آخر الشخصيات الفاعلة المؤثرة فى تاريخ الحارة يعود إلى مسقط رأسه فى ظل أوضاع متدهورة، يتحول معها سابقوه من دعاة الإصلاح إلى أشباح باهتة لا يتبقى من أفكارها إلا الحكايات، أما أبناء الحارة فهم مستسلمون بفعل القهر والاضطهاد للضياع والهوان:"بلا كرامة ولا سيادة، تنهكهم الفاقة وتتهددهم النبابيت وتنهال عليهم الصفعات.

وانتشرت القذارة والذباب والقمل، وكثر المتسولون والمشعوذون وذوو العاهات، ولم يعد جبل ورفاعة وقاسم إلا أسماء، وأغانى ينشدها شعراء المقاهى المسطولون، وتباهى كل فريق برجله الذى لم يبق منه شيء وتنافسوا فى ذلك إلى حد الشجار والعراك.

الأمر أقرب إلى الطوفان العظيم الذى يقتلع الأحلام قصيرة العمر، فهل يمكن أن يكون عرفة الامتداد لمن يجتهدون وتتعثر الأفكار التى يبشرون بها حتى تذبل؟. يعود فيلفت الأنظار بجلبابه الترابى ومركوبه الباهت وشعره الغزير، أسمر اللون مستدير العينين حاد البصر: «تلوح فى محجريه نظرة قلقة نافذة، وفى حركاته ثقة واعتداد».

السحر مهنته التى يرتزق منها، وإذا كانت الأم جحشة تنتمى إلى الحارة ويتذكرها بعض المعاصرين، فإن الأب غامض مجهول لا يمكن تحديده، ولا يتورع الشاب الذكى نفسه عن التعريض بأمه فى سياق تهكمى ساخر، يجارى فيه الساخرين المتهكمين الذين يتساءلون عمن يكون أبوه: «ماتت هى نفسها قبل أن تعرفه!».

ينجح عرفة فى اكتساب ثقة فتوة الحى عجاج، بعد هدية «جنسية» يحتفى بها ويهتم، مادة قاتمة فى حق صغير، يقدمها الساحر قائلا فى ثقة: قمحة منه على فنجال شاى قبل «لا مؤاخذة» بساعتين، وبعدها فإما ترضى عن محسوبك عرفة وإما تطرده من الحارة مشفوعا باللعنات.

يستأجر عرفة بدروم ليتخذ منها مسكنا ومقرا للعمل بصحبة حنش، مساعده وشقيقه من أمه، وسرعان ما يتوافد الزبائن طالبين بضاعته الاستثنائية التى لا عهد لهم بها، وينجح الساحر أيضا فى غزو قلب عواطف شكرون حتى يتزوجها، مستعينا بدهائه فى استقطاب الفتوة حجاج ليدعمه فى مواجهة معارضة الفتوة السنطورى للزيجة.

طموح عرفة بلا حدود، وثقته فى علمه بلا ضفاف، يقول لحنش، كاشفا عن جوهر رؤيته غير التقليدية: «ليست الفتونة هى السبيل الوحيد إلى الثروة، ولا تنس المنزلة السامية التى أتمتع بها، فإن من يقصدنى إنما يعتمد كل الاعتماد عليّ ويضع سعادته أمانة بين يدي، وليس هذا بالشيء القليل، ولا تنس أيضا لذة السحر نفسه، لذة استخراج مادة مفيدة من مواد قذرة، لذة الشفاء حين يأتمر بأمرك، وهنالك القوى المجهولة التى تتشوف للاتصال بها وامتلاكها إن استطعت».

ليس صاحب أفكار نظرية مجردة مثل سابقيه، جبل ورفاعة وقاسم، فهو يترجم رؤاه إلى معطيات مادية مباشرة، والقوة الحقيقية عنده تكمن فى سحر العلم والمعرفة. لا يتزعزع إيمانه بالقدرة على تجاوز عظماء الحارة منذ ميلادها، أما عن موقفه من الجد الجبلاوى فلا يخلو من الهواجس والشكوك: «هل سمعت عن أحفاد مثلنا لا يرون جدهم وهم يعيشون حول بيته المغلق؟ وهل سمعت عن واقف يعبث العابثون بوقفه على هذا النحو وهو لا يحرك ساكنا؟».

يتسلل عرفة إلى بيت جده لاكتشاف الحقيقة الغامضة، ويسفر اقتحامه هذا عن قتل واحد من خدم البيت، ولا يتحمل الجبلاوى صدمة الإهانة التى تطوله، وينعاه الناعى صباح اليوم التالى لعملية الاقتحام.

لا يُقتل الجبلاوى بيدى حفيده المسكون برغبة المعرفة، ويتداول أبناء الحارة خبرا يشيع عن سطو اللصوص على بيت الجد وقتلهم لخادم من خدمه: «ولما علم الجبلاوى بالخبر تأثر تأثرا لم تحتمله صحته الواهية فى تلك الذروة من العمر ففاضت روحه».

المغامرة الحافلة بالمآسى لا تثنيه عن مواصلة العمل الجاد لاختراع سلاح فتاك يمكن أن يقتلع الفتوات من جذورهم، ولا يتردد الساحر الجريء فى قتل فتوة الحارة سعد الله، وفى المطاردة التى يتعرض لها بعد عملية الاغتيال يجرب سلاحه فيحقق نجاحا مدويا. الدافع إلى القتل هوزلزلة النظام المستقر والمراهنة على صناعة الانقسام: «قُتل فتوة الحارة وغدا يبدأ التناحر بين الفتوات على مكانه!».

لا يخفى سر الاختراع المثير على ناظر الوقف، ويتحول الساحر الحالم مضطرا إلى أداة يستثمرها الناظر ليحكم منفردا دون احتياج إلى دعم الفتوات الذين يشاركونه فى جزء من عوائد الوقف. عند هذه المحطة يتغير المسار من حلم إسعاد العاديين من الناس إلى كابوس الخضوع للناظر، ويتحول عرفة إلى سجين أسير لا يستمتع بحياة الترف المحاطة بالخوف والوحدة وتأنيب الضمير: «أيها اللئيم الذى أوقعنى فى سجنه، ما أردت السحر إلا للقضاء عليك لا لخدمتك، واليوم يمقتنى من أحبهم وأود خلاصهم، ولعلى أُقتل بيد أحدهم».

بفعل الترف وغياب الرضا وهيمنة التوتر والقلق، تسوء علاقة عرفة مع زوجه عواطف، ولا يتورع عن خيانتها، ثم يبدأ الساحر المخلص سيء الحظ فى التمرد على سلطة الناظر الطاغية، ومما يشجعه على الثورة ما تبوح به خادمة الجد الجبلاوى التى تنفذ وصية سيدها بعد موته، وتبلغ الحفيد برسالته: «قال لى قبل صعود السر الإلهي: اذهبى إلى عرفة الساحر وأبلغيه عنى أن جده مات وهو راض عنه».

يفشل التمرد، ويُدفن عرفة وعواطف أحياء فى مشهد انتقامى رهيب. يشيع خبر موته فيفرح الجميع لقتله دون نظر إلى كراهيتهم للناظر المستبد: «وكثر الشامتون من أهل الفتوات وأنصارهم، فرحوا لمقتل الرجل الذى قتل جدهم المبارك وأعطى ناظرهم الظالم سلاحا رهيبا يستذلهم به إلى الأبد!».

تنتقل شعلة المقاومة إلى حنش، وهو من يقدم توصيفا دقيقا منصفا لخلاصة رحلة شقيقه وأستاذه: «كان من أولاد حارتنا الطيبين لكن الحظ خانه، كان يريد لكم ما أراد جبل وعرفة وقاسم، بل وأحسن مما أرادوا».

يُرد الاعتبار لعرفة بعد موته، ويعرف أبناء الحارة التعيسة أنه كان يحلم بحياة أفضل وأكثر إنسانية، تخلو من الفقر والقهر: «فأكبروا ذكراه، ورفعوا اسمه حتى فوق أسماء جبل ورفاعة وقاسم. وقال أناس إنه لا يمكن أن يكون قاتل الجبلاوى كما ظنوا، وقال آخرون إنه رجل الحارة الأول والأخير ولو كان قاتل الجبلاوي. وتنافسوا فيه حتى ادعاه كل حى لنفسه».

عرفة آخر العظماء من دعاة الإصلاح فى تاريخ الحارة التى يسيطر عليها البؤس والخضوع للفقر والقهر، يزرع الأحلام الوردية مثل سابقيه، لكن أداته فى التبشير بالمستقبل تختلف عن أدواتهم، فهل تكون أفكاره العملية القابلة للتنفيذ هى السلاح الناجع الذى تستقيم بعده الحياة، وتخلو من الشوائب والعكارات؟

سؤال بلا إجابة حاسمة.

المصدر: البوابة نيوز

إقرأ أيضاً:

«الجارديان»: «ترامب» يهدد آمال «غزة» فى إعادة الإعمار

سلطت صحيفة الجارديان البريطانية الضوء أمس على الأسباب التى تضيع الآمال الفلسطينية فى التخلص من آثار الحرب المدمرة التى لحقت بهم، وذكرت افتتاحية الصحيفة عدة أسباب من شأنها ضياع ذلك الحلم فى إعادة الإعمار، وأضافت: يعود الفلسطينيون إلى الشمال – لكن رغبة الرئيس الأمريكى فى «تطهير» القطاع، على الرغم من عدم واقعيتها، تثير قلقًا عميقًا.

وتابعت: «يعود الفلسطينيون إلى ديارهم فى شمال غزة، على الرغم من أن القليل من منازلهم ما زالت قائمة. لقد دمرت المستشفيات والمدارس والبنية الأساسية الأخرى. بالنسبة للبعض، كانت هناك لقاءات حزينة؛ بينما يبحث آخرون عن جثث أحبائهم. إنهم يبحثون عن الأمل وسط أنقاض حياتهم السابقة. ولكن هناك تهديدات جديدة تلوح فى الأفق. فإسرائيل والأمم المتحدة فى مواجهة بشأن مستقبل وكالة الأونروا، وكالة الإغاثة للفلسطينيين. ومن المقرر أن يدخل قانون إسرائيلى ينهى كل أشكال التعاون مع الوكالة حيز التنفيذ اليوم ــ فى الوقت الذى تتدفق فيه المساعدات التى تشتد الحاجة إليها أخيراً على غزة. ويقول خبراء المساعدات إن أى كيان آخر لا يملك القدرة على توفير الدعم الطويل الأجل اللازم للسكان.

ولفتت إلى القضية الثانية المتعلقة باستمرار وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الأسرى. قائله «فالانتقال إلى المرحلة الثانية ـ والتى من المفترض أن تنسحب فيها إسرائيل بالكامل، وأن تنزع حماس سلاحها ـ سوف يكون أكثر صعوبة».

وفى الوقت نفسه هناك مخاوف بشأن الهجوم الإسرائيلى على جنين فى الضفة الغربية المحتلة، والذى وصفه المسئولون الإسرائيليون بأنه تحول فى أهداف الحرب. وفى لبنان، أطلقت القوات الإسرائيلية النار على 26 شخصًا احتجاجًا على استمرار وجودها وقد تم تمديد الموعد النهائى لانسحابها بموجب اتفاق وقف إطلاق النار حتى الثامن عشر من فبراير.

ولكن التهديد الجديد هو اقتراح ترامب برغبته فى «تطهير هذا الشيء بأكمله»، مع مغادرة مليون ونصف المليون فلسطينى غزة مؤقتًا أو على المدى الطويل، ربما إلى الأردن أو مصر. ونظرًا لتاريخهم من النزوح القسرى، ليس لدى الفلسطينيين أى سبب للاعتقاد بأنهم سيعودون على الإطلاق. ويبدو هذا وكأنه نكبة أخرى.

وأضافت: طرح الرئيس الأمريكى الفكرة مرة أخرى، وورد أن إندونيسيا كانت وجهة بديلة وهذا أكثر من مجرد فكرة عابرة. فقد أبدى قلقه على الفلسطينيين، قائلًا إنهم قد يعيشون فى مكان أكثر أمانًا وراحة. لقد أوضحوا رعبهم بوضوح. ولا يغير تغليف الهدايا من حقيقة أن الإزالة القسرية ستكون جريمة حرب.

وأكدت الجارديان أن هذه التعليقات البغيضة هى موسيقى فى آذان أقصى اليمين الإسرائيلى. وربما تكون مقصودة فى المقام الأول لمساعدة بنيامين نتنياهو على إبقاء شركائه فى الائتلاف على متن الطائرة. فقد رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي- الذى من المقرر أن يلتقى ترامب فى الأسبوع المقبل - خطط «اليوم التالي» فى غزة، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى سعيه إلى تأجيل مثل هذا اليوم. وإن طرد الفلسطينيين من الشمال سيكون أكثر صعوبة الآن بعد عودة مئات الآلاف. ولا تريد مصر والأردن استقبالهم لأسباب سياسية وأمنية. وقد أوضح لاعبون أقوياء آخرون معارضتهم - ولا يزال ترامب يأمل فى تطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية فى إطار صفقة إقليمية أوسع. ومع ذلك، قد تأمل إدارته أن يؤدى الضغط الكافى على المساعدات إلى تحويل أصغر داخل المنطقة، أو ربما تحويل أكبر فى مكان آخر.

وأشارت الصحيفة إلى أنه لا يحتاج اقتراح ترامب إلى أن يكون قابلًا للتطبيق ليكون ضارًا. فهو يعزز اليمين المتطرف فى إسرائيل- الذى حفزه بالفعل إلغاء العقوبات الأمريكية على المستوطنين العنيفين فى الضفة الغربية - ويزيد من نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين. يبدو أن ترامب ينظر إليهم باعتبارهم عقبة أمام تطوير العقارات وصفقته الكبرى التى ناقشها منذ فترة طويلة، وليس بشرًا لهم الحق فى إبداء رأيهم فى حياتهم. غالبًا ما بدا التزام الولايات المتحدة بحل الدولتين نظريًا إلى حد كبير. لكنه لا يزال مهمًا. ولا يزال الفلسطينيون بحاجة إلى مستقبل طويل الأجل فى دولة خاصة.

مقالات مشابهة

  • ترامب وحلم السطوة
  • الهروط يكتب .. اصنعوا لحكومة جعفر طعاماً
  • مستر ترامب.. العالم ليس ولاية امريكية
  • د.حماد عبدالله يكتب: جدد حياتك !!
  • «الأزمة الاقتصادية» الباب الخلفى لمجتمع دموى
  • أصبحت أفعالكم لا تليق بمقام أم الدنيا
  • الرئيس المقاول
  • «الجارديان»: «ترامب» يهدد آمال «غزة» فى إعادة الإعمار
  • «ترامب».. لا بد منه!
  • قضية القضايا