معطيات على أرض الواقع تؤكد تراجع القوة الفرنسية
تاريخ النشر: 31st, August 2023 GMT
قال أحمد الصاوي أستاذ التاريخ المعاصر والقيادي في الحزب الناصري في مصر، إن هناك معطيات كثيرة على أرض الواقع تؤكد تراجع القوة الفرنسية داخليا وخارجيا.
إقرأ المزيد زعيم "فرنسا الأبية": ماكرون أساء لفرنسا مرة أخرى بدعمه رئيس الغابون "أونديمبا"وفيما يلي أهم ما قاله الدكتور الصاوي:
لا يمكن لمراقب أن يتجاهل حقيقة التراجع المتسارع لفرنسا سواء في بنيتها السياسية أو الاقتصادية وصولا إلى نفوذها خارج حدودها.فقد البلد الذي أعطى للعالم الحديث مبادئ الجمهورية التي وضعت فعليا نهاية لحكم النظم الملكية في أوربا وما تبقى منها بات محض مظهر بورتوكولي فقد على نحو متسارع تكافؤ التعددية السياسية فبعد أن كان الانتخابات بين الاشتراكيين والجمهوريين تشهد تقاربا في أصواتهما مع تبادلهما مقاعد الحكم مع حضور لافت لأقصى اليمين القومي وأقصى اليسار متمثلا في الحزب الشيوعي الفرنسي جاء ماكرون من خارج إطار هذه التعددية ممثلا لأكبر الشركات الفرنسية وانتخب مرتين.تزامنا مع هذا التحول تراجعت قوة النقابات والتجمعات الطلابية بينما صعدت السترات الصفراء لتملأ الفراغ الذي نجم عن ذلك دون تحقيق نجاحات تذكر رغم مظاهراتها المتكررة ضد قرارات الحكومة.تراجع أيضا الثقل الشخصي للرؤساء فبعد ساركوزي وفضائحه جاء ماكرون بشخصية باهتة ومواقف ملتبسة ومتناقضة وبعد أن كانت فرنسا تمثل أحد قطبي الاتحاد الأوروبي باتت محض دولة خاضعة للتعليمات الأمريكية.خلال عهد ماكرون تراجع نفوذ فرنسا في مستعمراتها السابقة وخاصة بعد التوتر الكبير مع الجزائر على خلفية عدم تقديم فرنسا لاعتذار تاريخي عن جرائمها الاستعمارية ثم تمرد ثلاث دول على النفوذ الفرنسي وهي مالي وبوركينا فاسو والنيجر فضلا عن تهميش دورها في ليبيا وتشاد.أتت أزمة انقلاب النيجر لتكشف عن ضيق أفق القيادة الفرنسية وافتقاد مخابراتها للفاعلية في مستعمراتها السابقة فبالاضافة لفشلها في التنبؤ بالانقلابات في الدول الثلاث وعجزها عن مواجهة النفوذ الروسي في تلك الدول وغيرها من دول الساحل والصحراء افتقد ماكرون للمرونة اللازمة وهو يواجه قرار طرد السفير الفرنسي وتصرف برفضه سحب سفير بلاده كدولة مستعمرة وهو أمر غريب في ظل الفشل البين لمحاولة فرنسا دفع دول إيكواس لتنفيذ هجوم عسكري ضد النيجر إذ تعقدت الأمور بين دول إيكواس وباتت على حافة حرب أقليمية متعددة الأطراف.يتصرف ماكرون في الحقيقة خارج إطار القانون الدولي وبدون روية وهو في ذلك أقرب لشخصية ممثل الشركات منه لرئيس الدولة الفرنسية. ولا جدال في أن فرنسا التي احتفظت بمنافعها الاقتصادية لدى مستعمراتها السابقة سواء في نهب الموارد الطبيعية ولاسيما المعادن الثمينة دون ثمن تقريبا أو في ميزان مدفوعات تجاري يميل بشدة لصالحها توشك أن تفقد ذلك كله لاسيما مع السعي الحثيث لموسكو من أجل إخراجها من القارة السمراء وهو أمر سيزيد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية سوءا.الاقتصاد الفرنسي يواجه معضلات حقيقية بسبب تداعيات الحرب في أوكرانيا والسخط على أشده وإذا كان بالإمكان تهدئة الخواطر بجزء من فوائض الاستغلال الاستعماري لأفريقيا فإن فرنسا تواجه فعليا خطر الحرمان الكامل من تلك الفوائض ولعل ذلك هو سبب تشنج مواقف ماكرون والتي تبدو متصلبة وخارج نطاق الحسابات الموضوعية للوضع في أفريقيا.