صحيفة التغيير السودانية:
2024-12-26@15:09:29 GMT

في ذكرى رحيل الأزهري

تاريخ النشر: 30th, August 2023 GMT

في ذكرى رحيل الأزهري

 

في ذكرى رحيل الأزهري

مختار خواجة

مختار خواجة

 

“كم من سجون خشيتا .. يا الحررتها وخليتا”

وهكذا ودعت العجائز في السودان ذلك الرجل الخالد، بهذه الأبيات التي تعني كم من سجون دخلتها يا من حررتها ثم مضيت وتركتها بغير أن تغنم منها شيئا.

ففي ذات يوم بعيد من موسم الخريف الممطر في الخرطوم، رحل إسماعيل الأزهري زعيم السودانيين الأبرز -مع الاحترام لكافة الأسماء الأخرى التي رافقته- رحل سجينا، وحزينا خرجت جنازته محمولة على الأكف، وسأستعين هنا بشهادة والدي، وشهادة إحدى العجائز من أسرتنا الممتدة، والأغاني التي غنيت في حقه تخليدا لذكراه العطرة، رحل الأزهري تاركا كل ذلك وراءه، وذاكرة شعبية تحتفظ له بقصص أشبه بالأساطير.

ورحل “إسماعيل الأزهري” (1900-1969) بالضبط بعد 3 أشهر من الانقلاب الذي قاده جعفر النميري مصبوغا بصبغة يسارية قومية عربية بتاريخ 25 مايو/أيار 1969، ليسجن رجال العهد السابق أو ما عرف بالديمقراطية الثانية (1965-1969) وتجري محاكمات استعين فيها بسوابق من الاتحاد السوفياتي، والكتلة الشرقية.

ووفقا لإفادة “محمد أحمد محجوب” رئيس وزراء تلك الحقبة، تعرض الأزهري شخصيا لضغوط قاسية فقد خرج بملابس السجن إلى جنازة أخيه “علي الأزهري” حيث تشير إفادات بعض رجالات الاتحادي الديمقراطي -في حلقة تلفزيونية بثت قديما على قناة أم درمان- إلى أنه قال لمن لقيهم من رفاق الحزب: ابقوا عشرة على البلد.. أي لينتبه كل منكم انتباه 10 أشخاص بدل شخص واحد على هذه البلاد.

وبعدها بفترة وجيزة عانى من تتابع الأمراض، ليتوفى يوم 26 أغسطس/آب 1969، لينعيه الإعلام السوداني نعيا باهتا بسبب رغبة شخصية من بعض سدنة ذلك العهد البائد، فقد اكتفي بوصفه بأنه “المعلم بالمدارس الابتدائية السودانية”، ولكن “علي شمو” الإعلامي البارع -وبروفيسور الإعلام لاحقا- استدرك عندما أوكلت إليه النشرة ليقرأها، فطلب من الشعب قراءة الفاتحة على روحه.

وبكى الجميع إسماعيل الأزهري بصمت، وهمّ النظام العسكري حينها في أوج عنفوانه بمنع التشييع الجماهيري للجنازة، فقال أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة اللواء خالد حسن عباس: كيف نمنع الشعب، وآباؤنا في بيوتهم يبكون عليه…؟!

وخرج الشعب، والطلاب، وكان والدي شخصيا شاهدا، وخرجت الجموع يومها، وسار النعش على الأكف، فعليا لم يتحرك أحد لحمله، فالمكان ممتلئ بالخلق، فيما كانت الجماهير تحيط بالسيد محمد عثمان الميرغني رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي، ومرشد الطريقة الختمية، وهي تردد: يا سيد قولها (يا سيد قلها)، أي اطلب فقط أن نخرج ضد النظام نفسه الذي يعامل رمزا وطنيا بهذه المعاملة الباهتة، لكن السيد رأى الطائرات العمودية تحوم فوق الرؤوس، والجيش قد أحاط بالمقبرة، والجماهير الهادرة خرجت مكلومة، فأيقن أن بحر دم سينفجر في هذه الحالة، فلم يقلها، وأثبتت الأيام وواقعة “الجزيرة آبا” صدق حدس الرجل…

وتوافد السودانيون من مدن شتى لتشييعه، فقد كانت لحظة إجماع وطنية نادرة، فالأزهري شخصية وطنية، نزيهة، متدينة، ومعتدلة، أكسبته الأحداث حنكة، ومراسا طويلا، وقدرة عالية على التفاوض، وإدارة الأحداث.

