أواصل الحديث عن سوق مطرح قديما.. الطريق القادم من الدروازة باتجاه البحر واسع نسبيا لدرجة يمكن أن تمر فيه السيارات. وقوافل صغيرة للجمال تتجه إلى (دروازة الحطب) داخل العريانة حيث تنيخ هناك ويتكدس حطب الوقود للبيع. هذه القوافل، تصل محملة، وكذلك تغادر بما تحتاجه المناطق البعيدة عن العاصمة، ومعظم بضاعتهم مما تتحمل أيام السفر على الأقل.
في هذا الشارع تعرض محلات المواد الغذائية الحبوب والتوابل بصناديق خشبية وشوالات، والبيع بالميزان أو المكيال. وظهر أول محل للشاورما -مازال موجودا إلى اليوم-.. واستأجر والدي محله الصغير جدا لبيع الأواني والأدوات البلاستيكية بداية انتشارها في المجتمع. وكان مقصدا لزبائن يأتونه حتى من الولايات البعيدة. كان بهيجا بألوان السلع كما كانت بركته كبيرة. جيرانه هنا، على يمينه العم يحيى الراشدي وعلى يساره الكيومي ومقابله البهلاني..وهكذا. أما اليوم فحديث آخر مؤسف جدا.
ومن أشهر مطاعم السوق مطعم آدم ومطعم داوود حيث يمكن أن تحظى هنا بشاهي مطبوخ (كرك) مع الملاي (الدسم الذي يشكل طبقة تغطي وجه القِدر)، حسب الطلب، وتعتبر تلك ميزة ومذاقا يحرص عليه البعض فكلمة كوليسترول غير متداولة.
في الشارع الموازي الذي يعد الشارع العام إلى اليوم مكتبة صغيرة يديرها رجل كفيف البصر! يقف بجانبه وجيه بلحية كبيرة يتوكأ عصاه - عليه سيماء المشايخ والقضاة - يسأله عن كتاب بعينه. يقابله تقريبا أصغر دكان على الإطلاق في مطرح يبدو فيه البائع كأنه وسط إطار مربع، يتفنن في تحضير الـpan (نوع من التبغ الممضوغ).
ليس للمحلات لوحات تجارية إلا من يرغب -وهم ندرة- حتى بدأت القوانين تفرض وجود لوحة باللغتين العربية والإنجليزية، تحمل الاسم التجاري والنشاط الذي يمارسه، أو السلع التي يبيعها تؤطر بلون تحدده البلدية حسب كل مدينة أو ولاية.
كل الدكاكين مرفوعة عن الأرض مترا أو أكثر، وذات أبواب خشبية. فعندما يهطل المطر يندفع الوادي بقوة بين ضفتي المحلات منطلقا نحو البحر، بعد أن تتجمع روافده عند خور بمبة، الذي يبدأ تقريبا عند تقاطع تتوسطه منصة دائرية صغيرة تعلوها مظلة خشبية يقف عليها شرطي مرور ينظم الحركة رغم قلة السيارات. كان اتجاه السير عكس الحالي، وكذلك السكّان (مقود السيارة) على اليمين (النظام البريطاني)، فإذا أردت عبور الشارع مثلا يجب أن تنظر لليمين أولا.. تغير هذا النظام منذ وقت مبكر.. وعلى جانبي خور بمبة أيضا دكاكين أكثر ارتفاعا، منها محلات الصرافة، حيث يجلس صاحب المحل أو الموظف على حافته، وأمامه صندوق خشبي نصفه الأعلى زجاجي صُفت على واجهته الداخلية مجموعة من العملات الأجنبية الورقية، يقف الزبون خارج المحل للصرف. ولقلة الخيارات فإن هذا النوع من الصناديق يتكرر في أكثر من نشاط. فمن يصلح الساعات يستخدم مثله، وبعض صاغة الذهب والفضة، ومن يبيع البكوراة والسمبوساة يستخدم مثله..على ذكر البكوراة، تذكرت ترديدة على الألسن: (سمبوساة أكلة حبيبي بكوراة، واللي يحب الزين ياكل بكوراة). تحويرا لأغنية (غندرة مشي العرايس)، التي تغنيها سميرة توفيق وطروب فضلا عن آخرين. ومحل يبيع ويروج لسجائر 3 خمسات (555) لنجمع الأغطية ويعطينا مقابلها بعض الهدايا! وفي زاوية واضحة يجلس حلاق على الأرض بأدواته البسيطة فتتم الحلاقة وجها لوجه مع تبادل بعض الأحاديث. كذلك رائحة الحلوى العمانية تفوح من جنبات خور بمبة، الذي ينتهي عند البحر بمقهى حاجي، حيث ترى وجوها غالبا مألوفة. وحتى بعض كبار التجار، هنا يحتسون الشاهي بطريقة سكبه في الصحن الملحق بالفنجان على ثلاث دفعات تقريبا وقد يطلب أحدهم فنجانا مليئا وآخر فارغا ليبرد الشاهي في ثوان ويشربه دفعة واحدة وينطلق إلى عمله.. تسمية (خور بمبة) سمعت عنها بعض التفسيرات، ولكن حسب علمي أنه نسبة إلى أنبوب ماء قادم من الطويان ناحية لولوة باتجاه البحر لمد بعض المباني والمساجد القريبة بالماء. يسمى (النل) - ما زلت أذكره كالحلم -، أرجح أن الكلمة تحورت من (Pump) إلى Bomba السواحلية بمعنى أنبوب أو صنبور، وينطقها شيابنا الذين عاشوا في إفريقيا Bambah (بمبة) وتؤدي نفس المعاني تقريبا.. وليس غريبا على مطرح هذا التداخل الثقافي، فليس بعيدا عن هذا الموقع حارة (نازي موجا أو مويا) بمعني نارجيلة واحدة في السواحلية. وحارة كوهبون. (كوه=تحت)(بون=الجبل) بالبلوشية.
