البعد عن جحيمها - الحرب ليست نزهة. بل هي من أكثر آفات العقل البشري تفاهة وانحطاطاً !!

فضيلي جمّاع
لندن – 28-8-2023

fjamma16@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الأخوان المسلمین الجیش السودانی الدعم السریع جیش السودان

إقرأ أيضاً:

ماهي المكاسب التي تنتظرها واشنطن من مفاوضات إنهاء الحرب في أوكرانيا ؟

 

 

تبذل إدارة الرئيس الامريكي دونالد ترامب محاولات حثيثة من أجل تحقيق اختراق يقود إلى مفاوضات تنهي الحرب الروسية الأوكرانية على أمل أن يقود ذلك إلى مكاسب جيوستراتيجية كبيرة للولايات المتحدة التي تستعد لحشد مواردها لمواجهة النفوذ الصيني في آسيا، وسط عراقيل وتحديات تواجه هذه المبادرة التي لم تتخط حتى اليوم حدود الضغوط على كييف والتلويح بقبول موسكو هدنة جزئية مؤقتة مدتها 30 يوميا.

تحليل / أبو بكر عبدالله

حتى اليوم لم تتوفر أي صيغة جاهزة للصفقة المنتظر أن تقودها الولايات المتحدة لوقف إطلاق النار في الحرب الروسية الأوكرانية، غير أن تصريحات المسؤولين الأمريكيين تحدثت عن مسار يقترح خطتين هما الخطة (أ) التي تسعى إلى مبادرة البيت الأبيض لمفاوضات مع كل من أوكرانيا وروسيا لوقف إطلاق النار وفق خطة تستوعب شروط ومخاوف ومطالب الطرفين، ثم الخطة (ب) التي ستمثل المرحلة الثانية بجمع طرفي الصراع على طاولة مفاوضات مباشرة بمشاركة وسطاء دوليين سعيا إلى انهاء الحرب بشكل دائم على قاعدة احترام مصالح جميع الأطراف.
وعلى ضبابية هذه الخطة فقد جاءت تصريحات الرئيس ترامب لتزيل الغموض على فحوى المبادرة الأمريكية بعد أن أكد أن الحفاظ على وحدة أراضي أوكرانيا، وانضمامها لحلف شمال الأطلسي “الناتو” أمر مستحيل، ناهيك بإصداره أمرا تنفيذيا بتعليق المساعدات العسكرية والمعلومات الاستخباراتية المقدّمة لكييف، وتأكيده بأنه لن يعيدها إلا بعد قبول أوكرانيا بمشروعه للهدنة.
يمكن القول إن الإدارة الأمريكية لم تتجاوز حتى الآن المرحلة الأولى، حيث تمكنت تحت الضغط من انتزاع موافقة من الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي لهدنة مؤقتة مع روسيا مدتها 30 يوما تقضي بعدم استهداف منشآت الطاقة، فيما أفضت المباحثات الهاتفية التي جمعت الرئيسين بوتين وترامب إلى انتزاع موافقة روسية للهدنة المؤقتة من دون أن تحقق أي اختراق مهم في جدار الأزمة يقود إلى وقف عملي للنار وانهاء الحرب.
وتبدو الرؤية التي تتبناها إدارة ترامب لإنهاء الحرب في أوكرانيا، تركز على الحل التفاوضي السريع مع روسيا، في ظل تقديم تنازلات إقليمية أو سياسية من الجانب الأوكراني.
وما هو واضح حتى الآن هو وجود تباين بين ما تريده موسكو وما تريده واشنطن فالأولى تريد مواقفه موسكو على وقف مؤقت لإطلاق النار، في حين تطالب موسكو بوقف دائم للحرب يقوم على إزالة أسبابها.
شروط متبادلة
الشروط المعلنة من جانب روسيا وأوكرانيا لا تزال قائمة حتى اليوم، حيث تتمسك روسيا بشروط صارمة لا تقبل التنازل وفي المقدمة تمسكها بالأراضي الأوكرانية التي ضمتها اليها بموجب استفتاء شعبي، ومعها أراضي شبه جزيرة القرم التي سيطرت عليها عام 2014، ورفضها نشر أي قوات من دول “الناتو” في أوكرانيا وإلغاء ملف انضمام أوكرانيا إلى حلف “الناتو”.
وتذهب الشروط الروسية إلى انسحاب الجيش الأوكراني إلى خارج حدود الأقاليم الأربعة التي تسيطر عليها، والاعتراف بالسيادة الروسية عليها، والتعهد بأن تصبح أوكرانيا خالية من الجيوش الأجنبية وعدم امتلاكها للسلاح النووي.
