صحيفة التغيير السودانية:
2024-11-24@13:57:39 GMT

في ذكرى رحيل الأزهري

تاريخ النشر: 30th, August 2023 GMT

في ذكرى رحيل الأزهري

 

في ذكرى رحيل الأزهري

مختار خواجة

مختار خواجة

 

“كم من سجون خشيتا .. يا الحررتها وخليتا”

وهكذا ودعت العجائز في السودان ذلك الرجل الخالد، بهذه الأبيات التي تعني كم من سجون دخلتها يا من حررتها ثم مضيت وتركتها بغير أن تغنم منها شيئا.

ففي ذات يوم بعيد من موسم الخريف الممطر في الخرطوم، رحل إسماعيل الأزهري زعيم السودانيين الأبرز -مع الاحترام لكافة الأسماء الأخرى التي رافقته- رحل سجينا، وحزينا خرجت جنازته محمولة على الأكف، وسأستعين هنا بشهادة والدي، وشهادة إحدى العجائز من أسرتنا الممتدة، والأغاني التي غنيت في حقه تخليدا لذكراه العطرة، رحل الأزهري تاركا كل ذلك وراءه، وذاكرة شعبية تحتفظ له بقصص أشبه بالأساطير.

ورحل “إسماعيل الأزهري” (1900-1969) بالضبط بعد 3 أشهر من الانقلاب الذي قاده جعفر النميري مصبوغا بصبغة يسارية قومية عربية بتاريخ 25 مايو/أيار 1969، ليسجن رجال العهد السابق أو ما عرف بالديمقراطية الثانية (1965-1969) وتجري محاكمات استعين فيها بسوابق من الاتحاد السوفياتي، والكتلة الشرقية.

ووفقا لإفادة “محمد أحمد محجوب” رئيس وزراء تلك الحقبة، تعرض الأزهري شخصيا لضغوط قاسية فقد خرج بملابس السجن إلى جنازة أخيه “علي الأزهري” حيث تشير إفادات بعض رجالات الاتحادي الديمقراطي -في حلقة تلفزيونية بثت قديما على قناة أم درمان- إلى أنه قال لمن لقيهم من رفاق الحزب: ابقوا عشرة على البلد.. أي لينتبه كل منكم انتباه 10 أشخاص بدل شخص واحد على هذه البلاد.

وبعدها بفترة وجيزة عانى من تتابع الأمراض، ليتوفى يوم 26 أغسطس/آب 1969، لينعيه الإعلام السوداني نعيا باهتا بسبب رغبة شخصية من بعض سدنة ذلك العهد البائد، فقد اكتفي بوصفه بأنه “المعلم بالمدارس الابتدائية السودانية”، ولكن “علي شمو” الإعلامي البارع -وبروفيسور الإعلام لاحقا- استدرك عندما أوكلت إليه النشرة ليقرأها، فطلب من الشعب قراءة الفاتحة على روحه.

وبكى الجميع إسماعيل الأزهري بصمت، وهمّ النظام العسكري حينها في أوج عنفوانه بمنع التشييع الجماهيري للجنازة، فقال أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة اللواء خالد حسن عباس: كيف نمنع الشعب، وآباؤنا في بيوتهم يبكون عليه…؟!

وخرج الشعب، والطلاب، وكان والدي شخصيا شاهدا، وخرجت الجموع يومها، وسار النعش على الأكف، فعليا لم يتحرك أحد لحمله، فالمكان ممتلئ بالخلق، فيما كانت الجماهير تحيط بالسيد محمد عثمان الميرغني رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي، ومرشد الطريقة الختمية، وهي تردد: يا سيد قولها (يا سيد قلها)، أي اطلب فقط أن نخرج ضد النظام نفسه الذي يعامل رمزا وطنيا بهذه المعاملة الباهتة، لكن السيد رأى الطائرات العمودية تحوم فوق الرؤوس، والجيش قد أحاط بالمقبرة، والجماهير الهادرة خرجت مكلومة، فأيقن أن بحر دم سينفجر في هذه الحالة، فلم يقلها، وأثبتت الأيام وواقعة “الجزيرة آبا” صدق حدس الرجل…

وتوافد السودانيون من مدن شتى لتشييعه، فقد كانت لحظة إجماع وطنية نادرة، فالأزهري شخصية وطنية، نزيهة، متدينة، ومعتدلة، أكسبته الأحداث حنكة، ومراسا طويلا، وقدرة عالية على التفاوض، وإدارة الأحداث.