ونشأ إسماعيل أحمد إسماعيل الأزهري في أسرة دينية، فجده الشيخ إسماعيل الولي، البديري قبيلة، والعباسي نسبا، وتوارثت أسرته العلوم الدينية، والإرشاد السلوكي، حيث كان مجال حركتها كردفان الكبرى وخاصة الأبيض، وبارا حيث تنتشر قبيلة البديرية بصورة عامة، وانتقلت مبكرا لأم درمان، حيث ينسب حي “السيد المكي” إلى أحد فروع أسرة الأزهري نفسها وهو “السيد محمد المكي”، كما سميت مقبرة البكري بأم درمان باسم “مصطفى البكري بن إسماعيل” أحد أقاربه لكونه أول المدفونين بها.

وتعهده جده “إسماعيل الأزهري”، وواصل تعليمه بمدينة ود مدني (وسط السودان)، وانتقل لكلية غردون التذكارية التي أصبحت جامعة الخرطوم لاحقا. وانخرط في الحركة الوطنية مع تأسيس مؤتمر الخريجين فانتخب أمينا له عام 1937 حيث تبلورت فيه الاتجاهات السياسية للنخبة السودانية المتعلمة، وبدأت تلك الاتجاهات تدريجيا تتبلور في اتجاهين: الاتحاد مع مصر، وكان الأزهري من دعاته، ومؤيديه، أو الاستقلال الكامل للسودان، وبالتدريج نشأت مجموعة من الأحزاب الاتحادية رعاها بصورة عامة السيد علي الميرغني مرشد الطريقة الختمية، في مقابل دعوات الاستقلال التي تبناها حزب الأمة الذي رعاه السيد عبد الرحمن المهدي، ومن خلفه طائفة الأنصار.

وصار الأزهري رئيسا لحزب الأشقاء ثم الحزب الاتحادي الديمقراطي عند اندماج الأحزاب الاتحادية كافة، ولكن مع تنامي الحس الاستقلالي في السودان مال الأزهري لتأييد فكرة الاستقلال عن مصر، خاصة مع نتائج الاستفتاء عام 1954، ليتلو ذلك اقتراح النائب “عبد الرحمن دبكة” من دارفور بإعلان الاستقلال من داخل البرلمان يوم 19 ديسمبر/كانون الأول 1955، حيث طرح الأزهري الإعلان للتصويت، فقوبل بالإجماع، ليرفع برفقة “محمد أحمد المحجوب” عن حزب الأمة علم الاستقلال ثلاثي الألوان: الأزرق، الأصفر، الأخضر على التوالي من الأعلى للأسفل في حوالي الساعة 12 من ظهيرة الأول من يناير/كانون الثاني.

ومما رسخ صورة الأزهري في وجدان السودانيين بساطته، وقربه من الطبقات المختلفة، ففي حين كان المحجوب مثلا رجلا شاعرا، وأديبا، ومحاميا. إلا أن الأزهري كان معلما، وتربويا، فتحول لنموذج أبوي لمجتمع رعوي، والحقيقة المدهشة كذلك هي قدرته على امتصاص الاختلاف، وكان يردد: الحرية نور ونار، من أراد نورها، فليحتمل نارها.

ومر بتقلبات السياسة السودانية المختلفة، وحيكت حوله الكثير من القصص التي تعبر عن نزاهته، وعفة يده، ويكفي أنه كان يتلقى سلفة شهرية من أحد التجار الداعمين للاتحادي الديمقراطي، وروى تاجر آخر من داعمي الحزب أنه زاره في عصر أحد الأيام، وبرفقته صديق من حزب الأمة، وبينما هم جالسون، يحتسون القهوة التي أعدها الرئيس الأزهري بيده، دق الباب، فإذا بموظف بلدية يراجع الرئيس الأزهري في الرسوم المترتبة على منزله، لكون التراكم جرى من قبل تأخر البلدية في تتبعها..

ولم يكن لدى “إسماعيل الأزهري” 32 جنيها ليسدد بها الرسوم المترتبة، فسددها عنه التاجران، وقيدها الأزهري دينا عليه.