وطبقا لتصريحات سابقة للرئيس بوتين فإن موسكو قد توافق على اقتراح وقف إطلاق النار إن أدى إلى سلام مستدام وإزالة كل أسباب الصراع، وهي إشارة واضحة إلى تمسك موسكو بانتزاع اعتراف كييف بالسيادة الروسية على الأقاليم الأربعة المسيطر عليها من جانب روسيا وبقاء كييف في وضع محايد وعدم انضمامها إلى حلف “الناتو”.
وبالنسبة لكييف فهي تتمسك بعودة أراضيها، كما تعتبر انضمامها إلى حلف “الناتو” خيارا استراتيجيا غير قابل للتغيير خصوصا وهو منصوص عليه في الدستور الأوكراني، بوصفه الضمانة الأكثر فعالية لأمن أوكرانيا مستقبلا.
ورغم تراجع الاتحاد الأوروبي وقيادة حلف الناتو والولايات المتحدة عن مساعيها لضم أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي، لا تزال أوكرانيا تتبنى رؤى مغايرة لتلك التي تتبناها واشنطن ودول أوروبية وذلك بدا واضحا من خلال التصريحات التي أطلقها مؤخرا وزير الخارجية الأوكراني والتي بدت متناقضة تماما مع ما أعلنه الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته الذي سبق أن أعلن بأن مناقشة انضمام أوكرانيا إلى الحلف لم تعد قائمة.
يضاف إلى دوامة الشروط تلك التي أفصحت عنها الدول الأوروبية التي ساندت أوكرانيا بكل طاقاتها العسكرية والاقتصادية خلال السنوات الماضية، بعد الإعلانات المتضاربة التي تحدث عن قبول دول الاتحاد الرؤية الأمريكية بشروط نشر قوات للناتو في أوكرانيا، بالتزامن مع إعلانات أخرى تحدثت عن مواصلة دول أوروبا دعم أوكرانيا في حربها ماليا وعسكريا ومطالبة روسيا الانسحاب من الأراضي الأوكرانية كشرط لقبول وقف إطلاق النار وانهاء الحرب.
تحديات متوقعة
وفقا لخارطة الشروط التي يطرحها طرفا الصراع والأطراف الداعمة، فإن الكثير من التحديات تواجه إدارة ترامب في تحقيق اختراق بشأن هذا الملف، في ظل المطالب الروسية الصارمة والتي ترجح عدم موافقة موسكو على وقف إطلاق النار دون تنفيذها، وهي مسألة جوهرية بالنسبة لموسكو خصوصا وان الموافقة على انهاء الحرب دون الأخذ بالشروط الروسية قد يقود إلى تصاعد المعارضة الداخلية لنظام بوتين بصورة غير مسبوقة.
ولدى الروس مبرراتهم الوجيهة لذلك، والتي يتصدرها المكاسب التي حققتها موسكو خلال سنوات الحرب، في ضمها شبه جزيرة القرم والمقاطعات الأربع التي أعلنت ضمها إلى أراضيها (دونيتسك، لوغانسك، خيرسون، زابوريزجيا) منذ 2022، وهي مكاسب عسكرية لا يبدو أن موسكو بصدد التنازل عنها بعد أن حولت المقاطعات الأوكرانية إلى جمهوريات تتمتع بالحكم الذاتي تحت مظلة الاتحاد الروسي.
وهناك معطى آخر بالغ الأهمية بالنسبة لموسكو، وهو ضمانات تحييد أوكرانيا وعدم انضمامها إلى الحلف الأطلسي، وهذا الأمر ينظر اليه في روسيا على أنه هدف استراتيجي باعتباره يهدد الدولة الروسية كما يهدد المستقبل السياسي للرئيس بوتين، الذي طالما قدم هذه القضية بكونها صراعاً وجودياً لروسيا ضد “الناتو”.
ومن جانب آخر، فإن موسكو تبدو حريصة على ربط أي مفاوضات لإنهاء الحرب أو الهدنة برفع العقوبات الأمريكية والغربية، وهو شرط ترفضه واشنطن حتى الآن على الأقل كما ترفضه الدول الحليفة وتطالب لقائه انسحاب روسي كامل من الأراضي الأوكرانية.
وفقا لذلك فإن الراجح هو عدم موافقة موسكو على وقف لإطلاق نار دون شروط لأن ذلك سيعني عمليا، اعترافا بفشل أهداف عمليتها الخاصة التي كبدت روسيا خسائر هائلة، ناهيك عن ان قيامها بذلك سيشكل انتكاسة لمشروعها الاستراتيجي في ان تكون فاعلاً إقليمياً في عالم تريده أن يكون متعدد الأقطاب.
