صحيفة التغيير السودانية:
2025-01-28@23:34:34 GMT

في ذكرى رحيل الأزهري

تاريخ النشر: 30th, August 2023 GMT

في ذكرى رحيل الأزهري

 

في ذكرى رحيل الأزهري

مختار خواجة

مختار خواجة

 

“كم من سجون خشيتا .. يا الحررتها وخليتا”

وهكذا ودعت العجائز في السودان ذلك الرجل الخالد، بهذه الأبيات التي تعني كم من سجون دخلتها يا من حررتها ثم مضيت وتركتها بغير أن تغنم منها شيئا.

ففي ذات يوم بعيد من موسم الخريف الممطر في الخرطوم، رحل إسماعيل الأزهري زعيم السودانيين الأبرز -مع الاحترام لكافة الأسماء الأخرى التي رافقته- رحل سجينا، وحزينا خرجت جنازته محمولة على الأكف، وسأستعين هنا بشهادة والدي، وشهادة إحدى العجائز من أسرتنا الممتدة، والأغاني التي غنيت في حقه تخليدا لذكراه العطرة، رحل الأزهري تاركا كل ذلك وراءه، وذاكرة شعبية تحتفظ له بقصص أشبه بالأساطير.

ورحل “إسماعيل الأزهري” (1900-1969) بالضبط بعد 3 أشهر من الانقلاب الذي قاده جعفر النميري مصبوغا بصبغة يسارية قومية عربية بتاريخ 25 مايو/أيار 1969، ليسجن رجال العهد السابق أو ما عرف بالديمقراطية الثانية (1965-1969) وتجري محاكمات استعين فيها بسوابق من الاتحاد السوفياتي، والكتلة الشرقية.

ووفقا لإفادة “محمد أحمد محجوب” رئيس وزراء تلك الحقبة، تعرض الأزهري شخصيا لضغوط قاسية فقد خرج بملابس السجن إلى جنازة أخيه “علي الأزهري” حيث تشير إفادات بعض رجالات الاتحادي الديمقراطي -في حلقة تلفزيونية بثت قديما على قناة أم درمان- إلى أنه قال لمن لقيهم من رفاق الحزب: ابقوا عشرة على البلد.. أي لينتبه كل منكم انتباه 10 أشخاص بدل شخص واحد على هذه البلاد.

وبعدها بفترة وجيزة عانى من تتابع الأمراض، ليتوفى يوم 26 أغسطس/آب 1969، لينعيه الإعلام السوداني نعيا باهتا بسبب رغبة شخصية من بعض سدنة ذلك العهد البائد، فقد اكتفي بوصفه بأنه “المعلم بالمدارس الابتدائية السودانية”، ولكن “علي شمو” الإعلامي البارع -وبروفيسور الإعلام لاحقا- استدرك عندما أوكلت إليه النشرة ليقرأها، فطلب من الشعب قراءة الفاتحة على روحه.

وبكى الجميع إسماعيل الأزهري بصمت، وهمّ النظام العسكري حينها في أوج عنفوانه بمنع التشييع الجماهيري للجنازة، فقال أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة اللواء خالد حسن عباس: كيف نمنع الشعب، وآباؤنا في بيوتهم يبكون عليه…؟!

وخرج الشعب، والطلاب، وكان والدي شخصيا شاهدا، وخرجت الجموع يومها، وسار النعش على الأكف، فعليا لم يتحرك أحد لحمله، فالمكان ممتلئ بالخلق، فيما كانت الجماهير تحيط بالسيد محمد عثمان الميرغني رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي، ومرشد الطريقة الختمية، وهي تردد: يا سيد قولها (يا سيد قلها)، أي اطلب فقط أن نخرج ضد النظام نفسه الذي يعامل رمزا وطنيا بهذه المعاملة الباهتة، لكن السيد رأى الطائرات العمودية تحوم فوق الرؤوس، والجيش قد أحاط بالمقبرة، والجماهير الهادرة خرجت مكلومة، فأيقن أن بحر دم سينفجر في هذه الحالة، فلم يقلها، وأثبتت الأيام وواقعة “الجزيرة آبا” صدق حدس الرجل…

وتوافد السودانيون من مدن شتى لتشييعه، فقد كانت لحظة إجماع وطنية نادرة، فالأزهري شخصية وطنية، نزيهة، متدينة، ومعتدلة، أكسبته الأحداث حنكة، ومراسا طويلا، وقدرة عالية على التفاوض، وإدارة الأحداث.

ونشأ إسماعيل أحمد إسماعيل الأزهري في أسرة دينية، فجده الشيخ إسماعيل الولي، البديري قبيلة، والعباسي نسبا، وتوارثت أسرته العلوم الدينية، والإرشاد السلوكي، حيث كان مجال حركتها كردفان الكبرى وخاصة الأبيض، وبارا حيث تنتشر قبيلة البديرية بصورة عامة، وانتقلت مبكرا لأم درمان، حيث ينسب حي “السيد المكي” إلى أحد فروع أسرة الأزهري نفسها وهو “السيد محمد المكي”، كما سميت مقبرة البكري بأم درمان باسم “مصطفى البكري بن إسماعيل” أحد أقاربه لكونه أول المدفونين بها.

وتعهده جده “إسماعيل الأزهري”، وواصل تعليمه بمدينة ود مدني (وسط السودان)، وانتقل لكلية غردون التذكارية التي أصبحت جامعة الخرطوم لاحقا. وانخرط في الحركة الوطنية مع تأسيس مؤتمر الخريجين فانتخب أمينا له عام 1937 حيث تبلورت فيه الاتجاهات السياسية للنخبة السودانية المتعلمة، وبدأت تلك الاتجاهات تدريجيا تتبلور في اتجاهين: الاتحاد مع مصر، وكان الأزهري من دعاته، ومؤيديه، أو الاستقلال الكامل للسودان، وبالتدريج نشأت مجموعة من الأحزاب الاتحادية رعاها بصورة عامة السيد علي الميرغني مرشد الطريقة الختمية، في مقابل دعوات الاستقلال التي تبناها حزب الأمة الذي رعاه السيد عبد الرحمن المهدي، ومن خلفه طائفة الأنصار.

وصار الأزهري رئيسا لحزب الأشقاء ثم الحزب الاتحادي الديمقراطي عند اندماج الأحزاب الاتحادية كافة، ولكن مع تنامي الحس الاستقلالي في السودان مال الأزهري لتأييد فكرة الاستقلال عن مصر، خاصة مع نتائج الاستفتاء عام 1954، ليتلو ذلك اقتراح النائب “عبد الرحمن دبكة” من دارفور بإعلان الاستقلال من داخل البرلمان يوم 19 ديسمبر/كانون الأول 1955، حيث طرح الأزهري الإعلان للتصويت، فقوبل بالإجماع، ليرفع برفقة “محمد أحمد المحجوب” عن حزب الأمة علم الاستقلال ثلاثي الألوان: الأزرق، الأصفر، الأخضر على التوالي من الأعلى للأسفل في حوالي الساعة 12 من ظهيرة الأول من يناير/كانون الثاني.

ومما رسخ صورة الأزهري في وجدان السودانيين بساطته، وقربه من الطبقات المختلفة، ففي حين كان المحجوب مثلا رجلا شاعرا، وأديبا، ومحاميا. إلا أن الأزهري كان معلما، وتربويا، فتحول لنموذج أبوي لمجتمع رعوي، والحقيقة المدهشة كذلك هي قدرته على امتصاص الاختلاف، وكان يردد: الحرية نور ونار، من أراد نورها، فليحتمل نارها.

ومر بتقلبات السياسة السودانية المختلفة، وحيكت حوله الكثير من القصص التي تعبر عن نزاهته، وعفة يده، ويكفي أنه كان يتلقى سلفة شهرية من أحد التجار الداعمين للاتحادي الديمقراطي، وروى تاجر آخر من داعمي الحزب أنه زاره في عصر أحد الأيام، وبرفقته صديق من حزب الأمة، وبينما هم جالسون، يحتسون القهوة التي أعدها الرئيس الأزهري بيده، دق الباب، فإذا بموظف بلدية يراجع الرئيس الأزهري في الرسوم المترتبة على منزله، لكون التراكم جرى من قبل تأخر البلدية في تتبعها..

ولم يكن لدى “إسماعيل الأزهري” 32 جنيها ليسدد بها الرسوم المترتبة، فسددها عنه التاجران، وقيدها الأزهري دينا عليه.

ولم يكن في حراكه السياسي مقطوعا عن أسباب السماء، فقد روى أحد الحراس العاملين بكوبر إبان الاستعمار أنه كان مسؤولا عن زنازين السياسيين، وكان يرى الأزهري يصلي طوال الليل، متوسلا لله أن يعين السودانيين للاستقلال عن بريطانيا.

وظل ذلك الرجل الطيب يؤيد الأزهري، ويصوت له، ولا يدري حتى اسم الحزب السياسي الذي يترأسه، ولا بد أنه كان أحد الآلاف الذين خرجوا في يوم حزين قبل 54 عاما لتشييع الزعيم الخالد..

فمن تخلده الشعوب لا يمحى..