ولم يكن في حراكه السياسي مقطوعا عن أسباب السماء، فقد روى أحد الحراس العاملين بكوبر إبان الاستعمار أنه كان مسؤولا عن زنازين السياسيين، وكان يرى الأزهري يصلي طوال الليل، متوسلا لله أن يعين السودانيين للاستقلال عن بريطانيا.

وظل ذلك الرجل الطيب يؤيد الأزهري، ويصوت له، ولا يدري حتى اسم الحزب السياسي الذي يترأسه، ولا بد أنه كان أحد الآلاف الذين خرجوا في يوم حزين قبل 54 عاما لتشييع الزعيم الخالد..

فمن تخلده الشعوب لا يمحى..

الوسوماستغلال السودان الأزهري الجماهير الزعيم النظام العسكري مختار خواجة

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الأزهري الجماهير الزعيم النظام العسكري

إقرأ أيضاً:

محطات في حياة الشيخ مصطفى إسماعيل.. صباح الخير يا مصر يحيي ذكرى رحيله

استعرض برنامج "صباح الخير يا مصر" المذاع على قناة الأولى اليوم، الخميس 26 ديسمبر 2024، ذكرى وفاة القارئ الكبير الشيخ مصطفى إسماعيل، أحد أعظم قراء القرآن الكريم في مصر والعالم الإسلامي.

 حيث تم تسليط الضوء على حياته الحافلة بالعطاء في مجال التلاوة القرآنية، وأدائه الفريد الذي أثر في قلوب ملايين المستمعين. 

كما تم استعراض أبرز محطات حياته، بدءًا من نشأته في قرية ميت غزال بمحافظة الغربية، مرورًا بتعلمه على يد كبار الشيوخ، وصولًا إلى شهرته التي تجاوزت الحدود المصرية. 

وقد تم تذكر إسهاماته العظيمة في مجال التلاوة، حيث سجل القرآن الكريم كاملاً بصوته، وتركت تلاواته المجودة بصمات لا تنسى في ذاكرة الأمة.

النشأة المبكرة والموهبة الفطرية

ولد الشيخ مصطفى إسماعيل في 17 يونيو 1905 في قرية "ميت غزال" بمركز السنطة في محافظة الغربية. أظهر الشيخ مصطفى منذ صغره موهبة غير عادية في تلاوة القرآن الكريم، حيث بدأ رحلته مع القرآن وهو في العاشرة من عمره.

 تأثر كثيرًا بتلاوة القرآن، وبدأ يبرز موهبته في قريته حتى ذاع صيته. كانت جدته أول من اكتشفت موهبته، فشجعت والده على تعليمه علوم القرآن الكريم، وكان لذلك أكبر الأثر في تشكيل مستقبله الديني والقرآني.

الاحتراف والتعلم على يد كبار المشايخ

تعلم الشيخ مصطفى إسماعيل علم التجويد والقراءات على يد الشيخ إدريس فاخر، الذي كان أحد أبرز علماء القراءات في قريته. 

وقد أتم الشيخ مصطفى القرآن بالقراءات العشر وهو في سن السادسة عشرة، وبعد إتمام دراسته في قريته، انتقل الشيخ مصطفى إلى مدينة طنطا، حيث بدأ رحلته الحقيقية في مجال التلاوة. هناك بدأ يكوّن قاعدة جماهيرية كبيرة، وبرزت مواهبه بشكل أكبر.

بداية الشهرة والانطلاقة الكبرى

كانت البداية الحقيقية لشهرة الشيخ مصطفى إسماعيل عندما اعجب به الحضور في عزاء السيد حسين بك القصبى في طنطا، حيث قرأ الشيخ مصطفى في هذا العزاء أمام كبار الشخصيات، بما في ذلك أعضاء الأسرة المالكة. ومن هناك بدأت انطلاقته الحقيقية في سماء التلاوة القرآنية، وبات له جمهور كبير من المحبين والمتابعين.

نبوءة الشيخ محمد رفعت وأثرها في حياته

يعتبر لقاء الشيخ مصطفى إسماعيل بالشيخ محمد رفعت من اللحظات الفارقة في حياته، حيث ألقى الشيخ رفعت نصيحة غالية عليه، قال له فيها: "ستكون لك يوما ما مكانة كبيرة في دولة التلاوة، لكن عليك أن تعيد القراءة مرة ثانية في الجامع الأحمدي لتتمكن من التجويد وتتقن أحكام التلاوة". 

