جريمة حرق المصحف في سياقها التاريخي
تاريخ النشر: 31st, August 2023 GMT
جريمة حرق المصحف في سياقها التاريخي
إحدى أهم أفكار إدوارد سعيد أن «كتابات المستشرقين التى تتحدث عن الشرق تتحدث عن الغرب أكثر بكثير مما تقوله عن الشرق نفسه»!
«رغم أن القرآن حافل بالإشارة إلى السيد المسيح باعتباره نبيًا مرسلًا، فإن دانتى كان يصر على (جهل) الفلاسفة المسلمين وخلفائهم بالمسيحية»!
لما كانت المسألة قديمة قدم تعامل الغرب مع «الشرق»، فلا يجوز لنا أن نتعامل مع واقعة السويد أو غيرها دون السياق التاريخى الذى تحدث فيه.
المستشرق، أى الغربى الذى يدرس الشرق دائمًا يضع نفسه «خارج» هذا الشرق، ويكتب للغرب. وهو يقدم «تصوره» الخاص عن هذا الشرق.
حرق المصحف الشريف فى السويد يعبر عن ثقافة الغرب أكثر من تعبيره عن الإسلام. ووضع المسلمين بالمهجر يتحدث عن مجتمعات الغرب أكثر مما يعبر عنهم هناك.
يتم إضفاء الشرعية على ضرورة الهيمنة بدعوى «تحرير العرب والمسلمين» والذى ينطوى ضمنًا على تحريرهم من الإسلام الذى قالوا إنه «لا يعلى من قيمة الحرية».
* * *
كنت قد قدمت فى مقال سابق فى تقديم أهم ما جاء فى كتاب إدوارد سعيد، فقلت إن إسهامه الحقيقى كان فى نقده للمنهج الذى يستخدمه المستشرقون فى الكتابة عما يضعونه فى جرة قلم تحت مسمى «الشرق» أو «الإسلام».
ويقول «سعيد» إن المستشرق، أى الغربى الذى يدرس الشرق، لا كل الغرب، دائمًا يضع نفسه «خارج» هذا الشرق، ويكتب للغرب. وهو يقدم «تصوره» الخاص عن هذا الشرق.
والمنهج الانتقائى للمستشرق يتجلى فى تحويله للتفاصيل التى يكتب عنها إلى رمز للشرق كله ويقفز منها لاستنتاجات غير منضبطة منهجيًا. فآية واحدة من القرآن تُستخدم كدليل على طريقة تفكير المسلمين وسلوكهم فى مصر أو الجزائر المعاصرة! وبالتالى، وتلك واحدة من أهم أفكار «سعيد»، فإن «كتابات المستشرقين التى تتحدث عن الشرق تتحدث عن الغرب أكثر بكثير مما تقوله عن الشرق نفسه»!
وتلك هى الفكرة ذاتها التى اقتبستها من «سعيد»، فى أولى حلقات هذه السلسلة، حين قلت إن حرق المصحف الشريف فى السويد يعبر عن الثقافة الغربية أكثر من تعبيره عن الإسلام. ووضع المسلمين فى المهجر يتحدث عن المجتمعات الغربية أكثر مما يعبر عن المسلمين هناك.
لكن ما قصده «سعيد» بتلك الفكرة أكثر عمقًا مما أشرت له فى ذلك المقال. فهو يقصد أن «الشرق» فى كتابات المستشرقين هو الشرق وفق آليات البحث وأنماط التفكير الغربية.
وهو الشرق وفق الأعراف والتقاليد والمؤسسات وقواعد المنطق الغربية. وفى عبارة ذات دلالة يقول «سعيد» إن «الشرق، على أقصى تقدير، يستفز الباحث ليكتب عنه، لكنه أبدًا لا يكون مرشده عند الكتابة».
و«سعيد» درس كتابات المستشرقين منذ القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فبدأ بالكتابات الأوروبية، ثم الأمريكية وصولًا للمستشرقين الذين عاصروه فوجدها تسير وفق نمط واحد «ثابت لا يتغير»، وكأن موضوع البحث نفسه، أى ذلك «الشرق»، لا يطرأ عليه أى تغيير.
وهو يشرح باستفاضة العلاقة بين مرحلة صعود الحضارة الإسلامية التى تزامنت مع عصور الظلام الأوروبية والتى نُظر خلالها للإسلام باعتباره «هرطقة وردّة عن المسيحية».
ويعطى مثالًا بموسوعة الشرق التى صدرت فى القرن السابع عشر التى لم تُستخدم أبدًا كلمة «المسلمين» وإنما كانت تستخدم كلمة «المحمديين»، وهو الاسم الذى لايزال يستخدم حتى اليوم لإهانة المسلمين والسخرية منهم لدلالاته التاريخية التى كانت تعتبر أن الإسلام «ما هو إلا هرطقة وانحراف عن المسيحية».
ويقول إن المستشرق الفرنسى فرانسوا رينيه تشاتو برياين مثلًا كتب فى القرن الثامن عشر يقول إن «القرآن لا يكره القهر ولا يعلى من قيمة للحرية». والذين يتابعون الكتابات الغربية المعاصرة يجدون تلك الفكرة يعاد إنتاجها حتى اليوم وباستمرار، فنظل معها فى موقف دفاعى حتى نثبت العكس.
ومن هنا أيضًا يتم إضفاء الشرعية على ضرورة الهيمنة بدعوى «تحرير العرب والمسلمين». والذى ينطوى ضمنًا على تحريرهم من الإسلام الذى قالوا إنه «لا يعلى من قيمة الحرية».
وفى عبارة تستحق التأمل يقول إدوارد سعيد إنه «رغم أن القرآن حافل بالإشارة إلى السيد المسيح باعتباره نبيًا مرسلًا، فإن دانتى كان يصر على (جهل) الفلاسفة المسلمين وخلفائهم بالمسيحية»! ليس ذلك فقط، فقد أشار «سعيد» إلى أن عالم الأديان الاسكتلندى وليام روبرتسون (القرن 19) وصف الإسلام بأنه «عبارة عن تلفيق منظّم».
بعبارة أخرى، واقتداء بإدوارد سعيد، ولما كانت المسألة قديمة قدم تعامل الغرب مع «الشرق»، فلا يجوز لنا أن نتعامل مع واقعة السويد أو غيرها دون السياق التاريخى الذى تحدث فيه.
*د. منار الشوربجي أستاذ العلوم السياسية، خبيرة في الشأن الأمريكي.
المصدر | المصري اليومالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: الإسلام المسيحية الشرق الغرب الهيمنة السويد الاستشراق إدوارد سعيد حرق المصحف الحضارة الإسلامية حرق المصحف الغرب أکثر هذا الشرق تتحدث عن عن الشرق یعبر عن
إقرأ أيضاً:
الشباب والرياضة تحيي الذكرى السبعين لمؤتمر باندونج التاريخي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
أحيت وزارة الشباب والرياضة، ممثلة في مكتب الجنوب العالمي، الذكرى السبعين لانعقاد مؤتمر باندونج التاريخي، وذلك ضمن فعاليات النسخة الخامسة من منحة ناصر للقيادة الدولية، والتي تُعقد تحت رعاية الرئيس عبد الفتاح السيسي.
محطة فارقة في التاريخ السياسي الحديثويُعد مؤتمر باندونج، الذي استضافته مدينة باندونج الإندونيسية في أبريل 1955 بمشاركة 29 دولة من آسيا وأفريقيا، محطة فارقة في التاريخ السياسي الحديث، حيث شكّل انطلاقة لحركة عدم الانحياز، ومهد لتعاون دولي جديد خارج أطر الهيمنة الاستعمارية والاستقطاب بين القوى الكبرى، وكان من أبرز قادة المؤتمر الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر، والزعيم الهندي جواهر لال نهرو، والرئيس الإندونيسي أحمد سوكارنو.
وأكدت وزارة الشباب والرياضة أن إحياء هذه الذكرى يأتي في سياق التزامها المستمر بدعم مبادئ المؤتمر، والسير على نهجه في تعزيز التعاون بين دول الجنوب، خاصة من خلال البرامج والمبادرات الشبابية التي يقودها مكتب الجنوب العالمي.
وأضافت أن منحة ناصر للقيادة الدولية تمثل أحد أهم أدوات تنفيذ هذا التوجه، حيث تجمع شبابًا من آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتمنحهم مساحة للحوار وتبادل التجارب، بما يعزز من فرص التعاون ويخدم أهداف التنمية المستدامة.
وشددت الوزارة على أن فلسفة مؤتمر باندونج لا تزال حاضرة وملهمة، خاصة في ظل التحديات التنموية المعاصرة، مؤكدة أن دعم الشباب وتمكينهم في مجالات التنمية والرياضة والثقافة سيظل من أولويات العمل في المرحلة المقبلة، من أجل بناء نظام عالمي أكثر عدالة وإنصافًا، وترسيخ قيم الشراكة والتكامل بين شعوب الجنوب.