ونشأ إسماعيل أحمد إسماعيل الأزهري في أسرة دينية، فجده الشيخ إسماعيل الولي، البديري قبيلة، والعباسي نسبا، وتوارثت أسرته العلوم الدينية، والإرشاد السلوكي، حيث كان مجال حركتها كردفان الكبرى وخاصة الأبيض، وبارا حيث تنتشر قبيلة البديرية بصورة عامة، وانتقلت مبكرا لأم درمان، حيث ينسب حي “السيد المكي” إلى أحد فروع أسرة الأزهري نفسها وهو “السيد محمد المكي”، كما سميت مقبرة البكري بأم درمان باسم “مصطفى البكري بن إسماعيل” أحد أقاربه لكونه أول المدفونين بها.

وتعهده جده “إسماعيل الأزهري”، وواصل تعليمه بمدينة ود مدني (وسط السودان)، وانتقل لكلية غردون التذكارية التي أصبحت جامعة الخرطوم لاحقا. وانخرط في الحركة الوطنية مع تأسيس مؤتمر الخريجين فانتخب أمينا له عام 1937 حيث تبلورت فيه الاتجاهات السياسية للنخبة السودانية المتعلمة، وبدأت تلك الاتجاهات تدريجيا تتبلور في اتجاهين: الاتحاد مع مصر، وكان الأزهري من دعاته، ومؤيديه، أو الاستقلال الكامل للسودان، وبالتدريج نشأت مجموعة من الأحزاب الاتحادية رعاها بصورة عامة السيد علي الميرغني مرشد الطريقة الختمية، في مقابل دعوات الاستقلال التي تبناها حزب الأمة الذي رعاه السيد عبد الرحمن المهدي، ومن خلفه طائفة الأنصار.

وصار الأزهري رئيسا لحزب الأشقاء ثم الحزب الاتحادي الديمقراطي عند اندماج الأحزاب الاتحادية كافة، ولكن مع تنامي الحس الاستقلالي في السودان مال الأزهري لتأييد فكرة الاستقلال عن مصر، خاصة مع نتائج الاستفتاء عام 1954، ليتلو ذلك اقتراح النائب “عبد الرحمن دبكة” من دارفور بإعلان الاستقلال من داخل البرلمان يوم 19 ديسمبر/كانون الأول 1955، حيث طرح الأزهري الإعلان للتصويت، فقوبل بالإجماع، ليرفع برفقة “محمد أحمد المحجوب” عن حزب الأمة علم الاستقلال ثلاثي الألوان: الأزرق، الأصفر، الأخضر على التوالي من الأعلى للأسفل في حوالي الساعة 12 من ظهيرة الأول من يناير/كانون الثاني.

ومما رسخ صورة الأزهري في وجدان السودانيين بساطته، وقربه من الطبقات المختلفة، ففي حين كان المحجوب مثلا رجلا شاعرا، وأديبا، ومحاميا. إلا أن الأزهري كان معلما، وتربويا، فتحول لنموذج أبوي لمجتمع رعوي، والحقيقة المدهشة كذلك هي قدرته على امتصاص الاختلاف، وكان يردد: الحرية نور ونار، من أراد نورها، فليحتمل نارها.

ومر بتقلبات السياسة السودانية المختلفة، وحيكت حوله الكثير من القصص التي تعبر عن نزاهته، وعفة يده، ويكفي أنه كان يتلقى سلفة شهرية من أحد التجار الداعمين للاتحادي الديمقراطي، وروى تاجر آخر من داعمي الحزب أنه زاره في عصر أحد الأيام، وبرفقته صديق من حزب الأمة، وبينما هم جالسون، يحتسون القهوة التي أعدها الرئيس الأزهري بيده، دق الباب، فإذا بموظف بلدية يراجع الرئيس الأزهري في الرسوم المترتبة على منزله، لكون التراكم جرى من قبل تأخر البلدية في تتبعها..

ولم يكن لدى “إسماعيل الأزهري” 32 جنيها ليسدد بها الرسوم المترتبة، فسددها عنه التاجران، وقيدها الأزهري دينا عليه.

ولم يكن في حراكه السياسي مقطوعا عن أسباب السماء، فقد روى أحد الحراس العاملين بكوبر إبان الاستعمار أنه كان مسؤولا عن زنازين السياسيين، وكان يرى الأزهري يصلي طوال الليل، متوسلا لله أن يعين السودانيين للاستقلال عن بريطانيا.

وظل ذلك الرجل الطيب يؤيد الأزهري، ويصوت له، ولا يدري حتى اسم الحزب السياسي الذي يترأسه، ولا بد أنه كان أحد الآلاف الذين خرجوا في يوم حزين قبل 54 عاما لتشييع الزعيم الخالد..

فمن تخلده الشعوب لا يمحى..

الوسوماستغلال السودان الأزهري الجماهير الزعيم النظام العسكري مختار خواجة

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الأزهري الجماهير الزعيم النظام العسكري

إقرأ أيضاً:

حسن إسماعيل: عزيزي البرهان.. الطريق من هنا !!