وللأسواق الشعبية كذلك مجانينها ومتسولوها ودراويشها فهم جزء من تركيبته السكانية، فمنهم تسمع حكما، وتكسب ثوابا، ويشعرونك بالتزام تجاههم. معظم التجار يضعون في المتناول عملات معدنية فئة العشر بيسات، جاهزة للفقير الذي قد يتبادل معه حديثا عابرا.
محلات العطارة تعد صيدليات شعبية.. من مفارقاتها أن بعضها تبيع - بحسن نية - (سكور) وهو من أخف أنواع الحشيش، كمهدئ ومنوم للأطفال قبل أن يعرفوا (ماء غريب).
معظم الاحتياجات مقضية في سوق مطرح. فعندما تنقطع النعال أو الحقيبة فالشمّار (الإسكافي) سيعيد ترميمها، وعندما تتقادم أواني النحاس فالصفّار سيعيد لها لمعانها.. وللحلويات نصيب بجانب الحلوى التقليدية، فهنا محل متخصص في الزلابيا، وقبل الدخول إلى السوق اتخذ ذلك العجوز ما يشبه دكانا خشبيا صغيرا متخصصا في أنواع التشاكليت والنقل والبسكوت والعلك، يتهافت عليه الصغار وبعض الكبار، ومحل آخر على مدخل سكة الظلام، وهذا متجول فوق رأسه صينية مغطاة بقماش يبيع حلاوة الماهوة، وآخر يبيع القشاط والدنجو اليابس (حمص) وقرون سبال (فول سوداني) في عربة بأربع عجلات.. ومع اقتراب العيد تتكدس حزم الريحان، لمن سيزورون قبور أحبابهم، وامرأة تشكّ عقود الياسمين تردد: ياسمين.. باقيته.. طاح البراد، ليل. وامرأة أخرى يغطي البويبوي معظم جسمها (عباءة سوداء تبدأ من أعلى الرأس) تتنقل بين بعض تجار الجملة. يبدو أن لديها دكانا في بيتها.
وهذا أنيق يضع قلم باركر أو شيفر على واجهة الكوت (المعطف) الذي يلبسه فوق دشداشته، بيده شنطة دبلوماسية سوداء (سامسونايت) وسبابته على واجهتها وكأنه يخشى أن تنفتح فتنفضح، يخرج منديلا قماشيا أبيض استنفد كسفاته وحان غسله، فلم نعرف بعد المحارم الورقية، ولا غيرها مما يستخدم مرة واحدة.
القادمون من بعيد يحتاجون سكنا ومأوى (فندق). هذا الدور تقوم به خيام المعشري (هذه لا أتذكرها، ولكن سمعت أن بعض الأهل نزلوا فيها في وقت سابق).
.. مشاهد السوق كثيرة لا تحصى. وكذلك حكاياته. كحكاية البانياني الذي طشت (طارت) يده اليمنى من محرقة الموتى إلى وسط السوق، كناية عن أخلاقه وأمانته، وحكاية الذي شرب غرشة (قنينة) السمن على بوابة المعوشري نكاية في موظف الجمرك الذي ألزمه بدفع ضريبتها!
وكل حدث مهما كانت بساطته يصبح حديث الناس بدءا من شخص يحضر الفلافل أمام المستشفى كأكلة جديدة تدخل البيوت، ويتحدثون حتى عن القالب الغريب الذي يحدد شكلها، إلى الأحداث الكبيرة.
أما من حكاياتي الشخصية، فإنني في أحد الأيام عند ذهابي للسوق، أخذني الفضول لاستراق النظر من نافذة تركت مفتوحة لمخزن مظلم بالكاد ترى الأشياء بالداخل من نور النافذة المتسلل، لأرى امرأة عارية تماما برأس أصلع! منتصبة بين عدة صناديق!! تملكني الرعب من هذه الجنية، لأطلق ساقيّ للريح، وتكتمت على الموضوع، وغيرت طريقي إلى سكة أخرى فترة من الزمن، حتى شاهدت شخصا يحمل دمية عارية تفوقه طولا، وقد غطى عورتها، يدخلها المحل ويلبسها الساري الهندي ليضعها على الواجهة.. يا إلهي.. إنها هي.. (الجنية). كانت بداية ظهور المانيكانات (التماثيل التي تعرض بها الملابس) في السوق.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
يوم غدّ... ما الذي سيُقرّره مجلس الوزراء الإسرائيليّ بشأن وقف إطلاق النار في لبنان؟
كشف مسؤول أميركي أنّه "من المتوقّع أنّ يُوافق مجلس الوزراء الأمنيّ الإسرائيليّ على إتّفاق وقف إطلاق النار في لبنان يوم غدّ الثلاثاء".
وقال المسؤول الأميركي بحسب ما أفاد موقع "أكسيوس": "نحن على خط النهاية ولكننا لم نتجاوزه بعد. يجب أن يوافق مجلس الوزراء الإسرائيلي على الصفقة يوم الثلاثاء، ودائماً ما يمكن أن يحدث شيء خطأ حتى ذلك الحين".