الانقلابات العسكرية لا تساندها جيوش تلك الدول فحسب بل هناك تأييد جماهيري واسع على خلفية رفض الاستغلال الاستعماري الذي أفقر تلك الدول وهناك أيضا دور روسي نشط لاسناد تلك الدول عسكريا واقتصاديا وهناك كذلك قوات فاغنر.فرنسا عاجزة عن تدبير انقلابات مضادة وتفشل في تحريك العملاء المحليين لشن حرب ضد النيجر وسترتكب حماقة باهظة الكلفة إن فكرت في شن حرب مباشرة ضد النيجر لاسيما مع اعتراض الجزائر جارة النيجر من الشمال على استخدام مجالها الجوي في أي عمل عسكري ضد نيامي. فرنسا تتدهور وربما تواجه وضعا مشابها لما واجهته ماري انطوانيت قبل ثلاثة قرون
المصدر: RT
ناصر حاتم
المصدر: RT Arabic
كلمات دلالية: كورونا إيمانويل ماكرون باريس تلک الدول
إقرأ أيضاً:
حين يتكلم الأسد عن المقاومة
الشيزوفرانيا أو الانفصال عن الواقع، ظاهرة منتشرة بين زعماء الدول الاستبدادية بشكل ملحوظ، حيث ينشأ لدى الزعيم إعلاء وهمي للذات، يتخيل من خلاله أنه ما يشبه المسيا / المُخلص في التراث الديني اليهودي، وهو بذلك يرى في أقواله وسلوكياته عبارة عن مثال أو قدوة، وفيهما مناط الحقيقة والخير العام.
في عالمنا العربي اليوم ثلاثة شواهد فجة على ذلك، أولا من الرئيس التونسي قيس سعيد حين يتحدث كثيرا عن الديمقراطية ودور المؤسسات في الدولة، ثن نراه يُجهض الديمقراطية ويخنق الحريات وعمل المؤسسات.
ونشاهد الحالة الثانية مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في حالة الحرب الإسرائيلية على غزة، فيتحدث عن الدفاع عن الفلسطينيين وحقوقهم ودعمهم، في وقت يتواطأ مع الإسرائيليين علنا دون أدنى اعتبار لقضية العرب الأولى.
أما الحالة الثالثة، فهي حالة رئيس النظام السوري بشار الأسد الذي لا يفتأ دائما في التفلسف السياسي، حتى على الزعماء العرب، واستخدام مفردات وتوصيفات لا تتطابق إطلاقا مع سلوكيات النظام.
النظام السوري وقف منذ السابع من أكتوبر العام الماضي موقف المتفرج السلبي، وكأن القضية ليست قضيته ولا معني بها، وبقي هذا الحياد السلبي مستمرا حتى في عز المقتلة الإسرائيلية لقادة وجمهور "حزب الله" اللبناني.ليست حالة الشيزوفرانيا السياسية حالة ملازمة دائما للمستبدين، فقد مر معنا مستبدون واقعيون جدا، يدركون حقيقة الواقع وموازين القوى، بما ينعكس على خطابهم وسلوكهم المُعبر عن هذا الواقع.
في حالتنا السورية، أُذكر بالرئيس الراحل حافظ الأسد الذي كان يتمتع بواقعية سياسية شديدة، انعكست في أقواله وسلوكياته، فلم نجد في خطاباته كلها أي نوع من الميتافيزيقا السياسية، حتى مع إسرائيل كان يستخدم عبارات سياسية بامتياز خالية من أي شحنات أيديولوجية، باستثناء التذكير بالقومية العربية وقضية العرب الأولى، وهذا تذكير سياسي وليس أيديولوجي.
أما حالات الشيزوفرانيا عند الأسد الأب، فكانت تظهر فقط في المجال الاجتماعي حصرا، وليس في المجال السياسي، لأن الهدف دغدغة مشاعر الناس البسطاء، في نوع من الشعبوية التي تلامس أحاسيس الناس.
الأسد.. أمثلة تاريخية
مع بشار الأسد اختلف الأمر، حيث إننا هنا أمام حالة انفصال شديدة جدا عن الواقع، ظهرت منذ تسلمه السلطة في سوريا، حين قال في إحدى خطاباته أنه سيحول سوريا إلى يابان المنطقة، ثم ظهر هذا الانفصال الحاد في أول خطاب له بعد الثورة السورية بأسبوعين، حين ذكر كلمة المؤامرة 13 مرة، ثم أخذ هذا الانفصال يزداد قوة وحدة خلال الثورة ـ لا يتسع المجال لذكرها ـ.
لكن لا مانع من ذكر أمثلة سريعة: تحدث أكثر من مرة عن الديمقراطية السورية وظاهرة التعددية السياسية والحزبية في سوريا، وتحدث مرة أن سوريا لا توجد فيها معتقلات، ثم بلغت انفصاله عن الواقع إلى درجة قال في مقابلة مع قناة "سكاي نيوز" العربية في أغسطس العام الماضي، أن والده الرئيس حافظ الأسد لم يكن له أي دور في وصوله إلى منصب الرئاسة.
بعد التطبيع العربي مع النظام السوري، وبدء الأسد حضور القمم العربية، وبدأ يقدم نظريات فلسفية للقادة الحاضرين عن العروبة، ففي القمة العربية في جدة العام الماضي، قال الأسد "أما سوريا فماضيها وحاضرها ومستقبلها هو العروبة.. لكنها عروبة الانتماء لا عروبة الأحضان.. فالأحضان عابرة أما الانتماء فدائم.. وربما ينتقل الإنسان من حضن لآخر لسبب ما.. لكنه لا يغير انتماءه أما من يغيره فهو من دون انتماء من الأساس ومن يقع في القلب لا يقبع في حضن وسوريا قلب العروبة وفي قلبها".
ومنذ هذه القمة، خلا خطاب الأسد من الحديث عن المؤامرة الكونية التي استهدفت سوريا، وركز على أهمية التوحد العربي ـ العربي، وهذا أمر مفهوم لنظام يسعى إلى العودة للحاضنة العربية.
قمة الرياض
في القمة العربية الأخيرة بالرياض، بلغ الانفصام لدى الأسد مبلغا كبيرا، ففي ظل المقتلة الإسرائيلية لسكان غزة وأهل الجنوب اللبناني، وفي ظل صمت سوري على المستوى السياسي والعسكري، لم يتوان الأسد في استعادة سردية "المقاومة والممانعة" والعمل العربي المشترك لمواجهة إسرائيل، فقال إن "الأولوية حاليا هي لإيقاف المجازر والإبادة وإيقاف التطهير العرقي الذي تقوم به إسرائيل.".
في ظل القوة والتفوق الإسرائيلي العسكري، والضعف العسكري الشديد للنظام السوري، يرى الأسد ويؤمن أن ما يقوم به النظام في هذا الظرف التاريخي هو عمل مقاوم فعلا، بل قد يكون أكثر تقدما من باقي الدول العربية، فمن خلال أرضه تحاول إيران تمرير السلاح إلى "حزب الله" في لبنان، وأن بلده يتلقى الهجمات الإسرائيلية بشكل متكرر ودائم.وعلى ما في هذا الكلام من دعوة فضفاضة لا تحمل أية قيمة أخلاقية وسياسية، إلا أنها تٌعبر عن واقع العجز السوري دون أن يقولها الأسد جهارة، فبخلاف خطاباته قبل الثورة التي كان يتحدث فيها عن الدور السوري في دعم القضية الفلسطينية، تحدث هذه المرة عن عمل عربي مشترك، لأنه لا يستطيع الحديث عن دور سوري، هو غائب تماما منذ أربعة عشر عاما.
بل الأدهى، أن النظام السوري وقف منذ السابع من أكتوبر العام الماضي موقف المتفرج السلبي، وكأن القضية ليست قضيته ولا معني بها، وبقي هذا الحياد السلبي مستمرا حتى في عز المقتلة الإسرائيلية لقادة وجمهور "حزب الله" اللبناني.
ومن شدة سوريالية خطاب الأسد، أنه لم يكتف بكل ذلك، بل انتقد غياب خطة تنفيذية للدول العربية من أجل وقف الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان.
ليس الفصام السياسي إلا عملية جعل الإمكان الواقعي حالة مطلقة ومثالية، بمعنى أنه في ظل القوة والتفوق الإسرائيلي العسكري، والضعف العسكري الشديد للنظام السوري، يرى الأسد ويؤمن أن ما يقوم به النظام في هذا الظرف التاريخي هو عمل مقاوم فعلا، بل قد يكون أكثر تقدما من باقي الدول العربية، فمن خلال أرضه تحاول إيران تمرير السلاح إلى "حزب الله" في لبنان، وأن بلده يتلقى الهجمات الإسرائيلية بشكل متكرر ودائم.
أما مسألة الرد العسكري على إسرائيل، أو دعم المقاومتين الفلسطينية واللبنانية بالسلاح، أو السماح للشعب السوري بالتظاهر دعما لغزة ولبنان، أو تقديم موقف سياسي حاد، فكل ذلك بالنسبة لدمشق غير مهم، لا لأنه لن يغير من الواقع شيئا فحسب، بل لأن مثل هذه الخطوة إذا ما تمت فإنها قد تكلفه نظامه بالكامل.. مع رداءة الواقع تتعاظم الأيديولوجية وتتفاقم الأوهام.