> صحيح أن السودان قد استفاد من الطقس الدولي الحالي المتمثل في التباعد الاوربي الروسي من جهة واستفاد اكثر من التباعد بين بوتين وبايدن فكسب الفيتو الأخير… ولكن …..
> مسار المصالح الدولية لايمضي في خط مستقيم ولايمشي على اتجاه مصالحنا دائما…
> بعد منتصف يناير القادم سيصبح أكبر متغير دولي قادم هو التقارب الروسي الامريكي من ناحية والتوتر الأوربي الأمريكي( المحدود ) من جهة وانعكاس ذلك على مزيد من التباعد الروسي الاوربي… !!
> وكل هذا يجعلنا نتدرب جيدا ومنذ الآن على لعبة التوقعات!!!

> فروسيا اذا ضمنت أعين ترامب المغمضمة تجاه مايفعله بوتين في أوكرانيا فقد تدفع ثمنا لذلك أن تغمض أعينها تجاه ماتطبخه مطابخ الدولة الأمريكية العميقة تجاه السودان خاصة ( لو ) اصبح ترامب زاهدا في وضع سياسة جديدة تجاه أفريقيا مجملا وهذا إحتمال سيجلب لنا اضرارا كبيرة
> لعبة الاحتمالات الثانية هو أن يُمرر ترامب ماتفعله روسيا في سوريا وفي هذه الحالة ستتثاقل أيدي روسيا عن رفعها لأي فيتو آخر فمصالح روسيا في أوكرانيا وسوريا أهم لها من مصالحها في السودان وهذه أيضا لعبة احتمالات سالبة

> صحيح هنالك لعبة احتمالات ثالثة في مصلحتنا وهو أن تكون ادارة ترامب زاهدة في متابعة يوميات مايحدث في السودان بل وأن تكون يد ترامب مغلولة في تمويل أي قوات دولية تُرسل إلى السودان وهذا سيُعطي السودان مساحات أوفر في الاستفادة من النفوذ الدولي الروسي وتنمية المصالح البينية مع روسيا دون ابتزاز من جماعات الضغط الأمريكي

> لعبة الاحتمالات الموجبة الأخرى التي في صالحنا هي توقعات اندلاع الصراع الصيني الأمريكي وهو اشرس صراع متوقع في العام القادم وهو أمر سيجعلنا نستفيد اكثر من النفوذ الدولي الصيني داخل مجلس الأمن وخارجه هذا إن احسنا الوقوف في الإتجاه الصحيح… وهذا إن لم تضع الصين استراتيجية تُفاجئ بها الجميع لتواجه به جنون ترامب…. !!

> هل لاحظت عزيزي الفريق البرهان أن مصالحنا الخارجية مبنية جميعا على جُملة توقعات لانمتلك حق صناعتها أو إيجادها بل هي مصالح قائمة على إحسان صناعة رد الفعل وهذه أيضا في كف عفريت فهي محض توقعات أسوأ كوابيسها هو أن تشتري دوائر الخليج مجمل الموقف الترامبي في أفريقيا.. فالرجل الذي يبني سورا بينه وبين المكسيك لن يفتح نفاجا بينه وبين الخرطوم…. !!
> و ….. الحل ….. من هنا …

> تقوية الظهر الداخلي وكسب جولة الداخل بفارق من الاهداف يجعل كل لعبة الاحتمالات التي استعرضناها عاليه غير مؤثرة النتائج على نتيجة الداخل غض النظر عن الجمب الذي ستنام عليه تلكم الاحتمالات!! وذلك بمضاعفة تقوية وتسليح الجيش وتقوية جبهة الإسناد الوطنية الداخلية وعدم افتعال الصراعات في داخلها ووسطها…..
> والسلام

حسن إسماعيل

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • في ذكرى رحيل الشيخ الحصري.. أول من سجل المصحف الصوتي بالعالم
  • في ذكرى رحيل الشيخ المعلم.. ما سر بقاء صوت الحصري خالدا في القلوب؟
  • تفاصيل البرنامج التدريبي حول الخطة الاستراتيجية للتعليم الأزهري قبل الجامعي
  • شباب الدقهلية تختتم فعاليات الرواق الأزهري وتكريم الأئمة بمراكز الشباب بإدارة شباب دكرنس
  • نواي إسماعيل: تواصلنا مع الفاعلين في القوات لإثناء قائد التمرد ولكن محاولاتنا باءت بالفشل
  • التدين المصري الأصيل .. الأزهري يثمن دور الطرق الصوفية في نشر الذوق الراقي
  • الأزهري: الأوقاف تتحمل تكاليف العام الدراسي الجديد لأبناء وأسر 309 من الشهداء
  • حسن إسماعيل: عزيزي البرهان.. الطريق من هنا !!
  • أسامة الأزهري ينعى والد طارق عبد الحميد رئيس مكتب وزير الأوقاف
  • ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال