يواجه الوجود الفرنسي في منطقة غرب ووسط أفريقيا رياحاً عاتية، عبّرت عنها عديد من السيطرة على السلطة والأحداث الأمنية التي شهدتها بعض بلدان هذه المنطقة، وآخرها الأحداث التي شهدتها اليوم الجابون، وهو ما يعكس تنامي الرغبة في فك الارتباط بالمستعمر السابق، وفتح المجال أمام علاقات مُنوعة مع منافسين وأطراف أخرى، على رأسهم "روسيا" التي تسعى لتوسيع علاقاتها مع دول القارة، ومنافسة الغرب وأميركا بتلك المنطقة الزاخرة بالثروات.

 

وفي هذا السياق، وفيما قطعت دولٌ أفريقية أشواطاً جادة في سياق الابتعاد عن النفوذ الفرنسي، إلا أن عملية فك الارتباط الاقتصادي مع باريس، تواجهها مجموعة من العقبات الأساسية التي هي أكبر من مجرد إجراء تعديلات أو تغييرات بعمليات تصدير المواد الأوليّة كما قامت النيجر بإيقاف تصدير اليورانيوم، حيث يتمثل أهم تلك العقبات في "الفرنك CFA" وهو العملة الرئيسية لـعديد من الدول هناك، والذي يطبع في البنك المركزي الفرنسي ويرتبط باليورو.. فهل تستطيع دول غرب ووسط أفريقيا فك الارتباط الاقتصادي بفرنسا والتحرر من "الفرنك الأفريقي"؟

 

قصة الفرنك الأفريقي تبدأ في 1960

ووفقا لتقرير نشرته صحيفة سكاي نيوز، فإن قصة الفرنك الأفريقي تعود إلى مرحلة التحرر من الاستعمار، فبعد أن نالت 14 دولة استقلالها (مجموعة الدول الفرنسية) في 1960 أرغمت باريس هذه الدول على استخدام عملة موحدة وهي "الفرنك CFA" اختصاراً لـ Communauté Financière Africaine أو المجتمع المالي الأفريقي، ومن خلال الفرنك الأفريقي نجحت فرنسا في الحفاظ على دورها في الهيمنة الاقتصادية على اقتصادات هذه الدول والسيطرة على 14 دولة بالقارة السمراء (منهم 12 مستعمرة سابقة لها) منذ ذلك الحين.

وينقسم الفرنك CFA إلى مجموعتين:

- الفرنك الوسط أفريقي: يُستخدم في الكاميرون والكونغو وغينيا الاستوائية والغابون وجمهورية أفريقيا الوسطى وتشاد.

- الفرنك الغرب أفريقي: يُستخدم في بنين وبوركينا فاسو وساحل العاج وغينيا - بيساو ومالي والنيجر والسنغال وتوغو.

أوروبا تضع السياسة النقدية لـ14 دولة أفريقية

وبحسب بيانات لوزارة الخارجية الفرنسية، فإن فرنسا لا تفرض استخدام هذه العملة، وأنه يجوز لكل بلد أن يخرج من منطقة الفرنك، سواء على نحو مؤقت كما فعلت مالي، أو نهائيا مثل غينيا وموريتانيا، ومدغشقر. كما يجوز الانضمام لها كما فعلت غينيا - بيساو التي تعتبر البلد غير الفرنكوفوني الوحيد بمنطقة الفرنك، وتختلف العملتان بالأكثر في الصور النقدية، لكنهما مرتبطتان بقوة باليورو الأوروبي بواسطة اتفاق يحدد سعر صرف ثابت لهما مقابل اليورو، وهو ما يعني أن السياسة النقدية للفرنك CFA تُحدد من قِبل البنك المركزي الأوروبي.

ورغم كون الفرنك المتداول في وسط أفريقيا يساوي بقيمته الفرنك المتداول في غرب أفريقيا إلا أنه لا يمكن استعمال عملة دول وسط أفريقيا في دول غرب أفريقيا وبالعكس، ففي البداية، كانت باريس قد أجبرت الدول المذكورة على إيداع احتياطاتها النقدية لدى بنك فرنسا وربط قيمة العملة بالفرنك الفرنسي (ثم اليورو)، بعد ذلك في سبعينيات القرن الماضي خفضت فرنسا نسبة تلك الاحتياطيات لدى بنك فرنسا إلى 65 بالمئة -على أثر احتجاجات من بعض الدول (مجموعة دول الفرنك) - ثم إلى 50 بالمئة في 2005.

12مليار دولار تيد فرنسا .. والإيكو بديل شكلي 

والملفت فيما ذكرته الصحيفة الأمريكية، هو أن أنه في عام 2020 بلغت الاحتياطات المحجوزة على مستوى حسابات خاصة لدى بنك فرنسا ما يعادل 12.5 مليار يورو تتصرف فيها فرنسا بحرية مطلقة، وهي خاصة بالدول الأفريقية، وهو ما يعكس السيطرة الفرنسية على النقد وسياسته في تلك البلدان، وعدم استقلاليتها في هذا الجانب الهام من اقتصاد أي دولة حول العالم.  

وفي نهاية العام 2019، أعلنت كوت ديفوار، عن أن ثماني دول من غرب إفريقيا ستتوقف عن تداول الفرنك في 2020، وهم أعضاء في الاتحاد النقدي والاقتصادي لغرب إفريقيا، بعد التوصل لاتفاقية يتم بموجبها استخدام عملة جديدة تسمّى "إيكو" بديلة للفرنك، ثم في 2021 وخلال مؤتمر مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أعلن الرئيس العاجي عن تغيير اسم العملة الخاصة بدول اتحاد غرب إفريقيا الاقتصادي والنقدي، من "الفرنك غرب الإفريقي" إلى "إيكو"، إضافة إلى توقف باريس عن الاحتفاظ بـ 50 بالمئة من احتياطيات هذه الدول في الخزانة الفرنسية، وانسحاب فرنسا من التحكم في العملة وإدارتها، ولكن يبدوا أن هذا التغير كان شكليا في نظر تلك الدول، وهو ما دفعها للتحرك عسكريا، خصوصا في ظل سيطرة فرنسا بكافة مجالات الحياة عبر اتفاقيات مجحفة.

 

الوجود الفرنسي الشرعية الشعبية لأي تحرك عسكري

وهنا يقول الخبير في الشؤون الأفريقية والأمن القومي، اللواء محمد عبد الواحد، بحسب ما جاء بصحيفة skynews، إن معظم التحركات العسكرية التي تمت في وسط وغرب أفريقيا في الفترات السابقة كان قادة المجالس العسكرية فيها يتبنون سردية تلقى قبولاً هناك تقول إن تلك الانقلابات هي لمحاربة النفوذ الفرنسي في المنطقة، ويشير إلى أن "هذه السردية بها خطاب مظلومية شديد بسبب العقوبات التي تفرض من الإيكواس، كما أنها عودة للتذكير بفترات الاستعمار ونهب ثروات البلد، عبر خطاب شعبوي يتحدث عن التحرر الوطني، وكأنها موجة ثانية من التحرر من وطأة الاستعمار".

وربطت فرنسا هذه الدول بشبكة من المصالح الضخمة، على مستويات مختلفة بحسب ما قاله عبد الواحد وذلك كالتالي:

- مصالح سياسية: كانت فرنسا تتحكم في الشأن الداخلي لتلك الدول، وتستطيع أن تغير رؤساء جمهوريات كما تريد وأن تساعد في انقلابات واحتجاجات فئوية.

- مصالح اقتصادية: من خلال الشركات الفرنسية العملاقة (سواء المتعلقة بالنفط والطاقة واليورانيوم والتعدين... إلخ)، علاوة على أن هناك عديد من الدولالتي تتعامل بالفرنك CFA الذي يتحكم به المركزي الفرنسي.

- مصالح ثقافية: اللغة السائدة في كل المنطقة هي الفرنسية، واللغة تعد إحدى وسائل السيطرة.

قد يكون لروسيا دور في التخلص من سطوة الفرنك

وفي الآونة الأخيرة، بدأت تلك الهيمنة (السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية) الكبيرة تتقلص وتتراجع بشكل لافت في القارة، وذلك مع وجودين منافسين لفرنسا، ليست فقط روسيا إنما الصين والهند وتركيا، وحتى الولايات المتحدة الأميركية كأكبر منافس للتواجد الفرنسي في تلك المنطقة، وتبعاً لتلك المعطيات، يعتقد عبد الواحد بأنه "من السهل قطع الحبل السري بين فرنسا وتلك الدول، وأن تتبنى هذه الدول نظاماً اقتصادياً جديداً لا يعتمد على الفرنك CFA ".

ويضيف: "في ضوء المنافسة الحالية، من السهل جداً على روسيا على سبيل المثال إن كانت موجودة بقوة في هذه المنطقة أن تساعد في العمل على تغيير العملات الوطنية، ويتم التعامل بعملات جديدة.. وأتوقع أن يحدث ذلك يحدث في الفترة المقبلة، أو أن يتم التعامل بالدولار بصفة رسمية أيضاً (خاصة أنه يتم التعامل به على نطاق واسع في بعض تلك البلدان بالفعل)".

ويُمكن لروسيا أن تعمل على تشجيع هذا التحوّل، وهو ما يعني أن تضرب موسكو عصفورين بحجر واحد، لجهة الهروب من العقوبات الاقتصادية، وكذلك محاولة إضعاف الدولار الأميركي، وهو ما تصبو إليه موسكو التي تتعامل مع كل الدول التي تقترب منها من أجل إضعاف العملة الأميركية (..) وهو ما يخيف فرنسا في هذه المنطقة، ولكن ذلك يتطلب إنهاء تداعيات التحكرات العسكرية في الفترة المقبلة. 

صعوبة فك الارتباط

ولكن مسألة فك الارتباط بين فرنسا ودول (غرب ووسط القارة) ليست بالأمر السهل، كما تقول الصحيفة الأمريكية لتلك الأسباب :

- الارتباط بين الجانبين ارتباط تاريخي، لا سيما وأن الاستعمار الفرنسي كان متوغلاً بقوة في تلك البلدان، وعندما خرجت باريس من المنطقة كان خروجها سياسياً، لكنها بقيت مؤثرة في كل التفاصيل.

- مهما كان هناك رفض للوجود في الفرنسي في المنطقة، فإن العلاقات المتجذرة لفرنسا هي في صميم هذه الشعوب، سياسياً واقتصادياً.

- ثمة تأثير محتمل على الفرنك الأفريقي (خطوات باتجاه التحرر من السيطرة الفرنسية) بما في ذلك التحول لعملات (أو سلة عملات) بديلة، لكنّ ذلك ليس المعيار الأساسي لفك الارتباط الاقتصادي مع فرنسا.

- الفرنك الأفريقي (الذي تتعامل به البلدان الأعضاء في الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب إفريقياUEMOA) الذي تتم طباعته في فرنسا ويسيطر عليه مصرف فرنسا المركزي، ربما تستطيع الدول الأفريقية التي تتعامل به التخلي عنه (في ضوء التطورات التي تشهدها المنطقة والخروج الفرنسي) لكنها في الوقت نفسه تحتاج إلى سنوات ربما طويلة من أجل إتمام فك الارتباط الاقتصادي.

- التداخل الفرنسي ربما أقوى من أن ينتهي بهذه السرعة التي يتحدث عنها البعض، أو ينتهي لمجرد رفض الوجود الفرنسي في هذه المنطقة من قبل الأجيال الجديدة.

وهنا يصبح التحدي الأكبر لتلك الدول، هو كيقية مواجهة المستعمر القديم فيما هو قادم، ففرنسا لن تقف مكتوفة الأيدي أمام الرفض الحالي لها في تلك المنطقة.. كما لن تقف مكتوفة الأيدي أمام التوغل الروسي، وبالتالي فإن الأمور لم تنته بعد، إذ لا تزال هنالك تفاصيل بين الأطراف المتنافسة، والجميع يحاول أن يتواجد ويفرض سيطرته، فالصراع لا يزال في بدايته ولن يحسم بسهولة، خاصة لما تتمتع به المنطقة من أهمية خاصة بالنسبة لباريس، خصوصا وأن من تمرد على فرنسا حتى الآن 5 دول من أصل 14، والتسائل الذي يشغل الجميع الآن هو أي دولة من تلك الدول التي ستتحرك في الأيام القادمة على خطى مالي والنيجر وساحل العاج وأخيرا الجابون؟

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: هذه المنطقة الفرنسی فی التحرر من هذه الدول تلک الدول فی تلک وهو ما

إقرأ أيضاً:

تقرير: فرنسا تعاني من أعلى مستوى للاكتئاب بين الدول الأوروبية

تناول تقرير جديد مستويات الإكتئاب في مختلف أنحاء أوروبا وبين الأفراد الأكبر سنا والأصغر سنا. ويبدو المستقبل بالنسبة لفرنسا قاتما بشكل خاص. حيث أن فرنسا تعانى من أعلى مستوى من الاكتئاب بين الدول الأوروبية منذ ما قبل ظهور وباء كورونا وحتى الآن.

وكشف تحليل أجراه الذراع الإحصائي لوزارتي الصحة والشؤون الاجتماعية الفرنسية أن معدل الاكتئاب في فرنسا كان حوالي 11% قبل الوباء. وهو أعلى معدل بين جميع البلدان الأوروبية، وفقا لصحيفة لابانجورديا الإسبانية.

واستند التقرير على بيانات من المسح الصحي الأوروبي الذي يتم إجراؤه كل ست سنوات وشمل حوالي 300 ألف شخص. في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي والنرويج وأيسلندا وصربيا.

ويأتي التقرير في وقت أشارت فيه العديد من الدراسات إلى تفاقم أزمة الصحة العقلية في السنوات التي أعقبت جائحة كوفيد-19، وخاصة بين الشباب في فرنسا ودول أوروبية أخرى. وركز التقرير الجديد أيضًا على الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عامًا. والأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 70 عامًا.

وقالت جوسلين كابوش، مديرة الأبحاث الفخرية في مختبر علوم الأعصاب بجامعة السوربون (Neuro-SU) في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي (CNRS)، ليورونيوز هيلث إنها على الرغم من عدم وجود تفسير لديها، فقد سجلت فرنسا مستوى “أعلى نسبيًا” من الاكتئاب وبالمقارنة مع البلدان الأخرى، قد يكون هذا بسبب عدة أشياء.

وقال كابوتشي، الذي لم يشارك في الدراسة: “على الرغم من أننا نخدم بشكل جيد نسبيا في مجال الصحة والتعليم، إلا أننا لا نزال في حاجة إلى بذل جهود كبيرة في رعاية كبار السن”. وأضاف أن الاكتئاب يمكن أن يتحسن مع زيادة الاستثمار في الطب النفسي والابتكار العلاجي.

مقالات مشابهة

  • وزير الدفاع الفرنسي: كييف تعاني من مشاكل التعبئة والفرار الجماعي ونقص الأسلحة
  • المشاط: توسيع نطاق الشراكة بين قارة أفريقيا والمؤسسات الدولية يُدعم جهود التنمية
  • المشاط في منتدى دافوس: توسيع نطاق الشراكة بين قارة أفريقيا والمؤسسات الدولية يُدعم جهود التنمية الاقتصادية
  • تقرير: فرنسا تعاني من أعلى مستوى للاكتئاب بين الدول الأوروبية
  • رئيس الجمهورية العراقي: لسنا تحت سيطرة أو إرادة أي دولة
  • بعد التجاوزات ضد الجزائر.. وزير الداخلية الفرنسي يستسلم
  • لماذا تعزز الصين حضورها في إفريقيا..وما هو موقف ترامب من توسع النفوذ الصيني؟
  • في ظل تصاعد عنف المتطرفين ... دول غرب أفريقيا تعلن نشر قوة مشتركة
  • السفير الفرنسي في المديرية العامة للدفاع المدني: دعم مستمر وتعزيز التعاون
  • الإمارات تدعو إلى تعزيز القدرات الوطنية لمكافحة الإرهاب في أفريقيا