الوسوماستغلال السودان الأزهري الجماهير الزعيم النظام العسكري مختار خواجة

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الأزهري الجماهير الزعيم النظام العسكري

إقرأ أيضاً:

انعزال وزراء الاستقلال في جلسة الأسئلة الشهرية بمجلس النواب... ماذا يجري داخل التحالف الحكومي؟

مشهد « غير مسبوق » سرق الأضواء بهدوء، ذلك الذي شهدته جلسة الأسئلة الشهرية لمساءلة رئيس الحكومة في مجلس النواب، حيث جلس وزراء حزب الاستقلال مجتمعين ومنعزلين عن باقي أعضاء الحكومة، وكأنهم يرسلون رسالة إلى حلفائهم في الحكومة بطريقتهم الخاصة.

نزار بركة، الأمين العام لحزب الاستقلال ووزير التجهيز والماء، جلس محاطا بزملائه في الحزب من الوزراء، وخلفهم جلست نعيمة ابن يحيى، الوزيرة الاستقلالية المكلفة بقطاع التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة، وذلك في مقدمة المكان المخصص للفريق الاستقلالي.

المشهد كان مثيرًا للانتباه، ولم يفوت عبد الله بووانو، رئيس المجموعة النيابية للعدالة والتنمية، الفرصة للتعليق عليه في نقطة نظام أخذها في بداية الجلسة التي ترأسها الطالبي العلمي، رئيس مجلس النواب. وعبر بووانو عن فرحته بـ »التجمع العائلي » لوزراء الاستقلال في مشهد غير مألوف.

ما الذي يجري بين قيادة حزب الاستقلال ورئيس الحكومة عزيز أخنوش، رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، الذي يقود الائتلاف الحكومي؟ سؤال ظل يتردد وسط الفريق البرلماني الاستقلالي للوحدة والتعادلية مساء اليوم الإثنين، دون أن يجد أغلب البرلمانيين جوابا مقنعا.

ووفق مصادر حكومية، فإن وزيرا من وزراء السيادة لفت انتباهه أيضا مشهد الجلوس « المجتمع » لوزراء الاستقلال في جلسة اليوم، وأبدى ملاحظته تحت قبة البرلمان، مما دفع البعض للتعليق ضاحكا، دون أن يأخذ الوزير غير المنتمي سياسيا جوابا عن تساؤله.

مصدر قيادي في حزب الاستقلال لم يتردد في الإفصاح عن شعور عام بالغضب داخل أروقة الحزب، واعترف بأن « الأمور ليست على ما يرام، فحزب رئيس الحكومة يريد أن ينسب كل منجزات الحكومة الحالية إلى وزرائه »، وفق تعبيره. بينما قال مصدر آخر إن « ملاحظات عديدة سجلها الفريق الاستقلالي في مجلس النواب، بخصوص تصرفات صادرة عن برلمانيين أو وزراء من الأحرار تجاه وزراء حزب الاستقلال ».

وأوضح المصدر أن رئيس إحدى اللجان النيابية المنتمي لحزب « الأحرار »، ما فتئ يشكر وزيري الفلاحة السابق والحالي على إنجاز المشاريع المتعلقة بالماء، والتي تندرج ضمن اختصاص وزير التجهيز والماء نزار بركة، مشيرًا إلى أن « الأمر تكرر أيضًا في اجتماع للجنة المالية حضرته وزيرة الاقتصاد والمالية نادية فتاح العلوي، والتي شكرت وزراء الأحرار على تنفيذ مشاريع قطاع الماء التي أشرف عليها نزار بركة، الوزير والأمين العام لحزب الاستقلال ».

« الجلسة الشهرية التي كان يفترض أن تكون منصة للنقاش حول أداء الحكومة، تحولت إلى منصة أخرى تكشف عن توترات في العلاقة بين مكونات التحالف الحكومي »، يضيف مصدر برلماني، « الجلسة انتهت دون تقديم إجابات واضحة حول دلالات هذا المشهد ».

مقالات مشابهة

  • قراءة فكرية في التغيرات الكبرى التي صنعها السيدُ حسين بدرالدين الحوثي
  • شاهد| قراءة في خطاب السيد القائد في ذكرى  شهيد القرآن.. من الثورة إلى الطوفان
  • الكنيسة الأرثوذكسية تحيي ذكرى رحيل القديس بروخوس
  • الاستقلال يعيد الهدوء للحكومة... برلماني: الأغلبية منسجمة وتعمل لتنمية بلادنا
  • انعزال وزراء الاستقلال في جلسة الأسئلة الشهرية بمجلس النواب... ماذا يجري داخل التحالف الحكومي؟
  • اليوم ذكرى رحيل عبده بدوي أهم أدباء الخمسينات
  • إسماعيل عبد المعين (1-10): وأي فتىً أضاعوا !!
  • قداس للرهبانية المارونية المريمية في ذكرى رحيل الأب جناديوس
  • اليوم.. ذكرى رحيل الأنبا أندراوس أبو الليف بنقادة
  • السوداني يثمن الجهود التي أمّنت وسهّلت مراسم إحياء ذكرى استشهاد الامام الكاظم