رحلة النجاح والتألق في القاهرة

في بداية الأربعينات، قرر الشيخ مصطفى إسماعيل الانتقال إلى القاهرة بحثًا عن الشهرة انضم إلى "رابطة تضامن القراء"، وهناك بدأت تلاواته تذاع على الهواء مباشرة عبر الإذاعة المصرية. 

واعجب به الملك فاروق، الذي طلب منه تلاوة القرآن في القصر الملكي خلال ليالي رمضان، مما زاد من شهرته وجعل له مكانة كبيرة في عالم التلاوة.

الشهرة العربية والدولية

لم تقتصر شهرة الشيخ مصطفى إسماعيل على مصر فقط، بل امتدت إلى جميع الدول العربية والإسلامية فقد تلقى دعوات من دول عديدة لتلاوة القرآن في المناسبات الدينية، وسافر إلى أكثر من 25 دولة عربية وإسلامية، وقضى شهر رمضان في العديد من هذه الدول. 

كما زار الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا، وقرأ القرآن الكريم في المسجد الأقصى في القدس مرتين، أولها في عام 1960، ثم مرة أخرى في 1977 برفقة الرئيس السادات.

أوسمة وتكريمات

حصل الشيخ مصطفى إسماعيل على العديد من الأوسمة والجوائز تقديرًا لمكانته العظيمة. 

ومن أبرزها وسام الاستحقاق من الرئيس جمال عبد الناصر، ووسام الأرز من لبنان، ووسام الفنون من العديد من الدول العربية. كما حصل على وسام الاستحقاق من ماليزيا وتنزانيا، مما يبرز تأثيره الكبير على مستوى العالم العربي والإسلامي.

إرثه الفني والتقني في التلاوة

كان الشيخ مصطفى إسماعيل من أعظم القراء الذين جمعوا بين جمال الصوت ودقة الأداء، وقد سجل القرآن الكريم كاملاً بصوته، بالإضافة إلى العديد من التلاوات المجودة التي لا تزال تذاع عبر إذاعات القرآن الكريم. 

كان يلقب بـ"ملك المقامات القرآنية"، نظرًا لإتقانه لأكثر من 19 مقامًا صوتيًا، مما جعله من أبرز أعلام التلاوة في تاريخ الإسلام.

الوفاة وإرثه الذي لا ينسى

توفي الشيخ مصطفى إسماعيل في صباح يوم الثلاثاء 26 ديسمبر 1978، عن عمر يناهز 73 عامًا، تاركًا وراءه إرثا عظيمًا من التلاوات القرآنية.

 وقد أقيمت له جنازة رسمية حضرها كبار الشخصيات في مصر، ودفن في مسجده الملحق بداره في قرية ميت غزال. 

ورغم وفاته، فإن صوته لا يزال حيًا في قلوب ملايين المسلمين حول العالم من خلال تلاواته التي تذاع عبر مختلف وسائل الإعلام.

مقالات مشابهة

  • في ذكرى رحيل فريد الأطرش.. تفاصيل سر عبدالسلام النابلسي عنه
  • صفحة الأوقاف تحيي ذكرى رحيل الشيخ مصطفى إسماعيل
  • «الأوقاف» تحيي ذكرى وفاة القارئ الشيخ مصطفى إسماعيل
  • محطات في حياة الشيخ مصطفى إسماعيل.. صباح الخير يا مصر يحيي ذكرى رحيله
  • ذكرى رحيل الشيخ مصطفى إسماعيل.. عبقري التلاوة وملك المقامات القرآنية
  • حدث في مثل هذا اليوم| 106 أعوام على ميلاد السادات و50 عاما علي رحيل المشير أحمد إسماعيل
  • في ذكرى ميلاد السيد المسيح عليه السلام.. تعرف على مكانته في الإسلام
  • في ذكرى الاستقلال.. كيف هُزمت إيطاليا مرّتين؟
  • في ذكرى الاستقلال.. الديوان ومجلس النواب يهنئ الشعب الليبي
  • في ذكرى الاستقلال.. البعثة الأممية تحث على إحياء العملية السياسية