سيناريوهات بديلة
يمكن للرئيس ترامب ممارسة الضغوط على كييف من اجل القبول بأي صيغة من شأنها وقف النار وانهاء الحرب، غير أنه سيواجه صعوبات كبيرة في محاولاته الضغط على موسكو التي يطمح ترامب إلى بناء علاقات جديدة معها، ربما للتفرغ لملفات تبدو بالنسبة لترامب أكثر أهمية من أوكرانيا أو حلف الناتو.
والسبب في ذلك أن أوكرانيا تواجه معضلة معقدة، فهي وإن خضعت للضغوط الأمريكية وقبلت التنازل عن أراضيها لموسكو، فإنها ستواجه رفضا شعبيا داخليا مع وجود نسبة كبيرة من الأوكران الرافضين لفكرة التنازل عن الأراضي الأوكرانية لروسيا، ناهيك عن الموانع الدستورية، حيث يحرم دستور أوكرانيا التنازل عن أي أراض أوكرانية تحت أي ظروف.
وفقا لذلك فإن الخيارات أمام كييف تبدو ضيقة للغاية، إذ أن طول أمد الحرب مع روسيا من دون الدعم الأمريكي سيقود إلى استنزاف الموارد الأوكرانية بسرعة كبيرة، بما يؤدي في النهاية إلى قبولها بأي حل مطروح من دون شروط.
وتدرك كييف أن عدم قبولها الرؤية الأمريكية الآن، سيفقدها ميزات يمكن أن تحصل عليها من واشنطن على شاكلة الحصول على ضمانات أمنية أمريكية وترتيبات دفاعية كما سيفقدها تعويضات وبرامج إعمار كان يمكن ان تقودها واشنطن في حال موافقة كييف على خطة ترامب.
وخلافا للوضع في أوكرانيا فإن الإدارة الأمريكية تبدو مستعدة لتقديم تنازلات لروسيا بدلا من ممارسة الضغوط عليها، والمرجح أن يعرض الرئيس ترامب على موسكو تخفيف العقوبات على قطاعات روسية حيوية (مثل الطاقة) واستئناف التعاون في مجالات مثل الغاز والنفط، مقابل وقف مؤقت لإطلاق النار، حتى لو لم تستعيد كييف كل أراضيها.
وفي حال فشلت المبادرة الأمريكية الحالية، وذهبت العلاقات مع روسيا إلى المزيد من التوتر فإن أكثر ما يمكن أن تفعله إدارة ترامب هو مواصلة الدعم العسكري المقدم لكييف وهو أمر قد تواجهه روسيا التي خبرت الحرب مع الغرب الجماعي خلال السنوات الماضية، لكنه سيلقي بتبعات ثقيلة على دول القارة الأوروبية التي سيذهب ترامب بلا شك إلى تحميلها تكاليف استمرار الحرب في أوكرانيا باعتبارها المستفيد الرئيسي من حماية أمن أوكرانيا.
مكاسب أمريكية
غداة المباحثات الهاتفية التي جرت بين الرئيسين ترامب وبوتين مؤخرا كان ملاحظا في بيان الإدارة الأمريكية تشديدها على ما سمته “المزايا الهائلة” لإقامة علاقة ثنائية أفضل بين الولايات المتحدة وروسيا تُفضي إلى اتفاقات اقتصادية ضخمة محتملة.
هذا الأمر فتح باب التساؤلات حول المصالح التي تتوقع أمريكا جنيها من تبني إدارة ترامب مبادرة وقف النار وانهاء الحرب في أوكرانيا، خصوصا وأن أي مبادرة من هذا النوع ستكون حتما جزءا من استراتيجية أوسع تضع المصالح الأمريكية في المقدمة وتجسد شعار ترامب “أمريكا أولا”.
ولم يعد خافيا ما تطمح اليه إدارة ترامب بإنهاء الصراع في أوكرانيا وبالمقام الأول تقليل الموارد المالية التي تتكبدها الخزينة الأمريكية لتمويل الجيش الأوكراني، ووقف استنزاف المخزونات العسكرية الأمريكية، وهي أمور ترى إدارة ترامب أنها ستساهم في توفير تمويلات مالية ضخمة يمكن استخدامها في خطط واشنطن الجديدة لتعزيز وجودها في المحيط الهادئ ومواجهة التوسع الصيني.
ومنذ وقت مبكر ترى الولايات المتحدة الصين التهديد الأكبر لحلفائها في آسيا مثل تايوان واليابان وكوريا الجنوبية وهي لذلك تسعى إلى تقليص الموارد التي توجهها لحماية أوروبا، وتوجيهها نحو آسيا، بما يتيح لها مواجهة التهديدات الصينية، فضلا عن طموحاتها بإقامة تحالفات جديدة من اجل احتواء النفوذ الصيني في آسيا.
صار من الواضح أن لدى واشنطن اليوم أهدافا استراتيجية كبيرة تسعى إدارة ترامب إلى تحقيقها من خلال هذه المبادرة وفي المقدمة تفكيك التحالفات الاستراتيجية بين روسيا والصين وإيران، أو على الأقل تقليل تماسكها، وكذلك مواجهة التهديد الذي تشكله منظمة بريكس” للاقتصاد الأمريكي بعد الإفصاح عن عملة بديلة للدولار الأمريكي بين دول مجموعة “بريكس”.
ولا تخفي واشنطن مخاوفها من المخاطر الجسيمة التي يشكلها التحالف الروسي الصيني خصوصا وهو قام على مبدأ رئيسي وهو مواجهة الهيمنة الأمريكية عبر التعاون العسكري والاقتصادي والتكنولوجي.
والحال كذلك مع الشراكة الروسية الإيرانية التي تضمنت التعاون العسكري والدعم السياسي في الملفات الإقليمية وتبادل الموارد من الأسلحة الدفاعية والهجومية.
حيال ذلك تأمل إدارة ترامب أن يقود وقف الحرب في أوكرانيا إلى المساهمة في تنفيذ سياساته الرامية إلى تفكيك التحالفات الاستراتيجية مع الصين، وتحميل الأوروبيين مسؤولية حماية أمنهم بما يسمح للولايات المتحدة بتحويل مواردها نحو آسيا.
مكاسب جيوستراتيجية
تبدي إدارة ترامب اليوم حماسة منقطعة النظير حيال التقارب مع موسكو من اجل تحقيق مكاسب جيوستراتيجية كبيرة عجزت الإدارة السابقة عن تحقيقها وفي المقدمة إنهاء التحالف الروسي الصيني والإيراني الروسي.
أداتها لتحقيق ذلك هي إنهاء العزلة الدولية المفروضة على موسكو وتخفيف العقوبات الدولية عليها، حيث أن عودة روسيا إلى النظام الدولي سيقود إلى تباعد بينها وإيران، في حين أن إعادة روسيا إلى المنظومة الاقتصادية الغربية، بالسماح لها بتصدير النفط والغاز الروسي إلى أوروبا سيقود إلى تقليل اعتماد موسكو على الصين كشريك اقتصادي وحيد وقد يضعف تحالفها مع الصين.
ولأبعد من ذلك فإن إدارة ترامب تسعى إلى حصول تحسن بالاقتصاد الروسي يعيد موسكو إلى المنافسة في سوق السلاح إلى دول الشرق الأوسط، عوض التعاون مع إيران في سباق تسلح ترى واشنطن أنه قد يقوض المصالح الأمريكية في المنطقة.
وبالمقابل فإن واشنطن تسعى إلى إحياء التنافس الخفي بين روسيا والصين على النفوذ في آسيا الوسطى والقطب الشمالي ولذلك تسارع إدارة ترامب لإنجاح مفاوضات وقف النار وانهاء الحرب في أوكرانيا لتكون بوابة لعلاقات جديدة مع روسيا، تفتح الطريق لاستئناف الحوار الاستراتيجي مع روسيا، ولا سيما في مفاوضات الحد من الأسلحة النووية ودفع روسيا لتبني مواقف أكثر تعاونا مع الغرب بما يتيح لأمريكا والغرب منع إيران من امتلاك الأسلحة النووية.

 

مقالات مشابهة

  • الجيش الإسرائيلي يكشف عدد الأهداف التي ضربها في غزة
  • شاهد.. هكذا تبدو المناطق التي استعادها الجيش من الدعم السريع
  • مسؤولو الجنوب: الاتحاد السوداني لم يستقبل منتخبنا ببنغازي ونحمله المسؤولية
  • الجيش اللبناني يزيل تحصينات إسرائيلية في الجنوب
  • ماذا تعني انتصارات الجيش السوداني الأخيرة وتأثيرها على الحرب؟
  • عادل الباز يكتب: الخطة (ط): التطويق (3)
  • الجيش اللبناني يوثّق الاعتداءات الإسرائيلية في «الجنوب»
  • ماهي المكاسب التي تنتظرها واشنطن من مفاوضات إنهاء الحرب في أوكرانيا ؟
  • وزير الخارجية: يجب التركيز على الحلول التي تضمن بقاء السودان موحدا ومستقرا
  • لبنان يواجه العاصفة.. تصعيد حاد في الجنوب وتحذيرات من الانزلاق إلى الحرب